ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
تفتيت
السودان مقدمات
ونتائج نبيل
شبيب لم
ينقطع الحديث عن السودان في
السنوات الماضية بأقلام كثير من
المفكرين والمحللين الواعين
المخلصين، وهم ينطلقون من منطلق
إسلامي.. أو عروبي.. أو سوداني..
أو من منطلق المنطق السياسي
المحض، ويستعرضون نصوص الوثائق
القديمة والجديدة، عن مؤامرات
صهيوغربية، لم تعد مؤامرات سرية
بل مخططات علنية، ولم تعد تُحبك
خيوطها وراء أبواب مغلقة بل
يجري تنفيذها والتصريح بها
جهارا نهارا.. وسيسجّل
التاريخ أنّ الوعي السوداني
والعربي والإسلامي على أعلى
المستويات بما يجري.. إنّما تكمن
الأسباب الخطيرة من وراء مؤامرة
تفتيت السودان وقد أوشكت تبلغ
غاياتها في أنّ جل بلادنا
العربية والإسلامية لا تُدار
سياسيا، بأي منطق سياسي، أو أي
ميزان مصلحي، قطري أو عربي أو
إسلامي. ندرك
أبعاد ما جرى ويجري في السودان
إلى حدّ بعيد.. من قبل اندلاع
الحرب الانفصالية في الجنوب من
السودان بدعم خارجي إلى ما بعد
اندلاع الحرب الانفصالية في
الغرب من السودان بدعم خارجي..
وندرك ما سينبني من نتائج خطيرة
إلى أبعد الحدود، ليس على
السودان فحسب بل على المنطقة
العربية والإفريقية والإسلامية
بأسرها.. ندرك ذلك منذ زمن بعيد
وحتى الآن إلى درجة التساؤل
المرير: ماذا يفيد الإدراك
والوعي بما يجري، وقد باتت
الكلمة الموضوعية المنهجية
الجادّة الواعية.. دون تأثير
يحرّك العقول ويعبّئ الطاقات
ويوجّه الإمكانات وفق رؤى
مستقبلية قويمة ومخططات مدروسة
بإدارة سياسية حكيمة راشدة؟.. كأنّنا
فقدنا الوجدان ففقدنا مفعول
الوعي والفكر، تجاه أنفسنا..
وتجاه بلادنا وقضايانا!.. *
* * نتابع
التفاصيل رصاصة بعد رصاصة،
وكلمة بعد كلمة، ومؤتمراً بعد
مؤتمر.. إنّما لا نكاد نجد في ذلك
أثراً حقيقيا فاعلا لسياسة
قطرية أو عربية أو إسلامية
يستحق الذكر.. نرصد ما
يعنيه تنفيذ المؤامرة على ما
كان يسمّى الأمن العربي.. وما
يعنيه على صعيد الأمن المائي..
والأمن الغذائي.. وما يعنيه عبر
زرع أوتاد صهيوغربية إضافية،
وربما بذور اقتتال جديد.. نعيش
ذلك حلقة بعد حلقة.. إنّما لا نجد
في أي حلقة منها جهدا رسميا
مضادّا، عربيا أو إسلاميا، ولا
ينفي شيئا من ذلك أن يتحرك "الآن"
بعض المسؤولين العرب، لا سيما
من جامعة الدول العربية ومصر،
على استحياء.. كما لو كانوا
يعملون من أجل إنقاذ ما يمكن
إنقاذه من "فتات السودان".. يتحرّكون
كما لو أنّ تفتيت السودان إلى
دويلات وليد يومه، وليس نتيجة
جهود صهيوغربية متواصلة منذ
عشرات السنين.. مقابل "سياسات"
القعود عن الحركة، أو "سياسات"
المشاركة في الضغوط، أو تشجيع
من استقطبتهم الجهود المعادية
من أهل السودان، أو احتضان
بعضهم أو فريق منهم.. فإن وقف
صانعو تلك السياسات اليوم
ليزعموا أنّهم يعارضون تفتيت
السودان، فهل لأحدٍ منهم أو
سواهم أن يعجب من عدم تصديق
قولهم، أو عدم أخذه مأخذ الجدّ،
أو عدم تأثيره على أحدٍ في
السودان وخارج السودان؟.. ليس
للتحرّكات المتشنّجة الحالية
وزن.. لأنه لم يكن لها من قبل
وجود!.. *
* * لقد كان
ميلاد جهود تفتيت السودان (وجهود
تفتيت سواه) في حاضنة التجزئة
العربية الأولى منذ رضي فريق من
العرب وضع أنفسهم، كلّ في
الزاوية الضيّقة التي حُشر
فيها، على خارطة "سايكس بيكو"،
ومنذ قبلوا بإسهامهم في زرع
مزيد من الأوتاد فيما بينهم
وليس بين بقايا الدولة
العثمانية المهترئة وبقايا
المنطقة العربية المجزّأة فحسب..
حتى أصبحت الدول العربية من قبل
استقلالها ومن بعد استقلالها لا
حول لها ولا قوّة على صعيد صناعة
الأحداث داخل حدودها وفيما
بينها ناهيك عن الساحة الدولية.. وكان
تصعيد جهود تفتيت السودان في
حاضنة التجزئة العربية
المتواصلة من خلال تجميد
انطلاقة جامعة الدول العربية
لتبقى مجرّد واجهة شكلية، لا
يُضخّ دم في شرايينها، ولا تنفذ
مشاريع مدروسة للتقارب أو
التعاون تضعها، ولا يأخذ
المشاركون فيها بأقوال أنفسهم
وتوصياتهم أو قراراتهم،
منفردين أو مجتمعين، لا على
مستوى قمّة عابرة أو دورية أو
طارئة ولا على مستوى اختصاصي
لوزراء "الجامعة!"
ومديريها ومندوبي الدول
الأعضاء فيها.. وكان
تعزيز جهود تفتيت السودان،
عندما تحرّكت الدوائر الغربية،
السياسية والكنسية والصهيونية،
لصناعة الحركة الانفصالية في
الجنوب، ثم صناعة الحركة
الانفصالية الثانية في الغرب،
فوجد الانفصاليون دعما عربيا
وغربيا، على مختلف المستويات
ومختلف الوسائل، الخفية
والعلنية.. وكان
ترسيخ جهود تفتيت السودان في
حاضنة الامتناع العربي المشترك
عن كل جهد عربي مشترك، كان من
شأنه تعزيز السودان بلدا زراعيا
يكفي لتحقيق الأمن الغذائي
العربي، وتعزيز وحدة السودان
بتأمين ما يغني فريقا من أهله عن
ارتباط أجنبي، والتعاون مع
السودان على ما يحقق "شعارات"
التضامن العربي.. وكان
دعم جهود تفتيت السودان في
حاضنة التنكّر له عندما تحرّك
فريق من أبنائه لتقويض عرى
التبعية لأعدائه، ووضع لنفسه
عنوانا إسلاميا، فكان العنوان
بعض النظر عن المضمون كافيا،
لمشاركة الدول العربية،
القريبة والبعيدة، في حصار
أعداء السودان للسودان،
ومواصلة ضرب أهل السودان بعضهم
بعضا.. إن
تجزئة السودان جزء لا ينفصل عن
التجزئة العربية الذاتية!.. *
* * ليست
قضية السودان قضية حكم ديمقراطي
أو عسكري، فمن يزعم ذلك من جانب
"أشقائه" لا يختلف وضع
الحكم لديه عن الحكم في السودان
إلا في بعض التفاصيل والحيثيات
وأسلوب الإخراج.. وقد يفضلهم
السودان جميعا.. أو يبقى وضعه
على الأقلّ دون أوضاعهم سوءا. وليست
قضية السودان قضية صراعه هو مع
قوى دولية وربيبتها المزروعة في
فلسطين، فالجميع بلا استثناء
مستهدَفون، قهرا أو تطويعا، كلّ
على حسب ما يمارس من "سياسة"،
إنّما هي قضية سياسات عربية
متفرّقة، وزعامات عربية قاعدة،
وسياسات عربية فاشلة، وخطب
عربية جوفاء، وقصور عربية لا
تتجاوز قيمتها السياسية قيمة
أكواخ.. نتيجة ارتباطات "عربية"
بمصالح أجنبية معادية، ومخططات
أجنبية معادية، للدول العربية
جميعا وليس للسودان فقط. لا
يختلف توجيه ضربة عدوانية
لتفتيت السودان في استخدام
التمرّد بالعنف حينا والسياسات
المخادعة حينا آخر، عن توجيه
ضربة عدوانية لاغتصاب فلسطين،
وضربة عدوانية لاحتلال العراق،
وضربات عدوانية لشلّ قدرات
المغرب العربي، ولاستغلال
ثروات المشرق العربي، ولفصل
المغرب والمشرق عن الحاضنة
الإسلامية الأكبر والأوسع
والأعمق، والأقدر –لو كان في
البلدان العربية والإسلامية-
سياسات تُمارس فعلا، على أن
يكون للجميع مكانة ما على خارطة
العالم.. جماعيا لا قطريا،
وفعليا لا شكليا، تنطوي على
السيادة والاستقلال وصناعة
القرار بمعنى الكلمة. لا يجهل
كبير ولا صغير في مصر أنّ تحقيق
هدف تفتيت السودان يعني تحقيق
أخطر حلقات حصار مصر نفسها، ولا
يجهل كبير ولا صغير في شبه
الجزيرة العربية أن تحقيق هدف
تفتيت السودان يعني إحاطتها من
الغرب بركائز إضافية للهيمنة
الصهيوغربية، ولا يجهل كبير ولا
صغير في الشمال الإفريقي أنّ
تحقيق هدف تفتيت السودان يعني
طعنة في خاصرة المنطقة العربية
الإفريقية بأكملها.. والذين
لم يواجهوا مؤامرة تفتيت
السودان من بداياتها الأولى،
ولا يواجهونها الآن حقّ
المواجهة وقد أوشكت تحقق
أغراضها، كأنّهم يعيشون على
كوكب آخر، يُستعاض عن السياسة
فيه بمظاهر لا تقدّم ولا تؤخر،
ومراسيم لحفظ "الأمن الداخلي"
في حدود ما يثبّت "استقرار"
سلطة لم تعد سلطة حقيقية مستقلة
ذات سيادة فعلية، ولقاءات
ومؤتمرات وزيارات واستقبالات،
يتراكم الكلام فيها فوق بعضه
بعضا.. ولا يصنع شيئا!.. إن
المسؤولية عن تفتيت السودان هي
ذات المسؤولية عن الانهيار
العربي الجماعي والانفرادي. *
* * وليس
الحديث عن السودان والمؤامرة
العلنية لتفتيت السودان حديث
"لوم أو عتاب" و"هجوم
وتجريح" للدول العربية أو
بعضها.. إنّما هو الحديث عن
أبجديات السياسة الواقعية
المعاصرة، التي نسمع عنوانها
باستمرار، ولا نرى تطبيقا لها
في أي ميدان!.. لا يمكن
الخروج من دوّامة التفتيت
والهيمنة الأجنبية والتخلّف
المحلي إذا أصبح مفهوم "السياسة"
في بلادنا أن ينجح هذا البلد أو
ذاك في تحقيق هدف جزئي، حتى على
افتراض أن يكون إيجابيا بحدّ
ذاته، إنّما لا يحقّق شيئاً
يخرق دائرة التفتيت والهيمنة
والاستغلال الأجنبي وينتزع
جذورها، لتصبّ حصيلة نجاحه
الجزئي في نطاق دائرة المصالح
العليا المشتركة، والأهداف
الكبيرة البعيدة والقريبة.. ليست
السياسة التي تحقق للعرب
والمسلمين أهدافا وتجعل لهم
مكانة دولية، هي السياسة التي
توصف بنجاح مصر في السيطرة على
رئة غزة، أو سورية على قلب
لبنان، أو المغرب على رمال
الصحراء، أو نجاح قطر في مصالحة
جانبية، أو ليبيا في تحركات
إفريقية.. إنّما هي السياسة التي
تجمع بين المصلحة القطرية
والمصلحة العربية والإسلامية
أولا، ولا تقبل لنفسها –من دون
ذلك ولا على حسابه- بمصلحة
مزعومة تجمعها –أو تربطها ربطا-
مع مصلحة دولة غربية أو شرقية،
كبيرة أو صغيرة. بل لا
يمكن أن يكون لأي قطر عربي
القدرة على ممارسة علاقات مع
أيّ قوة أجنبية على أساس مصلحة
متبادلة، ومنفعة ثنائية،
وأهداف مشتركة.. ما دام عاجزا أو
رافضا أو متردّدا عن أن تكون له
علاقات المصلحة والمنفعة
والأهداف المشتركة مع الأقطار
العربية والإسلامية الأخرى. إن كلّ
سياسة قطرية منفصلة عن سواها
ضعيفة في ذاتها ومصدر ضعف
لسواها. *
* * لقد
كانت أحداث الانهيار المتواصل
في المنطقة العربية والإسلامية
متباعدة نسبيا في مجرى التاريخ
القريب، تقع كلّ بضعة عقود،
كانت تفصل مثلا ما بين سقوط ما
بقي من الخلافة العثمانية وبين
اغتصاب فلسطين وكشمير.. وأصبحت
الفترة الفاصلة في حدود عقد أو
عقدين من السنين، منذ النكبة
الأولى.. إلى احتلال العراق..
أمّا الآن فنشهد كيف تتجاور
النكبات، ما بين الصومال
والسودان، والعراق وأفغانستان،
وفلسطين ولبنان، وكيف يجري
الإعداد لفتنة طائفية أو قومية
أو حدودية أثناء تنفيذ ما سبق من
إعداد لفتنة سابقة.. ولهذا لا
يطمئنّ إلاّ غافل أو جاهل إذا
توهمّ أنّ ما يجري اليوم سيتبعه
ما يجري غدا.. وليس في المستقبل
البعيد، في مصر أو اليمن، في
ليبيا أو سوريا، في الخليج أو
الشمال الإفريقي. لم يعد
يصلح ما كان يقال طوال النصف
الثاني من القرن الميلادي
العشرين إنّ النكبة الكبرى
بفلسطين يمكن أن تؤدّي بعد جيل
أو جيلين إلى نتائج بالغة
الخطورة.. كالتي شهدها جيلنا هذا
في العراق وسواه مع مطلع القرن
الميلادي الحادي والعشرين.. إنّ ما
يترتّب على تفتيت السودان وكذلك
ما يترتّب على تحقيق أهداف
احتلال العراق بعد رحيل
الاحتلال.. وعلى مسلسل العدوان
الصهيوني في الأرض الفلسطينية
وما حولها، وعلى ما يشهد
الصومال وسواه.. ما يترتب على كل
حدث من هذه الأحداث على انفراد
وعليها مجتمعة، من عواقب وخيمة،
على امتداد المنطقة العربية
والإسلامية، وليس في حدود دول
الجوار القريب فقط.. لن يكون من
قبيل ما نورّثه من إرثٍ خطير من
صنع أيدينا لجيلٍ "قادم" من
بعدنا بل هو ممّا يُنتظر أن
نعايشه مباشرة.. بأنفسنا.. في
جميع جوانب أمننا وميادين
حياتنا.. خلال سنوات معدودات..
وهو ما بدأت مقدّمات بعضه أو
كثير منه بالظهور منذ الآن. إنّنا
نصنع الآن ما نحصد نحن الآن.. وما
يصنع من عار وخزي لنا فيما تره
أجيال قادمة. *
* * هذا أحد
الأسباب الحاسمة من وراء
التأكيد المطلق أنّ التحرّك
واجب الآن، وأنّه لا بدّ أن يكون
تحرّكا جامعا شاملا وافيا
بتحقيق الغرض منه، لا تكون فيه
قضية السودان قضية أهله، ولا
قضية فلسطين قضية أهلها، ولا
قضية العراق قضية أهله.. ولا
الصومال.. ولا اليمن.. ولا سوى
ذلك على امتداد المنطقة العربية
والإسلامية، إنّما هي جميعا..
قضايانا جميعا، لا يفيد فيها
تحرّك قطر دون قطر على المستوى
السياسي، ولا تحرّك اتجاه دون
اتجاه على المستوى الشعبي، ولا
يفيد تحرّك سياسي دون تحرك شعبي..
ولا تحرّك النخب دون العوام،
فالواقع القائم من صنع الجميع
معا، والمصير مصير مشترك بين
الجميع دون استثناء. لا يمكن
أن يقف الانهيار في السودان دون
اليمن، ولا في الأمن العسكري
دون الأمن الغذائي، ولا في
ميدان التضامن العربي
والإسلامي دون التلاقي بين
الأنظمة والشعوب، ولا يمكن أن
يتحقّق شيء من الأهداف المرجوّة
على عاتق الإسلاميين دون
القوميين.. أو القوميين دون
الإسلاميين.. ومن يتحرّك على
أرضية مشتركة يجد من يشاركه
التحرّك، ومن يتحرّك منفردا
سيجرفه التيّار.. إمّا تيّار
العدوان الخارجي المتواصل
المتكتّل المتصاعد، أو تيّار
جارف تصنعه يقظة الشعوب.. فما
عرف التاريخ في أي مرحلة من
مراحله مثل ما تشهده بلادنا هذه
الأيام، دون أن تستيقظ الشعوب
وتتحرّك في تيّار جارف وإن طالت
غفوتها.. وحينئذٍ يتفجّر
التغيير من حيث لا يحتسب
الظالمون من عدوّ خارجي أو شريك
له من وراء الظهور. لن تصنع
الوحدة بقرار ولن يصنع التغيير
كلام .. إنما يصنعها العمل
ويصنعه العاملون المخلصون. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |