ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
أزمة
العقيدة العلمانية الغربية مع
نفسها التحدي
الإسلامي وحدود تأثيره على
الواقع الغربي نبيل
شبيب لم تشهد
سنة سابقة مثل ما شهدته هذه
السنة مع حلول عيد الفطر بعد شهر
رمضان 1431هـ من مواقف ترتبط
مباشرة بالسياسات الغربية تجاه
الإسلام والمسلمين في الغرب،
ولم يكن ذلك بين ليلة وضحاها، أو
نتيجة التفاعل مع موقع الشهر
الفضيل والعيد لدى عشرات
الملايين من المسلمين
المواطنين والمستقرّين في دول
العالم الغربي، إنّما كان نتيجة
التلاقي الزمني بين مسارات عدد
من التطوّرات السابقة على محاور
أحداث متعددة، أبرزها: - تصعيد
أساليب التعبير عن العداء
للإسلام نفسه وليس للمسلمين فقط
في الولايات المتحدة الأمريكية.. - ما
صنعته إساءة أخرى في ألمانيا عن
طريق "تيلو سارّازين" في
مسلسل الإساءات للإسلام
والمسلمين.. - تسليم
جائزة إعلامية ألمانية خُصّصت
لمن فتح بوابة الإساءات الحديثة
على مصراعيها فيما عرف بالإساءة
الكاريكاتورية.. - تأسيس
حزب جديد خرج من عباءة الحزب
المسيحي الديمقراطي في ألمانيا
ليتخذ مسارا جديدا من وحي "سارّازين"
ويظهر المقصود منه باستدعاء
السياسي المسيء الهولندي
المتطرّف (فيلدرز) إلى حفل
التأسيس مثلما دُعي للحضور في
نيويورك يوم 11/9/2010م.. - وليس
مجهولا ما تشهده هولندا من
صعوبات في تأسيس حكومة ائتلافية
جديدة، بعد سقوط الحكومة
السابقة نتيجة الخلاف على
المشاركة العسكرية في
أفغانستان، وازدياد نسبة
اليمين المتطرّف في المجلس
النيابي بعد الانتخابات
المبكرة.. - وليس
بعيدا ما شهدته سويسرا على طريق
تقنين "بَتْر" مآذن
المساجد، التي شُبّهت
بالصواريخ!.. - ثمّ ما
تشهده فرنسا حاليا تحت عنوان
ترحيل المهاجرين غير الشرعيين
وتركّز على "الغجر" من شرق
أوروبا حاليا، ويمكن أن يمهّد
لاستهداف سواهم من الشمال
الإفريقي في مرحلة تالية.. وغير
ذلك ممّا يجري دون إحداث "ضجّة"،
فقد بات "معتادا بالتقادم"،
بعد أن كان في حكم تصرّف عدائي
مثير قبل فترة وجيزة، مثل
الحملات "التقنينية"
المتصاعدة ضدّ حجاب الفتيات
المسلمات في المدارس الفرنسية،
والمعلمات في المدارس
الألمانية، والمسلمات عموما في
الدوائر الرسمية في العديد من
البلدان الأوروبية!.. أين
الخلل بين حرية المعتقد وحرية
التعبير؟.. قد يطرح
كثير من المسلمين وغير المسلمين
من العالم الإسلامي، ممّن
يتابعون الأحداث بشيء من
التركيز –وهم للأسف قلّة-
التساؤل عمّا يُنتظر في مستقبل
العلاقات الغربية الإسلامية
سواء وُضع لها عنوان صدام
الحضارات، أو عنوان حوار
الأديان، أو –كما يصنع بعض
أصحاب اتجاهات قومية وعلمانية-
عنوان الهجمة "الإمبريالية"
العالمية للتأكيد أنّها لا
تستهدف الإسلام تحديدا!.. ولا
ينبغي أن نفصل ذلك عن تساؤل
يطرحه كثير من المسلمين وغير
المسلمين في الغرب، عمّا يُنتظر
من مصير لِما بقي من منظومة
القيم الغربية، حتى على الصعيد
النظري، ومحورها: "الحرية"،
التي يُفترض أن تكون ركيزتها
الرئيسية بالمنظور العلماني:
حرية المعتقد، وبالتالي
التساؤل: هل بدأت
جولة أخيرة من الصراع القديم
منذ العصور الوسيطة الأوروبية
ما بين "حرية المعتقد" و"حرية
التعبير"؟.. أو
بتعبير آخر: هل أصبحت الموازنة
بين قيمتين أساسيتين من القيم
الفلسفية للحرية الغربية
مستحيلة، وأصبح المرجّح إعطاء
الأولوية المطلقة لحرية الكلمة
تجاه حرية العقيدة؟.. إنّ
الإرث الفلسفي لحرية التعبير
بصيغتها العلمانية الأوروبية،
هو عينه الذي يأخذ طريقه الآن
إلى كلمات السياسيين والمفكرين
والإعلاميين في الغرب، وهم
يسوّغون بدرجات متفاوتة عدم
التصدّي بالتشريعات القانونية (أي
تقرير حدودٍ قانونية للحريات
الأساسية حيث يوجد تماسّ بينها،
وتقرير حدود قانونية لمشروعية
ممارستها عند التعدّي على حرية
الآخر).. عدم التصدّي لِما نشهد
تصعيده بالفعل أو القول تجاه
الإسلام تخصيصا، بدءا
بالكاريكاتور، مرورا بالمآذن،
وصولا إلى التهديد بحرق المصحف
الشريف (علما بأنّ التراجع عن
التنفيذ الآن.. لا ينفي أنّ
الدعوة بحدّ ذاتها كسرت محظوراً
بحيث يمكن أن يعود آخرون إليها
في مرحلة تالية). وننظر
في الواقع الراهن بمنظور أرضية
الفلسفة الغربية فنجد كمثال
للتوضيح: - يُنسب
إلى فولتيير الفرنسي، الذي
يُعتبر من أعمدة فلاسفة التنوير
الأوروبي، قوله: "قد لا
أوافقك في الرأي، ولكنّني على
استعداد للتضحية بنفسي لتكون لك
الحرية في التعبير عن رأيك"..
وهي كلمة "جميلة المعنى
والمبنى" وإن كان ذلك لا يغني
عن وضعها في الإطار العام لحياة
فولتيير نفسه، وإنجازاته
العملية لا القولية فقط،
والواقع الذي عاش فيه.. وليس هذا
موضع الحديث هنا. -
المستشارة الألمانية آنجلا
ميركل، التي قيل إنّ حضورها
حفلَ تسليم الجائزة الإعلامية
الألمانية لسنة 2010م تحت عنوان
حرية التعبير، للمسيء
الكاريكاتوري الدانماركي بعد
خمس سنوات من إساءته تلك.. قيل إن
حضورها كان التزاماً تقليديا
كما صنعت في السنوات الخمس
الماضية على عمر هذه الجائزة،
إنّما يعبّر ما قالته في الحفل
عن تلك الخلفية الفلسفية: "ليس
من الضرورة أن يوافق المرء على
طريقة تعبيره عمّا يراه (أي صاحب
الإساءة الكاريكاتورية) ولكن لا
يمكن التخلّي عن تأييد حقّه في
حرية التعبير". الفارق
بسيط وخطير: فهي لا تضحّي بشيء
تملكه –كما يقول فولتيير عن
نفسه- إنّما تضحّي بمكانة
المقدسات الدينية لدى آخرين،
وهم المسلمون في هذه الحالة،
إنّما تخسر نتيجة لذلك بعض ما
تملكه وتدعو إليه في الأصل..
بصدد حرية المعتقد!. شبيه
ذلك أيضا يتسلّل إلى كلمة
الرئيس الأمريكي باراك أوباما
بمناسبة مرور تسع سنوات على
تفجيرات نيويورك وواشنطون،
عندما يحاول أن يستعيد
الاستقرار للساحة الدينية
والإعلامية في الولايات
المتحدة الأمريكية وقد أصبحت
تنذر بمزيد من الانشقاقات في
المجتمع الأمريكي نفسه.. فيؤكّد
ضرورة العودة إلى قيم الحرية
الأمريكية، الشاملة لحرية
المعتقد.. ولكن لم يمض يومان على
تصريحات مقرّ الرئاسة
الأمريكية نفسه بما يشير إلى
عدم وجود تشريعات قانونية يمكن
الاعتماد عليها لحظر "حرق
مصحف المسلمين".. وبتعبير آخر:
واقع إعطاء الأولوية للحرية
الفردية شبه المطلقة تجاه حريات
الآخرين في ميدان العقيدة
تحديدا، فبالمقابل ليست
التشريعات غائبة عند التعدّي
بصورة مشابهة في ميدان "الحقوق
المادية" للآخرين (كمثال..
ويوجد سواه من ميدان الازدواجية
في التطبيق أيضا)!.. أين
الخلل بين كلام جميل وواقع
مشوّه وخطير؟.. أين
نقاط التشابك والتقاطع بين حرية
التعبير وحرية المعتقد على
أرضية الفلسفة.. أو منظومة القيم
الغربية؟.. قيود
الحريات العلمانية ما الذي
يسوّغ في التصوّرات العامة التي
تعبّر عنها الاستطلاعات، وفي
التصوّرات الفكرية والسياسية
التي "تصنعها"، أن تنشأ تلك
الازدواجية المرصودة ما بين
التعامل مع حرية الكلمة عندما
تمسّ شخصا بعينه.. والتعامل مع
المساس بدينٍ وأمّة تعتنقه، أو
بين التعامل مع إساءات حرية
التعبير عدائيا تجاه الإسلام
والتعامل مع إساءات التعبير
المعروفة تحت عنوان "العداء
للسامية"؟.. علام لم
يجد "حجاب المرأة المسلمة"
عداء سياسيا وتقنينيا وإعلاميا
عندما انتشر في أوروبا عن طريق
"عاملات التنظيف" من تركيا
في فترة جلب العمال الأجانب على
أوسع نطاق، ولكن بدأ ذلك العداء
بالظهور بعدما انتشر على رؤوس
الطالبات والخريجات الجامعيات
من أجيال المستقرّين في أوروبا
من أهل البلاد الأصليين ومن
مواليد الوافدين؟.. ما الذي
يسوّغ في التصوّرات العامّة وفي
التصرّفات السياسية استصدار
قوانين لمنع الحجاب الإسلامي،
واعتبار غطاء الرأس لدى
الراهبات مجرّد "زيّ" لا
داعي للمساس به؟.. إنّ
جوهر المعضلة في التعامل مع
الإسلام في الغرب كامن في تعامل
الغرب مع نفسه، مع عقيدته
العلمانية، الرسمية والفكرية،
التي تحوّلت إلى وعاء يتسع لما
تراه.. ولا يتسع لسواه. - إن كان
أصحاب العقائد الأخرى،
الدينية، بما فيها الكاثوليكية
والبروتسانتية، أو الأقلّ
انتشارا في الغرب كالبوذية
والإسلام، على استعداد
لتغييرها ("تطويرها" حسب
التعبير الرسمي.. أو "علمنتها"
حسب التعبير الفلسفي الفكري)
بحيث "تخضع" للرؤية
العلمانية، أمكن أن يتسع لها
وعاء العقيدة العلمانية
المهيمنة سياسة وفكرا وإعلاما
وتربية وتدريسا.. - هذا
بينما يوصف "إخضاع الرؤية
العلمانية" لرؤية دينية أمرا
متناقضا مع الحريات والحقوق.. إن طالب
أهل تلك العقائد الدينية
بقبولهم في المجتمع كما هم، أي
وفق ما تقتضيه حرية المعتقد
بالمعنى المجرّد لكلمة "الحرية"،
فلا بدّ أن يواجهوا الرفض
العلماني، فإن كان حجم تجاوزهم
للرؤية العلمانية محدودا من
ناحية المضمون والكمّ (داخل
جدران المساكن والمعابد) بقي
أمرهم مهملا.. إنّما تحت
الرقابة، وإن بلغ تجاوزهم لتلك
الرؤية، عددا –كما هو الحال مع
المسلمين في الغرب- وفكرا
وممارسة وبالتالي تأثيرا على
العامّة لا سيما من الأجيال
الشابة والناشئة، كما يكشف
التجاوب مع قيم الإسلام أو
اعتناقه، فسرعان ما يبدأ البحث
عن وسائل "التصدّي"، ويمكن
أن تتخذ صيغة "تشريعات
قانونية استنائية" للحدّ من
حرية المعتقد.. وهذا ما لا بد من
تسويغه للعامّة، ومن هنا ينتشر
الربط المدروس بين العقيدة
المستهدفة (وهي هنا الإسلام)
وبين أهداف مشروعة ومقبولة في
الأصل، مثل الحيلولة دون العنف
غير المشروع، الذي انتشر عنوان
"الحرب ضدّ الإرهاب" في
تسويق الإجراءات المختلفة
بصدده، وهي تتجاوزه على أرض
الواقع باستمرار. إنّ
معضلة التعامل الغربي مع
الأديان ولا سيّما الإسلام، هي
معضلة الجمع بين ما تقول به
منظومة قيمه العلمانية وما
تصنعه. هي أزمة
"دفاع" عن استمرار هيمنة
العقيدة العلمانية التي ارتبطت
ارتباطا وثيقا بالهيمنة
المادية. أزمة
تتجلّى في نتائج إقدام الغرب
على الالتزام بالعلمانية
تصوّرا وقيما ونهجا تطبيقيا،
فهو ينطلق منها، ويصنع القرار
بموجبها، ويشرّع القوانين على
أساسها.. ويفرضها في المجتمع،
ويحول دون ظهور من يرفضها داخل
المجتمع إذا ما أصبح الرفض مصدر
تهديد لهيمنتها عليه. ويعود
محور الأزمة إلى جذور الفلسفة
التنويرية الغربية، فمنذ عصر
فولتيير وأقرانه، كانت بدايات
الدعوة إلى العلمانية مقترنة
بطرح "التعددية" العقدية
وسواها، للتخلص من "هيمنة
العقيدة الكنسية"، ولكن
أصبحت الحصيلة بوضوح: الالتزام
بالعلمانية "عقيدةً وضعية"
مكان العقائد السماوية ومكان
العقائد الوضعية الأخرى، وفرض
وعائها على ما سواها، وتقييد
سائر الحريات الأخرى تبعا لذلك. لا قيمة
هنا لتجنّب العلمانيين استخدام
تعبير "العقيدة العلمانية"،
فهو تجنّب له أسبابه التاريخية
عند الرغبة في الفصل بين مفعول
العقيدة الكنسية في حينه ومفعول
العقيدة العلمانية الوضعية
الوليدة آنذاك، إضافة إلى الحرص
على الترويج لها على أساس
انسجام في الفكر والإخراج، مع
ما يجري وضعه من "حدود وضوابط
وقيود" علمانية تجاه جميع ما
لا يحتويه الوعاء العلماني، عبر
صياغة ذلك في عناوين مغرية، مثل
"حرية المعتقد".. فهي ليست
على مستوى "حرية التعبير"
مثلا، ولا حرية الفرد المادية
مثلا آخر!.. جوهر
أزمة العلمانية الغربية لقد
ربطت العقيدة الوضعية
العلمانية نفسها لفترة طويلة
بالإرادة الشعبية، فتلاقت مع
نهج الديمقراطية القائم على
التعدّدية السياسية والمجتمع
المدني، واستقرّ هذا التلاقي
عند توافر الظروف التاريخية
الملائمة، أو بتعبير أوضح: طالما
كانت الخبرة التاريخية مع العهد
الكنسي الاستبدادي القديم،
تضمن إرادة شعبية تمكّن من
احتكار السيادة على صنع القرار
وفق الرؤية العقدية العلمانية،
لم يكن يوجد ما يستدعي تقييد "إرادة"
فريق من الشعب إذا حمل رؤية أخرى.
حيثما
بقي تطبيق أصحاب الديانات
المختلفة لمقتضيات دياناتهم
محدودا، أو غائبا بسبب إهمال
وتقصير، لم تكن توجد مشكلة
تعترض هيمنة العقيدة العلمانية
الغربية، أمّا وقد وصل التطبيق (الذي
يوصف بالنسبة إلى الإسلام
بالصحوة) إلى رؤوس تلميذات
المدارس والمعلمات، (تصوّرا..
وليس حجابا فقط، كما نوهّت
الإشارة غلى الفارق في التعامل
مع حجاب عاملات التنظيف وحجاب
الخريجات الجامعيات وسواهن)
وكذلك إلى ارتفاع نسبة الشبيبة
في المساجد، أي وصل إلى ما يمكن
أن يؤثّر على الفكر والسياسة
وصناعة القرار مستقبلا على غير
ما يروق لمقتضيات العقيدة
العلمانية، فقد بدأ نذير الخطر
يدقّ أجراس القائمين على مفاصل
صناعة القرار العلماني.. ويوجد
ما يرتبط بذلك بموقع الكنيسة،
إنّما يكفي هنا تركيز الحديث
على ما يرتبط بالإسلام. أولا:
داخل المجتمعات الغربية: - في
السياسة لتبدأ التشريعات التي
جعلت من رأس تلميذة محجّب "خطرا
مستقبليا على حرية المجتمع".. - وفي
الفكر والإعلام، لتبدأ حملات
غير مسبوقة –مع عدم التهوين
ممّا كان في الماضي فكرا
وإعلاما وفنونا واستشراقا- لنشر
تصوّرات مخيفة على صعيد العامة،
ممّا صنع الخوف المرضي من
الإسلام، وبالتالي الاستعداد
النفساني لمخالفة قيم "الحرية"
العلمانية نفسها في التصدّي
لتأثير الإسلام عقيدة ونهجا في
اتجاه يتناقض مع العلمانية
عقيدة ونهجا.. في مختلف
الميادين، لا تمسّ من قريب أو
بعيد ما يجري الحديث عنه تحت
عنوان الأمن والعنف والإرهاب
وما إلى ذلك!.. في هذه
الأجواء، وعلى هذه الأرضية،
تنفتح الثغرات الخطيرة على
البنية الهيكلية العلمانية
نفسها في المجتمع، وهو ما يعنيه
مسلسل تصعيد الإساءات (وهي
قديمة في الأصل) في العداء
للإسلام والمسلمين.. - وكانت
أولى حلقاته الحديثة "الكاريكاتير"
قبل خمس سنوات.. وقد وجد تأييدا
حذرا.. ثم آراء متعددة.. ثم
محاولات تسويغ باسم حرية
التعبير.. ووجد جهود تهدئة غضبة
المسلمين داخل نطاق المسلمين
أنفسهم.. وإذا به يصل الآن إلى
مستوى التكريم الإعلامي
والسياسي بجائزة!.. -
ويتزامن ذلك مع أحدث الإساءات
الصارخة في دعوة قسّ أمريكي
مغمور، من رابطة دينية محدودة
العدد والانتشار، إلى إحراق
أكبر عدد من نسخ المصحف الشريف..
ليجد تأييدا علنيا في أجواء
معركة الانتخابات الأمريكية..
وليجد أيضا من يهاجم فعلته ومن
يتفهّمها.. ناهيك عن الحرص على
عدم ربطها بالسياسة الرسمية
الأمريكية، بل التأكيد أن
الحكومة "مقيّدة اليدين!"
فالقوانين الأمريكية لا تحظر ما
أعلن القس الأمريكي العزم على
صنعه!.. كما وجد أيضا مساعيَ
تهدئة غضبة المسلمين المتوقعة
بسلسلة تصريحات سياسية وكنسية
واسعة النطاق.. ولا يمكن أن
نستبعد تماما احتمال تكريمه
بجائزة من الجوائز بعد سنوات!.. ليس
العنصر الأهمّ في الإساءة
الكاريكاتورية.. وما تلاها، ومن
بعدها البابوية.. وما تلاها،
وحتى تلك الإساءة الأمريكية
المشينة.. وما سيليها، ليس
العنصر الأهمّ كامنا في تنديد
وتأييد، وإدانة وتسويغ.. إنّما
هو في الحصيلة التي صنعها –وما
زال يصنعها- مسلسل الإساءات
والتعامل معه. كثير من
العارفين بواقع الأوضاع
الأمريكية، من مسلمين (مثل علاء
بيومي.. كما في مقاله المنشور في
مداد القلم أيضا) وغير مسلمين (كما
يرصد كاتب هذه السطور من كتابات
مفكرين ومحللين ألمان) يؤكّدون
حدوث نقلة جديدة في التعامل مع
الوجود الإسلامي داخل نطاق
الدولة الأمريكية، وأنّ هذا
بالذات هو الأمر الأهمّ الذي
يمكن أن يمهدّ لخطوات جديدة،
سياسية وتقنينية، وربما عسكرية
حربية، في المرحلة المقبلة.
ويمكن التأكيد حول واقع الأوضاع
الأوروبية، أنّ نقلة جديدة
مشابهة –مع تفاوت التفاصيل-
شهدتها الدول الأوروبية أيضا،
بشأن التعامل مع الوجود
الإسلامي داخل حدودها. ثانيا:
على الصعيد العالمي: ليس
مجهولا أنّ التحرّك العسكري
الأمريكي بتأييد أوروبي جزئي..
اتّسع نطاقه تدريجيا، قد تجاوز
كلّ ما ساقه من مسوّغات تحت
عنوان "الحرب ضدّ الإرهاب"
ليصبح على أرض الواقع حربا على
الإسلام، ولم يتغيّر مع انتقال
السلطة من بوش الابن والمحافظين
الجدد، إلى أوباما وحزب
الديمقراطيين، سوى تبديل نقاط
التركيز في مواقع الحرب
المستمرة، والأساليب التنفيذية
المتبعة لها. هنا
أيضا لا يمكن الفصل بين البعد
الفلسفي للعقيدة العلمانية
بإصدارتها الغربية وبين
السياسات المتبعة عالميا، وعلى
وجه التحديد تجاه المنطقة
الإسلامية، وهو ما يفسّر
التقلّب بين الدعوة إلى ما سمّي
"الشرق الأوسط الكبير"
واقترانها في حينه بنشر
الديمقراطية، وبين التراجع عن
ذلك كأن لم يكن.. فالمقصود هو نشر
الصيغة الديمقراطية بإصدارتها
العقدية العلمانية، وهنا لا
تكمن الأزمة في التعددية
السياسية وإنّما في التعددية
العقدية، فاستقرار هذه
التعددية يعني وصول "الفكر
العقدي الأصلح" تبعا للإرادة
الشعبية، إلى مفاصل القرارات
السياسية والاقتصادية والفكرية
وسواها، وهنا بالذات لا تستطيع
العقيدة العلمانية التخلّي
عمّا تمارسه من "حقّ الهيمنة"
الذي زعمته لنفسها. حرية
العقيدة بما فيها حرية العقيدة
الإسلامية –وليست هي الوحيدة-
مشروطة بمنظور العلمانية
الغربية ومشتقاتها، باستمرار
هيمنة العقيدة العلمانية. وحرية
التعبير بما فيها الإساءة
للعقائد وأصحابها –ليس الإسلام
فقط- مكفولة عبر هيمنة العقيدة
العلمانية. والدعوة
إلى نشر العقيدة العلمانية
عالميا، ونشر النظم التطبيقية
–كالديمقراطية- بالارتباط بها
وليس بمعزل عنها، لا تختلف بهذا
المنظور عن الدعوة "التبشيرية"
التي نشأت أوّل ما نشأت في ظلّ
الاستبداد الكنسي في الغرب،
فخاضت الدول الغربية آنذاك
الحروب وسوّغتها بذرائع مختلفة
كالحروب الصليبية، مثلما تخوض
الآن الحروب "الوقائية"
المدمّرة وتسوّغها بذرائع
مختلفة. يمكن أن
يوضع ذلك عنوان "صدام
الحضارات"، أو "حوار
الحضارات"، أو "الحرب على
الإرهاب"، أو "الحوار بين
الأديان"، فليس العنوان وحده
كافيا لتحديد معالم ما يجري على
أرض الواقع، إنّما "الشروط"
التطبيقية هي العنصر الحاسم في
تحديد طبيعة العلاقات على
المستوى العالمي. لقد
أصبح الصدام وكذلك الحرب
يستخدمان وسيلة الإملاء بالقوة..
وأصبح حوار الحضارات أو حوار
الأديان يستخدمان وسيلة
الإملاء الفكري والعقدي (على
غرار ما عرف بالإملاءات العقدية
الكنسية/ الدوجما في العصور
الوسيطة الأوروبية). هنا
تتجلّى أزمة العقيدة العلمانية
الغربية مع نفسها، فقد كان
تعليل نشأتها تاريخيا وعبر
مساراتها التالية، قائما على
مبدأ الحرية الفردية، ومن ذلك
حرية الاختيار، وحرية القرار،
أو وفق الشعارات الجامعة: "الإرادة
الشعبية" و"التعددية" و"حكم
الشعب لنفسه بنفسه".. وتغيب
مصداقية هذه المبادئ
والشعارات، في لحظة ظهور أن تلك
الحريات والإرادة الشعبية،
يمكن أن تؤدّي إلى وصول توجّهٍ
آخر غير العقيدة العلمانية
الغربية (هو الإسلام في حالة
البلدان ذات الغالبية
الإسلامية) إلى مفاصل صناعة
القرار. إن أزمة
العلمانية الغربية مع نفسها
تكشف نقاط الضعف المحورية فيها،
وتكشف أنّ فترة تألّقها
التاريخية بديلا عن الاستبداد
الكنسي، قد مالت إلى الغروب،
وأن ما سيطلّ في مشرق الوجود
البشري لن يحمل اسمها.. وليس في
هذا ما يضمن أن يحمل عنوان
الإسلام، فالعقبات دون ذلك
كبيرة، والقسم الأعظم منها
عقبات ذاتية، وفي مقدمتها طرح
مشروع حضاري إسلامي إنساني
متوازن، تنظيريا، وتطبيقيا حيث
يمكن التطبيق، ليجد الاقتناع
والقبول من خلال مضامينه،
وبالتالي ليمكن أن يجد من يحمله
بحق وفعالية على مستوى البلدان
الإسلامية وعالميا، كبديل عن
الجناح الرأسمالي للحضارة
المادية الغربية وعقيدتها
العلمانية، بعد غياب جناحها
الشيوعي من قبل. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |