-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
من
هجرة الفقر... إلى هجرة الفكر! الدكتور
عبدالقادر حسين ياسين* منذ
طفولتنا ونحن نعي الهجرة، وعيا
حادا أحيانا، ووعيا هادئا
مستسلما أحيانا أخرى ...
وبانتظام يشبة إيقاع الفصول كان
بيت ما ، في حارة ما ، من المخيم
الفلسطيني (سواء في النصيرات أو
الجلزون أو برج البراجنه أو
الوحدات أو اليرموك ) يودع إبنا
أو أخا أو أبا يرحل بعيدا. لكن
الرحيل كان يومها بحثا عن مصير
أفضل سعيا وراء العمل و الرزق ،
طموحا إلى مستقبل أكثر بهاء
ورفاه. كان
الرحيل إختيارا (قاسٍ دون شك
لكنه اختيار للافضل) من أجل أن
يعود الإنسان في النهاية ، بعد
زمن طويل أو قصير ، فيبني
للعائلة بيتاً ، ويضمن لهم
المستقبل الذي لا يضمنه أحد في
هذا العالم العربي المترامي
الأطراف ، ويدفعهم إلى المدرسة
والجامعة والعمل . كانت
الحياة تستمر في إيقاعها الهادئ
المنتظم. كانت
الهجرة الى أمريكا في أوائل
القرن الماضي، ثم أصبحت هجرة
إلى مناطق أخرى من العالم
العربي... كانت الهجرة يومها
هجره الفقر. نادراً
ما هاجر العربي لأن وطنه لم يعد
يتسع له، لأنه لم يعد يضمن
كرامته أو عمله العادي، أو
تفكيره، أو لأنه مهدد باستمرار.
وحين كان يفعل ذلك، فقد كان
يهاجر من بلد عربي إلى آخر
باحثاً عن ملجأ له، سعياً وراء
حرية عمل أو نضال. وكان النضال
نضالا ضد أجنبي، ضد المستعمر ،
نضال من اجل الحرية والاستقلال. كانت
الهجرة من أجل الوطن، ومن أجل
المستقبل سواء كانت هجرة
المناضل أو هجرة الفقير. كان ذلك
في الماضي. أما
الآن فقد تغير العالم. أصبح
العربي يهاجر هرباً من الوطن،
نجاة بذاته وبقيمه وبروحه،
وبحثاً عن متنفس بسيط لأحلامه
العادية البسيطة، أو تفريجاً
لكربة تخيم على وجوده اليومي،
كما تخيم على إمكانيات
مستقبله... من هجرة الفقر الى
هجرة الفكر، من هجرة النضال إلى
هجرة التخلي، من هجرة الأمل إلى
هجرة اليأس، من الهجرة من أجل
مستقبل الذات والأهل والوطن إلى
هجرة من اجل حاضر الذات ولا شيء
آخر . لماذا
تهاجر الأدمغة والكفاءات
العربية ؟ لماذا
تزدحم شوارع أمريكا وأوروبا
بالعرب؟ لماذا
تزدحم مطارات أمريكا وأوروبا
بالعرب ؟ أسئلة
تلح الآن كما لم تكن تلح من قبل
وتكسب خطورة يصعب أن يبالغ
المرء في تأكيدها. أسئلة إذا
استطعنا الاجابة عليها أدركنا
أبعاداَ جوهرية لواقعنا
ومشكلاتنا، وميزنا بعض مواطن
الضعف والخلل والاغتراب
وعواملها في حياتنا. بيد أن
ثمة سؤالا آخر أكثر إلحاحاً ولا
يقل خطورة : من يأبه
لهجرة الكفاءات والادمغة
العربية؟ من يسأل
في العالم العربي: لماذا تعيش
نخبة من علمائنا ومفكرينا
وأطبائنا مشتتة في مدن العالم
ومختبراته ومعامله ومكتباته
وجامعاته، وعلى أرصفته، ويشكو
العالم العربي من قلة الكفاءات
وفقر الطاقات وضمور الحياة
الفكرية والعلمية والتقنية؟ من في
العالم العربي يعتبرالأمر
مسؤولية شخصية؟ بل من
يعتبر المسالة مسالة قومية؟ أحياناً
تبدي جهة ما شيئا من الاهتمام ،
فتتحدث عن هجرة الأدمغة ... وقد
يعقد مؤتمر ما في مكان ما يخدم
هذا النظام العربي أو ذاك
لتدارس المشكلة ... لكن مئات
الأسباب تمنع تدارس المشكلة
بروح علمية وإخلاص فكري ووعي
نقدي دقيق وتكريس لكل الطاقات
لمعالجة المشكلة ... وينفضّ
المؤتمر بعد إصدار توصيات تنقل
المشكلة من مستوى الواقع إلى
مستوى الملفات المكدسة في مكاتب
الدولة وأرشيفها ، وترفع برقيات
الشكر والتأييد للزعيم المبجل
...وتستمر هجرة الأدمغة العربية
إلى العالم ... لنواجه
المشكلة بجرأة وإخلاص ، ولنسمّ
الأشياء بأسمائها... إن هجرة
الأدمغة العربية هي مسؤولية
قومية بالدرجة الأولى ، ذلك أن
كل نظام عربي مسؤول بقدر غيره ،
وكل مجتمع مسؤول بقدر غيره...
إننا نفرغ العالم العربي من
نخبة من الكفاءات والطاقات
والعقول والمهارات حتى دون
الشعور بالذنب ... ولا
أغالي إذا قلت أن تجربتي
الشخصية تظهر أن قطاعات عديدة
في هذا البلد العربي أو ذاك
تحتشد بمن يشعرون بأنهم يحققون
انتصار فعليا حين يرغمون عالماً
أو مفكراً عربياً على الهجرة،
أو حين ينجحون في منع آخر من
العودة إلى منصب أو عمل أو موقع
مسوؤلية ، ذلك أن التخلف الفكري
والثقافي والعلمي الذي نعيشه،
والدفاع عن المصالح الفردية
الضيقة، والتكالب على المنصب
والنفوذ ، تجعل الكثيرين يشعرون
بالتهديد وتدفعهم إلى التشبث
بها يستطيعون التشبث به من
مواقع ، والى منع كل من يشكل
موقعاً من التنافس المعرفي أو
العلمي ، أو يجابههم بضرورة
الوصول إلى مستويات أرفع من
الكفاءة والامتياز والإتقان
والإخلاص في العمل . ومع أن هذا
ليس إلا جانباً واحداً من
المشكلة، فانه بين أبعادها التي
تستحق التأمل والنقاش. لكن
هجرة الأدمغة العربية هي أيضاً
مسؤولية عامة وخاصة، ومسؤولية
وطنية ضمن حدود كل بلد عربي،
وينبغي النظر إلى المشكلة
باعتبارها لا تقل خطورة عن وجود
الكيان الصهيوني في فلسطين، ذلك
أن وجود إسرائيل ،ومآل صراعنا
معها ، مرهونان بالتطور الداخلي
في العالم العربي ... والتطور
الداخلي مرهون بخلق الشروط
الملائمة لتحقيقه. وهجرة
الادمغة العربية إلى العالم هي
، في آن واحد ، تعبير أسمى عن
غياب هذه الشروط وعامل أساسي في
انعدام إمكانية توفرها ...
والمسؤولية في ذلك كله هي
مسؤولية الفرد والمجتمع
والمؤسسة والدولة والنظم
السياسية والفكرية السائدة في
العالم العربي . إن طرح
المشكلة بهذه الحدة والصراحة هو
السبيل الوحيد إلى تلمس بداية
معقولة لوعيها وتحليل أبعادها...
لكن الوعي والتحليل ليسا كافيين
من جهة ويتطلبان توفر شروط
معينة يشكل غيابها أصلا جزءا
أساسيا من المشكلة من جهة أخرى. فمن أجل
أن يتبلور وعي حاد على مستوى
قومي للمشكلة ينبغي أن يكون ثمة
وعي قومي شامل والتزام قومي
شامل بالدرجة الأولى،
وذالك ما نفتقر إليه.
ومن أجل أن يكون التحليل
المتعمق ممكناً ينبغي أن يتم في
جو من البحث والتفكير تسوده
درجه عالية من الحرية، ويسمح
بتناول أبعاد الوجود العربي
المختلفة بالدراسة والنقاش. ومثل
هذا التناول لا بد أن يصطدم بعدد
كبير من المُحرَّمات التي يمنع
البحث فيها أصلا حتى الآن...
وهكذا تبدو الحركة في دائرة
مفرغة. وإن دلَّ ذلك على شئ
فإنما يدل على مدى تعقد المشكلة
وعلى جذورها في العالم العربي.
أما عن كون الوعي والتحليل غير
كافيين فإن ذلك يعني أنه حتى إذا
وعينا المشكلة وحللنا أبعادها
بوضوح وعمق، وحققنا إدراكاً
سليماً لها فلا بد من توفر
الإرادة الحقيقية غير المقيدة
بمصالح ضيقة أو آنية ، أو
بمنطلقات مذهبية أو عقائدية ،
لإيجاد الحلول لها... وقد تنعدم
مثل هذه الإرادة لان تيارات
معينة او فئات معينة او طبقات
معينة ترى أن من مصلحتها أن
تستمر المشكلة وتزداد تأزماً ،
وان يفرغ العالم العربي تدريجيا
من الكفاءات الفكرية والعلمية
والإبداعية التي يملكها عدد
كبير جدا من الأفراد فيه. وقد
تكون هذه التيارات أو الفئات
داخلية كما قد تكون خارجية . وليس
ثمة شك في أن بعض الأنظمة
العربية لا تشعر بفجيعة كبيرة
أو بخسارة قومية لهجرة المفكرين
والكتاب والصحفيين منها ، وليس
ثمة شك في أن إسرائيل على
استعداد لوضع ما تراه مناسبا من
خطط، وخلق ما تستطيع من أجواء
لمنع التطور العلمي في العالم
العربي ، ومنع تطور العلوم
الانسانية بحيث تشكل قاعدة صلبة
لنهضة حضارية شاملة... وليس ثمة
شك أيضا في أن طبقات معينة ضمن
المجتمع العربي ترى أن من
مصلحتها إبقاء العلوم
الاقتصادية ضامرة بحيث تعجز عن
الإسهام في تطوير البنى
الاجتماعية والفكرية القادرة
على تحقيق درجة أعلى من عدالة
توزيع الثروة، والتنمية
الاقتصادية المتوازنة في
العالم العربي. وهكذا
تبدو المشكلة شديدة التعقيد
والتشابك ، متعددة الأبعاد
والجوانب ولا يكفي أن تعبر عن
رغبات، لأن الرغبات لا تحل شيئا
بذاتها... وبعد ؛ إن
علينا ، أولاً ،
أن ننمي الحس بأن المشكلة
قومية ضخمة ، وأن هجرة الأدمغة
والكفاءات العربية - كما أكدت
سابقا - مسؤولية شخصية ووطنية
وقومية ، وان
المستقبل مرهون بحل هذه المشكلة
وذلك بخلق الشروط الملائمة
لاستعادة الكفاءات العربية إلى
أوطانها ، لتسهم في خلق مجتمع
جديد وإرساء دعائم حضارة عربية
متجددة خلاقة ،
ولتعيش بأمان وكرامة ،
وتكون قادرة على تحقيق الطاقات
الوطنية إلى أقصى درجة ممكنة.. ـــــــــــ * كاتب
وأكاديمي فلسطيني مقيم في
السويد . ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |