-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
في
إشكالية الحركة القومية ـ
2 ـ جلال
عقاب يحيى في
المقال السابق تناولنا بإيجاز
شديد الإشكال الخاص بمفهوم
وجوهر الأمة العربية، والحاجة
الماسّة لإعادة النظر
بالمفاهيم التي سادت : على ضوء
الوقائع والتطورات، وكمدخل
ضروري لبناء المشروع النهضوي،
الوحدوي، الحداثي بجوهره
الديمقراطي . في هذه
المقالة/ الحلقة الثانية/
نتطرّق للحركة القومية العربية
. ممهدات
وتوصيفات : يثير
تحديد مفهوم الحركة القومية
خلافاً جوهريا بين المدارس
الفكرية المختلفة . فأتباع
المدرسة الماركسية اعتبروا أن
الحركة القومية(برمّتها) نتاج
البرجوازية الأوربية وثورتها
الصناعية، تحقيقاً لهدف : وحدة
سوقها القومية، ومن أجل
التحكّم، والسيطرة، فالهيمنة
على الجغرافيا الإقليمية
لها(قبل انتقالها إلى
إمبريالية، وقبل سيادة
العولمة، بل وقبل انتشار وسيطرة
شركات متعددة الجنسية) ، بينما
لم تأخذ تلك المواقف(التنظيرية)
الشرق وتعقيدات الأوضاع فيه،
واختلاف مراحل تطوره
وسيروراته، بعين الاعتبار . وفقاً
لهذا التنظير(المأورب)
وتداعياته وتفاصيله الكثيرة :
السياسية والفلسفية والنهاجية،
وحتى الأديولوجية، وُسمت جميع
الحركات القومية في العالم على
أنها برجوازية، أو نتاجٌ لها،
ونُظر بعدائية طبقية لكافة
الحركات القومية في العالم،
واستمرت نظرة الحذر والتشكيك
عشرات السنينً لم تعرف التعديل
أثناء حياة مؤسسي الماركسية :
ماركس وأنجلس،(وإن انتبها في
أواخر عمرهما، خاصة أنجلز،
لإهمالهما عالم الشرق
واختلافاته عن أوربا، وما تبع
ذلك لعقود طوال ) . مع
حدوث تغييّرات(غير متوقعة في
الحسابات الماركسية التقليدية
ـ المسطرية ـ الحَرفية) عن (نضج
الظروف الموضوعية المهيّأة
للثورة، ومدى قابلياتها)،
وترتيب القوى العالمية
ومفعولها، بدءاً بانتصار
الثورة الاشتراكية في روسيا
(خلاف الحسابات والتقديرات)، ثم
عبر تراجع حركة الطبقة العاملة
العالمية عن الدور المأمول،
وظهور الانتهازية والإصلاحية
في العديد منها، وخيانة
قياداتها لمصالحها وأهدافها
التاريخية، ومشاركة عديدها في
الريع المسروق من المستعمرات
...مقابل بروز حركات التحرر
الوطني والقومي كقوة مؤثرة في
الصراع ضد الإمبريالية
والاستعمار، وفي سبيل التحرر
والتقدّم لتلك البلدان التي
اعتبرت خارج دائرة توقع تصنيف
الماركسيين التقليديين ..وفرض
وجودها الموضوعي على معادلة
النضال الأممي، وتوجيهها ضربات
مؤثرة للاستعمار.. قام لينين
(القائد الفذّ) بإجراء ما يشبه
المراجعة : الثورية، والنقدية
للسائد من الأفكار والأحكام،
فأدخل، أو أقحم قوى التحرر
الوطني والقومي ضمن المعادلة
الثورية، بعد نقاشات حارّة في
الأممية( الثانية، والثانية
ونصف)، ومقولاته الصائبة عن
التمييز بين الأمم الظالمة
والأمم المظلومة، بين حركات
(وطنية ـ وإن كانت من منشأ
برجوازي، وبرجوازي صغير) تجابه
الاستعمار وتقاتله، وبين تلك
البرجوازية المستغلَة،
الاحتلالية، الظالمة، القاهرة
للشعوب والطبقة
العاملة(المتحوّلة إلى
إمبريالية متوحشة) . و ذهب أبعد
من ذلك حين اعتبر ما تقوم به
حركات التحرر " جزءاً من
نضالنا"، أي جزءاً من النضال
الأممي ضد الإمبريالية
والبرجوازية، وحين بشّر بدورها
المتعاظم في جملة النضال
العالمي، داعياً إلى التحالف
والتعاون معها بدل العداء،
والحذر . ودونما
حاجة للدخول في تفاصيل ذلك
الجدل الذي عرفته"الأممية"
وأحزابها الشيوعية والثورية،
ف"الكومنتيرن" والعديد من
القرارات التي اتخذت : توصيفاً
لحركات التحرر القومي، أو لوضع
إطار ترتيبها، والعلاقة
معها(خاصة في المرحلة
الستالينية التي عرفت تراجعاً
جوهرياً في عموم الاجتهاد
الروسي للماركسية أقرب للتجويف
والتسطيح والآلية، والدوغما
منه للتطوير) حول توصيف الحركات
القومية، وتعريف الأمم،
والموقف من حركات التحرر الوطني
وترتيبها في تصنيف وسلم التناقض
الرئيس، والثانوي، وفي تقويم
تركيبها الطبقي، وفكرها
وبرامجها، وتلك المغالاة
السطحية ـ التعميمية التي
شيّدتها الستالينية وفرضتها
على جموع الأحزاب والحركات
الشيوعية التابعة لها حول توصيف
الأمم والحركات القومية، وموقع
الوحدة القومية، بل وجدل :
القطري ـ القومي ومكانه من
الأممي...إلخ، وأثر ذلك في
المناوشات والصراعات الفكرية
والسياسية(وغيرها) بين الأحزاب
الشيوعية المحلية والحركات
القومية التي قادت مراحل النضال
لتحرير البلاد من الاستعمار، أو
تسنّم مرحلة ما بعد الاستقلال،
وفي تراجع دور ومكانة الأحزاب
الشيوعية التقليدية، وتفوّق
الأحزاب القومية عليها في
اشتقاق مهام وشعارات المرحلة،
وفي تعبئة وتنظيم الجماهير
الشعبية، بما فيها العمالية
والفلاحية .. لقد
قاد ذلك التنظير التنظيري،
الحًرْفي إلى نتائج سلبية بالغة
الأثر، تجلّت واضحة ليس في
العلاقة السلبية بين الأحزاب
الشيوعية المحلية والحركات
القومية وحسب( ذلك الاستنزاف
المريع)، بل وفي قصور، وتغريب
وغربة عديد تلك الأحزاب عن
الواقع، بما شكّل أهم عوامل
أزماتها المتعاقبة، ونزوح
الجماهير عنها، وترك المجال
شاغراً للقوى القومية أن تحتله،
وأن تقود( في عديد البلدان)
مراحل التحرر من الاستعمار، وما
بعد الاستقلال.. بكل المفاعيل
والمؤثرات التي نجمت . ولعله
من الطريف ذكره هنا تلك
المجادلات والمماحكات النظرية
والسياسية و(التناطحية)التي
احتدمت بين الطرفين، والتي شغلت
مساحة كبيرة من الجهد الهبائي،
الانفعالي حول مدلول كلمة وطني
و قومي، وذلك الفقه والتفقّه في
التفريق بين الوطني والقومي،
وتلك الحساسية المفرطة(لدى
الفريقين) من استخدام أيّ منها
لدى الآخر . ففي حين كان
الشيوعيون يصرّون (خاصة العرب
منهم) على شطب كلمة قومي (حيثما
وردت) واستبدالها ب : وطني ..( لما
تمثّل من خلفيات ترنّ في آذان
القوميين على أنها خلاصة موقف
معادٍ للوحدة العربية، وللأمة
العربية، وما تعنيه من تقويمات
طبقية وأديولوجية)، كان
القوميون يشددّون بإلحاح
انفعالي (أيضاً)على ذكر القومي
والتأكيد عليه حيث يجب أو لا
يكون للكلمة أي مدلول، أو فرق عن
الوطني . وفي مراحل(المصالحة)،
أو التقارب، وبعد عديد
التطورات.. نحتت الحركات
القومية مصطلحاً اعتبرته
جامعاً، مانعاً، ومخرصاً، وهو
" حركات التحرر الوطني
والقومي"، بينما قامت بعض
الأحزاب الشيوعية(لاحقاً)
بمراجعات مهمة حول نظرتها
وموقفها من المسألة القومية،
والوحدة، والأمة، ومن تأثير ما
شاع فيها عليها أولاً، وعلى
شعبيتها، وتحالفاتها،
وواقعيتها(التحليل الملموس
للواقع الملموس)، فاعترفت
(كأحزاب)، أو انشقاقاتها، ولو في
زمن متأخر، بالبعد القومي(صراحة
دون لبس)، ولم تعد ترتعش لسماعه،
بل بعضها صار أكثر استخداماً
له، وأكثر غلواً في التأكيد
عليه من كثير من الحركات
القومية، وعديدها اعتبر غيابه
أحد الأسباب المهمة في أزماتها
وتراجعها وانشطاراتها . القوميون
العرب وقعوا، بدءاً، بعدد من
المفارقات والمغالطات التي لم
يبذلوا كبير جهد للخوض فيها، أو
تحديد مداليل المصطلحات
والمفردات، انطلاقاً من
مسلّمات ذهنية مسبقة، وتقريرية
شكّلت المنبع العام، أو النهج
المعتمد في صياغة الأفكار
والشعارات والمهام . وكما
اعتبروا الأمة العربية مسلّمة
لا يأتيها الباطل والنقد
والتشكيك، والنقص والخلل،
والبيات، ناهيك عن الغياب، أو
الانتهاء.. أطلقوا العنان أيضاً
لفيض احتباسهم وخزينهم الردّ
فعلي فيما يخصّ القومية
العربية، توليداً واتساقاً من
الإيمان بأنها الأمة، والطريق،
والهدف : الحامل والمحمول . لقد
جرى خلط كبير(غير واعٍ، وغير
منهجي) بين الأمة وبين القومية .
بين أبدية الأمة الموجودة وبين
فكرة القومية العربية . هنا،
وبغض النظر عن كل الانتقاد الذي
يمكن توجيهه لدعاة الأمة
العربية الواحدة، الخالدة،
الكاملة المكتملة، ورسالتها
المتميّزة، الأبدية...
وكينونتها التاريخية،
المتواصلة..فقد دمجوا، أو خلطوا
بين ماهية الأمة وتعبيراتها
الكثيرة عن نفسها، وبين القومية
التي هي مظهر من مظاهر حركة
الأمة، وهو مظهر متغيّر،
متحوّل، غير مستقر، قد يكون،(
وفق طبيعة المرحلة)، مظهراً
رئيساً يحتوي كافة المظاهر
الأخرى، أو يطغى عليها، أو
يغطيها، وقد يصبح ثانوياً، أو
ضعيف الأثر والفعل . وفي حين برز
طاغياً في مراحل الصعود
والمواجهة، كما كان الحال إبّان
الفورات الكبرى التي انطلقت في
أواخر العهد العثماني، ثم
تعاظمت في مواجهة الاستعمار،
فمرحلة النهوض، لكنه بعد سقوط
أول تجربة وحدوية بين مصر
وسورية أخذ بالانكماش
والتراجع، فالضمور والهامشية،
فما يشبه الغياب الأقرب
للموت(عقود تأبيد الاستبداد
ونظم الأنا النهبية ـ القطرية ـ
القبائلية ـ الطائفية ـ
العائلية، ونهاية مرحلة
التوّحد حتى من قاموس الاستعمال
الفعلي وبرامج العمل المطروحة،
واستبدالها بنتاج مرحلة الفوات
والردّة والخطابات القوس
قزحية، الانتهازية..) . الأمة،
أية أمة، لا يقتصر فعلها، أو
وجودها، وصبواتها، وتوجهها على
جانب واحد( هو هنا سياسي
بامتياز، ومرحلي، مهما بلغ
حجمه، وطول مسافات التحقيق، ومن
طبيعة معينة)، وإنما تتضمن
ميادين كثيرة : ثقافية متنوعة،
وفكرية، واجتماعية، ومباشرة
وغير مباشرة، وأديولوجية
وغيرها.. الأمر الذي يدعو للوقوف
عند بدايات تشكّل الحركة
القومية، وبعض مفاعيلها
ومصادرها، ومحرضاتها،
وسلبياتها . ـ حول
النشأة : كثيرة
هي الكتابات(القومية) التي
حاولت رصد(الحركة القومية
العربية) منذ فجر التاريخ،
وقوفاً عند المرحلة
الإسلامية(باعتبارها مرحلة
إقامة الدولة، فالإمبراطورية،
فتحديد مكونات ومرتسمات الأمة
العربية البشرية والجغرافية،
وقد ركّز عديدها على (تجليات)
الحركة القومية للعرب طيلة
الدولة الأموية، وفي بعض مراحل،
ومحطات الدولة العباسية، ثم "
الشعوبية" وكينونتها
وتجلياتها المتجددة، والانحدار
المهزوم بفعل "
الشعوبيةّ"، فالتفكك
والاحتلال التركي، فالاستعمار
الغربي . في
تلك الكتابات القصدية، الهادفة
إلى إثبات وجود أمة عربية محددة
السمات: في الزمان والمكان،
قديمة قِدم البشرية وبلوراتها
السياسية، الإقوامية،
الكيانية، يمكن أن نلمس، أيضاً،
البعد الدفاعي، المنهجي عن أمة
كانت قائمة( بشكل ما ـ كأمة
تاريخية)، ثم عرفت خلخلة
وتفكيكاً غرائبياً، وبالقوة
الجبرية، القصدية.. برز فيها
العامل الخارجي قوياً، مثلما
برز كدريئة يمكن توجيه كافة
النواقص الذاتية الخاصة بالأمة
العربية إليه، مما وضعه في موقع
الستارة، أو المشجب الصالح لكل
زمان وحال ونكوص وهزيمة وإخفاق
وتبرير وتغطية . إذ أن قوة الفعل
الخارجي، وسهولة واستسهال
الإمساك به ( بالجرم المشهود)،
وتعريته وملاحقته بالمزيد من
الصراخ والتبرير.. جعل الجهد
الرئيس يتجه إليه باعتباره
الخطر المحدق، والعدو المباشر،
لكنه، بالوقت نفسه، منع هؤلاء
من الغوص في خصائص تشكيل الأمة
العربية ومفرداتها، وفي تلك
الطبيعة شبه الفريدة للتكوين،
ثم ما يشبه الدمج، أو الاحتضان
لمجموعة شعوب يشكل العرب جزءاً
هاماً فيها، خاصة تلك الشعوب
التي عرّبها الإسلام فنهلت من
ثقافة عربية اللغة والمنحى،
وتداخلت الأعراق، أو تعايشت في
إطار إيديولوجية عامة تشكل
العربية فيها نسغاً حيّاً(حبل
سرّة) حيث لا يمكن لمسلم(حتى
يفهم دينه على وجه صحيح) إلا أن
يتقن العربية، أو يلمّ بها،
ناهيك عن أن تلك الدولة العظيمة
التي شيّدت تحت رايات الإسلام
كانت عربية اللغة والهوى
والثقافة والإنتاج متعدد
الوجوه، وكان العرب(غالباً من
قريش) حكّامها وسادتها، والتي
تسكن الوطن العربي : محدداً
جغرافياً متفقاً عليه(يمكن
إثارة العديد من الأسئلة
المشروعة عن العوامل والمفاعيل
التي شكّلت من هذه الشعوب الأمة
العربية، بينما لم يحدث الأمر
نفسه فيما يخصّ إيران أو تركيا،
رغم تشابه الكثير من الظروف،
والسيرورة، والأديولوجيا
ذاتها..) . النشأة
بحد ذاتها تضمّنت إشكالية بعيدة
الغور لكل متفحّص يريد فصفصفة
المفردات والمكوّنات، أو
إسنادها إلى المقومات الشائعة
التي اعتمدت لتحديد وجود
ومقومات الأمم، وحركاتها
القومية، ونقصد بذلك : البعد
التاريخي الخاص بوجود العرب(
أصل النشأة ـ المكان ـ اللغة ـ
الثقافة ـ الإنتاج المعرفي
والفكري والأدبي ـ الكيان
السياسي.. إلخ)، حيث هناك اختلاف
بيّن بين المعنيين بالتاريخ،
والحفريات والآثار حول العمر
التقريبي لوجود شعب يُعرف
بالعربي، وأصول اللغة
واشتقاقها، وزمن استخدامها،
ومنتوجها الأقدم من الشعر
الجاهلي وبعض النصوص لفترة ما
يعرف ب" العصر الجاهلي"،
والمكان، والهجرات(من وإلى)،
وبلورة الهوية الخاصة
والمستقلة، وصولاً إلى الإطار
السياسي ـ الدولتي الجامع .
وقوفاً عند تلك العلاقة
الاستثنائية : التوحيدية،
التناقضية بين الدين والأمة
العربية، وبينه وبين الحركة
القومية . الخلاف
كبير حول الذات المبلورة للعرب
قبل الإسلام، ناهيك عن وجود أمة
عربية قائمة بصفات جمعية تتجاوز
القبيلة وبعض الإمارات والنظم
الاجتماعية والسياسية التي
قامت، والخلاف الواضح في نسبة
الحضارات القديمة التي نشأت في
المنطقة إلى العرب( وهي حضارات
كثيرة، متعاقبة، متداخلة،
متنافرة، متباينة الأصول
والامتداد والعطاء، والعمر،
والدور، كالأكادية والسومرية
والأمورية والبابلية والآشورية
والكنعانية(واشتقاقها
الفينيقي)، والآرامية،
والحيثية، ثم الإغريقية
والرومانية والتدمرية،
واليمنية، فكيانات الغساسنة
والمناذرة العرب، وموقعها من
شروط الدولة المستقلة، ومن نضوج
عوامل الدولة والكيان السياسي )
. ولئن
كان الخلاف كبيراً فيما يتعلّق
بتلك المرحلة، فهناك شبه إجماع
حول الدور : التكويني، التوحيدي
للإسلام، وحمله(حاملاً
وأديولوجيا) تلك الأمة في
المكان والزمان لتشكيل حضارة
عملاقة أنتجتها دولة مركزية
مترامية الأطراف، لعبت دوراً
مهما في الحضارة الإنسانية،
وحفرت اسم الأمة العربية كواحدة
من الأمم التاريخية التي أسهمت
بإيجابية في التاريخ، ووسمت هذه
الأمة بسماتها الخاصة، مثلما
تركت أبلغ الأثر في تشكيلها من
تلك الأقوام ذات المنشأ
المتعدد( والمختلف في أصول بعضه
: قرباً وبعداً عن العرب ) وهي
يمكن أن تكون حالة فريدة في
التاريخ(رغم الادعاءات
اليهودية عن دور الدين في وحدة
" الشعب اليهودي" وركوب
الأسطورة والخرافة لتسويق حالة
سياسية) . تلك
الأمة بدولتها المركزية
الشاسعة، الممتدة في الزمان
والمكان.. لم تكن هويتها عربية
صرفة، بغض النظر عن موقع ودور
العرب المركزي فيها، وتناوب هذا
الموقع تماوجياً وفق قوة الدولة
ومراحل ضعفها، وصراعاتها،
وحالة الانفصالات المتدحرجة،
غير الثابتة فيها، ومرحلة
تفككها، ثم مرحلة خضوعها للحكم
العثماني، بل كان الطابع
الإسلامي هو المشترك العام :
الموحّد، رغم أن الدولة لم تكن
دينية صرفة، ولم يكن حكامها
رجال دين . في
جميع هذه المراحل والحالات،
ورغم موقع العربية : ثقافة ولغة
وكتابة وإنتاجاً وهوية عامة،
(لغة القرآن والرسول)، فمن غير
الدقة العلمية أن توسم تلك
الدولة بالعربية( مجردة)، فهي
عربية ـ إسلامية بجدارة، ولذلك
درج الكثير على تسمية تلك
الحقبة ب" الحضارة العربية ـ
الإسلامية"(تثير الشحطة
خلافاً لأنها تعني نوعاً من
الفصل والتمييز، بينما عديد
الإسلاميين يشطب صفة العربية
لجعلها إسلامية بإطلاق) . ولذلك،
أيضاً، يواجه الباحث عناءً
كبيراً إذا ما حاول الفكفكة،
والفصل بين الأمة العربية
والإسلام، ويتبع ذلك الكثير من
اللبس حول موقع الأديولوجيا
الإسلامية في تشكيل الأمة
وبلورتها، وفي هويتها القومية،
وحتى موقعها الجغرافي وحدوده،
ناهيك عن الحرج الذي
يواجهه(العلمانيون) المنادون
بمقولة " فصل الدين عن
الدولة"، وبالدولة
العلمانية، دولة المواطنة
والتشريعات المدنية، والقوانين
الوضعية، وسيبرز الحرج أكبر في
تحديد موقع ومكانة وحقوق
الديانات الأخرى، خاصة
المسيحيبن العرب واليهود
العرب، وأثر تلك العلاقات في
الوحدة الوطنية، وفي مساواة
الجميع أمام القانون ، وسيكبر
الحَرج مع محاولات الفصل بين
السابق واللاحق. بين الاعتراف
بدور الإسلام في تشكيل الأمة
وتوحيدها وكوننتها، ثم شطبه
فيما يلي وكأنه عُزل بقرار
إرادي ـ فكراني، تصوري.. ولذلك،
أيضاً، هناك خلاف كبير في توصيف
الحقبة التركية وموقعها(ناهيك
عن دورها وتأثيرها في التخلف عن
الركب الحضاري العالمي،
والركود المثخن بتشكيلات
اجتماعية ـ سياسية شديدة
الاستبداد والتخلف والظلم)، وهل
هي شكل من أشكال الخلافة
الإسلامية التي تنوّعت مظاهرها
وأصولها في المناطق الإسلامية
؟، أم هي احتلال أقرب للاستعمار
؟؟.. ناهيك عن موقع العرب فيها
لعقود طويلة كانوا مهمّشين،
مُلحقين( حتى قبل انتصار
الطورانية وعمليات التتريك)،
حيث لم تبدأ جنينات الوعي
القومي العربي : الاستقلالي،
الانفصالي، إلا في أواخرها،
وارتباطاً بأزمة تلك الخلافة
وتعرّضها للتفكيك من جهة، وثقل
الدور الخارجي عليها
ومغامراتها الحربية من جهة
ثانية( تورطها بالخصوص في دخول
الحربين العالميتين إلى جانب
"المحور")، وبروز الأفكار
القومية عالمياً، خاصة في الغرب
الأوربي المهيّأ للانتقال إلى
الاستعمار والإمبريالية .. من
جهة ثالثة .. لقد
واجهت بواكير حركة النهوض
القومي حرجاً كبيراً وهي تتعاطى
مع مقولة ومستندات ومقومات
الأمة العربية، خاصة أولئك
الروّاد المتأثرين بالحركة
الفكرية الأوربية، ودعواتهم
القومية، وكان مبعث الإحراج
يتركّز حول موقع الدين الإسلامي
في تشكيل ودولة واستمرارية
الأمة، ومستقبل هذا
الدور(ارتباطاً بالأفكار
الجديدة، وموقع العلمانية
وموقفها من الأديان، ومواصفات
الدولة الحديثة، والبعد
الديمقراطي، ودستور المواطنية
والمساواة .. إلخ)، لذلك نلاحظ أن
الدعوات العربية الأولى، وإن
بشّر بها عديد المسيحيين العرب،
لم تنادِ بالانفصال عن تركيا،
ولا بمعاداة الدين الإسلامي،
وقد استغرقت عملية البلورة :
باتجاه الاستقلالية، والدعوة
إلى بعث الأمة العربية(كأمة
تاريخية مستقلة بذاتها) وإقامة
كيانها السياسي، مع نوع من
الاستقلال عن الدين الإسلامي،
وتمجيد العرب السابقين للإسلام
ومكانتهم في التاريخ، فالتركيز
على العنصر والنقاء( وحتى الدم
أحياناً) بضعة عقود.. وفي
حين عرفت الفترة اللاحقة، خاصة
من قبل عديد الرواد القوميين،
توجهات علمانية، حداثية،
ليبرالية في تحديد مقومات الأمة
وحركتها القومية، وشكل وحدتها
المنشودة( لاشكّ أنها كانت
متأثرة إلى حدّ كبير بعصر
الأنوار الأوربي، وشعارات
وفلسفة الثورة الفرنسية،
وانجازات الغرب الحضارية،
المتقدمة في هذا المضمار)، جنحت
بعض الحركات القومية(الأقرب
للعلمانية) إلى نوع من التلفيق
والخلط والقسر في عمليات
التوفيق بين البعدين : القومي
والديني . الروحي والمادي .
الحداثي والماضوي( و يمكن
اعتبار هذا العمل التوفيقي سمة
عامة لأبرز الحركات القومية :
خاصة البعث عبر مؤسسه ميشيل
عفلق، والحركة الناصرية، وعديد
حركات التحرر الوطني العربية)،
بينما لم تبذل جهداً كبيراً في
محاولة إنشاء تيار علماني،
حداثي يميّز بين التديّن
واستخدام الدين، بين الدولة
الدينية والدولة المدنية(كان
قسر السلطات الحاكمة التي تنتمي
للحركات القومية، واستخدام
الأجهزة الأمنية، والقرارات
الفوقية هو الأسلوب الأغلب
المعتمد لحل إشكالات سياسية ـ
فكرية ـ أديولوجية)، ثم الجنوح
نحو(البعد ـ العمق الديني)
ومحاولة تصنيعه، وتكييفه،
وتطويعه بما يتفق والرؤى
المسبقة، ومع المنطق القومي
السائد، وكأنّ الإسلام ملكاً
احتكارياً للعرب، وكأنه جاء في
سبيلهم(سيكون الاختلاف كبيراً
كلما أُمْعن النظر في مقولة
الرسالة الخالدة ومداليلها،
وفي حدود البعد الإسلامي، وحقوق
الآخر غير المسلم وحرياته
السياسية والمعتقدية، وغيرها)
ويخصّ قوميتهم في طبعتها
الجديدة، والمتجددة (الأبدية،
بدورها) .. إشكالان
كبيران واجها الحركة القومية(
قبل الحكم والامتحانات
الكبيرة، وافتضاح البنى
والعجز، والتوجهات الأحادية،
الاستبدادية، الاجتثاثية..)،
أولهما ذالك الخاص بموقع الدين
الإسلامي، بما يتجاوز الترقيع
والتسوية إلى اعتماد رؤى
وفلسفات حداثية تستوعب المكوّن
الشعبي بكل مفرداته، وبالوقت
نفسه لا تقع بمحظور الإلحاد،
وتهم التكفير . أي بلورة فكر وخط
علماني منبثق من صميم مكونات
الأمة، وبالوقت نفسه منفتح
ومفتوح على الحضارة البشرية
ومنجزات العصر.. وبالوقت
نفسه فإن جنوح بعض تلك الحركات
نحو تمييز الدين الإسلامي
بمكانة خاصة، وإدخاله بقوة
مكوّن الأمة(حتى ما يرتبط
بالحاضر والمستقبل)، يعني،
بداهة، إخراج أصحاب الديانات
الأخرى من المعادلة(بغض النظر
عن حجم المجاملة في الأديان
الأخرى، وبعض نخبها، أو الحالات
الفردية التي تعترف بدور
المكوّن الإسلامي)، حيث من غير
المنطقي أن تطالب المسيحي
العربي، أو اليهودي العربي، أو
غيرهما من أصحاب المعتقدات
الأخرى أن يكون جزءاً فاعلاً من
حركة القومية العربية وهي
تُقحمه الاعتراف بدين آخر ربما
له عليه الكثير من التحفظات، في
الوقت الذي يهمّش فيه معتقده
الديني(هذا في موازين الكفّة
الدينية التي تًخرج
العلمانيين، أو غير الدينيين
منها) . وثانيهما
يخصّ الوجود الإثني لعدد من
القوميات غير العربية(الأصلية
والوافدة) التي تشكّل جزءاً
صميمياً من هذا الشعب وتاريخه
المديد. بعضها يمتّ بأصوله
البعيدة إلى تلك الحضارات
العملاقة، القديمة التي نشأت في
بلادنا (آشور وكلدان وسريان
وأقباط وغيرهم)، وبعضهم من سكان
البلاد الأصليين الذين تعاطوا
مع الفتح الإسلامي بإيجاب(على
العموم) وتعايشوا معه قروناً
وأصبحوا جزءاً من المجموع العام
( بخصوصية لم تلغها العقود)،
كالأمازيغ البربر في الشمال
الإفريقي، والأفارقة السود في
السودان وموريتانيا والصومال
وأهل النوبة في مصر، وبعض
الأماكن الأخرى، و(الحالة
الكردية) بكل خصائصها وتعقيدات
تاريخيتها وسيروراتها، وحضورها
المباشر على قائمة النزاع
والتدخل الخارجي، والحقوق
الوطنية المبلورة(حدود دنيا
وقصوى ـ مشروعة ومغالية) .... الحركة
القومية العربية لم تأخذ
بالاعتبار ذلك الوجود، ولا ما
يستتبع من حقوق خاصة تتجاوز
العام إلى الخاص(حقوق لغوية
وثقافية، وحقوق هوية يمكن أن
ترتقي إلى درجة المطالبة بالحكم
الذاتي، أو الانفصال) حيث أن
محورها القومي العربي،
ومحورتها على العرب يُخرج،
آلياً، تلك الشعوب منها، وقد لا
يكتفي بوضعها خارجاً، بل يسهم
في تحويلها إلى معادية( وهو ما
يمكن قراءته بوضوح في مسار
العلاقة بين العرب وبين تلك
القوميات)، كما يسهّل على
الخارج أن يمرر استراتيجياته
ومشاريعه في مناخات وتربة
مناسبة(وهو ما حدث، أيضاً،
وبأشكال كثيرة) .. إشكالية
موقع الدين في تكوين، وسيرورة،
ومستقبل الأمة العربية ـ
الأقليات القومية وحقوقها
ومواقفها وموقعها ـ حجم الدور
الخارجي : القسري، التآمري،
الاستنزافي، الإجهاضي.. وردود
الفعل العنيفة عليه ـ الخلط
والاختلاط في المفاهيم
والمضامين ـ السمة العاطفية ـ
التقريرية... هي أبرز الإشكاليات
التكوينية لحركة القومية
العربية، كإشكالات منشأ يمكن أن
تكون حواضن الإخفاق والفوات
والفشل اللاحق، والذي سنتابعه
في الحلقة القادمة .. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |