-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
تأملات
في المشروع الحضاري العربي الدكتور
عبدالقادر حسين ياسين* في
كتابه القيم " دراسة التاريخ"
A Study of History"
يقول المؤرخ البريطاني الراحل ،
ارنولد توينبي Arnold
Toynbee، انه كانت في بداية القرن
العشرين ألفا ثقافة متواجدة في
العالم لم يبق منها اليوم سوى
ستمائة فقط . أي
أننا، في قرن واحد فقط ، قلصنا
" فضاءاتنا " الثقافية بما
يقارب الثلثين ، وأننا مستمرون
في السير على هذا المسار في
القرن الحادي والعشرين الذي
سيدفع البشرية ، كما يتنبأ
توينبي ، إلى " مجرى ثقافي
واحد يخضع له الجميع " . ولا
احسب أن مثل هذا الأمر لا يحتاج
منا إلى المزيد من التأمل . كما
لا احسب انه ينفع في هذه القضية
أن نقف على المنابر أو في
المحافل الدولية أو على صفحات
الصحف ، لنعلن رفضنا المطلق
للغرب ونمطه الثقافي الحضاري ،
ونصبُّ عليه جام غضبنا ، ثم نمضي
وكل ما حولنا يشير إلى أننا نسير
قدما في مشروعه . والسؤال
الذي يطرح نفسه هو : هل هذا
التقلص للفضاءات الثقافية أمرٌ
لا مفر منه ؟ وهل أن
أنماط الحياة الإنسانية
المختلفة المتبقية اليوم سوف
تسحق كما سحق السكان الأصليون
في أمريكا أمام غزو الرجل
الأبيض ؟ يجيب جل
مفكرينا على
اختلاف نزعاتهم الفكرية
وميولهم السياسية
بأن هذا التقلص للفضاءات
الثقافية أمر لا مفر منه ، وأن
السبب في ذلك هو التطور
التكنولوجي والعلمي الجبار
الذي أصبح قدرا للبشرية . وأمام
هذا التوجه " القسري"
للمستقبل نرى أن من الضرورة
بمكان التأكيد على أمرين : 1
إن استمرارالحضارة الغربية
يتمثل في " سيطرة التقنية على
الطبيعة "... وهذا ما نظر له
المفكر والعالم البريطاني
المشهور ، فرانسيس بيكون Francis Bacon ، في القرن السادس عشر . لكن الأمر الذي
يجب أن لا يغيب عن بالنا هو أن
سيطرة " التقنية " على
الطبيعة لم تولد مع بيكون ، بل
هي أقدم منه بكثير . لقد ظهر مع
الإنسان منذ البدايات الأولى
للبشرية . ولا نضيف جديدا إذا
قلنا انه منذ وجد الإنسان برزت
التقنية في مظاهر بدائية .... كل ما
حصل منذ أربعة قرون إن التقنية
اتخذت منعرجا جديدا أصبح يضيق
الخناق على كل فضاء ثقافي
ويهدده بالتلاشي والاندثار .
والسبب هو المشروع الرأسمالي
الاستهلاكي الذي استحوذ على
التقنية ووظفها للحصول على
المزيد من الإنتاج وفرض الهيمنة
. هذا المشروع طوَّرالتقنية
بتسارع مذهل ، وكان عليه أن يقلص
كل الفضاءات الثقافية في العالم
باعتبارها ليست سوى منظومات
تحدد السلوك الإنساني في داخل
المجتمع ، وهي التي يمكن لها إن
تقبل أو ترفض أي " تجارب "
جديدة واردة عليه . الفضاء
الثقافي ، بالتالي ، أصبح يحمل
احتمالات رفض للمشروع
الرأسمالي الزاحف والمتنامي .
فالمشكلة ، في رأيي المتواضع ،
ليست في التقنية نفسها ، وإنما
في المشروع الحضاري الذي يوجهها
. بعبارة أخرى ، يمكن للتقنية أن
تعطي أنماطا مختلفة من التنمية
لا تناقض الإنسان ، ولا تقلص
فضاءاته الثقافية ، بل تعتمد
لتحدد غاية أي إنتاج تنموي جديد.
وليست حركتا " الهيبيين" و"
أصدقاء البيئة " في الغرب ،
على سبيل المثال لا الحصر ، إلا
تعبيرا صارخا عن الرغبة في فضاء
ثقافي أوسع ، وغاية للحياة
الإنسانية أعمق وأنبل . 2
إذا كان العالم الثالث
المتخلف والتابع لا يمكن أن
يتحرر ، حقيقة ، إلا بفضاءاته
الثقافية ، وبمشروع حضاري غير
رأسمالي ، فلا مناص لنا من
ملاحظة أن الأيديولوجيات
الغربية قاصرة عن تحقيق هذا
المشروع ، خاصة في دول أشبع
فضاؤها بالقيم الروحية منذ
البداية . إن
المشروع الحضاري العربي الذي
نحتاجه لا يمكن ، بأي حال من
الأحوال ، أن يعادي البعد
الروحي بل عليه أن ينطلق منه في
مسار مستنير . والتغريب Westernization الذي عرفه العالم العربي لا يمكن أن يطور
إلا بعض الأشكال الخارجية ، إما
أن يوجد الإبداع فذلك شان أخر لا
يتسع المجال هنا للحديث فيه . إن
الإنسانية تبحث عن مجالات جديدة
لتجاوز مخاطر المرحلة . ومن
العبث أن نبدد خصوصيتنا
الثقافية فنضيع على أنفسنا وعلى
الآخرين فرصة لإثراء الحياة
ودعم مسارها ... ـــــــــــ * كاتب
وأكاديمي فلسطيني مقيم في
السويد. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |