-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 26/05/2010


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


إشكاليات الحركات القومية ..

حصائل ورؤى ..

(( الأخيرة))

جلال / عقاب يحيى

موضوعياَ وذاتياً فإن :

ـ أمة تتوفّر فيها ولها عديد مقوّمات التوّحد والنهوض . أمة تعتمل فيها مشاعر الأخوة والتضامن، والتوجهات الوحدوية، ووعي شعبي بالانتماء لأمة واحدة، رغم كل السلبيات والتفاوتات التي مررنا عليها، وواقع التجزئة ومنتجاته .

ـ أمة مجزّأة بفعل قسري(داخلي ـ خارجي)، راكب على مشاريع استراتيجية غربية، وعلى مصالح القوى النافذة ـ الحاكمة ومن حولها، والتباينات التي تزيدها نظم القطرية عمقاً وتوسّعاً، رغم إرادة أغلبية شعوبها، ومعرّضة للمزيد من التفتيت والانشقاق بفعل تلك القوى الخارجية، والأخرى الداخلية المتخلفة، الماضوية، الارتدادية، أو الإثنية والطائفية والمنخلعة الجذور والانتماء، أو تلك التابعة لمشاريع وأجندات معارضة لمصالح أغلبية المواطنين، وهي تواجه تحدّيات مفروضة عليها بقوة الاستراتيجيات الغازية التي وصلت مستوى الاحتلال المباشر وغير المباشر، والتشقيف والاستنزاف المريع، ووجود الكيان الصهيوني ـ الخطر القائم، الدائم، وتغلغله العالمي، واندماجه مع تلك الاستراتيجيات بكل تلاوين علاقة الخاص بالعام لديه، وطموحه ليكون محاصصاَ على أنقاض الأمة، ومصالحها، ناهيك عن المشاريع الإقليمية اللاعبة في المسرح العربي وعلى حساب الأمة ومصالحها، ومستقبلها، وخطر تأبيد الاستبداد الذي يسحق وحداتها الوطنية بالمزيد من التفكك واحتمالات الانقسام الجديد والحروب الداخلية متعددة الأشكال والخلفيات، وآمالها ومكونات وتكوين شعوبها، كما يسحق وعي الانتماء، وحقوق التعبير والرأي والمعارضة، وصولاً إلى سحق المواطنية وألف باءات الدولة المدنية الحافظة للتوازنات، والمستوعبة للتعددية العرقية والدينية والمذهبية وغيرها .

 

ـ أمة تقع في أهم التقاطعات الاستراتيجية الجغرافية، وتمتلك أهم الثروات الاستراتيجية، وهي تمتدّ على رقعة جغرافية واسعة منوّعة المناخات والمنتجات، وقابلية الاستثمار متعدد الوجوه، ومصادر المياه، والمطلة على عدد من البحار والمحيطات، وفيض الحيوية الناجم عن نسبة الشباب فيها، وعدد الخريجين وأصحاب الكفاءة(وإن كانت هجرة الأدمغة تمثل أهم فعل الاستنزاف، والتي تعبّر عن حدّة المآزق التي صنعتها أنظمة الأحادية والاستبداد)، والمسلحة بتراث حضاري يمكن أن يكون واحداً من أهم حصون الدفاع عن الذات، وحماية الهوية من مخاطر الزوال، أو الانخلاع، أو الموت ، ومن أبرز الحوافز لدخول العصر والانفتاح عليه بثقة لا تخاف الابتلاع والزوال .

 

ـ أمة شديدة التنوّع في حضاراتها وثقافاتها : بُعداً تاريخياً، ومصادراً مختلفة، وغنىً، وتراكماً، والتي تؤطرها جمعياً، على العموم، لغة عربية يتكلمها الجميع(الأغلبية)، واسعة الأبعاد، تمتلك قابليات كبيرة، ومرونة أكبر على التطور والتطوير واستيعاب علوم ومصطلحات ومنتجات العصر في مختلف المجالات(إن أحسن تجديدها وتطويرها)، والتي تمثل القاسم المشترك العام (لغة التفاهم والاتصال) للأغلبية الساحقة من الشعوب التي تسكن الوطن العربي، بغض النظر عن تباينات اللهجات المحلية، وعن غزو الكلمات الأجنبية، وإثقالها بتركة التخلف والإهمال، والامتهان، أحياناً، أو وجود لغات أخرى محكية ومكتوبة تناغمت معها، وتآلفت، وتشاركت، أحياناً، في معظم مراحل التاريخ .

 

ـ أمة الديانات السماوية، ومهد الحضارات القديمة المتعاقبة، المؤَسسِة لجلّ حضارات حوض المتوسط القديمة، بكل ما يعنيه ذلك من ثروات تراثية تجد مرتسماتها في عمق التجذّر، واتساع ميادين الثقافة، وتعدد التنوّع بين تلك الأديان المختلفة وتفريعاتها المذهبية، وعطاءاتها الفكرية والفلسفية والروحية، وسمة التعايش العامة التي وسَمت أغلب مراحل سيروراتها التاريخية، وصيروراتها في دولتها المركزية (الإمبراطورية) وعطائها متعدد الوجوه كمرحلة هامة من مراحل بنيان وتواصل الحضارة الإنسانية، وما يمكن أن يشكله ذلك التنوّع من خصب وإخصاب عطاءاتها، ومنتوجها متعدد الوجوه . وما يعنيه ترائها الأثري، والمقدّس الديني لدى جميع الأديان السماوية في العالم، وإمكانية الاستفادة منه في تلاقح الحضارات وتفاعل بني البشر، واستلهام الماضي لبناء الحاضر بروحية التطور المتناغم بين الأصالة والحداثة، وكذا في ميادين السياحة والأبحاث، والاقتصاد وغيره .

 

ـ أمة تفاعلت فيها واندمجت، وتبلورت، وتعايشت مجموعة من الشعوب لتكوين تلك الهوية العربية . هنا، ورغم أن الأغلبية الساحقة التي شكّلت هذي الأمة عبر منعرجات التاريخ القديم، وحملت رسالة التوحيد، والإسلام، والتسامح..تنتمي إلى أصول عربية تنحدر من الجزيرة العربية واليمن وبلاد الشام والرافدين، فإن موقع ودور تلك الشعوب(المختلف في أصولها)، والتي عرّبها الإسلام، وصاغتها العربية والدولة المركزية الواحدة، والأديولوجيا الدينية السائدة، والتاريخ المشترك، بما فيه الأمس القريب والحاضر.. كان متناغماً ومتساوقاً مع هؤلاء حيث يصعب الفكاك والتفريق، رغم محاولات المستعمر الدؤوبة للتفريق والتمزيق، وبحيث اختلطت فعلياً الأصول العرقية، بينما صعدت هوية الانتماء إلى وطن واحد، وأمة واحدة . ورغم عديد الأخطاء في النظرة والممارسة، ورغم ما أحدثته قرون التجزئة، وعقود ممارسات الدولة القطرية، وارتكاس وتجوّف المشروع القومي النهضوي، الحداثي، وانبعثات الإثنية والمذهبية وغيرها في حاضنة الاستبداد والتخلف والماضوية المنخورة، وسلسلة الهزائم التي طالت مختلف البنى والمجالات، وتراجع حضور ودور الأمة من خلال نظمها الأحادية الذيلية ـ المفوّتة، وعبر ما أوجدته من طبقات نهبية ـ لقيطية، فاسدة مفسدة تحاول هزّ الثوابت، وتعميم التبعية ..فإن قواسم التوحيد والتضامن تظلّ هي الأقوى، والتي تعبّر عن نفسها بجماعية في الامتحانات والانعطافات الهامة .

 

كما أن هذه الأمة تضمّ أقواماً غير عربية، أصلية من بقايا تلك الحضارات التي تعاقبت، والتي شكّلت جزءاً رئيساً من النسيج الشعبي كثير الألوان والعطاءات، أو قوميات أخرى أصلية أيضاً ووافدة، والتي كوّنت، ولزمن طويل، جزءاً من الأمة . رغم بعض المنعرجات التي شابت العلاقة، خصوصاً في عصور الاحتلال الأجنبي ومراحل الاستقلال الوطني، وذلك الالتباس الحاصل في مفهوم الأمة وترجماتها في حركة القومية العربية، وبما فيه، أيضاً، كثير الممارسات العنصرية والاجتثاثية، ووجود مشاريع استقلالية لدى بعضها سهّلت تدخّل الخارج فيها ومحاولة استغلالها لصالح مشروعاته الأشمل .

 

ـ بالمقابل أيضاً :

 

ـ إن الأمة العربية ليست بحال من الأحوال أمة العرق، أو الشعب الواحد . إنها تلك الخليطة متعددة المنابت والأصول، وحتى الشعوب، الأمر الذي يقتضي التوضيح الذي لا لبس فيه، ولا غمغمة، وبما يعنيه صياغة الخط القومي بروحية التعددية، وما فوق عرقية، وأساسها هنا : الهوية والانتماء إلى أمة واحدة، هي الأمة العربية بتلك المواصفات، وعلى قاعدة المواطنية المتساوية في الحقوق والواجبات في جميع المجالات، والتي يصونها دستور واضح، وقوانين وضعية تطبّق على الجميع دون تمييز، بغض النظر عن الجنس والدين والمذهب والعرق والأصول والمهنة .

 

 وإذا كان مصطلح(( الحركة القومية)) يثير اللبس والحساسية لدى أصول قومية غير عربية، ويضعها خارج الإطار، وقد يحوّلها إلى معادية، أو إلى المطالبة بحقوقها القومية الكاملة بالمثل، بما يعنيه من روح عنصرية تناولتها عديد الطروحات القومية السابقة الملوّثة بالعرقية والعنصرية واحتواء الآخر بالقوة والفرض والإرغام، فيمكن الاتفاق على صيغة مقبولة، كاستبدال كلمة القومية بالعروبية، أو العروبة،(لأنه لا بديل عن صفة جامعة)، والتأكيد على هوية الانتماء لوطن واحد، وأمة واحدة(أمة تعددية تتفاعل فيها جميع ثقافات ولغات مكوّناتها عبر اعتماد العربية لغة رسمية لا تتناقض وحق الآخرين في استخدام لغتهم ولهجتهم في المجالات التي يحددها تشريع واضح ) .

 

 إن هذه التعددية التركيبية، بقدر ما يمكن أن تكون عوامل إغناء وتفاعل وإبداع في مختلف الوجوه، بقدر ما تشكّل عوامل فرقة وتقسيم واستنزاف عندما لا تقوم الأكثرية بتقديم حلول يقبلها الجميع، تتجاوز التعصّب إلى فضاءات الانتماء لوطن واحد، وإلى تحقيق العدالة في الحقوق وأمام القانون . ويجب الإقرار أن فشل المشروع النهضوي، وتأبيد الأحادية والاستبداد(الأحادية تتناول كل البنى والمجالات)، وانهيار الوضع العربي، وفراغ الأنظمة (والأمة بالنتيجة) من وجود مشروع خاص بهذه الأمة منبثق من واقعها، ومن رؤى استراتيجية لمستقبلها ومصيرها أمام التحديّات الكثيرة، وأمام ظواهر التفتيت، ومظاهر الحروب الأهلية متعددة الخلفيات.. إنما يؤدي ليس إلى إضعاف مشاعر ومقوّمات الانتماء إلى أمة واحدة وحسب، وإنما إلى موضعة كل المفردات التي تقع دونها بمسافات بعيدة، بل ودون الدولة القطرية القائمة، والتي تهددها بالتفتيت والبعثرة، ومخاطر التلاشي، والخروج من الجغرافيا والتاريخ .

 

ـ يجب الاعتراف أنه وبقدر ما أسهمت به الأديان وانشقاقاتها المذهبية(خاصة الدين الإسلامي) في بلورة شخصية الأمة العربية، وتعميم لغتها، وإقامة دولتها المركزية، وما شكّلته من متراس يحميها من الذوبان والتلاشي ..إلخ.. بقدر ما أصبحت، وفق الواقع، وما آلت إليه على يد من يمثلها من اتجاهات وقيادات دينية، وما أصابها من تسييس واستغلال وزجّ في الصراعات السياسية والاجتماعية .. عامل فرقة واحتراب، توفّر، من حيث تعي، وتقصد، أو بالنتيجة، مناخات الانشراخات العمودية بين الأديان المختلفة، أو بين المذاهب التي تنتمي إلى دين واحد، خاصة المذاهب الإسلامية(السنة والشيعة على وجه أخصّ)، مقدّمةً أكبر خدمة للمشاريع الاستراتيجية الغربية ـ الصهيونية التي تضع في مقدمة أولوياتها تشقيف الوطن العربي على هذه الأسس شديدة الخطورة والأثر .

 

أكثر من ذلك، فالواقع الديني ـ المذهبي عبر قرون التخلف والاستبداد، وسيطرة ثقافة الأمية والتجهيل والتسطيح، ومن خلال انحدار الوعي والثقافة، وتراجع حركة الإبداع والاجتهاد والتطوير والتكييف، وتعاقب عصور (الانحطاط ) بتلاوينها المختلفة..قد أصبح عبئاً ثقيلاً على حركات النهوض، وعلى تنقية المفاهيم الدينية من تلك التراكمات الثقيلة، خاصة في ميدان الاعتقاد الشعبي وما يشمله من اختلاطات متعددة الخلفيات والمصادر والغايات، وتشعباتها المذهبية مما لحقها، وبما يجعله عوناً في حركية التوحيد والتقدّم وولوج العصر، وليس كابحاً، ومعرقلاً، ومعادياً .(المقصود دوماً تعبيراته) .

 

 وبطبيعة الحال، وفي جميع الحالات، فإن رفع الديني إلى مرتبة القومي الجامع، واعتبار المسلمين، أو المسيحيين واليهود(ناهيك عن الطوائف) شعباً واحداً، أو اعتماده أديولوجيا الأمة لدولتها المنشودة يعني بداهة إخراج مواطني الأديان الأخرى خارج قوس الأمة بهذا المفهوم، وخارج الوطن أيضاً مهما جرى من تعديل لصيغة العلاقة(تطوير صيغة أهل الذمة مثلاً)، عدا عن أن المذاهب الأخرى (الإسلامية) التي لم تُعتمد سيكون وضعها مشابهاً لتلك، ما لم يكن بوضعية أسوأ من خلال مسافة الاختلاف، وإمكانية اللعب بهذا الوضع من قبل جميع المستفيدين منه . ناهيك عن أن جوهر الدولة الدينية، المناقض لروح العصر، والوحدة الوطنية والقومية، ووحدة الانتماء إلى وطن واحد، لا وجود له لا في عالم اليوم، ولا في الحقيقة، وإنما تعبير سياسي عنه يمثله إلى هذه الدرجة أو تلك، ومن خلال الاتجاهات السياسية والفكرية والمذهبية التي تحمله .

 

 إن احترام الأديان باعتبارها رسالات سماوية تهدف خير وصلاح الإنسان، وترقية قيمه وأخلاقه وسلوكه الاجتماعي، وحرية العقيدة بكل ما تعنيه من ممارستها وفق ما يؤمن بها أصحابها، وخاصة الدين الإسلامي لموقعه ودوره، وارتباطه بالعرب والأمة، حتى بالنسبة لغير المسلمين، هو مبدأ أساس في أي مشروع نهضوي واقعي، والذي لن يتحقق إلا من خلال تكريس الحرّيات الديمقراطية بكل أبعادها، وفي المقدمة منها حرية العبادة والاعتقاد، وحرية التعبير عنها وفقاً للقوانين المعمول بها، وإبعاد الدين عن الاستخدام السياسي لأية جهة كانت كي ينتعش في بيئة صحيّة، وبما يتفق وروحيته، وغاياته النبيلة بعيداً عمّا يعرف بالدولة الدينية، أو الإلحادية .

 

ـ إن الاستبداد المكين ليس ظاهرة جديدة مُستحدثة، أو خاصة بالسلطات الحاكمة(الحاكم الأوحد) فقط، بل هو نبت(أصيل) قديم ولد من، وفي رحم طبيعة تشكيلات المنطقة ودولها المركزية القديمة، وحضاراتها المتعاقبة تلك التي تمحورت حول الحاكم(لأسباب بدأت موضوعية)، ثم جيّرت الفكر، والتصورات الدينية لتكون متناسبة معه، واستمر الحال هكذا بعد ظهور ديانات التوحيد بإلباسه نوعاً من القداسة، أو السلطات المستمدّة منها . وعلى الصعيد الإسلامي تبلورت، وتكرّست فكرة الحاكمية بصورتها الفردية ـ التوريثية إبّان الحكم الأموي، وتعضّدت لاحقاً في جميع العصور، والممالك، والمذاهب المختلفة، والدول التي قامت باستخدام الدين غطاء لها، أو أديولوجيا شمولية، وطوّع الدين ليكون ستار الحاكم، وسيفه المُشهر ضدّ المخالفين له .

 

ومن جهة أخرى فتاريخية الاستبداد أوجدت مناخات الفردية(العقل الفردي) الذي يجد مرتعه في عمق، واختلاط أنماط الإنتاج المتداخلة(خاصة الرعي والتجارة، ونظام القبيلة وتفريعاتها)، وفي موقع الثقافة والآداب منها على وجه واضح(خاصة الشعر وما قام به من دور) .. الأمر الذي أسهم في تركيبة العقل العربي المتسمة بالأحادية، وعدم احترام العمل الإنساني كقيمة رئيسة لتحقيق الذات، وتقدّم واستقلالية المجتمعات، وضعف الروح الجماعية، واحترام العمل المؤسسي، وقيّم الدولة ومصالحها العليا بعيداً عن الرهاب والفرض وبشكل واع نابع من قناعة وتقاليد وممارسة . ناهيك عن غياب الحريات الفردية بمعنى الحقوق المثبّتة، والتي ترسخها التعددية، وحقوق ومساحة الأفراد في المجتمع والدولة، وليس تضخّم فكرة وموقع ومشروعية المستبدّ (بينما ما يزال البحث جارياً عن المستبدّ العادل)، والقائد البطل، والمخلّص الغائب، المنتظر قدومه، ومنح العملية شرعنة دينية ما أكثر ما تجد فتاويها في فقهاء السلطان ومرتزقة كل العهود، وفي السائد من العقل والعادات، ولدى عديد النخب المنخورة .

 

ـ الدولة القطرية واقع، بغض النظر عن موقف الحركات القومية منها . وهو واقع يتخطّى البعد السياسي إلى جميع الميادين، بكل ما أنتجته من كيانات لها سماتها وتاريخيتها، وما أفرزته من وقائع على الأرض تطال، وتمسّ مفاهيم مركزية ذات علاقة مباشرة بمفهوم، وتكوين الأمة .

 

الحالة القطرية أكبر، وأبعد من كونها نتاج مؤامرة الغرب وصناعته واستمرار فعله . إنها جزء من سيرورة شعوب الوطن وكياناته السياسية، بما تتصف به بعض الكتل البشرية، والمناطق الجغرافية من سمات مشتركة خاصة لا تتماثل تماماً مع بقية الشعوب والمناطق(بلاد الشام والعراق ـ مصر والسودان ـ الجزيرة العربية واليمن ودويلات الخليج العربي ـ المغرب العربي الكبير)، وهي لذلك تفرض مرونة كبيرة في صياغات فكر ومهام وسياسات وفلسفة مشروع النهوض، والوحدة العربية التي لا بدّ وأنها ستتخذ كثير الصيغ المتعددة، وستعبر عديد الأشكال والمقدمات على طريقها، وصولاً إلى صيّغ أقرب للفيدرالية منها إلى الاندماج، والدولة المركزية، والتي يجب أن يكون بمقدورها استيعاب الدول القطرية القائمة وتطوير أشكال التعاون فيما بينها، وعلى صعيد الهيئات المركزية .

 

ـ الدولة القطرية وما أحدثته من موضعات طالت الكثير من البنى والتشكيلات، بما فيها تشكيل الشعوب المنضوية فيها، والنتاج الثقافي، والسياسي(دونما حاجة لذكر الحروب والخلافات البينية، والشحن القطري ضد الشقيق، خاصة الجار، والذي تجاوز السياسي ليطال عموم الشعب)، ناهيك عن آثار الزمن في تكوين الإنسان داخل كل حالة قطرية، ووجود تمايزات لا بدّ من رؤيتها ووعيها واستيعابها ضمن مشروع نهضوي مفتوح، ومستوعب . واقعي وليس تقريرياً .

 

ـ ويجب أن نضيف ما حدث للشعوب من عمليات شقلبة وتغييرات كبرى، أدّت، على العموم، إلى تحطيم وسحق الطبقات الوسطى التي كانت خزّان العمل السياسي لجميع التيارات والاتجاهات، وانقسام المجتمعات العربية إلى طبقتين تقريباً : طبقية الأقلية الحاكمة من العائلة والمقربين والبيرقراطيين والطفيليين، والتي غالباً ما تتخذ مواصفات عصابات المافيا الأخطبوطية التي تسيطر على الثروة والمشاريع والاقتصاد، والمجتمع برمته، وأعمدتها الرئيسة في أجهزة القمع والأمن والتطويع والتخويف، وقرارات الفرض في ظل الطوارئ والأحكام العرفية، والمحاكم الميدانية، وإلحاق مؤسسة الجيش بها ليكون حامي النظام ورأس حربته بعيداً عن مهمته الأساس التي وجد من أجلها في الدفاع عن الوطن وحماية ترابه الوطني، والتصدي للأعداء، وتحرير الأرض المحتلة والمغتصبة، إلى جانب قاعدة (هلامية) حولها من عموم المستفيدين والطامحين والانتهازيين(قد تكون حزباً، أو عشيرة، أو طائفة، أوفئات منتفعة)، والطبقة الثانية هي عموم الشعب الذي اقتربت حدوده الطبقية من بعضها : المقموع والمهمّش والمحروم من حقوقه الديمقراطية ومن حواضن الحرية التي تنمو فيها الشخصية بشكل متوازن، والذي يعوم في الفقر والبطالة والأميّة المتصاعدة، والمرض، والخوف، واليأس .

 

دون أن ننسى أثر ذلك في تخريب العقول والنفوس، وقلب مفاهيم الأخلاق التي كانت سائدة كقيّم محترمة، مثل النزاهة والاستقامة، وتحريم السرقة ونهب المال العام، ومال الغير، والتعاون والرحمة وتلك الحميمية في العلاقات وفي تعاون الجيران والعائلات وأبناء المنطقة الواحدة وصولاً إلى عامة المجتمع.. وتقويض معهود شعبنا الذي فرض عليه الإيلاج القسري(القسر أنواع)في مجتمعات استهلاكية مفتوحة، نهمة لا ترحم، وتقطيع تلك الأواصر السابقة واستبدالها بعلاقات مادية يلعب فيها المال دوراً مهماً في معظم العلاقات وتركيب المواقع، وتدهور معاني الانتماء لأمة عظيمة، ومعاني الوطن والتضحية في سبيله، ومعاني معارضة الظلم والخيانة.. وصولاً إلى ما يشبه استقالة الشعب من العمل السياسي والشأن العام، ومن الاهتمام بما يجري لبلده، وما يواجهه من أخطار، بما فيها حقوقه الطبيعية كبشر في حرية التعبير وإبداء الرأي، وفي انتخاب من يراه الأفضل لتمثيله، وللحكم ..

 

ـ إن المرحلة الذهبية لحراك المجتمع، وذلك الزخم المتصاعد للعمل السياسي والوطني، وما عرفته تلك المرحلة من بعض الإنجازات والتقدّمات.. إنما ارتبطت مباشرة بالحياة الديمقراطية التي نشأت قبيل، و بعد مرحلة الاستقلال من المستعمر الأوربي، بينما أخذت بوادر الأزمات المتعاقبة بالظهور والانفجار منذ تأبيد الأحادية(المتعانقة) مع النظم الملكية المتخلفة، والتي هُزمت في عموم الميادين، وكان لهزيمتها المدوّية مع العدو الصهيوني أثرها الحاسم في تسارع وتيرة نضج تلك الأزمات، وولادة قوى الارتداد والنخر من داخلها.. لبدء مرحلة مختلفة على أنقاض وحطام المحاولات السابقة وما حملته من أحلام كبيرة.. وصولاً إلى اجتثاث المجتمعات العربية من مفاعيلها الطبيعية، وإحداث تحولات عميقة فيها جوّفتها، وأرنبتها، ثم أرشفتها على أرصفة الأحداث والتاريخ، لتعود إلى(دفاترها القديمة) تنبش فيها، وترتكز إليها تعويضاً وحماية وتشكيلات واعتقادات وتناحرات ونتاجات كانت مرحلة الخمسينات والستينات قد تخطّتها فعلاً . هنا ورغم انتعاش حالة التديّن، وكثرة المصلين، والممارسين للعبادات، فإن وضعية المجتمع لم تعرف تقدّما حتى في مجال القيم والأخلاق المعهودة.. فعمّت الرشوة، وانتشر الفساد سوسة تنخر العقول ومؤسسات الدولة والمجتمع، وتهالكت الأجيال خلف الثروات السريعة للوصول إليها بأسهل وأقصر الطرق، في حين يشهر التخلف أسلحته المذهبية ـ الطائفية والإثنية، والجهوية وغيرها، ليس لتشكيل نوع من الحماية للأفراد في ظل الدولة الأمنية التي تنتزع الآدمية، والشجاعة، والكرامة، وفي ظلّ تراجع الأحزاب وما كانت تمثله من دروع وطنية واجتماعية، والفراغ السديمى، والخوف من القادم وحسب، وإنما لبعث مكوناتها وخلافاتها، والأمل بإنشاء كيانات رسمية لها لم تعد تخجل من إبرازها العلني بعد أن تلطّت طويلاً خلف أقنعة أخرى .(آخذين بالاعتبار كمّ الدعم والتحريض الذي تلقاه من القوى الخارجية والمشاريع الإقليمية وغيرها، خاصة الصهيونية) .

 

ـ بالوقت نفسه فإن آمال بناء مجتمعات عربية متقدمة، وصناعة حديثة، واقتصاد مستقل، وفق تلك الرؤى والأشكال التي استخدمت(التأميم والإصلاح الزراعي وسيطرة الدولة على الاقتصاد والتجارتين الداخلية والخارجية.. وغير ذلك من شعارات وتحوّلات تلك المرحلة)، وتطوير بنى المجتمع، والصعود به نحو التوحيد القومي.. قد انهارت تماماً مع انهيار المشروع النهضوي، وتحوّلت بقاياها إلى ارتكازات(بقرة حلوب) للسلطة الأحادية، أو بيعت بأسعار رمزية للحاشية من المقربين والحاكمين وعائلاتهم..وفتحت الميادين والأسواق وفقاً للشروط التي تفرضها المنظمات والقوى الدولية في أوضاع تنافسية غير متوازنة.. الأمر الذي حوّل معظم البلدان العربية إلى مستورد مفجوع، ونهم يفتح أشداقه على كل ما هو أجنبي، بما في ذلك الغذاء والأساسيات، والأمور البسيطة التي كان يفترض أن يحقق كفايته منها منذ عقود وعقود، وانهار الاقتصاد المثقل بالديون والقروض، وبات النفط والغاز السلعة الوحيدة التي تقوم عليها الصادرات ومجمل الدخل الوطني، والاضطرار إلى إنتاج كميّات كبيرة منه لا تراعي حق ومصلحة الأجيال القادمة عند نضوبه، بينما تتوسل الدول التي لا تملك هذه الثروة التوسل والخضوع لشحذ بعض الإعانات، وشهادات التعاون والبصم، ولو على حساب مصلحة الوطن وقضاياه، والتبعية شبه الكلية للخارج .

 

ـ لقد تساوت الجمهوريات مع الملكيات في تأبيد الحاكم واستمراره، وفي الأحادية والسلطات المطلقة أيضاً(إلا ما ندر)، وتطويع الدساتير التي فصّلت على قدّ تلك الأنظمة لمشيئة الحاكم، بما فيها وأد، وتجويف بعض الهوامش الديمقراطية التي فرضتها نضالات القوى الحيّة والشعوب، وضغوط الخارج، وتحويلها إلى قاع صفصف، وهيكل مفرّغ يلعب فيها الحاكم و(عائلته) الحاكمة في كل الاتجاهات، ويمطّها ويقلصها، أو يوقف العمل بها وفق رغباته، ونزواته أحياناً.. فاتسقت بذلك، وإن نسبياً، أشدها أحادية واضطهاداً مع تلك المتشدّقة ب (كرمها) في منح الشعوب والمعارضة حقوق الكلام والصراخ والكتابة وبعض التظاهرات المعلّبة، وبعض أشكال الانتخابات الشكلية المحسوبة النتائج سلفاً.. لتقديم أنموذج يكاد يكون فريداً في عالم أنظمة الحكم القائمة في عصرنا .

 

 الأعجب من ذلك أن النظام الجمهوري الذي كان غاية المنى، وواحداً من مهام النضال ضد الملكية ونظم المشيخة والإمارة التوريثي، المتهم بالتخلف، والانسداد، وحكم العائلة والعشيرة، والذي يجمع كافة الصلاحيات بيد الملك أو الأمير، والذي يعود إلى القرون الوسطى وما قبلها.. قد بات على يمينه من حيث فعل التوريث، والتأبيد واللعب بالشعارات الشعبية، وقتل الأهداف السامية تحت رايات رفعها والتشدّق بها، واحتكار ملكيتها، بل هو أشد فتكاً بالآدمية، وأشدّ عنفاً وجوراً وتحكّماً بالشعب والقوى المعارضة، إلى درجة أن كثير المناضلين القوميين واليساريين والإسلامين تمنوا(في محنة سجنهم وملاحقتهم الطويلة وما عرفوه من صنوف التعذيب المميت والقاتل للجسد والروح والكرامة) لو أنهم كانوا في نظام ملكي لأنه أكثر(رحمة)، ولأن المعتقل غالباً ما يلوح أفق ما بالإفراج عنه، بينما لا يوجد ذلك في أنظمة الأحادية الرهيبة، حتى باتت تلك ماركة مسجلة في المنطقة والعالم .

 

ـ في هذا المجال أيضاً، ومهما قيل في مسؤولية ودور النخب السلبي فيما وصلت إليه أوضاع الأمة (تأسيساً ومساراً ومآلاً)، وهو كذلك فعلاً، لأنها تعرّضت تاريخياً لعمليات تصفية وتصنيف وغربلة تلاحق الفكر الحر، والمواقف الشجاعة بالإبعاد والقتل(القتل أنواع) والتشهير(وحتى الحرق)، بينما تسبغ نعمها وألقابها وجوائزها(مكرماتها) على تلك الفئات المطواعة، الانتهازية البوّاقة(من بُوق وبَوق)، بما في ذلك تصنيع وإعداد جيوش المطبلين المزمّرين من المدّاح والشعراء والكتبة والمفاتي والمفسرين والمروّجين المنافقين، العاهرين(العهر السياسي والفكري والأدبي).. الأمر الذي راكم هذا الاتجاه، وصدّره إلى واجهة الأحداث، حتى إذا ما ضعف في مراحل الصعود، ومراحل مقاومة المستعمر(تعاون مع المستعمر ومن كان قبله)، ومراحل التجارب الديمقراطية، أو المواجهات الجدّية مع الأعداء، ومع مفاعلات التخلف.. عاد ليظهر بقوة أكبر من تحت أنقاض الهزائم، وفي أرحام قوى ونظم الارتداد والغش والتزوير، ليجد المناخات المناسبة له أكثر في ممالك الرعب، وأنظمة الأحادية المفترسة، وحالة تأبيد الاستبداد، وجمهوريات الصخب الشعاري، والتلاوين المزوّقة .

 

النخب العربية تعرّضت إلى فعل تاريخي ناخر، وترهيبي شكّل ما يشبه الإرث المتواصل بين تلك العيّنات الطافحة بالانتهازية التي تطفو على سطح المجتمع، واحتفائيات النظم الحاكمة، منشّاة بأموالها وعطاءاتها، ومتهندمة بعباءات فضفاضة تتسع جميع التلاوين التي يطلبها الحاكم، وكثيرها أدمن القوس قزحية، والحربائية، وفنون التقنّع بأكثر من قناع، بما في ذلك الرخص والعهر والمَسرَحة.

 

 ومع ذلك، فالنخب العربية وقعت، بالحصيلة، تحت ضغوط رهيبة، مركّزة، ومنهّجة كانت أقوى من تركيبتها ومدى صلابتها، وقدرتها على التحمّل والصمود، وأشدّ مضاء من أسلحتها العادية، فانهار كثيرها، خاصة الأصيل، المبدع، المناضل منها، ليلتحق بالنظم والقوى النافذة كبوق ومسهّل ومروّج وخدم شرّاح، وخدم إفتاء وتسويق الحرام والقهر وخيانة الأهداف وتضحيات الشعوب وآمالها، وقضايا الوطن والأمة، وتحول عديد منها إلى كتبة تقارير و(دراسات)وشعارات مركوبة في تظاهرات التعليب والنفاق، فشاعت أنماط المجمّل والمزوّر للحقائق، وفئات الردح والمدح وتخوين الآخرين، أو اللجوء إلى تلك المنافذ الخارجية المفتوحة(خليجية وغربية، وإقليمية) للتعيّش منها، والتزلّف إليها وتمرير عقائدها ومخططاتها، بينما طوى الاضطهاد والفقر والتهميش، والسجون والتصفية والتطفيش شرائح وأعداد كبيرة من المبدعين والمناضلين والمكافحين التي انطوت وتكوّرت قهراً ويأساً وتعتيراً، في حين أن قلة قليلة ما زالت تمسك جمر الإيمان، وتدفع الثمن غالياً في السجون والملاحقات والمحاصرة ، والاغتيال متعدد الوجوه، أو في المنافي والغربة المفتوحة .

 

والنتيجة :

 

1 ـ إن وحدة الأمة العربية ـ بجميع مكوناتها ـ السياق والمخرج الطبيعي لها، ولأزمات نظمها، وهي الردّ على التخلف، والتحديات، والاحتلال، والتبعبة، والانهيار . وهي قضية مركزية دائمة لا بدّ وأن تكون محورية في جوهر فكر وبرنامج القوى السياسية، والقومية بالأخص منها، وهي الاتساق مع آمال الشعوب العربية، ومع اتجاهات العصر نحو التكتلات والوحدات الكبرى التي توفّر مقوّمات تحقيق الذات من جهة، والعولمة ومواصفاتها من جهة أخرى .

 

الوحدة صيرورة تمهّد لها، وتكوّنها مجموعة من سيرورات منهّجة عبرعلاقات التعاون والعمل العربي المشترك في جميع الميادين، وعبر مشاركات شعبية متنوعة تتجاوز الرسمي، والموسمي إلى العمل المبرّمج في مختلف الميادين، وصيّغ توحيدية متدرجة، وصولاً إلى شكل أقرب للاتحاد الفيدرالي الذي يستوعب خصائص الدولة القطرية القائمة ويتطلع إلى تطويرها باتجاه توحيدي، ومن خلال مركزية السياسة الخارجية والدفاع والمالية وفق أنظمة توفر التوازن والتكامل بين مكوناته، وترتقي به نحو تقليل الفوارق المختلفة .

 

2 ـ وعلى ذلك فإن إنهاض المشروع النهضوي ـ الوحدوي ـ الحداثي قضية محورية للأمة، لا غنى عنه في سبيل رسم توجهاتها الحاضرة والمستقبلية، والعمل المبرمج المتجه نحو تحقيق أهداف واضحة، تستند على جميع مكوّنات الأمة وقواها السياسية والشعبية . ويتطلب ذلك تصحيح مفاهيم وواقع ومسار التيار القومي باتجاه أفسح، وأعم يستوعب الدروس والتطورات والنواقص، ويرتقي من الحالة العصبوية إلى تكريس التعددية فكراً وممارسة، والقبول بالآخر السياسي المختلف .

 

 المشروع النهضوي ـ الوحدوي لا يمكن أن يكون قصراً، أو حكراً على مجاميع، أو اتجاهات فكرية ـ ايديولجية بعينها دون الآخرين، وإنما يعني جميع قوى الأمة وتياراتها الرئيسة : القومية واليسارية والإسلامية والليبرالية، والمستقلة، بما في ذلك واجب مشاركة الأقليات الإثنية وغيرها عبر الصيغ المتاحة، وبما يوفّر أرضية واقعية لمرحلة نهوض الأمة وبدء العمل للخروج مما هي فيه .

 

 إن عمليات التفاعل والحوار بين تلك التيارات مدخل ضروري لتجاوز حزازات الماضي وتركته، واختلاف الرؤى والمواقف، وبالوقت نفسه.. فإن مسؤولية الجميع تنطلق بدءاً من عمليات مراجعة شجاعة، واعية لخطها وخطابها ومواقفها باتجاه تجاوز العصبوية، والعقل الأحادي، وادعاء امتلاك الحقيقة، والصراعات الاستنزافية، والتمحوّر حول القواسم المشتركة : إنهاض الأمة من عثارها، وفتح آفاق توحّدها ودخولها العصر . وما من شكّ أن الخبرات الكثيفة، والدروس الكبيرة التي أنتجتها عقود العمل السابق، وما احتوته من ألوان وحالات..تشكل دافعاً قوياً للمراجعة الشاملة من جهة، ووضع خلاصاتها أمام الآخرين، والأجيال من جهة ثانية .

 

3 ـ إن اعتماد الحريات الديمقراطية بكل مجالاتها ومفرداتها هي المدخل والمخرج . الشرط والضامن . الوسيلة والغاية . النهج والمضمون . فقد أكّدت تجارب جميع التشكيلات والتيارات أن غياب الحريات الديمقراطية، ومصادرتها لصالح العقل الأحادي هو السبب الرئيس لسقوط مشاريع النهوض والتوحيد، وما آلت إليه أوضاع الأمة، وقواها، ونظمها القائمة، وأنه لا سبيل، ولا طريق، ولا بديل عن تكريس الحريات الديمقراطية كأساس يوفّر مقوّمات نهوض جديد للأمة، يضعها على سكة التوحيد، والتقدّم .

 

الحريات الديمقراطية تتجاوز الجانب الديمقراطي : الانتخاب، ومفردات حرية الرأي والتحزّب والاعتقاد والصحافة، والانتخابات النيابية.. وغير ذلك من مفردات معروفة إلى كونها منهج الحياة والتعامل الذي يجب أن يبدأ من الخلية الأولى في المجتمع(الأسرة) إلى عموم ميادين وفئات المجتمع، بما في ذلك العلاقات بين البشر، وأسلوب التعامل بينهم، وحل الخلافات الطبيعية القائمة(مهما كانت أسماؤها)، مروراً بالثقافة والإنتاج الإبداعي المتعدد، وإقرار التعددية إفرازاً طبيعياً لمكونات البشر ووعيهم ومواقعهم ومصالحهم، وصولاً إلى صيغة الدولة ككيان يعلو فوق السلطات وجميع الاعتبارات، لأنه الهوية والانتماء . الجامع والموحّد الذي تصبّ فيه كافة أفرع التيارات والاتجاهات، ولأنه وطن الجميع الذين يتساوون فيه وفقاً للقوانين الوضعية التي لا تفرّق بينهم مهما كانت أصولهم وعقائدهم وجنسهم ولونهم وموقعهم الطبقي والاجتماعي وغيره .

 

الحريات الديمقراطية هي السبيل لإدخال الشعب ميدان العمل السياسي والاجتماعي، والرابط الأكيد لتقوية هوية الانتماء، والوحدة الوطنية، وهي المدخل الضامن لمشاركة الشعب في صنع حياته ونظامه السياسي وحمايته وتطويره .

 

إن نبذ العنف واستخدامه في التعامل مع الآخر المختلف، وتوسل العمل السلمي طريقاً للتغيير، والوصول إلى السلطة، وإدانة امتهان الإنسان، واعتقاله بسبب آرائه ومعتقداته وجنسه وأصله، وتجسيد التعددية بقول الآخر بما هو فيه وعليه، وليس كما نريد، ورفض عقلية التخوين والتكفير.. هي جميعها مفردات ديمقراطية تمثل واحداً من أهم استخلاصات التجارب الماضية، وشرط لازم لوأد الاستبداد والعقل الأحادي، واستئصال واجتثاث الآخر .

 

إن حقوق الأقليات القومية، وحرية العبادة والاعتقاد، وتناغم التعددية الدينية والمذهبية، بكل ما تحتويه من مفردات الهوية(الخاصة) والثقافة واللغة، وأماكن ودور العبادة ، وممارسة الأنشطة الخاصة.. جميعها مكفولة في النظام الديمقراطي، وجزء من مكوّنات حركة التوحيد العربية .

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ