ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 28/09/2010


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

 

نحن المسكونين بالوجع

سوسن البرغوتي

"... كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي .. أنا أعرف خطا أحمر واحداً، أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام لـ(اسرائيل)"

حنظلة، هذا المخلوق الذي ابتدعته لن ينتهي من  بعدي بالتأكيد، وربما لا أبالغ إذا قلت أنني أستمر به بعد موتي ..

ارسم لأصل فلسطين

إن شخصية حنظلة كانت بمثابة أيقونة روحي من السقوط كلما شعرت بشيء من التكاسل . انه كالبوصلة بالنسبة لي وهذه البوصلة تشير دائماً الى فلسطين

(ناجي العلي)

أربعون ألف رسماً كاريكاتوريا وربما أكثر وقعّها ناجي العلي عبر مسيرة حياة حافلة بالنكبات ليس أقساها القهر، وليس أقلها اللجوء.. كان عصيّاً على التدجين، مسكوناً بوجع الأمّة من محيطها الهادر إلى خليجها العامر. لم يعرف المهادنة ولا محاباة العروش والأنظمة. لا يرى من الألوان غير الأبيض والأسود، ومن خلال هذين اللونين حفر على جدران التاريخ موسوعة لا تزول، ولا توجد على مدى رؤيته السياسية ألوان متعددة، تقبل المساومة على الثوابت الوطنية والقومية.

هو الوليد من رحم الوجع الفلسطيني، فكان يملك قدرة تحريك الشارع من خلال رسم كاريكاتوري، ويقول الكثير في رسمة واحدة، ما ينصبّ في هم الناس اليومي، يلامس أمانيهم وطموحهم.

لقد تفاعل ناجي العلي مع الجماهير من خلال الاتصال المرئي حتى قبل أن تتضح ملامح هذا الفن، بمحاكاته العميقة لمدلولات ومفاهيم القيمية الوطنية والقومية، والمعاناة الاجتماعية بكل أصنافها التي سببتها النكبة، وما زالت تلك المحاكاة البصرية تحتل الكثير من السجالات الفكرية.

كان ختم ناجي العلي الوحيد بالأحمر، هو المساس بقيمة الوطن، وارتكازه الفني دائماً كان في الإصرار على توريث فكر المتلقي لاءات الاعتراف بالعدو، أو الاستسلام له لا يمكن أن يحقق استرداد حقوق الشعب الفلسطيني المغتصبة. فلغته خاصة جداً في صميم فورة المعاناة، ومباحة بل وغاضبة وشجاعة في زمن يهيمن فيه صمت الخوف.

حنظلة.. أنموذج المد الجماهيري الشاهد والمتجدد في كل بصمات خطوط ناجي، وهو الثابت الرافض مقايضة حريته بأي سقف حزبي، واختار أن يكون توقيعه الجارح بعُري قدميه وفقره، ولكنه رغم أوجاعه وعذاباته، فهو الصامد والمواجه لكل معاني الظلم.

 يقول الرسام الكاريكاتيري رائد خليل في كتاب أعده في الذكرى السابعة عشرة لاغتيال ناجي العلي (من أراد أن يقرأ تاريخ المعاناة، فليقرأ رسوم هذا الفنان، فهو لم يرسمها لزمن محدد، بل لكل الأزمنة، واخترع لنفسه أبجدية خاصة وقاموساً يخلو من تقييد الفكر.)

 قرر ناجي العلي أن يشهر قلمه خنجراً يُدمي، وريشة ترسم طريقاً مدافعاً عن عشقه لفلسطين التي أوجعت قلوب عشاقها، وأدمت أجسادهم، وهو مثلهم يبحث أيضاً عن خطب ودّها، عزف في كل لوحة لحن سيمفونية تجنح حيناً لإيقاع الأمل، وأحياناً غاضبة صاخبة متمردة، يصبّ جام حممه على الأنظمة الخارجة عن إطار الوعي الجمعي والضمير اليقظ.

 حملاته أشبه بدعوات تبشّر بالعودة إلى ذاك الوطن المفقود، وهو الحاضر في وجدانه دائماً، ولم يفرّط بإيمانه المطلق بوطنه العربي الكبير، وبفكر لم يكن بعيداً عن مشاهد قمع النظام العربي لطموح الجماهير، فكان ثورياً صادقاً، وثائراً على منظومة السلطات المستبدة. منصّته حيث يتواجد الألم، وصرخته فعل مواجهة. يده بيد الإنسان العربي البسيط والمثقف الوطني على حد سواء، ولم يكن هاجسه سوى إشباع تلك الرغبة الجامحة لرفض الهزيمة، واقفاً ينتظر ولادة حدث يهزّ صمت الصامتين...

رسم الكثير عن فترة الهزيمة لكنه لم ينهزم، وانتصر في كل طلقة رصاص أُطلقت ضد "إسرائيل" وانتصر على كل من حاول انتزاع إرادة المقاومة من قلبه، وكان الفنان الوطني الملتزم حتى اللحظة الأخيرة من حياته، وهو القائل (أي بندقية تتوجه إلى العدو (الإسرائيلي) تمثلني، وما سوى ذلك فلا..!) شبَّ في مخيمات اللجوء، وعزف آلامه وأمانيه على ورقة بيضاء بخطوط أمل العودة، وكانت سلاحاً مصوّباً لكل زيف. تارة معركته مع الديمقراطية المزيفة المغلّفة بأيدلوجيات الأحزاب المتنفذة، وفي أكثر الأحيان يحاكي معاناة شعبه نتيجة لسلب الأرض وانتزاع الحق.

 رغم انتمائه العروبي إلا أنه اُستبعد لمرات من حركة القوميين العرب لعدم انضباطه الحزبي، لأنه كما قال: (أنا شخص صعلوك وفالت، لا يمكن ضبطي حزبياً، وليس لحريتي سقف، وما زلت أحمل نفساً قومياً وإنسانياً وأؤمن بالاشتراكية، إلا أن أهم هاجس لدي هو الديمقراطية. أنا مع الفقراء والضعفاء ضمن أية مواجهة أخلاقية سياسية.).

 ريشته أداة تحريض لبث روح الثورة لدى الشعب المنتمي إليه على مدّ حدود الوطن العربي، منبهاً لأنظمة التي لم تسعَ يوماً من أجل معركة التحرير: (جنسيتي: انا مش فلسطيني مش أردني مش كويتي مش لبناني مش مصري مش حدا .. الخ، باختصار معيش هوية ولا ناوي أتجنس.. محسوبك إنسان عربي وبس..)

 لم تكن رسوماته عفوية، بل كانت خليطاً من معاناة فقدان وطن، وترجمة لهاجس يثقل أعباءه بتقبّل الواقع بالعزاء والسلوى: (الرسم هو الذي يحقق لي توازني الداخلي وهو عزائي، ولكنه يشكل لي عذابًا كذلك.)

 أما توقيعه ذلك الطفل الذي وُلد من رحم المعاناة ذاتها، وفي حصنه دك معاقل الصمت العربي، وهو الشاهد الذي ينظر دائما إلى الأمام، ثم إلى الحدث نفسه، سواء كان مجزرة أو انتصاراً للبندقية. فكان اسمه كناية عن المرارة لنبتة صغيرة بريّة نمت في قحط المحيط.

 رسومه قصص مصورة تعج بالأحداث والشخصيات، والتي مثلها بفاطمة في فلسطين، وفي كل بلد عربي، وكل الشخصيات في رسوماته لم تكن ضرباً من الخيال، بل من واقع الأمة التي كانت وما زالت مسكونة بالوجع والقهر، وفي ذات الوقت تحمل هاجس التحرير، ونقائضها من شخصيات جشعة لا تلقي هماً لحياة البسطاء، وتجني الامتيازات على حساب حقوقهم.

 نالوا من هامته ولم يستطيعوا تلويث الإرث الذي تركه، فقد تعرّض لإطلاق رصاص من مجهول في 22/7/1987، وبقي بين الحياة والموت إلى أن رحل حيث السلام الحقيقي في 29/8/1987. الحقد الأعمى دفع أعداء الحياة لملاحقة آثاره، فقد أطلقوا النار على تمثال نحته الفنان شربل فارس، بعد أن نُقل إلى مدخل مخيم عين الحلوة...

 إن اغتيال ناجي العلي لم يستهدف قتل الجسد فقط، بل كان موجّهاً لقتل صوت الحق، وصفوة الإبداع غير المتكلف، ولكنه الباقي والشاهد على تعرية الكثيرين ممن تغنوا بالثورة عبر مرحلة ليس أكثر، ثم تغيرت جلودهم حسب الأهواء والأمزجة، وقد انتصر ناجي العلي على قاتله، وكان رمز انتصاره ما تركه من ملاحم ثورية ناهضة في وجه مسار العوج والمهادنة.

 لن نقول لك وداعاً يا ناجي العلي، فحنظلة يكبر فينا يوماً بعد يوم، ويبقى الطفل العربي الفلسطيني برعماً ينتظر الهتان، لنفجّر معاً "ثورة حتى النصر".

ناجي العلي، أيها الشامخ الكبير رغم سنوات عمرّك القليلة، في حناجرنا مرارة العلقم، وفي كل وقت نحن مسكونين بالوجع، وبأفعال اللئام المشينة.

 "فما أصعب الكلام" في زحمة خفق المشاعر،  حين رثاه الشاعر أحمد مطر، وحين اغتالته يد الغدر من أجل قدرته على استشراف كل ما يحدث الآن على الساحة الفلسطينية والعربية...

لقد رثانا قبل أن نرثيه، وصعد إلى العلياء رفيقاً لمواكب الشهداء الذين سطّروا بعطائهم صفحة بقاءنا، وعطّروا بدمائهم درب مسيرتنا، رغم تساقط المتهافتين الماضين دون شك إلى الهلاك والفناء في مزبلة التاريخ.

عفوا ً؛ فإني ميت يا أيها

الموتى؛ وناجي أخر الأحياء

ناجي العلي لقد نجوت بقدرة

من عارنا، وعلوت للعلياء

إصعد؛ فموطنك السماء؛ وخلّنا

فـي الأرض إن الأرض للجبناء.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ