-ـ |
ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
"ابن
خلدون" يحذر من "تزاوج
السلطة والثروة" أ.
د. ناصر احمد سنه* في عصر
العولمة الاقتصادية ثمة
"علاقة عضوية أو تزاوج"بل
إنها"متلازمة خبيثة"
بين السلطة وصناع قرارها،
وبين الثروة وكبار ملاكها..
شركات وعائلات وأفراد. علاقة أو
تزاوج فطن إليه، وحذر منه
"ابن خلدون" فيما ترك من
روائع. يوما
بعد يوم تتبدي القيمة الفائقة
لما ترك"ابن خلدون"(732- 808
هجري) (1332-1406م) وبخاصة
"مقدمته"، وما نظّر من
روائع "سنن العمران"،
و"نذر وعلامات الخسران".
لقد وضع بعبقريته أسس علم
الاجتماع بمنظوره الحديث،
واستشرف ببصيرته قوانين يمكن
القياس عليها لما قد يحدث في
قادم الأيام. وفي هذه وتلك تكمن
عبقريته الرائعة، وبصيرته
الثاقبة، وبراعاته المتنوعة. ولعل من
ضمن عبقريته وبصيرته انه أعتمد
"مبدأ السببية"،و "مبدأ
الحتمية"، فالأول يقرر:"أن
لكل معلول علة، وان العلل
المتشابه تحـُدث المعولات
المتشابهة"، مما يشير إلي أن
الحوادث الاجتماعية خاضعة
لقوانين، يقول:"اعلم أرشدنا
الله وإياك، إنا نشاهد هذا
العالم بما فيه من المخلوقات
كلها علي هيئة من الترتيب
والإحكام، وربط الأسباب
بالمسببات..."(المقدمة ص:95).
لذلك نراه يقرر أن التاريخ:"
في باطنه نظر وتحقيق، وتعليل
للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم
بكيفيات الوقائع وأسبابها
عميق" (المقدمة ص:4). أما
المبدأ الثاني (مبدأ الحتمية)
فيقرر:أن نظام العالم كلي متسق
تجري حوادثه علي نظام دائم
مستمر مطرد شامل لا يشذ عنه في
الزمان/المكان شيء. ومع
اعتماده هذين المبدأين
الجوهريين نجده يستعمل
"اصطلاحات حذره" يحتاط بها
عند تفسير "قواعد العمران
البشري" مثل:"في
الأكثر"، و"ربما"،
و"قد"، و"في النادر
الأقل"، و"قلّ" الخ. مما
يشير لقناعته أن: التعميم
المطلق فيما يتعلق بالحوادث
الاجتماعية البشرية أمر غير
واقعي، فقانون الاحتمالات ـ
كونه نشيطا في العلوم الطبيعية
المادية ـ فهو أعظم نشاطا فيما
يتعلق بالعلوم الإنسانية
الاجتماعية، وهو أشد تعقيداً
,أكثر تشابكاً وبخاصة فيما
يتعلق بالعمران الحضري الكامل
(المقدمة ص:400-401).
"التجارة
من السلطان مضرة بالرعايا مفسدة
للجباية" ذكر
"ابن خلدون": "أن التجارة
من السلطان مضرة بالرعايا،
ومفسدة للجباية "، كما نبه
أيضاً إليً "أن من عوائق
الملك حصول الترف، وانغماس
القبيل في النعيم". يقول
"ابن خلدون"(وليصبر معي
القارئ الكريم علي الطول النسبي
للاقتباس لما له من أهمية"
:"أعلم أن الدولة إذا ضاقت
جبايتها بما قدمناه من الترف
وكثرة العوائد والنفقات وقصر
الحاصل من جبايتها على الوفاء
بحاجاتها ونفقاتها واحتاجت إلى
مزيد المال والجباية فتارة توضع
المكوس على بياعات الرعايا
وأسواقهم...، وتارة بالزيادة في
ألقاب المكوس إن كان قد استحدث
من قبل، وتارة بمقاسمة العمال
والجباة وامتلاك عظامهم لما
يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل
من أموال الجباية لا يظهره
الحسبان. وتارة باستحداث
التجارة والفلاحة للسلطان على
تسمية الجباية لما يرون التجار
والفلاحين يحصلون على الفوائد
والغلات مع يسارة أموالهم وأن
الأرباح تكون على نسبة رؤوس
الأموال فيأخذون في اكتساب
الحيوان والنبات لاستغلاله في
شراء البضائع والتعرض بها
لحوالة الأسواق ويحسبون ذلك من
إدرار الجباية وتكثير الفوائد
وهو غلط عظيم وإدخال الضرر على
الرعايا من وجوه متعددة. فأولا
مضايقة الفلاحين والتجار في
شراء الحيوان والبضائع وتيسير
أسباب ذلك فإن الرعايا متكافئون
في اليسار متقاربون ومزاحمة
بعضهم بعضا تنتهي إلى غاية
موجودهم أو تقرب وإذا رافقهم
السلطان في ذلك وماله أعظم
كثيرا منهم فلا يكاد أحد منهم
يحصل على غرضه في شيء من حاجاته
ويدخل على النفوس من ذلك غم
وتكد. ويضيف
"ابن خلدون": ثم إن السلطان
قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرض
له غضا أو بأيسر ثمن أولا يجد من
يناقشه في شرائه فيبخس ثمنه على
بائعه ثم إذا حصل فوائد الفلاحة
ومغلها كله من زرع أو حرير أو
عسل أو سكر أو غير ذلك من أنواع
الغلات وحصلت بضائع التجارة من
سائر الأنواع فلا ينتظرون به
حوالة الأسواق ولا نفاق
البياعات لما يدعوهم إليه
تكاليف الدولة فيكلفون أهل تلك
الأصناف من تاجر أو فلاح بشراء
تلك البضائع ولا يرضون في
أثمانها إلا القيم وأزيد
فيستوعبون في ذلك ناضر أموالهم
وتبقى تلك البضائع بأيديهم
عروضا جامدة ويمكثون عطلا من
الإدارة التي فيها كسبهم
ومعاشهم وربما تدعوهم الضرورة
إلى شيء من المال فيبيعون تلك
السلع على كساد من الأسواق
بأبخس ثمن وربما يتكرر ذلك على
التاجر والفلاح منهم بما يذهب
رأس ماله فيقعد عن سوقه ويتعدد
ذلك ويتكرر ويدخل به على
الرعايا من العنت والمضايقة
وفساد الأرباح ما يقبض آمالهم
عن السعي في ذلك جملة ويؤدي إلى
فساد الجباية. فإن معظم الجباية
إنما هي من الفلاحين والتجار
ولاسيما بعد وضع المكوس ونمو
الجباية بها، فإذا انقبض
الفلاحون عن الفلاحة وقعد
التجار عن التجارة ذهبت الجباية
جملة أو دخلها النقص المتفاحش.
وإذا قايس السلطان بين ما يحصل
له من الجباية وبين هذه الأرباح
القليلة وجدها بالنسبة إلى
الجباية أقل من القليل ثم إنه
ولو كان مفيدا فيذهب له بحظ عظيم
من الجباية فيما يعانيه من شراء
أو بيع فإنه من البعيد أن يوجد
فيه من المكس ولو كان غيره في
تلك الصفقات لكان تكسبها كلها
حاصلا من جهة الجباية ثم فيه
التعرض لأهل عمرانه واختلال
الدولة بفسادهم ونقصهم فإن
الرعايا إذا قعدوا عن تثمير
أموالهم بالفلاحة والتجارة
نقصت وتلاشت بالنفقات وكان فيها
تلاف أحوالهم فافهم ذلك وكان
الفرس لا يملكون عليهم إلا من
أهل بيت المملكة ثم يختارونه من
أهل الفضل والدين والأدب
والسخاء والشجاعة والكرم ثم
يشترطون عليه مع ذلك العدل وأن
لا يتخذ صنعة فيضر بجيرانه ولا
يتاجر فيحب غلاء الأسعار في
البضائع وأن لا يستخدم العبيد
فإنهم لا يشيرون بخير ولا مصلحة
وأعلم أن السلطان لا ينمي ماله
ولا يدر موجودة إلا الجباية
وإدرارها إنما يكون بالعدل في
أهل الأموال والنظر لهم بذلك
فبذلك تنبسط آمالهم وتنشرح
صدورهم للأخذ في تثمير الأموال
وتنميتها فتعظم منها جباية
السلطان وأما غير ذلك من تجارة
أو فلح فإنما هو مضرة عاجلة
للرعايا وفساد للجباية ونقص
للعمارة وقد ينتهي الحال بهؤلاء
المنسلخين للتجارة". ويضيف
قائلا:" والفلاحة من الأمراء
والمتغلبين في البلدان أنهم
يتعرضون لشراء الغلات والسلع من
أربابها الواردين على بلدهم
ويفرضون لذلك من الثمن ما
يشاءون ويبيعونها في وقتها لمن
تحت أيديهم من الرعايا بما
يفرضون من الثمن وهذه أشد من
الأولى وأقرب إلى فساد الرعية
واختلال أحوالهم وربما يحمل
السلطان على ذلك من يداخله من
هذه الأصناف أعني التجار
والفلاحين لما هي صناعته التي
نشأ عليها فيحمل السلطان على
ذلك ويضرب معه بسهم لنفسه ليحصل
على غرضه من جمع المال سريعا ولا
سيما مع ما يحصل له من التجارة
بلا مغرم ولا مكس فإنها أجدر
بنمو الأموال وأسرع في تثميره
ولا يفهم ما يدخل على السلطان من
الضرر بنقص جبايته فينبغي
للسلطان أن يحذر من هؤلاء ويعرض
عن سعايتهم المضرة بجبايته
وسلطانه والله يلهمنا رشد
أنفسنا وينفعنا بصالح الأعمال،
والله تعالى أعلم". وحديثاً
تتوالي "تقارير التنمية
البشرية في العالم العربي"
لتؤكد أن ملاك الثروة هم
"صانعو القرار": - هذه
الفئة بات لها الدور الأكبر في
اتخاذ القرارات، بما يخدم
مصالحها دون النظر إلي الغالبية
الساحقة، التي تعاني إلي جانب
الفقر والاستقطاب الاجتماعي
التعاسة الناتجة عن تفشي
البطالة والفقر. فالمنافع
المتبادلة تجعل "رجال
السلطة" يقومون بحماية
"رجال البيزنس"،
واحتكاراتهم، وتيسير مصالحهم،
وتخفيض أنواع المكوس/الضرائب
عليهم أو انعدامها بالجملة،
بينما يضطلع "رجال
البيزنس"،
بتقديم كل أسباب الدعم
المالي، (فيمولون) مَن يحكمون. -
جميع القرارات التي اتخذت،
هدفت إلي خدمة مصالح المتنفذين
في السلطة وفئة "رجال
الأعمال"، الذين تضخمت
ثرواتهم بشكل فاحش، في الوقت
الذي تخضع فيه الغالبية العظمي
من الشعوب للفقر المدقع. - رفع
التكاليف التي تقوم عليها
صناعات كبار رجال الأعمال من
محتكري السلطة والثروة فضلا عن
اقتطاع ضرائب معقولة المستوي من
الأرباح الخيالية الاحتكارية
التي يحصل عليها كبار رجال
الأعمال.
-
ثمة تطبيق مشوه
"للرأسمالية" التي من
المفترض أن تقوم علي: مقاومة
الاحتكار لخلق حالة من المنافسة
بين المنتجين بما يضمن إنتاجية
أفضل وسعراً أقل للمستهلك وهذا
ما لم يحدث في ظل سياسات النظم
التي تضمن للمحتكر مزيدا من
الاحتكار بإصدار مجموعة من
القرارات لها الأثر في ارتفاع
الأسعار. - كما إن
هناك ضبطاً للسوق الطليقة أو
غير المنضبطة بتطبيق مبدأ
العدالة في التوزيع وتعني فرض
ضرائب عادلة لتقديم خدمات تضمن
للفقراء ألا يزدادوا فقراً
ومعاقبتهم علي فقرهم، في مقابل
محاباة الأغنياء الذين يزدادون
ثراء. - لا
تأتي سياسات رفع الأسعار ضمن
حزمة "إجراءات ليبرالية"
بل وفق سياق أن خسائر الدولة من
جراء الفساد وتواصله وشيوعه،
باتت تحتاج إلي من يتحمل
كلفتها.. "السمكة
تفسد من رأسها" لا
شك أن الفساد في أي أمة يبدأ من
رأسها، وهو "خطر ماحق" لما
يترتب عليه تدمير البنية
الاجتماعية والاقتصادية؛ لأي
شعب يُبتلى بمثله، ومن أبرز
مظاهر هذا الفساد تحول الحكام
والوزراء والولاة إلى تُجار، أو
جمعهم بين الحكم والتجارة، وهذه
الظاهرة لا تخص بلدًا بعينه، بل
تكاد من "عموم البلوي". لذا
نجد" ابن خلدون" يشير إلى
أنه حينما يقصر الحاصل من
الجباية عن الوفاء بالحاجات
والنفقات وتحتاج الدولة إلى
مزيد من المال فنراها تلجأ تارة
إلى وضع المكوس وتارة إلى
استحداث التجارة والفلاحة على
تسمية الجباية (أي على اعتبار
أنها ضرائب مباشرة تجبى من
المستهلكين) لما تشهد من حصول
التجار والفلاحين على غلات
واسعة مع يسار الأموال وكون
الأرباح على نسبة رؤوس الأموال
فتأخذ الدولة في اكتساب الحيوان
والنبات وشراء البضائع وطرحها
في الأسواق ظناً منها من عظم
المردود وتكثير الأموال غير أن
هذا على رأي "ابن خلدون"
غلط فادح يدخل الضرر على
الرعايا من وجوه متعددة أهمها:
عدم حصول الناس على أغراضهم
وقيامهم بالأعمال المماثلة
التي يقوم بها السلطان لعدم
قدرتهم على منافسة السلطان
لقوته وكثرة ماله فيقول: (ولا
يكاد أحدهم يحصل على غرضه في شيء
من حاجاته ويدخل على النفوس من
ذلك غم ونكد). فضلاً عن أن
السلطان ينتزع الحيوان
والبضائع بثمن منقوص أو بأيسر
ثمن إذ لا يجد من ينافسه في
شرائه فيبخس ثمنه على بائعه وقد
يجبر السلطان التجار على شراء
المستغلات ولو أدى ذلك إلى كساد
الغلات عندهم مما يوقع التجار
في خسارة عظيمة. ولكن ماذا
تكون النتيجة....؟ فإذا ماقايس
السلطان بين ما يحصل من الجباية
وبين هذه الأرباح وجدها بالنسبة
إلى الجباية أقل من القليل. هذا
من ناحية وأما من ناحية أخرى فإن
انعكاس ذلك على المجتمع سيكون
سيئاً لأن الرعايا إذا قعدوا عن
تثمير أموالهم في الفلاحة
والتجارة نقصت وتلاشت وكان فيها
إتلاف أموالهم ومن ثَم خراب
العمران. ويفترض
أن للحاكم وظيفته محددة ومهمته
واضحة؛ وهي القيام على أمر
الدين والدنيا في حياة الناس،
وإقامة العدل بينهم، وحفظ
الأمن، والضرب على أيدي
المفسدين والمجرمين حتى يأمن
الناس على أموالهم وأعراضهم
ودمائهم، ويتفرغوا للعمل
والإنتاج وعمارة الأرض والبلاد.
بيد انه إذا اشتغل الحاكم أو من
يعاونه من وزراء أو من هم دونهم
في السلطة بالتجارة (البيزنس)،
فأول ضرر يحصل من ذلك أنهم لم
يعودوا متفرغين لمهمتهم
الأصلية التي اختيروا من أجل
القيام بها؛ لأن تلك المهمة
تستغرق الوقت كله، وكل إنفاق
لوقت الحاكم ومَن يعاونه في
غيرها سيعود بالنقص على أدائها
والقيام بـها حق القيام. فضلا عن
حرصهم الشديد ومراعاتهم لتنمية
ثرواتهم، والعمل علي ذلك بشني
السبل وعلي رأسها استغلال
سلطاتهم المخولة لهم. فالغلبة
ستكون لهم في النهاية؛ فهم
(الأقوى جاهًا وسلطةً)، وسوف
يخلي الناس لهم الطريق إلى ما
يريدون حتى ولو لم يستخدموا
"سلطات أجهزتهم"فسيوظفون
"العام" لصالح
"الخاص"، وستتحول
"المواقع العامة" إلى
"دكاكين/خانات خاصة". كما
أن أعوان السلطان قد يشترون
لحسابه "الواردات
الخارجية" ثم يضعون لها ما
يشاءون من أسعار لضمان ربح كبير
للسلطان. علاوة علي أن "تجارة
السلطان" لا تخضع للمكوس
والضرائب التي تخضع لها تجارات
الآخرين، وفي هذا ظلم على
التجار وعلى الرعية. كل هذا
وغيره سيرجع بالضرر الكبير على
حياة الناس الاجتماعية
والاقتصادية، ويعمم الفساد في
قطاعات الدولة. والسؤال
المطروح:إذا كان هذا هو الشأن
الخطير لاتجار السلطان
وأعوانه، فكيف ينمو دخل
الدولة؟. لم يفت
"ابن خلدون" إيراد الحل
والذي يتلخص في هذه العبارة: «إنَّ
أوَّل ما ينمي الجباية ويثريها
ويديم نماءها إنَّما يكون
بالعدل في أهل الأموال والنظر
لهم بذلك ، بذلك تنبسط آمالهم ،
تنشرح صدورهم للأخذ في تثمير
الأموال وتنميتها ،فتعظم منها
جباية السلطان.".فمفهوم العدل
في أهل الأموال عنده هو: تأمين
أموال الناس ، وعدم مصادرتها ،
وإفساح المجال أمامهم للنشاط
التجاري والزراعي والإنتاج ،
وعدم الغلو في فرض المكوس ،
ومراقبة السلطان لأنصاره
وحاشيته من مضايقة أصحاب النشاط
الاقتصادي، وكأنَّما يريد أن
يُنبِّه إلى القاعدة
الاقتصادية الحديثة التي
فحواها: أنَّ رأس المال
"حسَّاس"، وينشط حيثُ
العدل والأمن والاستقرار
،ويهرب ويختفي حيثُ الظُّلم
والفساد والفوضى
والمصادرات.وثاني ما ينمي دخل
الدولة (الجباية) بمعنى أن يمتنع
السلطان عن التجارة والفلاحة ،
وعن منافسة العاملين بها في
أنشطتهم وحركتهم . مفسدة
الولاة، وهلاك الرعية: لقد كان
ابن خلدون يشيد دائماً
بالسلاطين، الذين يكتفون بسلطة
الحكم، ولا يخلطون بين الإمارة
والتجارة، وهو ما بقي مثلاً
أعلى للحكام العرب، الذين
تميّزوا عن غيرهم بالنزاهة
ونظافة الذمة، على ندرتهم في
تاريخنا وواقعنا. إنَّ
ابن خلدون، وهو يعرض نظريته هذه
لم يكن مستوحياً إياها من
استقرائه التاريخ وحسب، ولا من
واقع عاشه، وكوارث شهدها ،
وتجارب خاضها فقط ،وإنَّما كانت
حادثة بعينها ناضحة على فكره
منسربة من أعماقه، تلك الحادثة
هي وقفة "عمر بن الخطَّاب"
من "أبي بكر الصديق" رضي
الله عنهما حين ولي "أبو
بكر" أمر المسلمين بعد انتقال
الرسول صلى الله عليه وسلم إلى
الرفيق الأعلى ،فقد أصبح أبو
بكر ذات يوم ،وقد صار خليفة ـ
وعلى ساعده أبراد ـ أي أثواب
مخططة ـ يذهب بها إلى السوق
،فلقيه الفاروق "عمر"
وسأله: أين تُريد؟ فقال الخليفة
:إلى السوق ،قال: تصنع ماذا ،وقد
وُلِّيت أمر المسلمين؟ قال أبو
بكر: فمن أين أُطعم عيالي؟ فصحبه
عمر ،وذهبا إلى "أبي عبيدة"
أمين بيت مال المسلمين ليفرض له
قوته وقوت عياله، ففرض له ستة
آلاف درهم في العام إنَّ ما يصدر
عن عمر وأبي بكر وأبي عبيدة
يعتبر تشريعاً إسلامياً أصيلاً
، فثلاثتهم من كبار الصحابة
وأعلامهم. فهذه الحادثة تؤكد
علي منع اتجار السلطان ـ شخصاً
كان أو نظاماً ـ قد بيَّن ابن
خلدون الخطورة الفادحة إذا ما
خالف ذلك، فيما سبق ذكره . كما
تحدث "ابن خلدون" عن
الاحتكار، وبيَّن أنَّه أعظم
ألوان الظلم الذي يؤدي إلى
إفساد العمران والدولة
،وعرَّفه بأنه التسلط على أموال
الناس بشراء ما بين أموالهم
بأبخس الأثمان ،ثُمَّ فرض
البضائع عليهم بأعلى الأثمان
على وهم الغصب والإكراه في
الشراء والبيع ،وبيَّن أنَّ
نتيجة ذلك يؤدي إلى كساد
الأسواق ،وتوقف معاش الرعايا ،
وبيَّن سبب لجوء الدولة أو
السلطان إلى الاحتكار هو
حاجتهما إلى الإكثار من المال
بأخذهم بأسباب الترف ،فتكثر
نفقاتهم، فيرفعون الجبايات
،ولا يزال الترف يزيد والجبايات
تزيد وتشتد حاجة الدولة إلى
المال فتدخل في مزاحمة الناس في
نشاطاتهم الاقتصادية وتجنح
للاحتكار .وبيَّن ابن خلدون حكم
الشرع بتحريم الاحتكار، وقد
استند في ذلك علي: (المحتكر
ملعون، والجالب مرزوق)، وذلك
لرفع الضر عن الناس ووقايتهم من
المحتكرين في حبس الأقوات
وغيرها من ضروريات الحياة. كما فطن
المهتمون بالنظم السياسية
أمثال "أبو الحسن
الماوردي" صاحب كتاب الأحكام
السلطانية، كذلك ثمة شواهد من
التراث تؤكد علي خطورة استغلال
الولاة والوزراء لمناصبهم
السياسية في عقد صفقات تجارية،
وأن الحاكم ومَن يعاونه: ليس لهم
الحق في أن يدخلوا الصفقات
العامة بائعين أو مشترين، فقد
رُوي أن عاملاً للخليفة "عمر
بن الخطاب" رضي الله عنه اسمه
"الحارث بن كعب بن وهب" ظهر
عليه الثراء فسأله عمر عن مصدر
ثرائه فأجاب: خرجتُ بنفقةٍ معي
فتجرت فيها فقال "عمر":
"أما والله ما بعثناكم
لتتجروا"، وأخذ منه ما حصل
عليه من ربح. وفي أعقاب تولى
الخليفة الأموي "عمر بن عبد
العزيز"، أصدر بيانًا شاملاً
ذكر فيه: "لا يحل لعامل تجارة
في سلطانه الذي هو عليه، فإن
الأمير متى يتجر يستأثر ويصيب
أمورًا فيها عنت وإن حرص على ألا
يفعل"، ومما نقلته كتب
التاريخ عن "عمر بن عبد
العزيز" أيضًا قولته
المشهورة: " "تجارة الولاة
مفسدة، وللرعية مهلكة". ويُذكر
عن "عبد الله بن عمرو بن
العاص"- رضي الله تعالى عنهما-
"أن من أشراط الساعة تجارة
السلطان". أما مصنف كتاب
"الجواهر الثمينة في فقه أهل
المدينة" جلال الدين أبو محمد
عبد الله بن نجم بن شاس المصري
المالكي"
فيرى: أن الحاكم لا يشتري
بنفسه ولا بوكيلٍ معروفٍ حتى لا
يُسامح في البيع، ويذكر محمد بن
عبد الحكم أنه لا فرق بين شرائه
لنفسه وبين توكيله لذلك, ولا
يوكل إلا مَن يؤمن على دينه لئلا
يسترخص له بسبب الحكم وما أشبه
ذلك. ورُوي
عن "البخاري" أنه قال:
"ما اشتريت منذ وليت من أحد
بدِرهم ولا بعت أحدًا شيئًا،
فسُئل عن الورق والحبر فقال:
"كنت آمر إنسانًا فيشتري
لي". كما يذكر "ابن
تيمية" في كتابه: "السياسة
الشرعية في إصلاح الراعي
والرعية" أنه: كما حرمت
التجارة حرم ما في معناها؛ مما
يجلب ربحًا للوالي بسبب ولايته
كالمؤجرة والمساقاة والمزارعة. و..."هدايا
الأمراء غلول" كما تم
التحذير علي الحاكم وأعوانه من
الهدايا، فرُوي عن رسول الله-
صلى الله عليه وسلم- أنه
قال:"هدايا الأمراء غلول"
(أخرجه البيهقي والطبراني)،
وروي عن ابن سعيد الخدري أنه
قال:"هدايا العمال غلول".
ويدل الحديث على تحريم القبول
المطلق للهدية على الحاكم وغيره
من الأمراء، فالهدايا للعمال أو
الولاة يراد / يقصد بها شيء من
ورائها. فقد استعمل عليه
السلام رجلاً من الأزد على
الصدقة فلما عاد وأخذ يُقدِّم
ما جمعه من مالٍ للرسول- صلى
الله عليه وسلم-، احتجز بعضه
وقال: "هذا أُهدي لي".. فقال
رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
"ما بال الرجل نستعمله على
العمل مما ولانا الله فيقول: هذا
لكم وهذا أُهدي إليَّ، فهلا جلس
في بين أبيه أو بيت أمه فينظر
أُيهدى إليه أم لا". ورُوي
أن رجلاً أتى الخليفة "عمر بن
عبد العزيز" بتفاحاتٍ فأبى أن
يقبلها فقيل له: قد كان رسول
الله- صلى الله عليه وسلم- يقبل
الهدية.. فقال عمر: "هي لرسول
الله- صلى الله عليه وسلم- هدية
وهي لنا رشوة"، وردًّا على
هذا أبطل عمر أخذ الهدايا التي
كان الولاة الأمويون يأخذونها
وبخاصة هدايا أعياد النيروز، ،
فكتب عمر بن عبد العزيز إلى
عماله كتابًا، يُقرأ على الناس،
يبطل فيه أخذ التوابع والهدايا،
كما أنذر ولاته وعماله من أن
يتخذ أحد منهم تلبية طلبات
الخليفة أو أحد أهله شيء مُسَلم
به. لاشك أن
قلة مرتب العامل قد تدفعه إلى
الشطط، ولذلك كان هناك توجها
تراثيا ينحو إلى إعطاء العامل
مرتبًا سخياَ، ليترفع بذلك عن
الشبهات، وفي ذلك يقول الإمام
"علي" رضي الله عنه: "إن
على مَن ولي الأمر أن يُفسح
لواليه في البذل لتزول بذلك
علته، وتقل معه حاجته إلى
الناس"، ويخاطب الإمام علي
ولي الأمر بقوله: "أسبغ على
ولاتك الأرزاق فإن ذلك قوة لهم
على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم
عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة
عليهم إن خالفوا أمرك أو نقضوا
الأمانة". قد يقول
قائل: "التزاوج شرعي" ما
دامت هناك قوانين قد يقول
قائل إن "العلاقة بين السلطة
والثروة مشروع" ما دامت
تحميها القوانين وتضع حدودها
القواعد الملزمة حيث يكون المثل
في ذلك هو النظام السياسي في
الولايات المتحدة الأمريكية
حيث تمول القوى الاقتصادية
المختلفة مرشحي الرئاسة
ويدعمون الأحزاب السياسية التى
يؤمنون ببرامجها ويعتنقون
سياستها. ويرد
د. مصطفي الفقي في مقال له:"
النظام الأمريكي نظام حساس من
الفساد ويسعي في محاربته، وهناك
نماذج مثل "ووترجيت" و
"إيران جيت" وغيرهما من
القضايا التى تفرق بين
"الحرية والفوضى" وبين
"مرونة الحركة" في جانب
و"الفساد" في جانب آخر. هل يمكن
تحجيم الفساد الناشئ عن
"تزاوج السلطة بالثروة"؟ - من
خلال نظم ديمقراطية
ودستورية، وأجهزة رقابية قوية
وشفافة، يجرى الاعتماد عليها في
رصد جيوب الفساد وكشفها
ومحاسبتها بحزم. فالرقابة أجدى
دائماً من سياسة "الكمين"
عندما يكون الهدف الحقيقي
للأجهزة الرقابية هو تسجيل
أهداف في مرمى النشاط الاقتصادي
على حساب حيويته. -
توسيع مساحة المشاركة في النشاط
الخاص وتمكين الجمعيات
العمومية من ممارسة دور ناجح
يضع مجالس إدارة الشركات، على
سبيل المثال، في موضع مسائلة. -
إطار قانوني صارم يحمي
النشاط الاقتصادي ويضمن الجدية
ويضرب بشدة مظاهر الاستغلال
فيه. - تفعيل
أدوات السوق والمجتمع المدني
المطلوبة لمكافحة الفساد
ومحاربة آثاره. - عدم
تجاهل العوامل التعليمية
والثقافية والإعلامية لأن
مكونات عقل الفرد هى قادرة على
كشف وسائل الفساد ومحاربته بشرط
ألا يكون محمياً من السلطة.. أية
سلطة. خلاصة
القول:
خلال العقود الأخيرة.. لقيت
روائع "سنن العمران"،
و"نذر وعلامات الخسران"،
وغيرها من أفكار وإبداعات
"ابن خلدون" اعترافاً
واسعاً من كبار مؤرخي العالم.
كما حظيت أعماله بالكثير من
العناية والاهتمام من قبل مئات
الدارسين.. قبولاً واستحساناً
أو تحفظاً أو حتى معارضة. بيد أن
أحداً قبل ابن خلدون لم يعرض
لدراسة الظواهر الاجتماعية
دراسة تحليلية ليستخلص منها
قوانيننا وسننا يمكن القياس
عليها لما قد يحدث في قادم
الأيام. وفي هذه وتلك تكمن
عبقريته الرائعة، وبصيرته
الثاقبة، وإبداعه الثري،
براعته المتنوعة. فهل من مجيب
لما طرح، وبرع، وأبدع، وأثري؟. ـــــــــــ *كاتب و
أكاديمي من مصر. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |