ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
حتى
لا يصبح العيد مجرد مناسبة أ.
محمد بن سعيد الفطيسي
عيدٌ , بأيّ حالٍ عـُدتَ يا
عيدُ ؟ وأمتنا الإسلامية
العظيمة الخالدة تعاني ويلات
الحصار والظلم وتكالب الأمم
عليها من كل حدب وصوب , وبأيّ
حالٍ عـُـدتَ يا عـيــدُ ؟
وجراحنا تزداد اتساعا وعمقا مع
الأيام والليالي والسنوات ,
فهذه فلسطين الحبيبة , أرض الطهر
والرسالات , تعيش تحت وطأة
الاحتلال الصهيوني الغاشم منذ
ما يزيد على نصف قرن , ويمر العيد
تلو العيد , وشعبها العربي
المناضل يعاني كل أنواع الظلم
والامتهان والإرهاب , وقدسها
الشريف ومسجدها الأقصى الغالي
يدنسه يهود .
وهذه عراق المجد والحضارة ,
وأرض الإباء والعروبة والتاريخ
, واقع تحت ظلم الاحتلال الصهيو
ـ أميركي البغيض , والسلطويين
وأطماع الطامعين الحاقدين في
ثرواته وخيراته , في وقت يتجرع
أبناءه البسطاء كل أشكال الألم
والحزن والعذاب والمرارة ,
فبأيّ حالٍ عـُدتَ يا عـيدُ ؟
وأرض المسلمين تئن من جراح
التفرقة والفرقة والانقسام
والتجزئة والخلافات , وتموج بها
أمواج الخلافات والنزاعات بين
أبناء الوطن الواحد , ويزداد
رصيد كياناتها المؤهلة
للانقسام والتجزئة كل عام.
فما أجمله من عيد , لو عم
السلام والسكينة الكائنات
والكون بأسره , وعاش العالم
عدالة السماء , وعدل الأديان ,
وسماحة الأنبياء , وتذوقت هذه
الأمة العظيمة , وأبناؤها طعم
الاستقرار والأمن والتوحد بعد
طول عناء , وما أجمله من عيد , لو
وجد العالم الإسلامي والعربي
بأسره طريقه إلى الوحدة
والاجتماع من جديد , فيحلق كل
منا في هذا اليوم , كطائر عاشق في
روعة وبهاء سماء الخالق عز وجل ,
مغردا بأجمل الأناشيد والألحان
لهذا الكون والحياة , فرحا بهذا
الصباح الرائع الجميل , متشحا
بأجمل ثيابه , مهنئا بولادة فجر
جديد رائع , يحمل بين أحضانه
موسما للابتسامة والسرور , وما
أجمل العيد , لو مر علينا جميعا
بمعايدة من نحب , واحتضان من لهم
في قلوبنا أغلى المشاعر
والأحاسيس والعواطف دون ألم
وحزن وجراح ودماء.
فهو فجر للمعايدة واللقاء ,
وصباح كاسمه تنسى فيه الخلافات
والأحزان , وتحطم فيه أسوار
الفرقة والتناجش والتحاسد
والتباغض والتباعد , ويوم يملأه
الحب والسلام والطمأنينة
والسكينة , ولحظات تمتد فيها
الأيادي بالرحمة والمودة
والأخوة إلى جميع المسلمين , فلا
مذهبية ولا طائفية ولا نظرة
دونية , بل وحدة إسلامية تجمع
جميع طوائف المسلمين .
يقول الخالق عز وجل في محكم
كتابه العزيز : ( محمد رسول الله
والذين معه أشداء على الكفار
رحماء بينهم ) ( الفتح , 29 ) , ويقول
نبي هذه الأمة عليه أفضل الصلاة
والسلام :- " لا تباغضوا , ولا
تحاسدوا , ولا تدابروا , ولا
تقاطعوا , وكونوا عباد الله
إخوانا , ولا يحل لمسلم أن يهجر
أخاه فوق ثلاث " صدق رسول الله
صلى الله عليه وسلم , حينها فقط
سيكون العيد عيدا حقيقيا , أشبه
بحديقة غناء يملأ أركانها
السرور والمسرات , وأرض تتمنى أن
ترتمي في أحضانها الفراشات ,
وموسم تهفو الإنسانية بأسرها
إليه , وتشتاق إلى عودته الأرواح
والقلوب , ذلك لكونه عيدا للأمة
بأسرها , لا يستثنى منه وطن عن
وطن , أو إنسان عن آخر .
فلأجل هذا الحب الإنساني
المتكامل الذي علمنا إياه نبي
الرحمة والإنسانية , وهذه
الأخوة الإسلامية الرائعة , كان
لزاما على كل فرد من أفراد هذه
الأمة , وعلى وجه التحديد في
مواسم أفراحها , أن يستشعر العيد
من خلال معاناة الآخرين , فيهتم
لهمومهم , ويتألم لجراحهم , ويحس
بمعاناتهم , فلا تأخذه مواسم
الأفراح بعيدا عنهم , ولا تجنح
به أشرعة السعادة حيث يتناسى
جراح هذه الأمة وما يعانيه كل
فرد من أفرادها , بل وجب عليه ان
يراعي مشاعرهم من خلال هذه
المناسبات بالوقوف معهم , ومد يد
العون للمحتاجين والضعفاء منهم
.
- ونحن هنا - لا نطالب هذه
الأمة بلبس وشاح السواد , أو
بالتخلي عن الفرح والسرور في
مثل هذه المناسبات الدينية , بل
نطالب بالاقتصاد في مشاعرنا ,
فلا نبالغ بالسرور, ولا نغالي في
الأحزان , بل هي الوسطية في كل شئ
, كما هو حال هذه الأمة , تقودها
أخلاق مبنية على تعاليم الإسلام
الخالد , ودين التكافل والرحمة
التي لم تستثن أيا من مخلوقات
الله في هذا الكون العظيم ,
أخلاق تعلمتها من أعظم قادة
الدنيا , وأكثرهم نبلا ورحمة
وشفقة بالعالمين , يقول عزوجل (
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )
صـدق الله العظيم (الأنبياء
- 107).
فهو النبي الذي أخرج العالم
من ظلام الجاهلية والأنانية ,
وحررها من قيود النفس وأهوائها
وشهواتها , ( حتى إذا خرج الشيطان
من نفوسهم , بل خرج حظ نفوسهم من
نفوسهم , وأنصفوا من أنفسهم
إنصافهم من غيرهم , وأصبحوا في
الدنيا رجال الآخرة , وفي اليوم
رجال الغد , لا تجزعهم المصيبة ,
ولا تبطرهم نعمة , ولا يشغلهم
فقر , ولا يطغيهم غنى , ولا
تلهيهم تجارة , ولا تستخفهم قوة ,
ولا يريدون علوا في الأرض ولا
فسادا , وأصبحوا للناس القسطاس
المستقيم , قوامين بالقسط شهداء
لله , ولو على أنفسهم أو
الوالدين والأقربين , وطأ لهم
أكناف الأرض , وأصبحوا عصمة
للبشرية ووقاية للعالم ) .
وهكذا كانت مدرسة محمد صلى
الله عليه وسلم , ومن بعده
الخلفاء الراشدين والتابعين ,
ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين
, ومن سار على نهجهم وسلك سبلهم ,
شموع يستنار بها في الأخلاق
والمعاملات وطريقة قضاء
المناسبات , ويستطيع العالم
بأسره أن يستشعرها من خلال
معالمها الإنسانية وبكل جلاء ,
يقودها الإيمان الصحيح في
الأخلاق والتصرفات , وميول
أبنائها وتلاميذها , وذلك من
خلال سيرهم وحياتهم وأسلوب
عيشهم , وطريقة فرحهم وحزنهم ,
فهي ثبات أمام المطامع والشهوات
, واستهانة بزخارف الدنيا
وملذاتها ومظاهرها الخاوية ,
وعجائب يضرب بها المثل في
الانقياد والطاعة والأخوة
والتراحم , ولذلك جعلهم الله
شهداء على العالمين , يقول عز
وجل في محكم كتابه العزيز ( ملة
أبيكم إبراهيم , هو سماكم
المسلمين من قبل , وفي هذا ليكون
الرسول شهيدا عليكم وتكونوا
شهداء على الناس ) ( الحج - 78 ).
فكان من أعظم ما زرع في نفوس
أبناء هذه الأمة , الاهتمام بأمر
المسلمين وقضاياهم ومشاكلهم ,
يقول المصطفى صلى الله عليه
وسلم ( من لم يهتم بأمر المسلمين
فليس منهم ) , كما قال صلى الله
عليه وسلم (مثل المؤمنين في
توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل
الجسد , إذا اشتكى منه عضو تداعى
له سائر الجسد بالسهر والحمى) ,
وفي الحديث الصحيح عن رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم قال: ( لا
يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب
لنفسه ) صدق رسول الله صلى الله
عليه وسلم , لذا كان لابد أن يكون
لنا في هذه الأيام عضة , وتفكر في
حال هذه الأمة وما آلت إليه من
تراجع وتقهقر بعد سنوات من
المجد والعزة واعتلاء هرم
القيادة العالمية .
وأن نستشعر في نفوسنا أوضاع
إخوتنا في مشارق الأرض ومغاربها
, فلا تلهينا الأفراح والمسرات
عن آلامهم وأحزانهم , ولا تشغلنا
مواسم السرور عن معاناة الأمة
ومصابها الجلل في عدة مواضع من
جسدها الخالد , كما هو الحال في
أرض الرسالات والطهر فلسطين ,
وفي أرض العروبة والمجد العراق
الحبيب , وما يحدث في لبنان
والسودان والصومال والاحواز
وسبته ومليلة , وغيرها من دول
العالم الإسلامي والعربي
وحواضره .
فكيف ننسى في غمرة أفراحنا
بهذا العيد إخوة لنا في فلسطين
وهم محرومون من الصلاة في أطهر
بقاع الأرض وأشرفها , ونقصد
المسجد الأقصى الشريف ؟ أو أن
ننسى الآلاف من المعتقلين منهم
في سجون الاحتلال الصهيوني
الغاشم , أو المشردين واللاجئين
خارج أوطانهم في بلاد الغربة ,
وهم محرومون من الارتماء على
تراب وطنهم وثرى أرضهم , أو رؤية
أفراد أسرهم وأطفالهم , وكيف
ننسى ما يحدث للشعب العراقي
العربي المسلم في هذه الأيام
التي يفترض أن تكون سعيدة لجميع
أبناء هذه الأمة ؟ وهم يدفعون
ثمن الحرية وضريبة الشموخ أمام
جحافل الغزاة والمحتلين لهذا
الوطن العربي العزيز .
نعم .... يجب ألا ننسى في نشوة
أيام العيد كل شبر من أرض مسلمة
أو عربية مغتصبة , أو أن نتناسى
دموع وآهات كل أم فقدت طفلها
الرضيع برصاصة من يد آثمة
صهيونية أو أميركية أو غاصبة ,
أو طفل حرم من حضن أمه وأبيه في
هذه الأيام الجميلة , وأن نتذكر
كل شهدائنا ومعتقلينا في سجون
الغربة والاحتلال , وعشرات
الآلاف من المعوقين والجرحى
والمرضى , والذين يتطلعون إلى
فرحة عيد وموقف مواساة وأمن من
جوع أو خوف ؟
وأخيرا لابد أن نجعل من
أعيادنا هذه , مناسبة تقتضي من
الأمة أن تعيد حساباتها نحو
نفسها , ونحو مهمتها العالمية
والكونية , وأن تسترجع قيمتها
المعنوية وحاضرها ومستقبلها ,
وتستذكر التاريخ والحضارة التي
صنعتها , كما لابد لأبناء هذه
الأمة من التمسك بتعاليم دينهم ,
وعلى رأسها نبذ الخلافات
الطائفية والمذهبية والعرقية ,
والعودة إلى الوحدة والتوحد تحت
راية القرآن وسيرة المصطفى صلى
الله عليه وسلم , والوقوف معا في
مواجهة جميع التحديات
والمعضلات التي تعانيها الأمة
بأسرها , ابتداء من مشاكلها
الداخلية في مختلف مجالات
الحياة , إلى ما يحيق بها من
أخطار خارجية , يقول تعالى في
محكم كتابه العزيز ( وأن هذه
أمتكم أمة واحدة , وأنأ ربكم
فاعبدون صدق الله العظيم. ـــــــ *باحث
في الشؤون السياسية والعلاقات
الدولية , رئيس تحرير صحيفة
السياسي التابعة للمعهد العربي
للبحوث والدراسات
الإستراتيجية. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |