-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
الدول
بين مقاومة الفساد و فساد
المقاومة أ.
محمد بن سعيد الفطيسي
نستطيع أن نقول بان تنامى
الاهتمام العالمي بظاهر الفساد
, كان نتيجة مباشرة لعقود طويلة
من المعاناة الإنسانية , التي
وجدت في نهاية المطاف أن هذا
الوحش الأخلاقي الذي أخذ يفتك
بالمجتمعات البشرية في كل إنحاء
العالم , هو العقل المدبر لسقوط
وانحلال الكثير من الحضارات
والدول عبر التاريخ , وهو ما
يتطلب البدء في مواجهته
واحتواءه بشكل عالمي موسع , ومما
لا شك فيه بان هذه الظاهرة
الخطيرة ليست وليدة اللحظة
التاريخية التي نعيشها اليوم ,
أو نتيجة ترتبت على تصرفات
إنسان حضارة الذهب الأسود ,
وإنما نستطيع أن نؤكد بأن هذه
الظاهرة كانت المرافق الزمني
والحضاري لكل الأجيال
الإنسانية التي عرفت الثروة
والسلطة عبر التاريخ 0
وحديثا تنامى الاهتمام
العالمي بهذه الظاهرة المدمرة
للمدنية والعمران والتطور
الإنساني , والتي أخذت طابعا
جديدا وأشكالا لم تكن معروفة من
قبل مع بداية العقد الأخير من
القرن العشرين , ( ومن بين
الأسباب الممكنة لذلك كانت
نهاية الحرب الباردة
والتي قلصت الأهمية
الجيوسياسية للعديد من الأنظمة
الفاسدة وكثفت الضغوط على
موازنات المساعدات والقروض ,
والتنافس العالمي المتزايد بين
الشركات ومديري رؤوس الأموال ,
والبلدان الساعية للحصول على
استثمارات , مما جعل من الصعوبة
بمكان تبرير الفساد كنفقات
نثرية , والصعوبات المصاحبة
لعمليات التحول الديموقراطي
والتحول نحو اقتصاد السوق ,
والتحولات الإيديولوجية بعيدة
المدى في النظرة الى القطاعين
العام والخاص ) 0
لذلك كان السعي لوضع إطار
مؤسسي مشترك لكشف هذه الظاهرة
وتتبعها , واحد من أهم التوجهات
الدولية التي وضعت اللبنة
الدولية الأولى لمحاربة
ومواجهة هذه الظاهرة عالميا ,
وكنتيجة أولى لذلك ولدت الهيئات
والمؤسسات العالمية العاملة
على ذلك الدور , ومن أبرزها
منظمة الشفافية الدولية والتي
تأسست في العام 1993م , أما عربيا
فقد تجلى هذا التوجه بإنشاء
منظمتين على المستوى العربي /
الإقليمي وهما : المنظمة
العربية لمكافحة الفساد في
العام 2005 م , ومنظمة برلمانيون
عرب ضد الفساد في العام 2004م , هذا
بخلاف المؤسسات والهيئات
الخاصة الأخرى , والتي تتشارك
وتلك المؤسسات العالمية الكبرى
مواجهة وتتبع هذا العفن الذي
بدأ يغير كثيرا وجه الخريطة
الحضارية المعاصرة , وقد تم
دوليا ولأول مرة في تاريخ
العلاقات الدولية توقيع معاهدة
تعني بمكافحة الفساد في العام
2003م , حين وافقت الجمعية
العمومية للأمم المتحدة
بأغلبية 144 دولة على إصدار "
الاتفاقية الدولية لمكافحة
الفساد " 0
وقبل التطرق الى مفهوم
الفساد , كان من الضرورة التأكيد
على تطور طبيعة هذه الظاهرة
بتطور المجتمعات البشرية نفسها
, وهو ما يشير الى استحالة إيجاد
تعريف عالمي قانوني محدد وواضح
لها , كما أن توسعها واستفحالها
وتداخل معطياتها عبر شبكات
التعاملات الإنسانية العابرة
للقارات , يأتي معززا لتلك
الرؤية التي تطالب الدول و
المجتمعات الدولية بشكل عام
والعربية على وجه الخصوص بضرورة
ملاحقة أوكار هذه الظاهرة عبر
تطوير وسائل مقاومتها
واحتواءها , حيث لم يعد الفساد
المتطور اليوم هو كما اعتاد
الكثيرون على تسميته أو حصره
بالفساد المالي أو الإداري
للمؤسسات الرسمية والخاصة ,
وإنما تجاوزها كثيرا ليصل الى
أعماق بعيدة تتجاوز التطور
التكنولوجي والمعلوماتي نفسه
الذي كان واحد من الوسائل
الحديثة والمتطورة لمقاومة
واحتواء هذه الظاهرة الإنسانية
القديمة خلال العقود الأخيرة 0
ومن الأنماط التي أظهرت
التوصيفات الدولية المتعارف
عليها حديثا لهذه الظاهرة ,
والتي حصرتها - وللأسف الشديد -
في النواحي المادية والإدارية
كما اشرنا سابقا الأشكال
التالية : الاتجار بالنفوذ
والرشوة واختلاس الأموال
العامة وإساءة استغلال الوظيفة
, وكذلك الإثراء غير المشروع , مع
ان هذه الظاهرة كما تبين لاحقا
أوسع بكثير من تلك الجوانب ,
فالفساد اليوم اخذ طابع البيئة
التي يعيشها الإنسان , وحيز
الثقافة والتكنولوجيا التي
يحارب بها , - وبمعنى آخر – أكتسب
المناعة الطبيعية من خلال تجاوز
العلاجات القانونية والأخلاقية
التي وضعت للحد منه , وذلك بسبب
مقاومة الفساد لأشكال تلك
المقاومة التي تم إفسادها
بواسطة المفسدين أنفسهم الذي
باتوا يحاربون الفساد في الدول
والحكومات 0
ومن ابرز التعريفات الدولية
لهذه الظاهرة – وهي على سبيل
المثال لا الحصر - , تعريف البنك
الدولي (IMF) والذي يعرف الفساد بأنه : (
علاقة الأيدي الطويلة المتعمدة
التي تهدف لاستنتاج الفوائد من
هذا السلوك لشخص واحد أو لمجموعة ذات علاقة بالآخرين ) ويعرف
معجم اوكسفورد الإنكليزي هذه
الظاهرة ( بأنها "انحراف او
تدمير النزاهة في أداء الوظائف
العامة من خلال الرشوة
والمحاباة ". وقد
يعنى الفساد التلف إذا ارتبط المعنى بسلعة ما وهو لفظ شامل
لكافة النواحي السلبية في
الحياة وعندما يرتبط بالإنسان : يعنى انعدام الضمير
وضعف الوازع الديني عند الشخص
بما يجعل من نفسه بيئة صالحة لنمو الفساد ) 0
وبالإضافة الى
التعريفات الدولية السابقة
لهذه الظاهرة يضيف الأستاذ عامر
خياط – مدير عام المنظمة
العربية لمكافحة الفساد –
امتدادا آخر لهذه الظاهرة
يتماشى وشكلها في الدول العربية
تحديدا بقوله : ( إلا أننا وعلى
الصعيد العربي العام , ننظر الى
ابعد من هذا , ذلك ان منظمتنا
تنظر الى الفساد كظاهرة مجتمعية
متعددة الأبعاد لها تداعيات
خطيرة تهدد سلامة وامن المجتمع
العربي 0000 ان الشمولية التي
نسعى إليها في معالجة مسالة
الفساد في بلادنا تنطلق من
تعريف الفساد على أساس انه كل ما
يتصل " بالاكتساب غير المشروع
– أي من دون وجه حق – وما ينتج
عنه , لعنصري القوة في المجتمع ,
السلطة السياسية والثروة , في
جميع قطاعات المجتمع ")0
وهكذا فان هذه الظاهرة
تتجاوز الدائرة المالية
والإدارية للدول والحكومات ,
فهي بذلك تضرب بجذورها أعماق
المجتمع وحياة الإنسان وطبيعته
وعلاقته بالآخرين , وبالتالي
فإنها تصل وتتواصل مع شتى
قطاعات الحياة اليومية , فهناك
إذا الفساد السياسي الذي يتبوأه
السياسيون ومن على شاكلتهم من
القيادات والزعامات التي
تستثمر أوطانها ومناصبها
لتحويل ثروات الدولة
وممتلكاتها الى جيوبهم الخاصة ,
وتستغل خيرات الوطن لتحويلها
الى مزارع ومشاريع خاصة لهم
ولأسرهم ومن يقعون في دائرة
مودتهم وقرابتهم 0
كذلك الفساد الفكري
والثقافي والتعليمي الذي يعاني
منه مجتمع الفكر والثقافة
والأدب , والذي نشاهد فيه أقلام
السلطة وهي تسرح وتمرح في
النعيم , بينما نجد الشرفاء
المخلصين الذين رفضوا
المجاملات والنفاق على حساب
أوطانهم في الدرك الأسفل للحياة
الاجتماعية والوطنية , نجد فيه
الأقلام العميلة والمرتزقة من
وراء كتابات الانحلال والفسوق
والمجون وتدمير المجتمعات تعيش
في البذخ وترفل في حياة الأدوار
العلوية والمناصب الحساسة
والرسمية , بينما ظلت بعض
الأقلام المحافظة على أخلاقيات
المهنة وشرف الكلمة تعاني حياة
الفقر والفاقة مسلوبة الحقوق ,
هذا بخلاف الفساد الأخلاقي
والاجتماعي الذي يضرب
المجتمعات فيغير من مسارها
وطريقها القويم , والفساد
الاقتصادي الذي يدمر الاقتصاد
والتنمية والعمران , ويحول
الأوطان الى بلدان خربة ومتخلفة
, وخلافه العديد من أشكال هذه
الظاهرة الخطيرة التي تعاني
منها جل المجتمعات والدول 0
المهم في الأمر بان مفهوم
الفساد ومن خلال ما طرح سلفا ,
يمثل ظاهرة معقدة جدا من حيث
التركيب والتنوع والعوامل
وتفاوت الأضرار والأعراض
الجانبية , يحصر متلازماتها
الأستاذ مايكل جونستون – أستاذ
كرسي تشارلز دانا للعلوم
السياسية ورئيس قسم العلوم
الاجتماعية في جامعة كولغيت في
كتابه متلازمات الفساد في ثلاثة
محاور , أبرزها : ( التوجه العام
نحو تحرير وخصخصة النشاط
الاقتصادي , وانسحاب الدولة الى
وظائف أكثر تقنية ومحدودية , -
كذلك من خلال – الشركات
والأعمال التي تتخذ من البلدان
الغنية قاعدة لها تلعب أدوارا
مهمة في الفساد الذي يحث في
المجتمعات النامية , وفي كثير من
الأحيان بمباركة حكوماتها
الوطنية ) 0
خلاصة القول هي ان هذه
الظاهرة التي تفشت حديثا بصورة
غريبة في اغلب دول العالم , وعلى
وجه الخصوص في دولنا العربية
" كونها تهمنا بالدرجة الأولى
" , كانت نتيجة الأوضاع
الإدارية السيئة للسياسة
والاقتصاد فيها , وللطريقة
الخاطئة في التعامل مع الحرية
والديمقراطية والعدالة
الاجتماعية وإدارة الثروات
والسلطة , مما نتج عنه حرمان
البعض من حقوقهم على حساب آخرين
, وبروز العديد من النتائج
والأعراض الاجتماعية
والأخلاقية والنفسية السلبية
التي ترتبت على ذلك التفاوت
الاجتماعي والاقتصادي , مما
افقد الكثير من الضعفاء
والحانقين على تلك الأوضاع الى
الوازع الديني والوطني وحس
المسؤولية والضمير, فهم يرون
أشكالا من الثروات الوطنية لا
حدود لها تذهب بكل سهولة ويسر
الى أيادي لم تتعب او تجتهد وتكد
للحصول عليها , بينما يقبع بعض
أبناء المجتمع في حضيض الفقر
والطبقات الاجتماعية الدنيا
نتيجة لذلك الظلم الاجتماعي
الناتج عن سوء استغلال السلطة
السياسية والثروات الاقتصادية
للوطن 0
نعم ,,,, ان انتشار
البرجوازية والإقطاع بأشكاله
الحديثة , وظهور دول الإقطاعيين
والرأسماليين والانتفاعين
الجدد من لصوص الثروات
والمتسلقين على أكتاف الآخرين ,
وازدياد مشكلة تضخم الأموال في
يد فئة قليلة من الناس , ووصول
البعض الى المراكز الإدارية
والحكومية بمعايير مزدوجة
ومجحفة وظالمة كمعايير المصالح
الشخصية والمجاملات والنفاق
الاجتماعي والقبلي ومن في
شاكلتها على حساب من هم أحق
وأجدر بها في عالمنا العربي
والإسلامي , هو نتيجة مباشرة لما
يطلق عليه بفساد إدارة السلطة
السياسية والاقتصادية للدول
والحكومات , وبالتالي فان هذه
الظاهرة الدولية العابرة
للقارات تبدأ من الداخل –
وبمعنى آخر – هي رصيد الخلل في
بنية الدولة نفسها وأنظمتها
الإدارية والاقتصادية
والاجتماعية والثقافية
الداخلية 0
وبالتالي فان العلاج
ومكافحة هذا الوباء لا يمكن ان
يأتي من الخارج , أو ان يبدأ من
الخارج , او يتم الاعتماد على
مواجهته بوسائل خارجية مستوردة
, إنما لابد ان ينطلق ذلك من
الداخل , ( لهذا فمن الضروري ان
يكون لجهود المكافحة وللأطراف
المعينة بها , رصيد معرفي عن
خصوصية أوضاع الفساد في البلد
المعني , وهناك أيضا اختلافات
داخل البلد الواحد بين القطاعات
المصابة بالفساد في طبيعة
الظروف والعوامل المهيأة له ,
والآليات التي تجري بها ممارسته
وتعاملاته بين الأطراف
المختلفة ) , وهو ما قصدناه من
خلال ضرورة الانطلاق من الداخل
في كل شي في سلسلة مواجهة
ومقاومة هذا الداء العابر
للقارات 0
ومن أهم ما نتصور – من خلال
وجهة نظرنا الشخصية – أنها
وسائل ناجعة لمواجهة هذا الشر
النفسي , والخلل الاجتماعي ,
والداء الاقتصادي , والوباء
السياسي الذي اخترق ودمر الكثير
من الدول والحضارات والمجتمعات
الإنسانية , التالي : ( 1 )
البناء المؤسساتي الرقابي غير
الرسمي , ويتلخص في قيام
المؤسسات الشعبية الرقابية
المؤهلة للقيام بهذه المسؤولية
الوطنية كشريك لرقابة الدولة
على مؤسساتها 0 ( 2 )
الدعم القوي وإعطاء الصلاحيات
الكافية للمؤسسات الرقابية
الرسمية , مع مراعاة الرقابة
الدائمة على تلك المؤسسات
الرقابية نفسها , تحسبا لأي خلل
او تقصير يمكن ان يحدث من قبلها ,
وهنا لا يكن القبول سوى
بالمؤسسات البرلمانية
والقانونية والجهات الشعبية
والبحثية سالفة الذكر للرقابة
على مؤسسات الرقابة نفسها 0 ( 3 )
الشفافية الرسمية في إيصال
الصورة الحقيقية لاقتصاد
وسياسات الدولة والحكومة
والجهود والخطط التنموية
والاقتصادية المستقبلية للشعب
من خلال الوسائل الإعلامية
والاستطلاعية , والتحول الى
الإصلاح والتغيير الحقيقي
المتمثل في توزيع الثروات
والسلطات بين أبناء وقطاعات
المجتمع بشكل عادل 0
( 4 )
تصميم مجموعة من المقاييس
والرصد النظامي لقطاعات مؤسسية
بعينها مثل التحقيقات والقضاء
وتنفيذ الأحكام القضائية , ووضع
مجموعة من المؤشرات لقياس
الفساد المستشري في المشتريات
الحكومية , وفي صفقات وعمليات
الخصخصة , والمناقصات الوهمية
وتلك التي لا تتناسب وحجم
المشروعات , والتهرب الضريبي ,
وفي عمليات التشريع وعمل
البرلمان 0 ( 5 )
التحليل المؤسساتي الذي ( يتلخص
في تشريح التعقيدات
البيروقراطية والسلطات
التقديرية المتاحة للعاملين
الذين يتعاملون مع الجمهور ,
ودرجة الشفافية والغموض في
القرارات والقوانين والمعاملات
الحكومية , وكفاية مستويات
الأجور للعاملين بالمقارنة
بتكاليف المعيشة ) في القطاعين
العام والخاص0 ( 6 ) سن
القوانين والأحكام الرقابية
والتشريعية الصارمة التي تحافظ
على ثروات الوطن وخيراته , بحيث
يتم من خلالها مراقبة
الاستثمارات الأجنبية والوطنية
, ومدى الثروات التي تحول
وتستثمر في الخارج عل حساب
الاستثمارات الوطنية , فاغلب
المستثمرين والمنتفعين يسعون
دائما للتحويلات والاستثمارات
في الخارج , خوفا على ثرواتهم من
أي طارئ يمكن ان يحدث لهم , وهو
ما يكبد الأوطان والحكومات
الكثير من الثروات والأموال
الوطنية المنتفع بها في الخارج 0 ( 7 )
ضرورة الأخذ بالمعايير العلمية
والحقوقية كالخبرة والجدارة
والكفاءة والتعليم في شغل
الوظائف والمناصب الرسمية
الحكومية وفي القطاع الخاص ,
بعيدا عن تلك المعايير الشخصية
والقبلية التي طالما دمرت
الأوطان ونشرت الفساد في كل
أرجاءه 0 ( 8 )
التسلح الوطني بنشر التعليم
والوعي الرقابي والقانوني
والحقوقي بين المواطنين , وبث
روح الولاء والحب للوطن والأرض ,
وزيادة الوازع الديني
والأخلاقي من خلال التوعية
الدينية بمخالفة أنماط الفساد
وأشكاله السابقة لتعاليم الدين
الإسلامي والضمير الإنساني 0 ـــــــــــ * باحث
في الشؤون السياسية والعلاقات
الدولية * رئيس
تحرير صحيفة السياسي التابعة
للمعهد العربي للبحوث
والدراسات الاستراتيجية ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |