ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
خروج
النخبة من الحضيض ارتقاء نخبة المفكرين والمثقفين شرط أوليّ لارتقائهم
بالأمة نبيل
شبيب عندما
يتدهور وضع النخبة السياسية
والاقتصادية والمالية في بلد من
البلدان، وتتحول مواقفها
وممارساتها إلى مجرّد سلطة تحكم
لتبقى وتطغى وتستغلّ وتترف.. بل
حتى إذا وقع التدهور وهي تحكم في
نطاق الدستور، أو إن كانت سلطة
عادلة بمقياس ما.. وعندما يبلغ
ذلك التدهور مبلغه فتنعدم الرؤى
المستقبلية القريبة والبعيدة،
وتغيب المخططات الواقعية
التنفيذية، وتسود الفوضى
العشوائية، آنذاك تتحوّل
الأنظار إلى النخب الفكرية
والثقافية في الدرجة الأولى،
وتُعقد عليها الآمال لتصحّح
الأوضاع وتبيّن السبيل وتسدّ
الثغرات وتعوّض الخسائر، وترشد
العقول والأقدام للخروج من حالة
التدهور والمضي بالأمة والبلاد
نحو حقبة تالية. إن ما
نرصده في بلادنا العربية
والإسلامية هذه الأيام يمثل
تدهورا خطيرا على مستوى النخب
الفكرية والثقافية وليس على
مستوى النخب السياسية
والاقتصادية والمالية فقط. لم
يضمحلّ وجود الفكر القويم
المستقبلي المستنير ولا
الثقافة القويمة المتوازنة،
ولكن يبدو المفكرون والمثقفون
مقيّدين بقيود ذاتية وخارجية،
وبات استمساك كل فريق بما لديه
دون الاستعداد للانفتاح ناهيك
عن التلاقح مع الآخر، يحوّل ما
لديه إلى قوقعة منغلقة على
نفسها لا يمكن أن ينتشر تأثيرها
إلى أبعد من حدود إشادة أفراد كل
فريق ببعضهم بعضا.. على أنّ
القيود الخارجية أشدّ مفعولا،
ولا يرتبط مفعولها بسطوة النخبة
السياسية وأفاعيل النخبة
الاقتصادية والمالية نتيجة
تدهور معنى السياسة نفسها بين
أيدي المتسلّطين عليها، بقدر ما
يرتبط بغوغائية من يمضي في
ركابهم ويعتبر نفسه –رغم ذلك-
من نخبة المفكرين والمثقفين. ليس دور
المفكّر بالضرورة أن يهدم ما
يصنعه الانحراف المتسلّط، ولكن
ما لم يسلّط هو الأضواء من خلال
أطروحاته الفكرية على الطريق
المستقيم البديل في ميادين
التسلّط القائم وسائر ما يتفرّع
عنها يفقد أهمّ مقوّمات انتسابه
إلى نخبة المفكّرين.. وليس
دور المثقف بالضرورة أن يقوّض
ما يرصد من ضياع وضلال وانحلال،
ولكن ما لم يبدع في عطاءاته
إبداعا يترك أثره على النفوس
والقلوب والعقول والوجدان
للعودة إلى المسار الصحيح يفقد
أهمّ مقوّمات انتسابه إلى نخبة
المثقفين.. وإذا ما
تحوّلت أفواج من المفكرين
والمثقفين إلى أبواق دعائية
للسلطة، وحماة لانحرافاتها،
وملأت الآفاق بالظلمات
المتراكمة، فمن شأن ذلك أن يزيد
من العراقيل والعقبات في وجه
القلّة من المفكرين والمثقفين
الصادقين المستقلين حقا، إلا
أنّ هذا بالذات ما يمثل التحدّي
الأكبر، فإما أن تشير هذه
القلّة بالبنان والأقلام إلى
العوائق وتعتبرها ذرائع للعجز
المتواصل، أو أن تشير إليها
وتجعل منها دوافع لمضاعفة الجهد
المبذول، نوعا وكمّا، والأهم من
ذلك تلاقيا من وراء تعدّد
التوجّهات على قواسم مشتركة
ليكون من تماسكها "تحالفا"
مشتركا يضاعف قوّة مفعول
أطروحاتها وعطاءاتها تجاه "تحالف"
القوى المنحرفة ومن يسير في
ركابها. •
• • ليس في
هذه الأوضاع التي نعايشها
جديدا، بل هي جولة متجدّدة في
مسار التاريخ الحضاري لكلّ أمة،
ولا بدّ أن تسفر في نهاية المطاف
عن اضمحلال الانحراف وتقويم
المسار، ولكن المسؤولية الأكبر
عن صنع هذا التحوّل وسرعة
تحقيقه هي مسؤولية النخبة
القويمة فكرا وثقافة، وما ينبثق
عن أطروحاتها وعطاءاتها من
معالم تستقطب الشعوب وتستثير
طاقاتها لتظهر من صفوفها قيادات
قادرة على تحويل النظريات إلى
واقع والمبادئ إلى مخططات
والقيم إلى سلوك والعزائم إلى
إنجازات. وبقدر
ضخامة العوائق، وبقدر مفعولها
في نشر الموات على صعيد الشعوب،
وبقدر ازدياد شراسة وسائل
السيطرة والاستغلال والانحراف،
يزداد حجم التحديات، وتتعاظم
تلك المسؤولية، فمن ينهض بها
يلحق بركب المعالم المنيرة في
مسار تاريخ الأمّة، ومن يعجز عن
ذلك يتحوّل إلى جزء من حقبة
الانهيار، وإن اعتبر نفسه شكليا
من النخبة، واعتبر إنجازاته
فكرا وثقافة. ليس
الفكر كتابا يؤلّف ومقالا يدبّج
ومؤتمرا يعقد بل هو نور يضيء
الدروب ويستثير العقول ويحيي
النفوس والعزائم.. وليست
الثقافة لوحة تُرسم وقصيدة
تُنظم ورواية تُحبك إنّما هي
شعلة توقد الوجدان وتحرّك
المواهب وتعبّئ الطاقات
والإمكانات.. وليس
المفكّر والمثقف فردا يتحرّك في
"برج عاجي" يحبس نفسه وراء
جدرانه، بل منبع حياة متدفقة في
جسد أمّته وفي الحقبة الحضارية
التي يعيش فيها بكل سلبياتها
وإيجابياتها.. •
• • لا يمكن
القبول بعطاء فكري وثقافي يقف
عند حدود رصد ما يجري من مآس
كبرى، ويقع من نكبات متوالية،
ويُرتكب من جرائم شنيعة، بحق
الإنسان وحضارته، ووجوده
وكرامته، وحقوقه وحرياته،
وآماله وتطلّعاته، ليكيل
الشتائم واللعنات على من يصنع
المآسي ويسبّب النكبات ويرتكب
الجرائم، ثمّ لا يتجاوز عملية
الرصد ودعوات الهدم، إلى خوض
معركة البناء وسلوك سبيل
الإصلاح. إن ما
يجري في بلادنا ما بين
أفغانستان والسودان، وفي
فلسطين والصومال، وعلى هضاب
العراق والشاشان، وما يجري بين
الشعوب والحكام، وبين ما بقي من
دول عربية وإسلامية وما استوحش
من قوى دولية ومالية، قد بلغ
أقصى مبلغ، واستفحل واستشرى
وولغ في الدماء والكرامات
والمقدّسات والقيم والأخلاق
والمصالح والحقوق والحريات،
فمن ذا الذي يواجه التحديات
الكبرى، ويؤدّي أمانة
المسؤوليات الجسيمة، ويرفع
مشاعل الفكر المرشد والثقافة
الهادية، إذا بقيت مهمة نخبة
المفكرين والمثقفين، محصورة في
حدود اجترار وصف المآسي
والنكبات والجرائم، لشعوب
تعرفها.. وتعايشها.. وتعاني من
ويلاتها، أضعافا مضاعفة، فلا
تحتاج إلى تكرار وصفها، ولا
تكرار إدانتها، ولا تكرار
التبرّؤ منها ومن صانعيها، بل
تحتاج إلى من يرتفع بمستوى فكره
وثقافته، وعطائه وإبداعه، إلى
الدرجة التي تعطيه حق الانتساب
إلى نخبة فكر يرشد على طريق
الإصلاح، وثقافة توجّه لسلوك
سبيل النجاة. ولا
يزال معظم المفكرين والمثقفين
يتحرك اليوم بعقلية الأمس وروح
الأمس، ولا يزال معظم ما يرفعون
به عقيرتهم يدور في أفلاك
توجّهات متناقضة، وأحزاب
متنازعة، وفئات متصارعة، خاضت
جميعا ما خاضت من جولات الأمس،
ولم تخرج منها بحصيلة مرضية لأي
منها، وتتشبّث رغم ذلك بها
وبإخفاقاتها. لا يمكن
أن نرى طوق النجاة للأمّة عبر
طرح ما تطرح فئة ترى الحلّ في
علمانية تزعزت أسسها في أرض
نشأتها الأولى، ولا عبر طرح فئة
ترى الحلّ في قومية طوت
تطوّراتُ القرية الصغيرة التي
تعيش البشرية فيها ما كان من
معالمها، ولا عبر طرح فئة ترى
الحلّ في الإسلام بصيغة مفصّلة
على مقاسها ولا تكاد تستوعب
أحدا سواها.. من يريد
بناء صرح حضاري جديد لهذه
الأمّة لا بد أن يكون في
أطروحاته تحت أي عنوان ما يجمع
سائر عناصر هذه الأمّة، وما
ينطوي على التعامل القويم مع
سائر معطيات عالمه وعصره، وما
يُقنع من خلال قيمته الذاتية
المتميّزة الصديق ويوجب على
الخصم الإقرار بسلامته راضيا أو
كارها، وما يتفاعل مع التحديات
بعطاء أكبر من التحديات، ومع ما
يشكو منه من قيود بقوّة تكسر
القيود، وما يتذرّع به من موات
الشعوب بحياة جديدة تتدفق عبر
عطاءاته في أوصال الشعوب.. ثم أن
يكون قادرا من وراء ذلك على رؤية
القواسم المشتركة بين أطروحاته
وأطروحات سواه. لا جدوى
من حصر الفكر في جدران سبك
العبارات السليمة مضمونا، ولا
من حصر الثقافة في إبداع الجديد
شكلا ومظهرا، فقوة الفكر في
مفعوله وقوة الثقافة في
تأثيرها، ولا معيار أصدق من
معيار أن تكون تلك القوّة أكبر
من تحدّيات قائمة، وأعظم من
مسؤوليات راهنة، وأقدر على
اختراق العوائق من قدرة صانعيها
على ترسيخها، ولا يعتذر بضخامة
التحديات وجسامة المسؤوليات
ورسوخ العوائق.. إلا عاجز فكرا
وثقافة عن تجاوزها، ولا تغيّر
مسارَ التاريخ وتصنع لحقبة
حضارية جديدة أساسا جديدا نخبةٌ
من العاجزين فكرا وثقافة عن
تجاوز ما تواجهه بين أيديها،
إلا عبر كلمات الإدانة والشكوى. •
• • كم ذا
تحدّث المفكرون والمثقفون
والدعاة والعلماء عن الانهيار
والتجزئة والاستعمار والخيانات
وعن النكبات والنكسات والهزائم
والمآسي وعن الاستبداد
والاستغلال والفساد.. وقال
جلّهم أن لم يكن جميعهم إنّ
بداية الصعود من الحضيض الذي
وصلت بلادنا وشعوبنا إليه هي في
الفكر والثقافة، فإلى من
يتحدّثون وعلى من يعوّلون ومنذا
الذي يقصدون، إن لم يكن هم
أنفسهم وهم الذين يعتبرون فكرهم
وثقافتهم برجا عاجيا يطلّون من
نوافذه على ما يرصدون في واقع
أمتهم وبلادهم وعالمهم وعصرهم؟.. لن
يقوّم مفكّر اعوجاج الفكر من
حوله ما لم يبلغ ذلك في فكره
أولا، ولن يصلح مثقف انحراف
الثقافة من حوله ما لم يتمكّن من
ضمان السلامة في ثقافته أولا،
ولن يجد مفكر أو مثقف الوسائل
لذلك هكذا بين يديه تنتظر من
يأخذ بها، بل عليه هو أن يبتكر
ما يفتقده منها، ويعوّض به عمّا
اغتصبه سواه ليوظّفه في تحقيق
مآرب ضالّة منحرفة. لم تعد
المهمة الفكرية والثقافية
الأولى المطلوبة هي مهمّة إصلاح
ما حولنا بل إيجاد الشروط في
أنفسنا لإصلاح أنفسنا أولا كي
يتحقق فعلا لا كلاما الارتفاع
بأنفسنا إلى مستوى المهمة
الملقاة على عاتقنا، في بلادنا
وعالمنا وعصرنا. إن من
لا يساهم بنصيب في ذلك لا يمكن
أن يصدق عليه وصف النخبة، مهما
حصل على ألقاب وجوائز وتكريم
ومناصب، فنخبة المفكرين
والمثقفين في الحقبة التي
نعايشها من مسار أمتنا وبلادنا
التاريخي ما بين الانحطاط
والارتقاء، هي نخبة أولئك الذين
ينهضون بهذه المهمة حقّ النهوض،
في أنفسهم أولا، ليحملوا
أعباءها وتبعاتهم على عاتقهم
ثانيا، وليشهد لهم بدورهم هذا
آنذاك ما يتحقق من تغيير حقيقي
على أرض الواقع، قبل أن يشهد سجل
التاريخ لهم.. أو عليهم. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |