-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 28/04/2010


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


في إشكالية الحركات القومية :

بنى المجتمع : الحالة التركية ـ بدايات إصلاحية، نهضوية

( 1 ـ 2)

جلال / عقاب يحيى

مدخل :

لم تتوفّر عوامل النهوض والعصرَنة للمجتمع العربي(على العموم) كي يكون تطوره، ومحرّكه، ووعيه، ومساره، وعلاقات الإنتاج فيه بمستوى الحد الأدنى من فكر، ومهام المشروع النهضوي، الحداثي، وموجبات النقلة الكبرى إلى وضع آخر مختلف يغادر فيه أسار الركود، والتخثر، والماضوية إلى الانفتاح على العصر، والتفاعل مع معطيات الحضارة البشرية بذات مكوننة قابلة، وقادرة على التأثر والتأثير، والفرز والتصنيف، وامتلاك ناصية التقدّم بمنهجية تناغم بين التراث والإرث الحضاري ، والثقافة الرائجة، وبين مفروضات التغيير المؤهِل لإحداث النقلة الكبرى . كما أن حركات الإصلاح، بما فيها الديني، توقفّت، لاحقاً، عند حدود التبشير وبعض الدعوات والكتابات والتأثيرات المحدودة، ثم انقطعت وكأنها اندثرت حيث كانت تخلفها حركات متشددة أكثر ماضوية، وأكثر تطرّفاً من تلك التي عرفتها منعرجات تاريخنا .

 

 لقد رسف المجتمع(أو المجتمعات العربية بتعبير أدقّ) قروناً في الماضوية الارتدادية، وليست الماضوية التوثبية التي تستلهم ذلك النهج التجديدي ـ المعطاء في تحرير العقل من معيقات انطلاقه، ومحاولة الإمساك بمفاعيل، وجذوة، وأعمدة التطور، والثورة على القائم، أو على الأقل مواصلته بحركة متقدّمة تستلزم الموجبات، وتنهض بالأعباء المتغيّرة، ومسايرة ركب البشرية المتجهة إلى الأمام، الباحثة عن الجديد في العلوم والاختراعات والأفكار والقيّم والنظم الإنتاجية والقانونية والمعرفية الأحدث، المفتوحة على النقد والمراجعة والتجريب، وبحث الإنسان الدائب للرقي، واكتشاف الحقائق وتوفير المجال لنمو شخصيته المتكاملة، وأساسها حقوقه في التعبير والرأي والنقد والبحث المفتوح الذي لا يخشى سيف الجلاد وتهم المروق والزندقة والتكفير، من أجل تسخير الطبيعة للصالح العام (الإنسان مدخلاً ومآلاً)، والتركيز على الابتكارات الجديدة في عموم الميادين وليس التمتّرس في بؤرة الثابت ورفعه إلى مرتبة القدسي (التابو)، وإضافة هالات متضخمة من الطقوس الغرائزية، والشكلانية، واللاهوتية المبسّطة التي تسهم في التنويم، والتخدير، ثم إحلال الطقوس مكان الأصل، وإعادة إنتاج منظوماته المعرفية الأكثر بؤساً وتشدداً، وتزمتاً بطريقة (كاريكاتورية) مِسْخية، تشكل خطاً رجوعياً عن الذي كان في مكانه وزمانه وموقعه من السائد آنذاك، والذي بدأ ثورياً، تغييرياً يرفض الساكن والجامد، ويبحث عن الجديد عبر إعمال العقل، وحتى الغور عميقاً فيما اعتبر لاحقاً من المقدّسات التي يحرّم على أحد الاقتراب منها .

 

ـ الحقيقة التي يجب الوقوف عندها : أن المجتمعات العربية، وقبل مراحل التفكك، والانخلاع، فالركود، والغيبوبة الطويلة في زواريب التشييئ، والسفسطة الكلامية، والاستنزاف التناحري حول الجزئيات والتفاصيل المغرقة باللاجدوى، وبالترهات اللفظية، وقبل الاحتلال العثماني، والاستعمار الغربي بقرون سُجنت، وسَجنت نفسها في الإطار النصّي حين أوقفت الاجتهاد(منذ نهاية الخلافة الراشدية عملياً) وحرّمته، وتحولت، نكوصاً، نحو تكريس القائم بتفسيرات، وذهنيات ماضوية ترفض إدخال أي تعديلات، أو تطويرات، أو تكييفات تماشي روح التطور، ومقتضيات وحاجات البشر عليه، ثم إلباسه المحرّم، الممنوع، القدسي الذي لا يجوز، ولا يُسمح لأحد الاقتراب منه، حتى لو تخلخل بفعل الوقائع، وظهرت عيوبه، وعدم قابلياته على استيعاب الحقائق المكتشفة(حتى لو كانت تفقأ العيون ـ ومثال اكتشاف كروية الأرض شاهد صارخ) . ثم جاءت الخلافات والموضعات المذهبية(وبشكل ما، وإن كان أخف، التمذّهب التفسيري للسنة النبوية عبر المذاهب الأربعة، ومستوى الاختلاف والاتفاق بينها، وبينها وبين المذاهب الأخرى) لترسيخ حالة(الاعتقال) تلك، وإدخالها كهوف الخلافات السياسية الراكبة على الأديولوجيا الدينية ذاتها بقوة لا تسمح لها بالحركة سوى بالاتجاه الموضّب، أو بعضها المناسب لكل طرف، والتي تطوّعها، وتفسرها، وتمطّها حتى الولوج في المطلق، والغيبي الملتبس مع التهيؤات المنبثقة من قرارات مسبقة، أو قسرها وضغطها، وتجميدها، وليّها بما يتناسب ورؤية كل فريق، ثم البحث عن التمايز والشرعنة من خلال تفصيص الكلمات وإعطائها المداليل المرغوبة، ولا مانع من التأليف، والانتحال، وعمليات الخلط والتأويل العقائدي، ثم اللجوء إلى الباطن والظاهر في تفسير النص والسباحة عبر ذلك في عوالم الخوارق والتهيّؤات، وانتظار (القيامة، أو المهدي المنتظر) بأشكال، وتصورات متعددة، وبالقدرية النائمة في أحضان المقدر والمكتوب.. وبما أغرق المسار العام، والثقافة السائدة، وعموم الشعب في الشكلانية، والاختلاف الاحترابي..وفقه الكلمات والحروف، وجرّ البشر إلى هذا التلاطم ولو على حساب العقل، ومنطق الحقائق، أو على حساب احتباس وتيرة التطور، ومحاولة بثّ سياسة الإرجاع المحمّلة بأثقال الاختلاف، والتأويل وفق آلية من التكوّر الداخلي، ثم تضييق مديات ذلك التكوّر حتى الاختناق والعزلة والاعتزال(كان الاحتراب والقتل ومطاردة الآخر واستباحته جزءاً متمماً)، فتقيّؤ بعض المحفوظ المحمّل بتلك التفسيرات والطقوس، وهي أثقال تزداد حجماً وارتفاعاً مع مرور الأيام والأعوام، فتزداد حالة النكوص إلى الخلف بكل ما حقنت فيه من مفاعلات الاحتراب والثأر، وتكفير الآخر المختلف، ورفض أي شرعية، أو حقوق له، وتلك الصراعات المفتوحة لاستعادة الشرعية المفصّلة على قدّ المساحة المحددة لكل طرف، مع فيض تملّك تلك الشرعية، والفعل وردّ الفعل على الاضطهاد والتصفيات، وولادة مفهوم المظلومية التاريخية الحاقنة والمحقونة بالحقد، والثأر، وتحميل الآخر(رغم الزمن والمسافات وتغيّر الأحوال) مسؤولية ما جرى من مذابح وعنف وقتل (يمثل مقتل الحسين منعرجاً ومنطلقاً)، والوهم بالعودة إلى النظيف، والصادق، والصحيح من الأفكار والموجبات، فنامت الأمة قروناً على حواف التاريخ، بل على هامشه، أو خارجه بتعبير أدق .

 

 هذه الوقفة(الركود) للبنى الفوقية، على قاعدة الاختلاطات الطبقية المتخثرة ـ المحبوسة ـ المبعثرة ـ المختلطة في بنى وأنماط ووسائل وعلاقات الإنتاج قادت إلى حالة الجمود، فالتكلّس، فاليباس في البنيتين : الفوقية والتحتية، وتقديدها واستثمارها بطريقة فجّة، ومتوحشة من قبل القوى الحاكمة، وأصحاب المصلحة في إبقاء الأوضاع على ما هي عليه، بل وتسييّجها، إن أمكن، بمزيد القيود والأسلاك الشائكة التي تمنع خروجها، وانفكاكها من ذاك الأسار، وبما مهّد الأرضية للتخلف المستديم، ولتسيّد، وتغوّل قوّى، وفلسفة، وممارسات الاستبداد(المشرّعن) ونتاجاته الدامية، والظالمة، والساحقة لحقوق البشر، على حساب حراك، وحقوق الأفراد، والمجتمعات، وتوارث التوريث في الحكم والزعامة والقيادة الدينية والمجتمعية، وحتى السياسية . .

 

ـ عندما بدأت عوامل التراجع(الانحطاط)، وما أعقبها من تفكيك وحدة الدولة المركزية، كان ذلك يعني : أن مجموع البنى : فوقية وتحتية استُنْفذت تماماً، واحتبست، ولم تتطور بما يجعلها قابلة للتجدد والحياة، أي أنها لم تعد قادرة على تلبية متطلبات المرحلة فراوحت في المكان بحثاً عن مخرج . ولأنها لا تملك(موضوعياً وذاتياً) مقومات الثورة، أي التمرّد على السائد وتحطيم تلك الأسوار العالية التي انتصبت، والإمساك بخط التطور ـ التقدّم نحو آفاق جديدة مفتوحة، تراجعت فارتدّت، ثم تحوّلت إلى أشلاء عاش فيها وعليها المجتمع قروناً عُرفت بأنها قرون الانحطاط العربي، وهو تعبير غير دقيق، ويفتقد التوصيف العلمي، لأنه نتاج تلك السيرورة التي وصلت سقفها فما استطاعت العبور منه إلى ما هو أفضل . والنتاج عام يتجاوز السياسي ـ النُظمي(بعثرات الدول التي قامت وتفككها الغريب، وتداخلها الأغرب، واحترابها الاستنزافي) إلى البنى الفوقية التي تعكس حدّة الأزمة، وحدّة الافتقار إلى مفاعلات التطور، بما في ذلك نمط الإنتاج المُقحم في الاحتباس، والاقتطاع لنظام يجمع بين نوع من الإقطاع( أقرب إلى القنانة) المتشرّب أشكالاً رعوية وريعية تسيطر عليه الزمر والعائلات الحاكمة بشكل رئيس(والمقربون والمرضي عنهم)، ومنتوج الثقافة المتسم بالسطحية، وسيطرة الأوهام، والأساطير، وفقه الكلام، وخلافات الأحرف والمعاني والتفاسير، والتبارز الشعري الركيك.. وغير ذلك من تلك المظاهر التي أقعدت تلك الحضارة التي توثّبت بضعة قرون، وكأنها شاخت، وتهيّأ قبرها المنطقي من غير أن تحمل في رحمها ما يضمن تواصلها وتجديدها .

 

ـ الأتراك :

 

ـ عندما انتصر العثمانيون(1516) في اكتساح المنطقة بعد (معركة مرج دابق)، وتمّ تنصيب سليم الأول خليفة للمسلمين(بقوة المنتصر)، وقد اختار لقب(خادم الحرمين الشريفين) بعد أن تعكّز على(تنازل) من أحد بني العباس(وجدوه بعد لأي بين أنقاض التاريخ).. دخل الوطن العربي مرحلة جديدة تختلف عن تلك التي شاعت لبضعة قرون(قرون التفكك والدويلات الفسيفسائية المتحاربة، وغير المستقرة، وملوك وأمراء المماليك والطوائف). فقد انتهت رسمياً تلك الإمبراطورية العربية ـ الإسلامية التي دامت قروناً، حتى وإن صار حكامها العبّاسيون صورة ورقية، وإن عرفت انحدارها المتتالي، وتفككها المتداخل .

 

ـ يجب التأكيد على أن تركيا العثمانية، وبرغم كل السلبيات التي سنمرّ على بعضها الرئيس، نجحت في توحيد البلاد العربية تحت عباءتها الإمبراطورية، وأوقفت بذلك، ولبضعة قرون، حالات الانقسام الكبير، والبعثرات الكيانية التي امتلأت بها المنطقة، كما نجحت في حمايتها من غزوات الأوربيين المتعاقبة وحملاتهم(الصليبية) التي تآكلت، أو أطماعهم في بلاد العرب والمسلمين(كانت غزواتهم لا تنقطع على بعض الأصقاع في بلدان المغرب العربي ـ لم تسلم الفترة من قيام كيانات مستقلة وشبه مستقلة في عدد من المناطق العربية، وبعضها دام لفترة طويلة وهدد الإمبراطورية ذاتها ـ تجربة مصر ومحمد علي على وجه الخصوص)..

 

 لكن بالمقابل : كان الأتراك في سويّة حضارية أدنى بكثير مما وصله العرب عبر إمبراطوريتهم تلك في جميع المجالات، فهم ينحدرون من أصول رعوية ـ قبلية جامحة، تحترف الغزو والقتال بأعداد كبيرة، مدرّبة جيداً على الحرب والطعان عماداً ووسيلة، ومتعطّشة لإقامة إمبراطورية واسعة بحدّ السيف، ولم تكن إمبراطوريتهم قد تعضّدت واستقرت، وأثمرت نتاجاً حضارياً بعد، فعكسوا ثقافتهم، ونتاجهم وطبيعتهم، وفرضوها بالقوة على التابع لهم .

 

ـ ومن المعروف أن سليم الأول المنتشي بالنصر، وهو يغادر بلاد الشام إلى عاصمة مملكته كان حريصاً على اصطحاب معظم العلماء والأطباء والمهنيين والحرفيين للحاجة الكبيرة إليهم . أي أنه فرّغ بلاد الشام (وعموم المناطق التي أخْضعت)من عقولها وعلمائها ونبضها ومهاراتها التي اشتهرت بها، وشكّل ذلك بداية عملية التجويف المريعة : القصدية والنتائجية، ثم النجاح في إلحاقها بالإمبراطورية وهي منزوعة من محركاتها، وطلائعها، وناقلي الوعي والثقافة فيها، وحتى صنّاعها ومهرتها الذين اشتهروا بالأنسجة وعديد الصناعات التي جابت العالم كماركة مسجلة لهم .

 

ـ طغت الصفة العسكرية ـ الحربية ـ الارتزاقية على الحالة التركية معظم فترات وجودها، وهذا يعني وسم الدولة، والثقافة، والسياسة بتلك النمطية المتشددة القائمة على الفرض والأوامر والعنف والقتل، واحتقار الثقافة، والعلوم والحياة المدنية والمدَنية، وبالتالي : القبض على حركة المجتمع واعتقالها في سجن العَسْكَرة ومفرزاتها، ودواعيها، وقراراتها، ثم سحبها إلى مهاوي الأمية والجهل والتخلف .

 

 العَسْكَرَة تلاحقت مع نمط الإنتاج الخلائطي، فأنتجت إقطاعاً عسكرياَ من طبيعة ازدواجية نهمة، فظّة، قسرية، حيث أن معظم الحكام على الأقاليم والمناطق كانوا عسكراً أو من أصول عسكرية، أو يتبعون إلى تلك المؤسسة الواسعة، وكان وجودهم ورأسمالهم يقوم على إقطاعات الحاكم، مقابل تعهدات يقدّمون فيها مبلغاً سنوياً مقرراً إلى السلطة العليا قابلاً للزيادة غالباً، ولا يهم كيف يتمّ تحصيله، ولا الطريقة التي يُجمع فيه، ولا الضرائب المرهقة التي تُفرض، والمصادرات وتفقير الفلاحين والمنتجين الحرفيين وغيرهم، أو إقطاع المقربين مساحات واسعة من الأرض وتمليكهم إيّاها بمن فيها من البشر الفلاحين أشباه الأقنان والعبيد .

 

 ومن المعروف أن القوة الضاربة للجيش التركي قامت على (الانكشارية)، والانكشارية هم أطفال سبايا الحروب، ومعظمهم من أصول أوربية(من البلدان المفتوحة) يؤخذون صغاراً ويخضعون لتربية عسكرية خاصة تُشتلع فيها آدميتهم، وجذورهم المنخلعة أصلاً، فلا يعرفون ويتقنون غير الحرب واستخدام القوة والعنف، وقد تحوّلوا في مرحلة من المراحل، إلى قوة طاغية لها تأثيرها المباشر على الحياة السياسية، وحتى الاقتصادية(من خلال تحوّل كثيرهم ـ بعد انتهاء الخدمة، أو عبر المناصب ـ إلى إقطاعيين، وتجار، وأثرياء، وحكام أقاليم وولاة، وغير ذلك)، فشكلوا طبقة فوقية متعالية ليست لها أية جذور أو انتماءات قومية، أو ثقافة واضحة لها جذورها وهويتها، بما خلق الكثير من الاحتجاجات بين الأتراك الأصليين الذين شعروا أنهم مهمّشون ومبعدون عن الحكم ودوائر الدولة، وأن هؤلاء(اللقطاء) يتحكّمون بالأتراك أنفسهم، وبمقدرات الإمبراطورية، فتصاعدت الاحتجاجات مع موجات الفساد والمظالم المقترنة بسلسلة الهزائم العسكرية المتتالية التي لحقت بالأتراك من الأوربيين، بما دفع إلى إلغاء الانكشارية ونظامها لاحقاً ..

 

ـ إن الطابع العسكري ـ الحربي ـ التوسعي للإمبراطورية العثمانية، وحجم (الفتوحات) والتوسعات في رقعتها الجغرافية، خاصة في العمق الأوربي، قادت إلى مجموعة من النتائج، ووسمت طبيعتها، ومسارها بذلك الطابع، والتي نجملها بالنقاط الموجزة التالية :

 

ـ آ ـ الحرب تستهلك موارد اقتصادية عملاقة تذهب غالباً في أقنية تصريفية هبائية لا تستفيد منها الدولة بشكل مباشر(قد تحاول استخدام نتائجها الإيجابية في حالة النصر بوضع اليد على موارد جديدة في البلاد المفتوحة)، لكنها لا ترتدّ على المجتمع وبناه الاقتصادية للنهوض به وتطويره، أو تعزيز البنى الاقتصادية، أو التعليمية والثقافية وغيرها .. ولأن الحروب لم تتوقف على طول حياة تلك الإمبراطورية . ولأن عديد الهزائم لاحقتها في قرنها الأخير خاصة، فقد اضطرها ذلك إلى إهدار مبالغ كبيرة على الإنفاق العسكري، واللجوء إلى المزيد من فرض الضرائب المتوالية على الفلاحين والمنتجين، وعموم فئات الشعب، كما دفعها إلى الاقتراض الخارجي بفوائد وشروط ثقيلة، وهي تحاول بشكل دائب توسيع عدد الجيش وتحسين تسليحه بالاعتماد على شراء الأسلحة، وعلى تلك التحالفات التي أقامتها(خاصة مع الألمان)، فأنهكت الميزانية بذلك الإنفاق العبثي، وأثقلت السلطنة بالمديونية ووفاء الديون ضمن معادلة مرعبة، لم تجدّ مخرجاً إلا بمزيد إرهاق الشعب بالضرائب التصاعدية، واضطرارها إلى قبول تدخل عديد الدول الغربية بشؤونها، كما انعكس ذلك على الوضع الاقتصادي والمعيشي والإنتاجي، وحياة الشعب الذي تنهشه الأمراض والأمية، ويرهقه الفقر والخوف والقمع المسلّط، وبدأت حالة (المرض) تدبّ وتنتشر فيها فقويت الأطماع الأوربية بها .

 

ـ ب ـ هذا النزيف الرهيب لم يقف عند حدود الجانب المالي المرهق، بل تناول الأهم : الإنسان وحياته عبر الزجّ بالآلاف من الشباب إلى أتون الحروب المستديمة، والتي قضت على الكثير منهم، ناهيك عن المعطوبين والجرحى والفارّين والأسرى .

 

الحاجة إلى التجنيد الدائم، إضافة لما فعله في استنزاف الطاقات الشابة، وتفريغ المجتمع من قدراته الأهم، فإنه أضفى جوّاً من الرعب المعمم، والمطاردات المنهكة بحثاً عن المزيد من الشبان الذين كانوا يحاولون بكل وسائلهم البسيطة التهرّب من الموت شبه المحقق، ومن الخضوع للذل، والإكراه، والحياة القاسية، والعائد الهزيل الذي بالكاد يكفي القوت، مما زاد منسوب الكراهية والحقد ضد النظام برمته، الذي كان يستخدم وسائل الإجبار لسوق الشبّان إلى حتفهم، بكل ما في تلك العملية من مظالم ومآسي ذهبت مذهب الروايات التراجيدية، والقصص الفاجعية الرهيبة، وأصبحت كلمة (( سفر برلك)) مرادفة للموت وذهاب الشباب إلى حتوف لا يعودون بعدها.. فخلت كثير القرى والمناطق من السواعد الفتيّة، وتفشّى المرض والوباء والفقر، وأثقلت الكهولة، والنساء بمزيد الأعباء، وارتفعت العنوسة، والزيجات الكثيرة(للتعويض)، وعمّ الخراب بالزراعة، ومعظم مجالات الإنتاج، وانتشرت المجاعات تحصد آلاف الأرواح وتقيم علاقات جديدة من البحث عن لقمة الحياة ولو بسرقة أقرب المقربين، وقطع الطرق، وعمليات السطو والسرقة المنظمة، وغيرها من المظاهر المريعة .

 

ـ ج ـ أمام الهزائم العسكرية المتتالية، حين تحالفت عديد الدول الأوربية ضدها، اضطرّت السلطنة إلى طلب مزيد القروض التي شكّلت منافذ(شرعية) للتدخل الأجنبي فيها، فتمّ ابتداع ما عُرف ب"نظام الامتيازات"ابتداءً مع فرنسا(تقديراً لوقفتها مع السلطنة) الذي يعني منح تلك الدول تسهيلات مختلفة من مرتبة الامتياز، ثم السماح لها بالتواجد الكثيف المترافق مع إسباغ الحماية على البضاعة والأشخاص وحركة رؤوس الأموال، فالمدارس والبعثات التبشيرية وغيرها، وقوفاً عند توسّع ذلك النظام وتمدمده ليشمل ميادين عديدة، فدولاً مختلفة، وليتخذ أشكالاً من التدخل وفرض حماية دول ذلك النظام على أتباعها، ثم توسّعه ليضمّ المتعاملين معها في شتى مجالات العمل والتسويق والتجارة(حتى وإن كانوا من مواطني السلطنة)، والتعليم، ثم سحبه على الطوائف المسيحية بحجة حمايتها من المذابح والاضطهاد، فتغلغله ليشمل تقسيمات تخصّ كل مذهب على حدة، ومنه إلى بعض الطوائف الإسلامية فيما يشبه التقسيم المتفق عليه بين تلك الدول الأوربية حيث تحتضن كل دولة أصحاب مذهب معيّن، دون غيرهم، وقد عرف هذا النظام توسعاً مطرداً بتوسل كثير المواطنين تأمين تلك الحماية لهم تحت ذرائع وتغطيات مختلفة .

 

ولئن نجح هذا التدخل في نشر المدارس التبشيرية التي تركّز على تعاليم الدين المسيحي، فإنه سرعان ما تطوّر إلى فتح وتعميم المدارس العادية التي تُدرس فيها العلوم والآداب الحديثة، وفي إدخال المطبعة والطباعة، والقيام بعمليات الترجمة والتأليف، ومحاولة إحياء التراث العربي ـ الإسلامي، خاصة في مجالات الطب والعلوم والفلك والرياضيات، ونشر الأفكار الجديدة الرائجة في الغرب، وكثير منتجاته الفكرية والفلسفية والصناعية، بما أدخل رياحأً حداثية جديدة كان لها أبلغ الأثر في نفوس الشباب المتعطّش للتغيير، والخلاص من واقع التخلف والاستبداد، والتهميش، والأمية، وبما أسهم في إرهاصات حركة النهوض القومي والديني والتحرري لاحقاً ..

 

 لكن ذلك النظام التدخلي بقدر ما خلخل من هيبة وقيود السلطنة على المواطنين بقدر ما أسهم في موضعة وتعضدي وتعميق الشروخ والأسوار، والمرجعيات الدينية والمذهبية، وزجّ عديدها لتعاطي السياسة من موقعها ذاك، وإقامة أسيّجة عالية بينها، وفي تشكيل طبقة عائمة، رقيقة، رخوة وسطحية . ترويجية وخدمية لبضائعه وصناعاته التحويلية، تتعامل معه من موقع التابع، والمبهور، والمرتبط بإنتاجه وبضاعته، وحتى بسياساته، ناهيك عن وقعه على الانقسامات المذهبية وتعميق خندقتها . دون أن نغفل الأثر الإيجابي في تفتيح العقول على أفكار عصر الأنوار، والثورة الفرنسية، فالثورات الأوربية التي تنطلق من تقديس العمل والإنسان كقيّم عليا، والداعية إلى الحريات الديمقراطية بكل تفرعاتها، ومشاركة الشعب في الحياة السياسية، وفي شكل الحكم، وتكوين الأحزاب والنقابات، وحرية الانتقاد والمعتقد والعمل، وقرع رؤوس الأمية والجهل والتخلف، وواقع الاستبداد المريع، وحالة العرب، والعربية المزرية، وما يمارس عليهما من إذلال وتهميش، واضطهاد.. بما وفّر مناخاً جديداً لإرهاصات بدايات النهوض العربي .

 

ـ د ـ السمة العسكرية ـ الحربية ألقت ظلالها على كل مناحي الحياة، وقادت، بالنتيجة، ليس إلى عسكرة المجتمع والأفكار، وحتى النظام الإنتاجي وحسب، بل إلى التخلف المريع عن ركب الحضارة البشرية وعمّا حققته أوربا تلك الفترة من قفزات عملاقة في ميادين : الاكتشافات الجغرافية، والعلمية، وفي الأفكار الجديدة الداعية إلى الانعتاق، وحريّة الإنسان، وفصل الدين عن الدولة، وإعمال العقل في التفكير والبحث والإنتاج، والتي توّجها اكتشاف الآلة البخارية واستخدامها مما كان يعتبر فتحاً جديداً، ونقلة انعطافية في الانتقال إلى العمل الآلي بدل الحيوان وسواعد الإنسان، وفي السير بقفزات كبيرة في ميدان التقدّم الصناعي والعلمي وحتى بأنواع الأسلحة وقدراتها الفائقة على القتل .. بينما كانت السلطنة ترسف في التخلف والاستبداد المكين، وإعادة إنتاج منظوماتها المعرفية المهترئة، فسجّلت تراجعاً كبيراً زادت الفجوة بينها وبين الغرب الذي ينافسها، ويعاديها بدول كثيرة فيه، وأصيبت بالشلل الذي عُبّر عنه ب" الرجل المريض" الذي فتح شهية الغرب الاستعماري لتقطيع أوصاله، واحتلال وتقسيم الوطن العربي بتلك الطريقة الشيطانية .

 

ـ ورغم أن الأديولوجيا المعتمدة، أو المركوبة هي الإسلام(السني المتشدد)، والحاكم يطلق عليه خليفة المسلمين.. إلا أن الأتراك رفضوا، منذ البداية، وعلى طول مرحلة إمبراطوريتهم(400عام) اعتماد العربية لغة رسمية لهم، رغم أنها لغة القرآن الكريم ويصعب أن تستقيم العبادات، وفهم تعاليم الدين وآيات القرآن الكريم وسنّة نبيّه(ص)، وروحه وغاياته الأسمى إلا بإتقانها(ناهيك عن التراث الضخم الذي خلّفته تلك الحضارة في شتى مناحي العلوم والعقيدة والفلسفة والحياة والذي أهمل وطواه النسيان).. إلا أن الحاكم التركي ظلّ مصرّاً على رفض اعتمادها، حتى أن عديد السلاطين لم يكن يعرفها، ولا ينطقها أو يتكلّم بها(وإن اعتمد الحرف العربي في كتابة اللغة التركية، والذي ألغاه مصطفى أتاتورك)، وانتشرت اللهجات العامية البسيطة، المحشوة بعديد الكلمات التركية والمحرّفة، ومعها السيّر الشعبية المبسّطة، والحكايات المروّية شفاهياً، وشيوع ظاهرة (الحكواتي) في المقاهي والأماكن الشعبية الذي يعيد منتوج القرون بلغة محكية وعاميّة مليئة بالتعابير السوقية، والمبتذلة، بديلاً لحركة التأليف والإبداع، بما كان لذلك من آثار فاجعية على الثقافة واللغة العربية، وعلى حالة التعليم في البلدان العربية التي عرفت تراجعاً كبيراً في العدد والمضمون، حيث تهدّمت وأهملت معظم المدارس والجامعات القديمة التي كانت تلقن مختلف العلوم الدينية والطبيعية، وانحسرت حتى الكتاتيب التقليدية عدداً ومضموناً، واقتصر التعليم في كثيرها على تحفيظ بعض آيات القرآن الكريم بصماً دون فهم، فانتشرت الأميّة وعششت في المجتمع والعقول، ومعها ثقافة السِيّر والأساطير والحكايات الشعبية المكتوبة بلغة عاميّة شديدة التبسيط والبذاءة أحياناً، ونام الجهل في أحضان الأميّة لتوليد التخلف العام في جميع الميادين .

 

وبشكل عام، فهذه المرحلة الطويلة التي استمرت أربعة قرون، أرست جميع مفاعلات التخلف والفوات ، وعززت قرون(الانحطاط) بتعميم الأمية، وتجهيل البشر، وتغييب العقل، ناهيك عن تعضدي المذهبية ومحاولاتها ركوب السياسة والخلافات السياسية، وتقدّمها لتمثيل من ينتسب إليها، وقد وضعت نفسها في موقع الحامي، والممثل، والدرع ورأس الحربة.. في حين كان الغرب يُحطم كافة القيود التي تمنع انطلاق مارده : العلمي، العقلاني، التحرري، الاستعماري من الانطلاق وبسط سيطرته على معظم مناطق العالم .

 

ونلاحظ هنا، ونحن نستبق السياق، أن نسبة المتعلمين إلى عدد السكان قليلة جدا لا تتجاوز ال5(% ، ويعني ذلك أن غالبية الشعب غارقة في الجهل، لا تعرف ما يدور حولها وفي العالم . ناهيك عن المصاعب الحقيقية لنجاح مشروع تنويري ـ نهضوي من ذلك العيار .

(( يتبع))

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ