بوفلجة غيات

عرف الوطن العربي مجموعة من التطوّرات والتغيرات، رغم ما قد نلاحظه من جمود ظاهر. فإذا لاحظنا واقع الدول العربية في منصف القرن الماضي، حيث تحرّرت جلّ الدول العربية، وواقعها اليوم، نجد أنها عرفت تطورات كبيرة في كلّ المجالات. رغم ذلك نلاحظ أن النظرة إلى موازين القوى في أقطار الوطن العربي، وهيكلة وأداءات الجامعة العربية بقيت شبه جامدة لعقود طويلة.

نلقي الضوء فيما يلي على بعض التطورات والتغيرات التي حدثت خلال العقود الماضية، وتأثيرها على أهمية وأدوار وموازين القوى في الوطن العربي. ينقسم العالم العربي إلى ثلاثة أجنحة وتتمثل في المشرق العربي والخليج العربي والمغرب العربي.

تعتبر جمهورية مصر العربية هي أهم دولة في المشرق العربي، بموقعها وإمكانياتها البشرية وحدودها مع إسرائيل وحروبها السابقة معها. وما زادها أهمية ما تركه قائد القومية العربية جمال عبد الناصر من مواقف وإرث قومي، حيث ساهم في تحرير كثير من الدول العربية عن الإستعمار.

لقد كانت مصر قوة في الوطن العربي لا منازع لها في كلّ المجالات السياسية والبشرية والعلمية والعسكرية. لهذا لا غرابة إن كانت القاهرة عاصمة للوطن العربي ومركزا للجامعة العربية، ومقرا لكثير من حركات التحرر الإفريقية والعربية، وهو ما أكسبها عن جدارة اسم "الأخت الكبرى" للعرب، كما يطلق عليها آخرون لقب "أم الدنيا".

كان ذلك خلال الجزء الثاني من القرن العشرين أثناء حقبة حكم جمال عبد الناصر. إلا أن مصر، كما هو الحال بالنسبة لكافة الدول العربية، عرفت تطورات كبيرة، أثرت على مكانتها وأهميتها كدولة محورية في الشرق الأوسط. وقد بدأت انتكاسة مصر مع حرب السبعة أيام مع إسرائيل سنة 1967، والتي أدت إلى ضياع شبه جزيرة سيناء وتحطم الجيش المصري.

وقد جاءت حقبة أنور السادات بعد رحيل جمال عبد الناصر، الذي أعاد تنظيم الجيش المصري، وأعد العدة لحرب أخرى اندلعت سنة 1973 بين الجيش المصري والجيش الإسرائيلي، وهي حرب كادت أن تنتهي بكارثة أخرى لولا وقف إطلاق النار بطلب أمريكي. وقد كانت المفاوضات بين مصر وإسرائيل بوساطة أمريكية، أدت إلى زيارة أنور السادات لإسرائيل لاستجداء السلام، وهو ما يعتبر بداية منعرج كبير في السياسة المصرية. ثم كانت عملية إبرام اتفاق السلام مع إسرائيل، وربط علاقات قوية مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية المساندة لإسرائيل.

وبذلك تحولت مصر من كونها قاعدة صلبة للقومية العربية، مدافعة عن قضايا التحرر ومساندة للثورة الفلسطينية، إلى دولة تساهم في حملة التطبيع مع إسرائيل وتسعى تسويق سياسة الولايات المتحدة في المنطقة. وهي سياسة كانت ولا تزال معادية للقضايا العادلة للأمة العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وقد استمرت نفس السياسة مع حسني مبارك، حيث أصبحت مصر تساهم في محاصرة قطاع غزة وتبذل كل جهودها لتدعيم محمود عباس الذي أتت به الولايات المتحدة وإسرائيل بعد محاصرة واغتيال زعيم الثورة الفلسطينية ياسر عرفات. كل ذلك رغبة في نيل رضا الغرب، حتى يقبل بعملية التوريث والإغداق على مصر بالمساعدات والصدقات.

إلى جانب منطقة الشرق الأوسط، وزعامة مصر لها، نجد منطقة الخليج العربي التي تتزايد قوتها المالية والإقتصادية والإستراتيجية باستمرار. وهي منطقة عرفت تطورا عمرانيا كبيرا، وتطورا اقتصاديا وسياسيا. وهكذا ظهرت نتائج التنمية الإقتصادية مدعمة بموارد مالية هائلة نتيجة لعوائد المحروقات. وهكذا برزت ظاهرة إمارة دبي كنموذج عالمي للتنمية السريعة. نفس الشيء يمكن مشاهدته في كل المملكات والإمارات الخليجية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.

وهكذا برزت المملكة السعودية كقائدة لمجلس التعاون الخليجي، وتتميز بمركزها الديني لوجود الحرمين المقدسين، مكة والمدينة على أراضيها، وما تعرفه من سياحة دينية الأكبر في العالم، والمتمثلة في فريضة حج والعمرة لمسلمي العالم إلى الديار المقدسة.

وبذلك أصبحت السعودية بسعة أراضيها وإستراتيجية موقعها وثرواتها البترولية الباطنية، وإمكانياتها المالية، دولة مهمة ومحورية في منطقة الخليج العربي. وقد أصبحت من بين مجموعة العشرين، من بين أهم الدول الصناعية والصاعدة في العالم.

ولأهمية ومحورية الدور السعودي، فإن أول محطة في زيارة باراك أوباما إلى العالم العربي كانت إلى المملكة العربية السعودية قبل زيارته لمصر، ولذلك مغزى سياسيا. إن أهمية الدور السعودي هو الذي جعل مصر تستند إليها في مختلف القضايا السياسية بالوطن العربي في إطار محور دول الإعتدال. وقد أصبح من غير مقدور مصر القيام بمبادرات واتخاذ مواقف تهم المنطقة، دون الرجوع إلى العربية السعودية، مما يدل على تزايد دور وأهمية العربية السعودية في المنطقة.

أما منطقة المغرب العربي فقد عرفت بدورها تغيرات وتحولات كبيرة. تميزت بمجموعة من التطورات السياسية والإقتصادية الكبيرة. حيث برزت ليبيا بمبادراتها السياسية ومواقفها المثيرة للجدل وجرأة قائدها في التطرق إلى القضايا الأساسية المسكوت عنها.

إلا أن أهم دولة يمكن اعتبارها كقائدة لهذا الجزء من الوطن العربي هي الجزائر، بما تتميز به من موقع جغرافي إستراتيجي، وسعة أراضيها وثرواتها النفطية والبشرية وقدراتها الإقتصادية، مما جعل منها قوة إقليمية في منطقة المغرب العربي. وما دعم ذلك ثورتها ضد الإحتلال الفرنسي وضخامة ما قدمته من تضحيات لنيل استقلالها. وما دعم المواقف السياسية للجزائر، حقبة حكم الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، ودوره في وضع أسس الدبلوماسية الجزائرية، المدعمة لحركات التحرر والوقوف إلى جانب القضايا العادلة في العالم. ورغم التغيرات السياسية وتغير الظروف العالمية إلا أن الجزائر بقيت على مواقفها مع تكيف سياستها مع المستجدات.

لقد مرت الجزائر بفترات صعبة اقتصاديا وسياسيا وأمنيا، إلا أنها تمكنت من تجاوزها. وهكذا عرفت الجزائر في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تراجع العنف السياسي، وعودة الإقتصاد إلى التعافي والنمو، واسترجعت الجزائر دورها السياسي والدبلوماسي على الساحات الإفريقية والعربية والدولية.

وهكذا تقوم الجزائر بدور متزايد على الساحة العربية معتمدة سياسة هادئة، محاولة الحفاظ على التوافق العربي دون التفريط في مبادئها. مع ذلك فإن الجزائر بقيت بعيدة عن المواقف السياسية لمحور الإعتدال، متشبثة بمواقفها التي لم تتغير كثيرا، فوقفت ضدّ احتلال العراق، وبقيت إلى جانب المقاومة الفلسطينية في غزة، وإلى جانب امتلاك إيران لتكنولوجيا نووية سلمية.

من هنا يتبين لنا أن العالم العربي عرف مجموعة من التطورات والتغيرات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والإستراتيجية. حيث لم تعد مصر أقوى دولة – كما كانت – لا اقتصاديا ولا علميا ولا عسكريا ولا حتى بشريا. وذلك بسبب التحولات الكبيرة التي عرفها العالم العربي عموما، وبروز دول عربية بدأت تتبوأ مكانتها حسب أدائها الإقتصادية، الناتج عن ثرواتها النفطية. وهكذا عرفت بعض الدول العربية طفرات في التنمية العمرانية والإقتصادية، وأصبح لها دور سياسي متزايد. في حين عرفت مصر ركودا اقتصاديا وتعفنا سياسيا وتراجعا قوميا، خاصة بعدما كبلت نفسها سياسيا بمعاهدة السلام مع إسرائيل. إن الضعف الإقتصادي لمصر وتخبطها في مشاكلها الداخلية، جعل منها دولة تابعة للغرب منفذة لأوامره وتوجيهاته، عوض أن تكون دولة رائدة في المنطقة.

إن التغيرات والتطورات السياسية والإقتصادية، تؤكد وجود حيوية ودينامية في العالم العربي، أدت إلى بروز مراكز قوى في أجنحة العالم العربي، ومن أهمها المملكة السعودية والجزائر. دون إهمال دول أخرى عرفت حيوية وتطورا ومنها سوريا وقطر وليبيا ودول عربية أخرى لا يمكن الإنقاص من دورها وأهميتها.

إن هيمنة مصر على مقر الجامعة العربية وسياستها وموظفيها وهيئاتها المختلفة، وبالتي على القرار العربي ككلّ. في ضوء ما تعرفه مصر من مشاكل وصعوبات، جعلت الدور المصري، معرقلا لتطور الجامعة العربية ومعوقا للعرب ككلّ في مواجهة تحديات الأمة العربية.

وهو ما يدعو إلى تخليص الجامعة العربية وقراراتها من الهيمنة المصرية، وإعادة النظر في موقع الجامعة العربية ودورها، وطرق إدارتها، مع أخذ التطورات التي عرفتها مختلف الدول العربية والعالم ككل. لهذا يجب مواجهة الحقيقة وعدم الخوف من تشريح الواقع والتعامل معه بجدية وإيجابية. فالعرب يمارسون النفاق السياسي ويتجنبون الخوض علنا في الأمور الخلافية، وهم يتعاملون مع قضايا أساسية ومصيرية بذهنية القرون الماضية، دون اعتبار للتغيرات والتطورات المتسارعة والتحديات المتزايدة.

-------------------------