-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 30/06/2010


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


في بعض شؤون المرأة.. والإبداع

المرجعية الإسلامية شرط استيعاب الرؤى التفصيلية الإسلامية

نبيل شبيب

وصلت عام 2006م إلى كاتب هذه السطور أسئلة من المؤلفة الكريمة أمل كردي في الأردن، طلبت -في إطار إعدادها لأحد كتبها- أن يطرح رؤيته حول محورين رئيسيين، أحدهما ما يثار بشأن المرأة المسلمة وحجابها والأحكام الإسلامية في ميدان الزواج، والثاني حول حرية الإبداع عامة، وما هي حدودها. ويأتي نشر الأجوبة دون تعديل يذكر في مداد القلم الآن، مواكبا لبعض ما ينشر بهذا الصدد في الوقت الحاضر، مع ما يمكن وصفه بحملة دولية ضدّ لباس المرأة المسلمة، ومن خلال ذلك ضدّ تكوينها الشخصي عقديا وفكريا وسلوكيا، بما يشمل حريتها في اختيار ما تشاء لنفسها، وتقييد دورها في المجتمع بقيود ما يراد لها من "لباس" حتى من خلال الإكراه "التقنيني". ويرد في بعض المواضع من الأفكار التالية، ما يمسّ جوانب فقهية، ممّا يستدعي التنويه أنّ ذلك لا يتعدّى الرأي الشخصي إلى الخوض في الفقه، إنّما هو الرأي الذي يتكوّن من خلال العودة إلى النصوص الشرعية، وكذلك إلى الأحكام الفقهية واستيعابها بقدر ما يوفّق الله إليه من جهد وحرص على رؤية الحق واتباعه والدعوة إليه.

 

حقوق الإنسان

1- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وثيقة بالغة الأهمية، ومعظم محتوياتها موضع توافق بشري رغم اختلاف المعتقدات الدينية والتصوّرات البشرية، ومع هذا يجب عند الانطلاق منه ملاحظة أمور عديدة، أبرزها:

أ- هو نص من وضع مجموعة من البشر، وكل إنسان يخطئ ويصيب، وتكون له وجهة نظر مختلفة عن الآخر، وبالتالي لا يمكن اعتبار النص ملزما بمجموع محتوياته لكلّ إنسان، وكلّ مجتمع، وفي كلّ وقت. ولكن يمكن الاسترشاد به، والاستعانة ببعض محتوياته على الأقل. ولا يغيب عن الأذهان مثلا، أنّ دولة كالولايات المتحدة الأمريكية، تطالب الدول الأصغر حاليا في المسرح الدولي بالتزام هذا الإعلان، إلى درجة الرغبة في توظيف ذلك في قضايا الحرب والسلم، ولكن هي نفسها لم تصادق عليه، ولم تعتبره ملزما لها.

ب- صياغة بنود الإعلان صياغة تعميمية، تحتاج إلى شروح واستكمالات، لا سيما مع مرور الزمن، ويدلّ على ذلك إصدار مواثيق أخرى لاحقة تتناول بعض بنوده وتفسّرها.

ت- طريق الوصول إلى النصوص الموجودة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كان حصيلة تجربة تاريخية طويلة، وكانت اللحظة التاريخية التي شهدت وضع هذه النصوص لحظة انتصار عدد من الدول بقيادة أمريكية في حرب عالمية، وتركت تلك التجربة التاريخية -التي كان من حصيلتها في الغرب انتشار العلمانية- بصماتها وآثارها على صياغة النصوص، ولو كانت المشاركة في الصياغة متوازنة من حيث اختلاف التجارب التاريخية والخصوصيات الحضارية، وتعدّد المعتقدات والتصوّرات البشرية، لأخذت الصياغة محتوى آخر، يجد قبولا أوسع نطاقا بتحفّظات أقلّ على بعض التفاصيل والتعابير الواردة في النصوص.

ث- العلمانيون الغربيون تجاوزوا النص المستشهد به حول المرأة من البند 16 في هذه الأثناء (كما ورد في السؤال المطروح) وابتكروا مؤخّرا ما يُسمّى مصطلح "الجندر"، أو النوع البشري، لإنكار أي فوارق بين الرجل والمرأة، ولهذا أبعاد وآثار عديدة، ومنها مثلا أنّ الحديث الذي يُطرح في المحافل الدولية ذات العلاقة، لم يعد يدور حول الأسرة بمعنى الزواج بين الرجل والمرأة، بل امتدّ إلى العلاقات بين "جندر وجندر"، بما يشمل عشرة الرجال للرجال والنساء للنساء أو العشرة بين الجنسين دون زواج.

القصد من هذه الملاحظات هو أن نضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان -ونحن نستشهد بكثير من محتوياته- في موضعه السليم، تاريخيا ومضمونا ومن حيث مشروعية الالتزام أو عدم الالتزام به، والقبول ببعض محتوياته ورفض محتويات أخرى منه، ولو كان الالتزام شاملا مطلقا دون تحفظات، فما الذي يمكن في دائرتنا الحضارية مثلا أن نصنعه إزاء التبديل والتعديل المتواصليْن على تفسير محتوياته، كما تشير النقطة (ث) أعلاه.

2- التساؤلات المطروحة فيما يتعلّق بالزواج في الإسلام، مطروحة عن جانب واحد من جوانب تنظيمية اجتماعية عديدة من منطلق النصوص الشرعية، دون وضع ذلك الجانب في الإطار الشامل لمنظومة هذه النصوص. بل يوحي الاستشهاد بالنص المذكور من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قبل طرح الأسئلة، كما لو أنّ المطلوب هو الأخذ بالإعلان مرجعيةً لقياس النصوص الشرعية عليه، وبالتالي للقول بصواب هذا الجانب المجتزأ وحده أو ذاك أو عدم صوابه. وليس مقبولا من المنطلق الإسلامي الحكمُ على ما يقال في نطاقه اعتمادا على رؤى مرجعية علمانية من خارج نطاقه، كما أنّ القائلين بالعلمانية لا يقبلون الحكم على ما يقول أتباعها به حكماً ينطلق من مقاييس مرجعية أخرى، ولا سيذما المرجعية الإسلامية.

ينبغي التأكيد في البداية، أنّه لا يكاد يوجد حكم شرعي إسلامي -إلاّ القليل- يمكن انتزاعه من إطاره الشامل في المنظومة الإسلامية، مع انتظار أن ينسجم تلقائيا في إطار شامل لمنظومة أخرى، لا سيما العلمانية، وبالتالي فإن إثارة التساؤلات بهذا الأسلوب توجد معضلة دون جواب، ولا يضع سؤالا بغرض الوصول إلى جواب ما هو الأفضل والأقوم.

 

المساواة بين البشر

الإسلام يقول إن الناس سواسية كأسنان المشط، ومن يتتبع التفاصيل، يعلم أنّهم سواسية من حيث التكريم بانتسابهم جميعا إلى آدم وحواء، وسواسية من حيث ابتلاء الجميع على قدم المساواة، وسواسية من حيث الهداية الأولى لطريقي الخير والشر والإرادة الفردية للاختيار، وسواسية من حيث المسؤولية الفردية عمّا يختار الإنسان بإرادته الحرّة لنفسه، وبالتالي من حيث التكليف والحساب عليه في الحياة الآخرة.

ويمكن أن نقول أيضا هم سواسية في حقوق أساسية عامة، مثل الحرية الأصيلة لكلّ فرد بدءا بولادته حتى الممات، وكذلك العدالة، دون أيّ تمييز، وسيّان هل سادت تجاه الآخر علاقة وفاق وودّ أو حالة خصام وكراهية، وغير ذلك من الحقوق.

ولكن ليس الناس سواسية متماثلين كما لو كانوا جميعا من إنتاج "قالب واحد" على أرض الواقع، وهو الواقع الذي يتعامل معه الإسلام أيضا، بل هم "متكافئون ومتكاملون" -على أساس العدالة- من حيث الوظائف الاجتماعية والأعمال المرتبطة بها وما يترتّب عليها.

ليس الخبّاز كالمعلّم، وليس الطبيب كالحدّاد، وليس رئيس الدولة كالنجّار، وليست ربّة البيت كرئيسة قطاع الحسبة (وهو منصب شغلته امرأة في عهد الفاروق رضي الله عنه)، وهكذا، ولا ينتقص من قيمة أحد من هؤلاء أو مكانته أو حقوقه وحرياته، وجودُه في هذا الموضع دون ذاك في منظومة الوظائف الاجتماعية.

تحت هذا العنوان للتكافؤ والتكامل يأتي أيضا تنظيم الشؤون الاجتماعية داخل الأسرة وخارجها، بين النساء والرجال عموما، دون أن يُنقص ذلك شيئا من مبدأ المساواة بين الجميع، كما هو مذكور آنفا، ودون أن يترتّب على اختلاف الوظيفة الاجتماعية شيءٌ من الخلل في سريان مفعول مبدأ العدالة أو في أصالة الحقوق والحريات والواجبات والمسؤوليات الأساسية، تماما مثلما لا يترتّب على ذلك شيء عند النظر في اختلاف تنظيم الشؤون الاجتماعية بين فئتي الأطباء والمحامين مثلا.

هذا مع ملاحظة انطلاق كاتب هذه السطور من الاعتقاد بعدم وجود ما يحرّم عملا بعينه أو وظيفة رسمية بعينها على المرأة دون الرجل أو الرجل دون المرأة، بسبب أنّه رجل وأنّها امرأة، فالميزان هنا هو ميزان التفاوت بين القدرات والكفاءات الفردية الذاتية. ولكن لا يغفل الإسلام سريان مفعول حقيقة عامّة -لها استثناءاتها كأي حقيقة عامة مثلها- وهي أنّ العمل عموما مرهِق وأن النساء عموما أقلّ تحمّلا من الرجال للإرهاق، ولهذا أوجب الإسلام على الرجل العمل والإنفاق، وجعل ذلك للمرأة "مباحا" غير واجب، وإن حصلت على المال بوسيلة من الوسائل، ومنها العمل، لم يقترن ذلك بوجوب الإنفاق.. وغالبا ما ينشأ إقحام مسألة المساواة في هذا الميدان، نتيجة تصوير العمل حقا وليس واجبا.

 

الزواج الكتابي وتعدد الزوجات

داخل الإطار العام المذكور آنفا -والكلام فيه موجز غاية الإيجاز- يمكن النظر في مسألة التداخل في معتقدات الزوجين في أسرة واحدة، وفي تعدّد الزوجات.

1- بادئ ذي بدء مَن أراد الانطلاق من الإسلام لا بدّ أن ينطلق من كليّاته الكبرى، لتتخذ هذه المسائل الفرعية وأمثالها، مكانها الطبيعي، فلا يمكن وضع حكم إسلامي في مجتمع غير إسلامي، ينطلق من تصوّراتٍ مختلفة تماما عن الكليّات الإسلامية، ثم يقال "علام اتّخذ هذا الحكم تلك الصيغة ولم يأخذ سواها؟".

أمّا من أراد المقارنة فيجب أن يقارن بين الكليات والكليات، أو بين الفرعيات والفرعيات.

فعلى صعيد الكليات يقارَن مثلا بين مفعول الانطلاق من النظم الوضعية البشرية على منظومة القيم والأخلاق بمجموعها، مع مفعول الانطلاق من الإسلام على تلك المنظومة..

وعلى صعيد المسائل الفرعية يقارَن مثلا بين وضع الأسر المختلطة وكيف يتعامل المجتمع الغربي العلماني معها، وبين وضع الأسرة القائمة على زواج كتابي وتعامل المجتمع الإسلامي معها..

آنذاك لا يُطرح السؤال المطروح بأسلوب استنكاري، من زاوية النقد أو النقض، وإنّما يُطرح من زاوية الاستيعاب والفهم لموقع طبيعي لجزئية من الجزئيات ضمن تصوّر شامل متكامل.

2- الثابت -رغم كلّ ما يقال نقيض ذلك- أنّ للعقيدة أثرا كبيرا في توجيه العلاقات الأسروية بمختلف جوانبها. والثابت أيضا أنّ الإسلام لم ينفرد بوضع ضوابط للزواج على صعيد اختلاف العقيدة، بل بلغ الأمر لدى الكاثوليك مثلا تحريم الزواج حتى من المذاهب المسيحية الأخرى، وبلغ الأمر لدى اليهود عدم اعتبار ابن اليهودي من زوج غير يهودية يهوديا.

لا شكّ إذن أنّ التركيز على ما يقول به الإسلام بهذا الصدد لا يفتقد الإنصاف والنزاهة فقط، بل يكشف عن أنّ القصد ليس النقد، بل النقض، في إطار حملات قديمة وجديدة على الإسلام عموما، وكانت "المرأة" ولا تزال في مقدّمة مداخل هذه الحملات.

من حيث مضمون السؤال عن الزواج الكتابيّ نفسه تحديدا:

أ- العقيدة في الإسلام تقوم على "دين" بالمفهوم الغربي الضيّق للكلمة، أي علاقة بين الإنسان وربّه، وكذلك على ما بات يعرف حديثا بوصف: "جنسية"، أي تحديد الانتساب إلى الأمّة الواحدة، وبالتالي العلاقات في الدولة وما بين الدول بالمفهوم الغربي للكلمة.

وقد شاع قبل الإسلام وبعده، أنّ الأولاد يتبعون نسب الأب من حيث الجنسية، ولم يتبدّل ذلك في بعض الدول المعاصرة إلاّ جزئيا وحديثا جدا.

ب- رغم كلّ ما قيل ويقال عن مساواة المرأة بالرجل في الغرب، بعد غياب تلك المساواة إطلاقا، لم يزل الوضع الواقعي القائم إلى اليوم بصفة عامة (وفيه استثناءات ككلّ حالة تعميمية تعتمد على النظر في الغالب الأوسع انتشارا) هو أنّ الرجل يسيطر على البيت الأسروي، في حدود النسبة المتدنية باستمرار لتكوين الأسرة من زوج وزوجة وأولادهما، وأن تنشئة الأولاد تتّخذ اتجاها تحدّده حصيلة هذه السيطرة.

ت- تبعا لذلك، وتعاملا مع الواقع الفعلي لا التصوّر القائم على الوهم أو التمنّي، يمكن في نطاق الإسلام أن يتعرّض أمر التربية بمعنى صناعة جيل المستقبل، وكذلك أن تتعرّض الجنسية بمعنى "الانتساب إلى الأمّة" عبر النسب إلى الأب، لخلل كبير، لو انعكس الحكم الشرعي إسلاميا فأجاز للمسلمة الزواجَ من كتابي.

3- شبيه ما سبق يسري على تعدّد الزوجات، ويضاف إلى ذلك، أن تعدّد الزوجات يندرج في الأحكام الإسلامية تحت عنوان "المباح" وليس تحت عنوان "سنّة" أو "مستحب" أو "واجب". بل الراجح في حدود علم صاحب هذه السطور هو القول إنّ التعدّد هو من المباحات مع الكراهية، تبعا لتأكيد استحالة العدل بالنص القرآني، رغم الحرص على العدل.

كما أنّه مباح -في اعتقاد كاتب هذه السطور- بشروط، وإن مضى بعض المجتهدين قديما وحديثا إلى عدم القول بتلك الشروط، أي عدم القول إنّ الزواج باطل بسبب عدم توافر هذا الشرط أو ذاك.

لا يوجد اختلاف كبير من حيث اشتراط "العدل" بين الزوجات مثلا، ولكنّ غالبية المجتهدين يتعاملون مع واقع زواجٍ نشأ، فلا يقولون إنّ غياب هذا الشرط يبطل الزواج تلقائيا، بل يميلون -دفعا لضرر أكبر- إلى القول إنّ الزواج سرى مفعوله، ثمّ يبحثون عن حلول أخرى، منها مثلا تأكيد حقّ المرأة -الثابت ابتداء- أن تطلب الخلع، وهو من الحلول التي تحقّق للزوجة والأولاد، ميزات مالية وقانونية، لا تتحقّق لو اعتُبر الزواج باطلا من حيث الأساس.

ينبغي في الوقت نفسه التمييز بين "الشروط" وبين "الدواعي" إلى تعدّد الزوجات. وكثيرا ما يُكتب عن الشروط فينفيها مَن ينفيها وهو يتحدّث واقعيا عن الدواعي، والعكس صحيح أيضا.

من الدواعي ما يتخذ صيغة جماعية، مثل نقص الرجال بسبب الحروب، ومسؤولية الإنفاق ووجود نساء لا يجدن مَن ينفق عليهن ولا يُردْن أو لا يستطعْن العمل. ومن ذلك أيضا ما تقول به الدراسات عن العلاقات الجنسية، والتفاوت بين الجنسين من حيث قبول التعدّد أو عدم قبوله، والقدرة عليه أو عدم القدرة، وهنا أيضا يؤخذ بالحصيلة العامّة في الأحكام، وليس بالاستثناءات الموجودة في نطاق كلّ ظاهرة واقعيّة عامة.

ومن الدواعي ما يتّخذ صيغة فردية، كحالة المرض وسواه، مع تباين ما ينبني على ذلك، فمرض الرجل يمكن أن يكون سببا للطلاق أو الخلع، لأنّ مرضه يُفقد المرأة حقوقها في الحياة الزوجية، من حيث العلاقة الجنسية ومن حيث الإنفاق، أمّا مرض المرأة فيمكن أن يكون سببا للزواج الثاني، ولا يمنع من طلب الطلاق، ولكن لا يؤخذ به تلقائيا، لأنّ فيه إمكانيّة فقدان المرأة "المريضة" حقّ الإنفاق عليها على الأقلّ.

في اعتقاد كاتب هذه السطور أنّ من الشروط معرفة الزوج الأولى بعزم زوجها على التعدّد، وحقّها في مفارقته لهذا السبب، وإلاّ غابت مسبقا قابلية السعي لتطبيق شرط العدالة بين الأزواج. كما ينبغي أن تكون الزوج الثانية على معرفة بالزواج الأول، للسبب نفسه، كي يكون شرط "التراضي" متوافرا على أساس العلم لا الجهل.

أمّا آثار تعدّد الزوجات بدون تحقيق شروطه أو دون وجود دواعيه، فهي آثار سلبية في الأعمّ الأغلب، ولا ينفي ذلك وجود نسبة عالية لتعدّد الزوجات دون سلبيّات كبيرة.

هنا يظهر للعيان أيضا أنّ هذا الحكم الجزئي من جزئيات الإسلام، لا يجد تطبيقا قويما دون وضعه في إطار التطبيق الشامل للإسلام في المجتمع، بتكامل سائر جوانب منظومته، من حيث القيم والأخلاق والتربية والنظام الاجتماعي والقضائي وغيره.. وهذا ما نفتقده عموما في المجتمعات الإسلامية، وبالتالي نرصد حالات من الشذوذ في تطبيق الاحكام الإسلامية، أو زعم تطبيقها، ممّا يجب علاجه من الجذور، عبر إيجاد المقوّمات الإسلامية المتكاملة، وليس عبر نقل هذه الجزئية أو تلك من تصوّرات سائدة في مجتمعات أخرى.

 

المعرفة والإبداع

السؤال (هل أعطى القرآن للإنسان حرية النظر في تطور المجتمع والكون واكتشاف المعارف العقلية والتجريبية، والإبداع الفني والأدبي ...الخ، مما يعطي هذه المساعي مشروعية إسلامية) يكشف -مع عدم التشكيك في النوايا- عن مدى ما وصلت إليه الحملة المعادية للإسلام وتشويه ما يدعو إليه، وما يسمح أو لا يسمح به.

القرآن لم يعطِ تلك الحريّة فحسب، بل جعل من "واجبات" الإنسان الملحّة أن ينظر في تطوّر المجتمع، وفي الكون، وأن يكتشف باطّراد مختلف ميادين المعارف والعلوم دون استثناء، بالعقل والتجربة، وأن يكون مبدعا على الدوام، بما يشمل مختلف الميادين، لا الآداب والفنون فحسب.

ومَن ينتلك القدرة ولا يصنع ذلك يقصّر في أداء واجب من الواجبات الأساسية، التي تعتبر من أصل وجود الإنسان ومهمّته في هذه الحياة الدنيا.

لا نكاد نحصي الآيات الكريمة التي تطالب الإنسان -والخطاب للمسلم وغير المسلم- بالسير في الأرض، والنظر في سِيَر السابقين، والتأمّل في الكون، وفي سننه، وفي خلق السموات والأرض، وفي تاريخ من مضى، وغير ذلك ممّا لا نكاد نجد له حدوداً تُذكر.

وليس أصلُ وجود الحدود والضوابط أمرا مرفوضا، وهو ما يسري على مختلف النشاطات الإنسانية، العلمية والأدبية والفكرية والفنية وغيرها، كما لا يصحّ الاتّهام أو مجرّد الشكّ في أنّ وضع هذه الحدود يخصّ الدائرة الحضارية الإسلامية بالذات، بل نرصد في الوقت الحاضر على سبيل المثال ما يدور من جدل في مختلف الدول المتقدّمة بشأن الحدود التقنينية الضرورية لقضايا حديثة، مثل البحوث والتجارب ذات العلاقة بالعناصر الوراثية، والاستنساخ، ومواليد الأنابيب، وغيرها.

رغم ذلك تُطرح المشكلة بأسلوب تشكيكي في الدائرة الحضارية الإسلامية من زوايا متعدّدة، وعند التأمّل فيها، نجدها تدور حول محورين رئيسيين:

أ- الزعم بوجود حريّة مطلقة في مجتمعات علمانية غربية قائمة، وليس لهذه الحرية المطلقة وجود قطعا، وإلاّ لَما وجدت قوانين وأنظمة في مختلف ميادين الحياة، دون استثناء.

ب- المرفوض حقيقةً من المنطلق العلماني هو أن يكون الوحي الربّاني مصدر ثوابت وكليّات كبرى تنبثق منها الحدود الضرورية للنشاطات البشرية المختلفة بدءا بالبحث العلمي انتهاء بالإبداع الفني، ولا يعني هذا الرفضُ إنكارَ ضرورة وجود ثوابت وحدود أخرى، منبثقة عن العلمانية نفسها، ولكنّ المطلوب من المنطلق العلماني أن يكون "الإنسان" لا الوحي الربّاني -ويقال غالبا: مصدر علويّ- هو مصدر تحديد تلك الثوابت.

هذا المنطلق العلماني مرفوض إسلاميا، فكلمة "الإنسان" تطرح تلقائيا السؤال: أيّ إنسان؟.. وكيف يمكن التوفيق بين الذات والآخر بميزان اختلاف المعتقدات والتصوّرات آنذاك؟.. كما أنّها تطرح من الناحية الواقعية، أي من خلال التأمّل بما وصل إليه تاريخ "تبدّل الثوابت" في المجتمعات العلمانية، سؤالا أبعد مدى، وهو: ألم يصبح هدم الثوابت وصناعة بدائل عنها تحت سيطرة الفئة الأقدر على فرض ما تريد، وفق غاياتها الذاتية، القويمة والسقيمة، ولكن بموازين القوّة فحسب، وعلى وجه التحديد في عصرنا الحاضر: موازين القوّة المالية؟!.

إنّ البديل عن الثوابت الصادرة عن الوحي الربّاني كما يراها الإسلام، هو "ثوابت شرعة الغاب" وهذا تعبيرٌ لا يُستخدم جزافا، بل هو كناية لغوية عن تحكيم مفعول القوّة في المجتمعات البشرية، بدلا من العدالة، والمساواة، والحرية، والحقوق، والواجبات، وسوى ذلك من المبادئ المفترض أن تكون قريبة من الثوابت. 

 

العلم والتجربة

إنّ ولادة البحث العلمي، والتجربة العملية في البحث العلمي، وكثير من العلوم المنبثقة عن ذلك، وكذلك ولادة عدد من العلوم الاجتماعية والإنسانية، كانت في فترة ولادة الحضارة الإسلامية، وازدهرت بازدهارها، وانتقلت عنها إلى حقبة التنوير والنهضة الغربية، كما أنّ مختلف ميادين الأدب والفنّ، شهدت في مختلف العصور الإسلامية، مختلف ألوان الإبداع، عصرا بعد عصر، وفي بلد بعد بلد، ولم تكن توجد طوال تلك الفترة مشكلات تستحقّ الذكر، من قبيل المشكلات التي عرفها الغرب في صراعه المرير مع السيطرة الاستبدادية الكنسية طوال ألف عام وأكثر.

وحتى اليوم كانت المسيرة الحضارية البشرية مسيرة متواصلة منذ العصر الحجري، وتنتقل جغرافيا من أرض إلى أرض وبشريا من قيادة أمّة إلى قيادة أمّة أخرى، ولكن دون أن تبدأ من الصفر مجدّدا في أي حقبة من الحقب، أو أي نقلة من النقلات الحضارية.. ولم تصل هذه المسيرة إلى معلومة قطعية علمية واحدة تتعارض مع الثوابت والكليات الكبرى التي قطع الوحي الربّاني في الإسلام بصحّتها، فلا توجد على صعيد الإنجازات العلمية والتقنية أيّ مشكلة في ظلّ الإسلام. ولكن يوجد تعارض وتناقض في ميادين العلاقات الإنسانية، في كثير ممّا وصلت إليه "الحقبة" المعاصرة من المسيرة الحضارية البشرية بقيادة الغرب العلماني، ومثال ذلك مسألة "الجندر" التي سبق التنويه بها، أو مسألة احتكار المنجزات التقنية، أو تحكيم القوّة في العلاقات الدولية.

لا يوجد أي تناقض أو تعارض ما بين العلم والتجربة وبين ثوابت الإسلام القطعية فقط، إنّما يتعارض كثير ممّا نرصده في عالم الواقع الذي أقيم بعد تغييب الإسلام كليّا أو جزئيا عن توجيه المسيرة الحضارية البشرية، ويتناقض مع أيّ نظرة منطقية متجرّدة للإنسان الفرد، بغضّ النظر عن انتسابه ومعتقده، وعن مستواه العلمي والفكري والاجتماعي، وهذا ما يعبّر الإسلام عنه بكلمة "الفطرة"، فطرة الله التي خلق الناس عليها.

المشكلة ليست في طلب العلم والمعرفة وطلب الجماليات والسلوكيات المختلفة، فكرا، ودراسة، وتجربة، وعطاء، وإبداعا، ولكنّها في اختلاف النظرة إلى حاضنة القيم والأخلاق التي تقوم عليها حضارة من الحضارات، فهذه الحاضنة هي التي تجعل المسيرة الحضارية -بميزان ما تعود به على الإنسان- صالحة أو فاسدة، أو خليطا من هذا وذاك، فيجري توظيف العلم والمعرفة والفكر والدراسة والتجربة والعطاء والإبداع، بما يخدم الصلاح أو الفساد، أو يخلط بين هذا وذاك، فيحقّق للإنسان الخير أو الشر، أو نصيبا من هذا وذاك.

 

منظومة القيم

لا بد من منظومة قيم وأخلاق، ولا توجد حضارة قديمة أو معاصرة قامت على إنجازاتٍ وإبداع ولم تكن لها حاضنة من القيم والأخلاق، وهذا ما يعنيه الغربيون المعاصرون عندما يتحدّثون مثلا عن حقوق الإنسان وحرياته ويعتبرونها وليدة الثورة الفرنسية الدامية وحرب الاستقلال الأمريكية الدامية، وكأنّه لم يوجد من قبلها طرح إنساني للحقوق والحريات!.

لا بدّ من ضوابط تنبثق عن حاضنة القيم والأخلاق، وهذه في الدائرة الحضارية الإسلامية -الشاملة للمسلمين وغير المسلمين دون أن ينتقص الإسلام نفسه شيئا من حقوق أيّ فرد أو فئة- هي منظومة القيم والأخلاق الصادرة بكلياتها الكبرى وثوابتها عن الوحي الربّاني.

ولا توجد الآن دولة من الدول تقول نظريا أو تطبيقا بحرية مطلقة، والحدّ الأدنى لذلك هو أنّ لكل حرية فردية حدودها عند حرية الفرد الآخر، ولكل حرية جماعية حدودها عند حرية المجتمعات الأخرى، وإن كان الغرب العلماني الحديث، في احتكاره لدعوات الحريات والحقوق، يتجاوز حريات المجتمعات الأخرى وحقوقها، ويريد أن يفرض تصوّراته المتكوّنة عبر تاريخه هو عليها.. والشواهد أكثر من أن تُحصى.

وقد وجد في البلدان الإسلامية للأسف من تبنّى هذه التصوّرات تقليدا، فأصبحت عنده كأنّها منبثقة عن فكره الذاتي، وهذا هو عنوان المشكلة الحقيقي، وليس هذا تبنّيا واعيا بل تقليد أعمى منحرف، ولو صحّ "تقليد" الغرب عند مقلّديه وكان "قويما"، لكان عليهم أن يصنعوا ما صنع الغرب عند ولادة نهضته، أي عندما نقل العلوم والمعارف عن الحضارة الإسلامية المزدهرة، ولكنّه صنع لها حاضنة ذاتيّة من القيم والأخلاق وفق ما رآها فلاسفته الغربيون، فلم ينقل حاضنة القيم الإسلامية مع العلوم والمعارف الإسلامية، ولكن استفاد منها جزئيا.. فعلام لا يكون تقليد الغرب من جانب من يريد تقليده، في صيغة نقل العلوم والمعارف التقنية وسواها، ووضعها في حاضنة القيم والأخلاق الذاتية، ليمكن النهوض حضاريا من جديد؟!.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ