-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 02/05/2010


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


علم "اللاحتم".. يدمغ مقولة: "الكون يقوم وحده..آلياً"

أ.د./ ناصر أحمد سنه

لاشك تختلف قراءات الناس لما يمر بهم، ويتوالي عليهم من مواقف ومشاهد وأحداث، بل و"ثورات علمية". كما أن مقاربات البعض التي تبدو في ظاهرها علمية موضوعية محايدة، هي تبعٌ لاختلاف أهوائهم وتوجهاتهم وأيديولوجياتهم، لكن المسلم له مرجعيته ..قرآناً وسنة مطهرة، التي تجلي تلك الأمور كلها، فتهديه الصراط المستقيم، فلا يضل ولا يشقي.

 

"الفراشة في بكين تـُحدث عاصفةً في برلين" مثال دال علي أكثر الموضوعات الفيزيائية الحديثة إثارة للإهتمام. ومع التحليق مع "فراشة بكين" لنقارب ذلك "العلم الجديد" :"علم اللاحتم/ اللامتوقع"، أو"عدم الاستقرار الديناميكي، أو "نظرية الفوضى سابقاً".." نجد "استعمالاته، واستدعائاته، وجدلياته" خارج سياقها مثل: "الفوضى الخلاقة"، تُعيد ترتيب منطقة "الشرق الأوسط"، و"سيناريو لخريف الفوضى"(د. مأمون فندي، الأهرام 16/8/2002م)، و"الفوضى الدولية، والعدوان علي الشعوب"، و"فوضي أم انهيار للنظام الدولي؟ (السيد يسين، عددي الأهرام في 27/7/2006م، 3/8/2006م)، و"الفوضى كنمط حياة يومي" (د. صالح سليمان، موقع ديوان العرب25/7/2007م"، و"مشروع نظرية الفوضى الخلاقة" صحيفة الوقت البحرينية، 23 /11/ 2007" الخ.

إن مفهومي النظام والفوضى متجذران في عقلية وثقافة الإنسان، وهما يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالهدف الأساس للعلم وهو الكشف عن قوانين الكون، ومعرفة نُـظمه، والوعي بآلياته. لكن بحوث الفيزياء الحديثة، ومن ثم فلسفة العلم، ومن قبلهما ضرب العقل المسلم في دروب العلم، تجعلان الحاجة ماسة لإعادة تحديد ماهية هذين المفهومين، وما يترتب علي ذلك من نتائج هامة!.

 

لعل مصطلح "الفوضى" يختصر حركة متصاعدة لإعادة صياغة مؤسسات علمية، والشغل الشاغل لمراكز بحثية وتنفيذية عالمية. وشاعت منتديات "الكايوس" ومجلاته، وتقنياته الخائلية، ومقولاته العامة: "إن رفة جناحي فراشة في الهند قد تحدث فيضانات في نهر الأمازون"، و"فراشة في طوكيو.. تحدث إعصاراً في نيويورك".

ووصل الجدل إلي الفن.. فظهرت "النظرية" على شاشة السينما العالمية: "تأثير الفراشة"،  The Butterfly Effect، كذلك "هي فوضي؟" عنوان آخر أفلام "يوسف شاهين"، الذي أصرت "الرقابة الفنية" علي تذييله بعلامة استفهام، لتحيل عنوانه من "تقريري إلي استفهامي". ومن ثم يحيلنا ـ إعادة للأمور في نصابها، ودون "تجاوز السياسي أو الفني علي العلمي"ـ  لعرض مفهوم ذي معني هام، بل لعله "ثوري" في مجال الفيزياء، وفلسفة العلم، ومستجدات الثقافة العلمية والعالمية.

 

العلم.. "والفلسفة الحتمية".

لفترة طويلة كانت القوانين الفيزيائية تعكس "صلة تامة" بين السبب والنتيجة، فبمعرفة الأسباب الابتدائية، والقياسات الأولية، كان من الممكن التنبؤ بأي نظام فيزيائي بدقة، وبصورة بعيدة المدى. وكان ينظر للكون ـ من لحظة ميلاده ـ على أنه تحديدي أي يمكن التعرف عليه مع كم معقول من البيانات، على افتراض أن الظواهر الطبيعية خطية في علاقاتها، وليست غير خطية/"عشوائية". فنشأت "الفلسفة الحتمية" وتقضي بأن لكل سبب أثر محدد، ونتيجة محتومة. ومن ثم يمكن التنبؤ ـ مبدئياًـ بكل حدث أو فعل بشكل أمامي (تقدمي)، أو خلفي (ماضي) طالما عرفت مسبباته. واستناداً على هذا "النموذج الحتمي"، فالكون يبدو كآلة "ميكانيكية" متكاملة، "تقوم وحدها.. آلياً"، بلا انحراف عن القوانين المحتومة.

وكانت تلك "الحتمية" قد بدأت مع الإغريق، ثم اندمجت في بواكير العلم الحديث مطلع القرن السادس عشر. جَـذّر " اسحق نيوتن (1642-1727م) "الحتمية" في لب العلوم، واكتشف مجموعة من المبادئ والقوانين التي يمكن بها التنبؤ بدقة بتشكيلة متنوعة من الأنظمة الطبيعية مثل بجدول مد المحيط، وحركة المقذوفات والصواريخ والطائرات والمدفعية الخ. وبرهن أن قوانينه عن الحركة والقوة والكتلة، تجعلنا نعي حركة الأجسام والأجرام السماوية والأرضية، والتجاذب الثقالي بين الكتلات: [قوة الجاذبية بين جسمين تتناسب طردياً مع كتلة كل منهما، وعكسياً مع مربع المسافة بينهما (قانون الجاذبية).

 

   

مرسوم يوضح قانون نيوتن الأول، وصورة شخصية له.

 

 ولقد ذهب إلي أن الجسم يظل في حالة سكون أو حركة بسرعة ثابتة في خط مستقيم ما لم تؤثر عليه قوة خارجية (قانون القصور الذاتي). القوة المؤثرة على الجسم تساوي حاصل ضرب كتلته بعجلة حركته (والعجلة هي معدل تبدل السرعة مع الزمن). لكل قوة مثيلتها المضادة المساوية لها بالمقدار، والمعاكسة لها بالاتجاه]. وقام "نيوتن" "بتوحيد" ظاهرتي الجاذبية الأرضية والجاذبية بين الجرام السماوية، وصاغ "قانون الجاذبية العام". كما تضمنت قوانينه إن أي حدث مستقبلي هو "حتماً" متصل بما يحدث الآن، وكل ما يحدث الآن هو مرتبط بما حدث في الماضي.

حققت قوانين نيوتن نجاحا لقرون عدة، بيد أنه تم تجاوزها بمجموعة أكبر وأحدث من القوانين الفيزيائية مطلع القرن العشرين؛ إلا أن جانبا من فلسفة العلم حاولت أن تبقي "الحتمية كهدف" للعلوم الفيزيائية.

فمع إرهاصات العلوم الحديثة تبين: إن القوانين التي تحكم الكون المادي يمكن أن تفهم بشكل ذي مغزى إذا تم التعبير عنها، ومن ثم تطبيقها، بقياسات محددة، وفي حدود رقمية، بمعادلات وصيغ رياضية، وليس بألفاظ تعبيرية كما سبق.

الفيزياء الحديثة، وثورتها علي القديم.

ومع نظريات الفيزياء الحديثة في أوائل القرن العشرين ظهر أحد المبادئ الأساسية: لا يوجد قياسات "لانهائية الدقة" أو "حتمية النتيجة"، بل على العكس يجب أن تتضمن القياسات درجة من الارتياب أو ما يسمي (الشك) في القيم المتحصل عليها. وذلك لأن أي أداة قياس ـ حتى لو صممت واستخدمت بشكل متكامل ـ لا يمكن لها أن تسجل نتائجها بدقة لا نهائية، لأنها تتطلب قياسات وشروط ابتدائية لا نهائية. لكن باستخدام أداة قياس أكثر دقة، يمكن التقليل من معدل الارتياب/الشك في التنبؤات النهائية بمقدار غالبا ما يكون صغيرا إلى الحد الذي يُحتاج إليه لهدف مخصص. وبات هدف العلوم التجريبية والتقنية هو زيادة الدقة المطردة لأدوات القياس لتقترب من الدقة المطلقة، ولكن لن تصل إليها أبدا.

وكان الفيزيائي والرياضي "هنري بوان كارييه" رائدا في هذ المجال، وذهب إلي أن "انفجار" الارتيابات الصغيرة في الشروط الابتدائية إلى ارتيابات ضخمة في التنبؤات النهائية باقٍ حتى لو كانت الارتيابات الابتدائية قد انكمشت إلى أصغر حجم يمكن تصوره. إن "الحساسية للظروف الأولية " و الموجودة رياضيا في الأنظمة المدروسة بواسطته أصبحت تعرف باسم "عدم الاستقرار الديناميكي" أو "الفوضى". وباتت التنبؤات الرياضية بعيدة المدى "للأنظمة الفوضوية" لا تعدو أن تكون في دقتها فرصة عشوائية. مرت عقود قبل أن تُدرَك القيمة لاكتشافاته من قِبَل المجتمع العلمي ككل، وذلك لأن أكثر المجتمع الفيزيائي كان مشغولا بإجراء اكتشافات جديدة في " ميكانيكا الكم" الذي هو امتداد فيزيائي في عالم الذرة.

 

ما يسمي بـ"الـفوضى" تقف خلف "بُني منظَّمة".

تبين أن "الحتمية"، والشروط الابتدائية، والارتيابية في القياس هي سبب حدوث "النظم الديناميكية غير الخطية"، أو "عدم الاستقرار الديناميكي"، أو "نظرية الـفوضى سابقاُ". فالاسم الأول "النظم الديناميكية غير الخطية"، يعتبره كثيرون اسماً رسمياً لهذا العلم الجديد. لكن لإعطاء اسماً جماهيرياً اختير لفظ "كايوس" (Chaos) أي "الفوضى"، ومعناها الأصلي "هيولية": (الحالة التي كان عليها الكون طبقا للأساطير اليونانية).

وهذا العلم هو أحد الأبناء الشرعيين للكمبيوتر، فمن خلال أحد علماء الطبيعة الجوية "إدوارد لورنتز "، وكان صديقاً لـ"فون نيومان" الأب الروحي للكمبيوتر، وتولد لديهما آمل أن يستخدم الكمبيوتر في التنبؤ بالطقس الجوي، أسوة بتنبؤ الفلكيين بالظواهر الفلكية. وحينما تم إجراء التجارب لتطبيق هذه الفكرة، إذا "بظاهرة الفراشة" تبدو صادمة. فكلما أجري تجربة لنفس المعاملات تكون النتائج مختلفة تماماً، حتى شك في جهازه، إلا أنه اكتشف أن الخطأ في أي معمل مهما كان طفيفاً بحيث لا يمكن للأجهزة أن تحس به ويتحول بعد فترة وجيزة إلى أن يسبب آثاراً خطيرة تجعل التنبؤ بالطقس مستحيلاً. وبذلك كانت "ظاهرة الفراشة" قد قضت على أحلامهما في استخدام الكمبيوتر في التنبؤ بالطقس. و"رب ضارة نافعة" فقد تولد عن هذا الفشل ظهور هذا العلم الجديد.

              

(كتاب نظرية الفوضى  تأليف: جيمس غليك ،            ملصقين لفيلمين سينمائيين يتناول "تأثير الفراشة"

ترجمة:أحمد مغربي، مركز البابطين للترجمة-بالتعاون

مع دار الساقي-بيروت، 2008م)

 

فيزياء..تبدأ من حيث انتهت تلك التقليدية

هذا العلم ـ الذي وصفه البعض "بالثورة الفيزيائية الثالثة" بعد فيزياء "نيوتن وأينشتاين"ـ يصف ظواهر، و"بُني منظَّمة" واسعة النطاق، وهو يبدأ من الحدود التي يتوقّف عندها العلم التقليدي. فمنذ شرع العلم في حلّ ألغاز الكون، عانى دوماً "عجزاً" بشأن فهم ظوهر الاضطراب مثل: تقلّبات المناخ، وحركة أمواج البحر، وتقلّبات الأنواع الحيّة وأعدادها، والتذبذب في عمل القلب والدماغ الخ. فذلك الجانب من الطبيعة الذي يبدو: غير منظّم/ غير منسجم/ غير متناسق/ مفاجئ/ انقلابي، كان قد أعجز العلم.

لكن تلك "الرؤية العلمية العاجزة" تغيرت تدريجاً منذ سبعينات القرن العشرين، عندما سعت كوكبة من العلماء في مختلف التخصصات بالاهتمام بأمر هذا "الاضطراب وفوضاه". فسعوا للإمساك بالخيوط التي تجمع تلك الظواهر التي تبدو "فوضوية"، وغير منضبطة، وتتداخل وتتفاقم بين المجالات المختلفة.

- أغلب ظواهر الطبيعة إن لم تكن كلها غير خطية العلاقات، ويترتب على اللاخطية، الهيولية (استحالة التنبؤ)، وهي أمر مختلف عن العشوائية، فلها هيكل منضبط يحكمها. والأنظمة البيولوجية أيضا محكومة بآليات لا خطية. لكن بحسب "روبرت ماي": إن كل نظام لا خطي بسيط لا يتمتع بالضرورة بخصائص ديناميكية بسيطة.

- تطبيقات نظرية الهيولية في علم الفلك، هي مجال مزدهر. فالفراغات داخل حزام الكويكبات يعتقد أنها نتاج هذه الحالة، ومدار قمر واحد على الأقل من أقمار كواكب المجموعة الشمسية، وكذلك مدارات بعض الكواكب ذاتها هيولية. كما قد يكون بإمكانها تفسير ما للشمس من أنشطة عنيفة غير متوقعة، بل أن أسطح كافة النجوم تبدو على هذه الشاكلة، فالنجوم النيترونية تقذف بين الحين والآخر برفقات عشوائية من أشعة إكس لا يعرف لها سبب. وفيما يتجاوز النظام الشمسي، فقد أظهرت بعض النجوم المتغيرة سلوكاً هيولياً، كما أن بعض نجوم مجرتنا ومجرات أخرى ذات مدارات هيولية. كما أن ثمة هيولية كامنة في النظريات النسبية العامة.

- انعكاس محور المجال المغناطيسي للأرض على دورات مدتها من 100 - 150 ألف من الأعوام. إن هذا التغير يبدو عشوائياً، ولذا فليس من المستبعد أن يكون هيولياً.

- بحث التوقعات الفلكية طويلة الأجل المغايرة والتي كان مصيرها الفشل "المحتوم"، حيث لا نستطيع أن نتنبأ بما سيكون عليه الطقس إلا لفترة محدودة (تكاد لا تزيد على ثلاثة أيام) رغم الحشد التقني. فالظواهر الطبيعية حينما تكون قوانينها معقدة ومتشابكة فإن عملية التنبؤ تبدو مستحيلة، هذا بالإضافة إلى أن النظام أو الظاهرة التي تقوم عليها حالات (الهيولية) حساساً للمتغيرات الطفيفة مثل الطقس والذي هو مثال واضح لحالة الهيولية.

- بسبب "تأثير الفراشة " فإنه من المقبول الآن أن التوقعات المناخية يمكن أن تكون دقيقة فقط في المدى القصير، وأن التوقعات بعيدة المدى حتى لو أخذت بواسطة أكثر الطرق الكمبيوترية تطورا، فإنها لن تكون أكثر من مجرد تخمينات.

- ليس الطقس وحده الذي يستعصى على التنبؤ للمدى الطويل. لكن كل ظاهرة تتمثل في نموذج كرة تتدحرج على مستوى خشن. إن معادلات نيوتن تمكن من تقدير سرعة الجسم بعد فترة من حركته, وهو تحت تأثير الفرق بين القوة التي تحرك الكرة وقوة الاحتكاك الناتج عن خشونة السطح. ولكن لو تصورنا أن السرعة تؤثر بدورها في قوة الاحتكاك, بحيث تزيد هذه القوة مع زيادة السرعة وتقل بانخفاضها، فإن ذلك يعني أن الكرة حين تنزع لزيادة سرعتها تزيد تبعا لذلك قوة الاحتكاك, فتقل محصلة القوى وتأخذ الكرة في التباطؤ. التسارع يؤدي إلى التباطؤ, والعكس بالعكس, وما ذلك إلا لأن العامل المؤثر, وهو الاحتكاك, يتأثر بدوره بالعامل المتأثر, (التغذية المرتدة). فإذا كانت درجة الارتباط بين المؤثر والمتأثر ضئيلة, فلن ينتاب النظام أي اضطراب, وتسير الكرة سيراً حسناً. ولكن مع زيادة درجة الارتباط, تأخذ الظاهرة في الخروج عن حالتها الطبيعية, وبعد درجة أكبر من الارتباط, لن يجدي نفعا تطبيق معادلات الحركة لنيوتن لتقدير سرعة الكرة بعد حين من الزمن مهما كانت ضآلته, ذلك رغم استمرار هيمنة تلك المعادلات على الظاهرة. فالمعاملات المؤثرة في الطقس متعددة, منها الضغط الجوي والحرارة والرطوبة, إلا أن هذه المعاملات مترابطة بعضها بالبعض الآخر برباط التغذية المرتدة, بدرجة تجعل من المستحيل التنبؤ بما سيكون عليه الحال لطقس معين في مكان معين, بعد فترة تزيد على عدة أيام, أي قبل أن تدخل ظاهرة الفراشة في سيناريو الأحداث بصورة جدية.

- نفس الشيء ينطبق على تصاعد الدخان من فنجان قهوتك, وتكون سحابة في السماء، وتطاير ورقة شجر أثناء عاصفة، باختصار, كل ظاهرة تظنها "عشوائية" تستعصي على التحليل العلمي. وفي كثير من متاحف العلوم والمراكز العلمية يوجد ما يسمى (البندول الفوضوي), والبندول, كما نعلم, يمثل نموذجًا للحركات الميكانيكية المنضبطة, ولكن في حالة البندول المذكور وضعت ثلاثة مغناطيسات أسفل ثقله, فتراه في تأرجحه أشبه "بمن يتخبط في سيره على غير هدى".

- هذا العلم أزال الحواجز بين التخصصات المختلفة، فعني بالتحولات في الأنواع الحية وأعدادها (فالنباتات والحيوانات تولد وتنمو مشكلة أنظمة مفتوحة تتبادل المادة والطاقة مع محيطها، وهي بعيدة عن الاستقرار)، وبمساقط المياه وتشكل الغيوم وحركاتها وتبخر المحيطات، وحركة أمواج البحر، وانفجار البراكين، وتشكل السواحل والجبال ونمو الأشجار، وتقلب المناخ والدوامات النهرية، وتوزع الإلكترونات الحرة في المواد الصلبة، و"التقلبات في عمل القلب والدماغ"، وانطلاق غاز ما، وانتشار حريق أو وباء، وسبب الخلل المفاجئ في الكمبيوتر وغير ذلك من ظواهر. فحالة الهيولية تترجم رياضياً على صورة مجموعة من المعاملات الرياضية قليلة العدد، ومن ثم توضع الحاسوب، فيمكن تمثيل الظاهرة كما تشاء، وما نراه حالياً في السينما من مناظر للأعاصير المدمرة.

- أمكن تفسير موجات الانقراض والتزايد في أجناس الحيوانات في مجال الدراسات البيولوجية. ولنضرب لذلك مثلا, لنفرض بيئة تحتوي على أسود وغزلان لا غير, حيث تتغذى الأسود على الغزلان. في حالة معينة قد نتصور أن الأسود أقوى بدنيا من الغزلان, بحيث تلحق بها خلال عمليات القنص, فتقضي عليها بعد حين.  والسيناريو الآخر أن تكون الغزلان هي الأسرع فلا تلحقها الأسود, فيكون مصير الأسود هو الانقراض بعد حين. هذان المصيران يمثلان حالتي استقرار للبيئة. ولكن لما ندخل ظاهرة "التغذية المرتدة" في السيناريو, آخذين في الاعتبار أن الأسود تفترس الغزلان الضعيفة, بينما لا تلحق بالغزلان القوية. في البداية يبدأ مجتمع الغزلان في التناقص نتيجة التهام الغزلان الضعيفة فيه, بينما يبدأ مجتمع الأسود في التزايد نتيجة وفرة الغذاء, وجيلا بعد جيل, تزداد نسبة الغزلان القوية في مجتمعها بينما تزداد نسبة الأسود الضعيفة في مجتمعها, وبعد حين نجد أن الوضع قد تبدل, إذ يميل مجتمع الغزلان للتزايد بينما يميل مجتمع الأسود للتناقص بسبب فناء الأفراد العاجزة عن اللحاق بالغزلان, وبعد عدة أجيال أخرى ينقلب الوضع, وهكذا دواليك. وبالطريقة نفسها أمكن في مجال الطب تفسير حالات من انتشار الأوبئة لم تكن قابلة للتفسير من قبل.

- في تجربة فريدة أجريت على حركة التدوّم، دُرست دوّامة مبسطة إلى أقصى حدّ ممكن، وتبين أن المظهر الخارجي الفوضوي لها ينجم عن تشكيلات متتالية فائقة التعقيد يتناوب فيها النظام والفوضى والتدوّم!. ومن جهة أخرى، سمحت طريقة التصفية، وهي النظرية التي تدرس انتشار وباء أو حريق أو مرض أو غاز، بإيجاد قوانين عالمية تحكم ظاهرات مختلفة، وقد دعيت بقوانين "وباء الفوضى". وتبين من خلال هذه الطريقة أن اتصال مجموعتين عبر حدين، كمنطقتي انتشار وباء أو حريق، لايمكن أن يتم إلا إذا تجاوز نسبة 60% في كل منهما تقريباً. وبالمقابل، فإن التشكل العشوائي لحالات الاتصال بين الخلايا الشعرية الرئوية يخلق مجموعة من الممرات ذات الحجوم غير المتجانسة، إنما التي تبين تطابقها القصيمي، أي أن كل جزء صغير منها كان صورة مطابقة للجزء الكبير. ويسمح هذا النموذج الهندسي "الفوضوي" للعلماء بوصف دقيق لضبط تبادلات الجزيئات الكبيرة بين الدم والأنسجة.

- إن أهم ما يمكن أن يطبق عليه العلم هو كل ما يتعلق بالظواهر الاجتماعية والاقتصادية والعلاقات البشرية الطبيعية. فالإنسان (يتعرض لعوامل مادية وبيولوجية ونفسية، وكل نوع يؤثر في الأنواع الأخرى). فيمكن تناول هذه العوامل المؤثرة، ومدى تداخلها مع بعضها لتحدث تحولا من حالة الاستقرار إلى حالة اللانظام. فالأزمة النفسية قد تحدث عوارض مرضية والعكس، وحينما يصل التداخل إلى درجة معينة، تصل المنظومة الإنسانية إلى استقرار أفضل. لذا فعلم النفس سيثرى ثراء شديداً بإستثماره مبادئ هذا العلم. غير أن علم الفوضى الناشئ ينحو إلى دراسة هذه الظواهر وإلى استخلاص قوانين لهذه الفوضى المحددة تساعد على فهمها بشكل أفضل.

- في مجال الاقتصاد تفسر الظاهرة تذبذب حركات البورصة, وفي مجال الهندسة الكهربائية تفسر حالات لعدم استقرار الشبكات الكهربائية, وفي مجال الاتصالات تفسر حالات من التشوش, تتعرض لها قنوات الاتصال. ولعل من أهم نتائج هذا التحليل في مجال الفلك تفسير البقعة الحمراء في المشتري, وهي منطقة من الاضطراب في جو الكوكب حيرت العلماء منذ عصر جاليليو الذي كان أول من شاهدها.

- صار بعض العلماء يؤمنون بأن وجود الفوضى في الفيزياء هو ما يعطي الكون "سهم الزمن " والذي هو: التدفق غير العكسي من الماضي إلى المستقبل. كان من أهم نتائج دراسة إلكترونات المواد الصلبة الفوضوية ما يلي: كلما كانت الفوضى أكبر، كانت الخصائص الجهارية لمادة أقل تعلقاً بتفاصيل بنيتها المجهرية. تبين أنه في جسم بلوري لا تشوهات فيه يكون الإلكترون، الذي يتصف بكلية الحضور في وسط فوضوي، متوضعاً على العكس من ذلك بدقة كاملة. عندما يدرس توزع كرات البليارد على الطاولة انطلاقاً من تشكيل ثابت، نصل بسرعة إلى توزع فوضوي. أي أن كل كرة فوضوية على طاولة البليارد يمكن أن تعيد نظرياً مسارها بشكل عكوسي حتى النقطة البدئية. أما عملياً، فالذاكرة البدئية ضاعت. وينجم هذا التعارض عن إحدى النتائج الغريبة للتباعد الأسي للمسارات. فمن المستحيل العودة بالزمن حسابياً بشكل دقيق، وذلك أن المسارات حساسة جداً لشروط البدء. وتدوير أو تقريب بسيط جداً في الأرقام، الأمر الذي لا مفر منه في الحسابات، يُتَرجم بأخطاء أكثر فأكثر كبراً كلما جربنا إرجاع المسار إلى فترة ماضية أبعد. وهكذا يميل المسار لنسيان نقطة الانطلاق ما أن يصبح زمن المسير طويلاً نسبياً. وتلكم هي بالضبط علاقة الفوضى بالزمن.

-  على المستوى الكوانتي فقوانين الفيزياء الكوانتية هي قوانين الريبة بجوهرها. ومع ذلك، فقد بينت تجارب حديثة على الحاسوب لذرة هيدروجين متأينة إمكانية الرجوع إلى الحالة البدئية بالضبط، بينما لم يستطع الحاسوب تحقيق ذلك وفق الحسابات الكلاسيكية. وتطرح هذه التجارب جانباً دقيقاً من مفهوم الفوضى على المستوى الكوانتي لا يزال العلماء في حيرة من تفسيره.

- لكن برغم قدرات هذا العلم التي فاقت قدرات العلوم الأخرى إلا أنه يصعب تطبيقاته من حيث التنبؤ بالحوادث التاريخية، لأن الباحث التاريخي مهما قويت أدواته لا يمكن أن يحيط بكافة العوامل مهما كانت متواضعة. فعلي سبيل المثال لم يكن "مالتوس" في رؤيته "لندرة الموارد" ونظرته التشاؤمية بشأن الزيادات السكانية، يدر أن هناك أبحاثاً في الأفق حول طاقة مهولة ستكتشف هى الطاقة الذرية.

 

وبعد.. فصفوة القول:

لقد ظن أناس من الماديين والملحدين بتلك الحتمية والميكانيكية/ الآلية الصارمة في الكون، أنهم مستغنون عن "الإله ". فالكون، ومن ثم الإنسان يقوم ـ آلياـ وحده، ولا حاجة ـ في زعمهم لإله وتعليمات إله وتكليفات إله، أو جنة أو نار" لكنهم خابوا وخسروا. إن الله تعالى بقيوميته يفعل ما يشاء، وقنتما شاء، وأينما شاء، وكيفما شاء، بقوله كن فيكون: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (النحل:40)، ويقول تعالي:".. ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (آل عمران:59). ويقول عز وجل:" وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ، وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (الحجرك21-24)، "سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَىَ. الّذِي خَلَقَ فَسَوّىَ. وَالّذِي قَدّرَ فَهَدَىَ" (الأعلى 1-3).

إن "هذا النظام الجميل شاهد عدل على إله نظمه بعلمه وأحكمه بقدرته فإن هذا العالم المشاهد لا يمكن أن يصدر إلا عن إرادة لأن المادة جاهلة والجاهل لا يعطي علما، فضلا عن ذلك الكم الهائل من التنوعات والاحتمالات والتداعيات والنتائج التي تحدث ..بقدر من عليم خبير سبحانه وتعالي" (بتصرف تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري ج21ص259.).

إن كل ما سبق من رصد لهذا العلم الجديد "علم اللاحتم" يجد تفسيرا واضحاً لدي المسلمين: إنه هو سبحانه وتعالى خالق كل شيء، لا يشاركه في الخلق أحد قط، وكما الخلق لله وحده فالملك لله وحده قال تعالى: "تبارك الذي بيده الملك" (الملك:1) وقال تعالي: "قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (آل عمران: 26-27). كما أن تصريفه تعالى، وتدبيره للأمور الكونية بالإحياء والإماتة، والإبدال والاستبدال، والإعزاز والإذلال، والإغناء والإفقار، والمرض والصحة، والهدى والضلال، والسلم والحرب، والظلم والعدل...الخ، حني ما يظن انه أصغر الأشياء ..حركة وسكوناً. يقول الله تعالي: "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (الأنعام:59). إن أي أمر يحدث في الكون له دور يؤديه في "سيمفونية" القوى الطبيعية الكونية. يقول الأمريكي "جون موير":"عندما يشد المرء إليه بقوة شيئاً واحداً في الطبيعة سيجد أنه مربوط بإحكام إلى سائر الكون"[ أدوارد "روكي" كولب: عن توحد الطبيعة، ضمن كتاب: "تعلم العلم في القرن الحادي والعشرين" لنخبة من العلماء والمربين، ترجمة مصطفي إبراهيم فهمي، دار العين للنشر، ط1، 2004، ص:91-101.].

كذلك كل ما يعتري المخلوق في شؤونه، وما يعتري العوالم كلها وجوداً وعدماً، وبداية ونهاية، وحرباً وسلماً وظلماً وعدلاً، فكله جار بتصريف الله سبحانه وتعالى، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعاً ولا ضراً. بل جميع مقادير الخلائق من ملائكة وجن وإنس وحيوان ونبات كلها جارية وفق أمر الله الكوني. يقول تعالى: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِي، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِي، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ" (الشعراء 75-82).

إن هذا المجال العلمي الرحب هو مفتاح من مفاتيح جديدة للمعرفة. وهو يُبرز وجهاً من وجهي الحقيقة الواحدة..حقيقة: {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ" (الأنعام 102)، فلا يمكن لأي شيء أن يقوم وحده أبداً مستغنيا عنه سبحانه وتعالي عما يقولون علوا كبيراً.

ــــــــــــ

يمكن التواصل مع الكاتب أ.د./ ناصر أحمد سنه على الإيميل التالي:

nasenna62@hotmail.com

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ