-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
الصراع
على "هُويّة الصراع" في
المنطقة العربية صبحي
غندور* الخطر
الأكبر الذي يواجه العرب حالياً
هو انشغال شعوب المنطقة
بصراعاتها الداخلية. فمن رحْم
هذه الأزمات، في بلدان مثل
العراق والصومال والسودان
واليمن وفلسطين ولبنان، تتوالد
مخاطر سياسية وأمنية عديدة
أبرزها الآن مخاطر الصراعات
الطائفية والمذهبية والإثنية،
إضافةً إلى الصراعات السياسية
والتنافس على السلطة. ومع هذه
الأزمات، المفتعَل بعضها من قوى
دولية وإقليمية، تتصاعد الحملة
الإسرائيلية لجعل الملف
الإيراني هو "الصراع
البديل" عن "الصراع
العربي/الإسرائيلي" المتواصل
منذ عقود، وفي ظلِّ المشروع
الإسرائيلي الهادف إلى تقسيم
البلاد العربية، بحيث تكون
الدولة اليهودية في المنطقة هي
الأقوى وهي المهيمنة على
الدويلات المتصارعة. وعلى
جوار حدود الأرض العربية، تنمو
مشاريع إقليمية تستفيد من خطايا
السياسة الأميركية ومن غياب
المرجعية العربية ذات المشروع
الضامن لمصالح الأمّة العربية. فالصراع
على "هُويّة الصراع" في
المنطقة العربية هو جوهر
المشكلة السائدة الآن، وهو صراع
دولي/إقليمي في إطاره العام
الجاري حالياً، لكن يريد البعض
تحويله أيضاً في أكثر من مكان
إلى صراعات طائفية ومذهبية. إنّ ضعف
المناعة في الجسد العربي هو ما
جعل هذا الجسم قابلاً لاستقبال
حالات الأوبئة التي تعشّش الآن
في خلاياه، وأخطرها وباء
الانقسام الطائفي والمذهبي. ولو لم
يكن حال الأمّة العربية بهذا
المستوى من الوهن والانقسام،
لما كان ممكناً أصلاً استباحة
بلاد العرب من الجهات الأربع
كلّها. *** هناك
ثلاثية متلازمة تقوم عليها
الحياة العربية لأكثر من قرنٍ
من الزمن، والثلاثية هذه هي
"الوطنية والعروبة
والدين". فمنذ مطلع القرن
الماضي، وعقب سقوط الدولة
العثمانية، رسم البريطانيون
والفرنسيون خريطة جديدة
للمنطقة العربية قامت في
محصّلتها دول وحكومات، ثم تبلور
هذا الواقع مع النصف الثاني من
القرن العشرين بصورة أوطان لها
خصوصياتها الكاملة، يعيش العرب
فيها وينتمون إليها كهويّة
قانونية. لم يكن
القصد البريطاني والفرنسي من
رسم الحدود بين أجزاء الأرض
العربية مجرّد توزيع غنائم بين
الإمبراطوريتين الأوروبيتين
آنذاك، بدلالة أنّ البلدان
العربية التي خضعت لهيمنة أيٍّ
منهما تعرّضت هي نفسها للتجزئة،
لكن الهدف الأول من ذلك كان
إحلال هويّات محلّية بديلاً عن
الهويّة العربية المشتركة،
وإضعافاً لكلّ جزء بانقسامه عن
الجزء العربي الآخر. ورافقت
هذه الحقبة الزمنية من النصف
الأول من القرن العشرين،
محاولات فرض التغريب الثقافي
بأشكال مختلفة على عموم البلدان
العربية والسعي لزرع التناقضات
بين الهويات الوطنية المستحدثة
وبين الهويات الأصيلة فيها
كالعروبة الثقافية والإسلام
الحضاري، ثم أيضاً بين العروبة
والإسلام في أطر الصراعات
الفكرية والسياسية. وقد
تميّزت الحقبة الزمنية
اللاحقة، أي النصف الثاني من
القرن العشرين، بطروحات فكرية
وبحركات سياسية يغذّي بعضها
أحياناً المفاهيم الخاطئة عن
الوطنية والعروبة والإسلام، أو
لا تجد في فكرها الآحادي الجانب
أيَّ متّسع للهويّات الأخرى
التي تقوم عليها الأمَّة
العربية. ففي هذه الأمّة الآن
مزيج مركّب من هوياّت قانونية
وطنية وثقافية عربية وحضارية
دينية. وهذا واقع حال ملزِم لكل
أبناء البلدان العربية حتى لو
رفضوا فكرياً الانتماء لكلّ هذه
الهويّات أو بعضها. ربّما
العرب اليوم هم أحوج ما يكونون
لاستيعاب هذا المزيج من ثلاثية
الهوية. فالبلدان العربية تعيش
جميعها الآن مخاطر التهديد
لوحدتها الوطنية كمحصّلة
للمفاهيم والممارسات الخاطئة
لكلٍّ من الوطنية والعروبة
والدين. وقد عانى العديد من
البلدان العربية وما يزال من
أزمات تمييز بين المواطنين، أو
نتيجة ضعف بناء الدولة الوطنية
ممّا أضعف الولاء الوطني لدى
الناس وجعلهم يبحثون عن أطر
فئوية بديلة لمفهوم المواطنة
الواحدة المشتركة. أيضاً،
اعتقد بعض العرب، خاصّةً ممّن
هم في مواقع الحكم، أنّ إضعاف
الهوية الثقافية العربية أو
الانتماء للعروبة بشكل عام،
سيؤدّي إلى تعزيز الولاء
الوطني، لكنْ كان ذلك كمن أراد
إضعاف التيّارات السياسية
الدينية من خلال الابتعاد عن
الدين نفسه، عوضاً عن الطرح
السليم للعروبة والدين،
وبإفساح المجال أيضاً لحرّية
التعبير السياسي والفكري لكلّ
التيّارات. إنّ
الفهم الصحيح والممارسة
السليمة لكلٍّ من "ثلاثيات
الهوية" في المنطقة العربية
(الوطنية والعروبة والدين)
يتطلّب نبذاً لأسلوب العنف بين
أبناء المجتمع الواحد مهما كانت
الظروف والأسباب، وما يستدعيه
ذلك من توفّر أجواء سليمة
للحوار الوطني الداخلي،
وللتنسيق والتضامن المنشود بين
الدول العربية. إن
الدين يدعو إلى التوحّد ونبذ
الفرقة. إنّ العروبة تعني
التكامل ورفض الانقسام. إن
الوطنية هي تجسيد لمعنى
المواطنة والوحدة الوطنية. فأين
نحن من ذلك كلّه؟ إنّ
ضّعف الولاء الوطني يُصحَّح من
خلال المساواة بين المواطنين في
الحقوق السّياسية
والاجتماعيّة، وبالمساواة أمام
القانون في المجتمع الواحد. كذلك هو
الأمر بالنسبة للهويّة العربية
حيث من الضروري التمييز بينها
وبين ممارسات سياسية سيّئة جرت
من قبل حكومات أو منظمات أساءت
للعروبة أولاً وإن كانت تحمل
شعاراتها. فالعروبة هي هويّة
ثقافية جامعة تستوجب تنسيقاً
وتضامناً وتكاملاً بين العرب
يوحّد طاقتهم ويصون أوطانهم
ومجتمعاتهم. أيضاً،
إنّ غياب الفهم الصّحيح للدّين
وللفقه المذهبي وللعلاقة مع
الآخر أيّاً كان، هو المناخ
المناسب لأي صراع طائفي أو
مذهبي يُحوّل ما هو إيجابي قائم
على الاختلاف والتّعدّد إلى عنف
دموي يُناقض جوهر الرّسالات
السّماويّة، لكن يحقق غايات
الطامحين للسيطرة على الأرض
العربية.! فالعرب
يدفعون الآن ثمن خطايا كبيرة
حدثت خلال العقود الثلاث
الماضية في المنطقة، فضلاً عن
أنّهم الآن بلا بوصلة مرشدة
لحركتهم السياسية. والتعامل
مع تزايد نفوذ قوى الجوار
الإقليمي لا يجب أن يحجب أولوية
المخاطر الأخرى المتمثّلة
بالاحتلال الأجنبي
والإسرائيلي، بل تستدعي هذه
التحديات كلّها تصحيح
التوازنات في المنطقة من خلال
قيام تضامن عربي شامل وسليم يضع
الأسس المتينة للعلاقات بين
الدول العربية، وبينها وبين
سائر دول الجوار. إنّ
كثيرين من أبناء الأمّة
يتشكّكون الآن من هُويّتهم
العربية وممّا هو مشترك بين
بلدان هذه الأمّة، دون إدراكٍ
منهم أنّ ما هو قائم من وضع سلبي
لا يعبّر أصلاً عن العروبة
نفسها. فالحديث هو عن "أمَّة
عربية" بينما هي أوطان
وحكومات متعدّدة، وأحياناً
متصارعة، بينما المتعاملون مع
هذه الأمّة العربية من قوًى
إقليمية ودولية هم أمم موحّدة
بكل معاني التوحّد أو التكامل
السياسي والاجتماعي والاقتصادي
والعسكري. فلو أنّ حال هذه القوى
كان شبيهاً بحال العرب الآن،
لما استطاعت أصلاً أن تشكّل
تحدّياً أو خطراً على غيرها. -------------------- *مدير
"مركز الحوار العربي" في
واشنطن ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |