ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
يوم
حقوق الإنسان وما بقي منها ما
بين انحطاط راهن.. وارتقاء مأمول
نبيل
شبيب مضى 62
عاما على إصدار "الإعلان
العالمي عن حقوق الإنسان"..
وفي واقع الإنسان اليوم الكثير
ممّا يدفع إلى التساؤل بمرارة
عمّا بقي من مفعول مبادئ ومثل
وردت فيه، وكانت متميّزةً –بغض
النظر عن بعض الاختلاف حول بعض
المضامين- بصياغة محكمة، ورؤى
مستقبلية، وتفاصيل دقيقة،
وأضيف إليها المزيد لاحقا في
مواثيق وبيانات عالمية
وإعلانات أخرى.. فعلام لا ينعكس
ذلك كلّه على أرض الواقع كما
ينبغي، بل علام يزداد التدهور
بمعايير الإنسان وكرامته
وحقوقه وحرياته، يوما بعد يوم،
ويشمل المزيد من ملايين البشر
عاما بعد عام، رغم مرور زهاء
جيلين على الاحتفاء بذلك
الإعلان العالمي، ورغم أنّنا
نعيش –كما يقال- في ظل حضارة
إنسانية تفوّقت تقنيا بثورات
الاتصال والتواصل على سائر ما
سبقها؟.. اعتقال
الإنسان يمكن أن
ننشغل 62 عاما أخرى أو أكثر
بالمطالبة بحقوق الإنسان
وحرياته كما يقرّرها الإعلان
العالمي من عام 1948م، فهل وجدت
صياغتها من أجل المطالبة بها
باستمرار، أم باعتبارها أسسا
بدهية تحتاج إلى صياغة وضبط
فحسب؟.. بل إنّنا لننشغل على أرض
الواقع انشغالا أكبر بكل جزئية
صغيرة وكبيرة ترتبط بصياغة
الحقوق والحريات، وبتطبيقاتها
هنا أو هناك، ولكن بعيدا عن
السؤال الجوهري: لماذا يستمر
التدهور؟.. مدخلا إلى السؤال
الأهمّ: كيف نخرج بالإنسان نفسه
ممّا حلّ به في ظل المنظومة
الدولية الحالية؟.. ننشغل
بالجدل حول ارتفاع منسوب ضمان
الحقوق والحريات في دول غربية،
لنجعل من ذلك "بدهية"
مسلّما بها، ثم لنطالب بعضنا
بعضا بأن نحذو حذوها، ونمضي
خلفها، في أي جحر ضبّ تدخله..
بدعوى أنّ في دخوله "كرامتنا
وحقوقنا وحرياتنا"!.. ننشغل
–في أفضل الأحوال- بتوجيه الغضب
الأكبر إلى الاستبداد
والمستبدين، فهم سرّ كلّ بلية،
وسبب كلّ رزء.. ومع عدم تبرئتهم
ممّا يحملون المسؤولية عنه، لا
ينبغي أن يكونوا وحدهم "شمّاعة"
لكلّ شكوى، لا سيما من جانب
أولئك الذين يريدون صرف النظر
عن مسؤولية عدوّ دولي ومستغلّ
خارجي!.. ننشغل
حتى بالجدل حول إنسانيّة أولئك
الذين يوزّعون فتاتا من
مساعدات، لا يبلغ حجمها كلّه من
قبل نشأة هيئة الأمم المتحدة
ومنظماتها حتى اليوم، عُشر
معشار ما سلبه ولا يزال يسلبه
"المانحون" من خيرات
العالم وثرواته، وصنعوا به
ترفهم الفاحش، ثمّ يمنّون على
أصحاب تلك الخيرات والثروات بما
يتصدّقون به عليهم، ويقيّدون به
أيديهم وأرجلهم ويلوون أعناقهم!.. بل
ننشغل بالجدل حول المسؤولية
الذاتية للإنسان الفرد في
بلادنا إلى درجة الزعم أنّه هو
السبب في تعرّضه للمظالم
والمفاسد، ولانتهاك الحقوق،
ولمصادرة الحريات.. كأنّه لا "يستحقّ"
سوى ذلك، أو أنّه غير مؤهّل لغير
ذلك، أو أنّه ليس من جنس
الإنسان،ـ أو أنّه خلق من طينة
أخرى غير التي خُلق بقية البشر
منها!.. ولا
نجهل حقيقة مسؤولياتنا عن
خلافاتنا الجانبية الانتحارية،
ونزواتنا الكارثية.. ولا عن
تعطيل طاقاتنا وكفاءاتنا
وأدمغتنا المهجّرة خارج الحدود
والمهمّشة داخل الحدود.. إنّما
هي اتهامات عنصرية خرقاء أن
يقال إنّ الإنسان في دائرتنا
الحضارية، العربي، أو المسلم،
أو المشرقي -سيّان ما التسمية-
لا فائدة تُرجى منه، ولا يستطيع
تحقيق إنجاز، ولا يصلح معه سوى
الاستبداد.. فاستعداده
للاستبداد والاستغلال والقهر
والقمع وراثي، كامن في تكوينه
التاريخي الاجتماعي، منذ
فراعنة ما قبل العصر الحضاري
الغربي الملوّث بألوف السنين
حتى فراعنة الانحطاط المحليّ
المعاصرين!..
ترويض
الإنسان لا جدوى
بذلك المنطق إذن من حديث "عاطفي"
عن عدالة الفاروق وسماحة صلاح
الدين، وعن "غيمة" الرشيد و"قسطنطينية"
الفاتح، وعن علماء وفقهاء
وأطباء ومهندسين ومفكرين
وفلكيين وسواهم!.. الأولى
بنا في نظر بعضنا أن نبذل ما
نستطيع الآن للحاق بركب الغرب
المتحضّر، تعديلا لمناهجنا
المدرسية، وإفسادا لأذواقنا
الفنية، عسى نصل كما وصل إلى
القمر والمريخ.. وقد وصل أيضا
إلى هيروشيما وناجازاكي، وعسى
نستفيد من اكتشافه العناصر
الوراثية.. وقد اكتشف أيضا ما
تصنع قنابل النابالم والطائرات
المقاتلة في فييتنام ولبنان
والقنابل العملاقة والطائرات
دون طيار في أفغانستان
وباكستان، وعسى نقلّده في
الانتخابات وفصل السلطات..
وننسى دير ياسين وتسيبرينيتسا،
والعراق وفلسطين، والصومال
والسودان، وعسى نحظى برضاه إذا
زعمنا له البراءة كما يزعمها
لنفسه.. رغم "ويكي ليكس" وما
سبقه وما يمكن أن يلحق به، وإذا
صدّقنا رفضه للإرهاب
والاستبداد، وسوى ذلك من أوبئة
ولدت في أحضانه وأحضان من
يحتضنهم ويقامر عليهم!... لقد
عايشنا خلال جيلين ماضيين حقبة
"اعتقال الإنسان"، سياسة
واقتصادا وفكرا وعسكريا،
ونعايش اليوم حقبة ترويضه داخل
المعتقل الكبير، فلنوظّف
أنفسنا لاعتقال بعضنا بعضا،
وملاحقة بعضنا بعضا، ومقاتلة
بعضنا بعضا، وتجنيد بعضنا شرطةً
محلية ومخابرات وآلات تعذيب،
لحماية مصالح العدوّ "البريء"
ومطامعه واعتداءاته واستغلاله..
من بعضنا الآخر، بل وصل ترويض
أنفسنا بأنفسنا إلى درجة تبديل
مناهجنا وأذواقنا وفننا وأدبنا
وعقلنا ووجداننا.. بدعوى رفع
مستوانا، ولا يبدو أنّه سيرتفع
في ميدان حقوق الإنسان وحرياته
بالذات، إلاّ بعد أن يستفحل في
ديارنا، كمّا وكيفا، ما بدأ
ينتشر في نطاق مسيرتنا وراء مَن
وصل قبلنا عبر مناهجه
وانحرافاتها إلى وأد الأطفال
والناشئة أحياء في أضرحة
الاعتداءات الجنسية، وإلى
اغتيال الأسرة والمجتمع بخناجر
المخدرات والموبقات، وإلى
استباحة الإنسان، جنس الإنسان،
من ذكر وأنثى.. وخنثى، بلا حساب،
وجميع ذلك ومزيد عليه باسم
الحقوق والحريات!.. في قفص
الصراع إن
البقية الباقية من الحقوق
والحريات في البلدان الغربية
نفسها لصالح "الإنسان الأبيض"،
الإنسان الغربي الفرد، تتآكل
يوما بعد يوم على مذبح عولمة
الرأسمالية المتوحّشة.. وضاع
مضمون كثير من المنجزات
الحقيقية بتفريغه من محتواه
والحدّ من مفعوله، بما يشمل
الانتخابات وفصل السلطات
والتداول على السلطة وسيادة
القانون واستقلال القضاء وحرية
الكلمة. لماذا؟..
ما
السرّ وراء ذلك التناقض الفجّ
بين نصوص البيان العالمي لحقوق
الإنسان وواقع الإنسان حتى في
الدول التي وضعت صياغة ذلك
البيان؟.. يحسن
الوقوف أولا عند ملاحظة جوهرية
على نشأة البيان العالمي لحقوق
الإنسان، فما نزال نعايش آثارها
حتى اليوم. لقد
كانت ولادة هذا الميثاق الدولي
في رحم ما أسفرت عنه جولة صراع
دموي أخرى في تاريخ البشرية،
جولة الحرب العالمية الثانية
المدمّرة، وكان جلّ محتوياته
منبثقا عمّا سبق أن وثقته
الثورة الفرنسية وحرب
الاستقلال الأمريكية، أي ما ولد
في حينه أيضا عبر جولات صراع
دموي سابقة. هذا –بغض
النظر عن النوايا- في مقدّمة ما
رسّخ مفهوم طريقة التطبيق
المطلوب للمبادئ والمثل، وهو أن
يكون تحصيل الحقوق والحريات عبر
"الصراع"، بدءا بالمواطن
الفرد، مرورا بفئات بشرية معينة
كالعمال، والنساء، والفقراء،
والمتقاعدين، والمشرّدين، وحتى
الأطفال، انتهاء بحقوق
المجتمعات والدول. من هنا
انتشرت مقولات ذات مغزى، أصبحت
في كثير من الأحيان شعارات
وعناوين لحملات ومبادرات لا
تنقطع على طريق "تحصيل الحقوق"،
مثل: "الحقوق تُنتزع انتزاعا
ولا توهب".. وكانت الحصيلة
اغتصاب الحقوق وتحصين الاغتصاب
والعدوان بقوة كافية للحيلولة
دون "انتزاعها". ومن تلك
الشعارات في دائرتنا المعرفية:
"ما مات حق وراءه مُطالِب"،
وماتت الحقوق رغم المطالبة بها
بموت وجدان جماعي تجاه من
يغتصبها.. بل صيغ بعض ذلك شعرا:
"وللحرية الحمراء باب.. بكل يد
مضرّجة يُدقّ"، فصار الأصل أن
تعتقل الحريات فإن لم تجد يدا
تُضرّج بالدماء بقيت في
المعتقل، وإن وجدت للمقاومة
اعتقلت وحوصرت. بل على
محور ما تعنيه هذه الشعارات من
أن تحصيل الحقوق يتطلّب خوض
جولات صراع، تكوّنت الحركات "المدنية"
و"التحررية"، كالحركة
النسوية، والحركات النقابية
والعمالية، وحركات التحرير من
الاستعمار، والتحرّر من
الاستبداد، وعلى قدر "قوّتها"
–وبالأحرى ضعفها بالمقارنة مع
خصومها- كان تحصيل الحقوق
والحريات محدودا، وبقي هضمها
ومصادرتها هو القاعدة الأعمّ
الأشمل. إنّ في
مقدّمة ما رسّخته ثقافة الصراع
هذه في ميدان حقوق الإنسان
وحرياته، هو تحويل مهمّة
تحصيلها من المجتمع المسؤول
عنها، إلى الأفراد والفئات
المحرومين منها.. فدخلوا في
معادلة مستحيلة، فهم ما حُرموا
منها إلاّ نتيجة خلل في موازين
القوى لصالح الأطراف المغتصبة
لتلك الحقوق والمتعدّية على تلك
الحريات، معتمدة في ذلك على
امتلاكها من أسباب القوّة ما لا
يملك مثلَه أكثر المحرومين
والضحايا، فكيف تكون حصيلة
الصراع بين الجانبين، عندما
تُترك كل "فئة ضعيفة"
بمفردها مع قضيتها الذاتية أمام
"خصم عنيد" محصّن؟!.. في غمرة
الافتتان بثقافة الفرد على حساب
ثقافة الجماعة، والمسؤولية
الفردية على حساب مسؤولية
المجتمع، تحوّل استيعاب منظومة
الحقوق والحريات –سيّان ما
الصياغة التي توضع لها وكم هي
محكمة وجميلة- ليصبح قائما على
أساس أنّ الحقّ شأن فردي، وأن
الحرية شأن فردي، وفي أقصى
الحدود شأن فئات مصلحية تتلاقى
على قاسم مشترك، فمن يسعَ لذلك
يصل إلى حقه وحريته.. ولكن شريطة
أن يملك أسباب القوّة الكافية
لذلك.. وهو لا يملكها غالبا،
وعليه أن يخوض جولة صراع ضدّ من
اغتصب حقوقه أو تعدّى على
حرياته، أي الذين يملكون من
أسباب القوة الأمضى والأوسع
نطاقا ما يبقيهم في موقع "المنتصر"
دوما، وما كان يفيد تجمّع
الضعفاء في تنظيمات مصلحية
ليشتدّ أزرهم ببعضهم بعضا،
فالحلف الذي يواجهون أصغر عددا
ولكنّه أقوى بما يمتلك من وسائل
القهر والغلبة، وإن دارت جولات
الصراع في إطار "ديمقراطي"!..
ثقافة
عنصرية متحضّرة سيّان
ما هي النظرة إلى صياغة حقوق
الإنسان وحرياته في البيان
العالمي سنة 1948م، تبقى قيمتها
الحقيقية رهينة "المحبسين"،
محبس ثقافة الصراع التي جمّدت
مفعولها في قفص شرعة الغاب،
ومحبس الثقافة العنصرية التي لم
تدع ميدانا من ميادين العلاقات
الدولية إلاّ وهيمنت عليه،
فأصبحت الحصيلة على مستويين
مزدوجين متزامنين، مستوى
الفئات الأضعف تجاه الفئات
المهيمنة داخل المجتمع الواحد،
ومستوى المجتمعات الأقوى تجاه
المجتمعات الأضعف على مستوى "الأسرة"
البشرية. لم
تنتشر "الثقافة العنصرية"
في الميادين التقنية والعلمية
والصحية والاقتصادية والمالية
فحسب –ممّا عبرت عنه عناوين
صارخة مثل "حضارة الرجل
الأبيض"- بل انتشرت عبر
عنصرية "سياسية/ عسكرية"
مباشرة أيضا، فالدول الأقوى -المنتصرة
اعتمادا على تفوّق قوتها
العسكرية في الحرب العالمية
الثانية- حصّنت نفسها تجاه أي
قرار دولي يمكن أن يدينها.. مهما
صنعت، وقد صنعت الكثير ممّا
يستحق الإدانة على مدى 62 عاما
مضت، وانتهكت منفردة ومجتمعة
جميع ما تمت صياغته من حقوق
وحريات دون استثناء، وما انعقد
من مواثيق واستقر من قوانين
دولية وأعراف إنسانية، ولم تجد
محاسبة أو عقابا.. ومن أغرب ما
انحدر إليه ترويض الإنسان
المعتقل على ذلك، أن يطلق الطرف
الضحية وصف الشرعية الدولية على
صنيع أولئك الذين لا ينقطعون عن
انتهاكها وهم يزعمون تمثيلها. لقد
مارس هؤلاء الاستيلاء على ثروات
"القارة السوداء" وسواها،
ومارسوا الحروب المباشرة
والحروب بالنيابة ضد "دول
مارقة وشريرة"، ومارسوا
المقاطعة والحصار كوسائل في
مواجهة من "لا يخضع".. كما
مارسوا مؤامرات إسقاط أنظمة
منتخبة وتنصيب أنظمة موالية،
واغتيال رؤساء لا يرضون عنهم
وعلماء يهدّدون احتكارهم لأحدث
التقنيات، وما زال جميع ذلك
ومزيد عليه يجري، بلا حساب ولا
عقاب.. على حساب الإنسان "الآخر"،
وعلى حساب الشعوب "الأخرى"،
في النسبة الأعظم من مساحة
المعمورة، فيحطّم أسباب
المعيشة الكريمة لدى النسبة
الأعظم من "الأسرة البشرية"،
لحساب فئة عنصرية تعتبر نفسها
هي "المجتمع الدولي" وهي
"الأسرة الدولية" في عالم
ما بعد الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان، شأنهم في ذلك شأن أيّ
فريق من "العسكر" يقوم
بانقلاب عسكري، في دولة من
الدول، ويعتبر نفسه "مجلس
قيادة الثورة" الآمر الناهي،
والمشرّع والمنفذ، والقاضي
والجلاّد!. أصبح
لأولئك الذين يمارسون أخطر
ألوان التمييز العنصري،
السياسي/ العسكري، أدوات ووسائل
تشكّل مع بعضها بعضا احتكارا
لأسباب القوة، مع ادّعاء الحقّ
–العنصري أيضا- أنّهم هم من
يحكمون عبر تقاريرهم السنوية
الدورية وعبر مخابراتهم
الإجرامية المتفوّقة في صنعة
الأكاذيب، على كلّ من يسعى
لامتلاك سلاح رادع، أو يجرؤ على
التمرّد إزاء استغلال مادي
قاتل، أو يثور على ظلم فاضح.. أو
يرفض طاعة أوامر يجري تبليغها
عبر "ديبلوماسيّ صغير" لا
يعرف من الديبلوماسية إلا ما
يسمّيه سيّده: "الجزرة والعصا"!..
كانت
الأداة الأولى لاغتيال البيان
العالمي لحقوق الإنسان من قبل
ميلاده، مخطّط تحويل المال من
وسيلة للتعامل بين البشر إلى
سبب من أسباب القوّة للهيمنة،
فاستبق الإعلانَ العالمي لحقوق
الإنسان، ترسيخُ نظام مالي
واقتصادي عالمي، على دعامات "أنظمة
إدارية" لعمل مؤسسات وهيئات
دولية من قبيل صندوق النقد
الدولي والمصرف المالي العالمي
ثم –في ظل العولمة- منظمة
التجارة العالمية، لاحتكار
أسباب القوة المالية، والتحكّم
من خلالها.. بالإنسان، جنس
الإنسان، عبر شبكة رهيبة
البنيان بين أصحاب المال، من
مراهنين ومضاربين ومرابين،
وصنّاع السلاح الهمجي، وسدنة
نظام هيمنة سياسي دولي، بل
امتدت أذرع الأخطبوط إلى مختلف
ميادين الحياة الإنسانية
الكريمة، كقطاعات الزراعة
والصناعة، فأصبحت المجاعات
والكوارث بوابة لتخفيض عدد فريق
"كبير" من البشر.. من غير
جنسهم، وأصبح حتى القمح غذاء
للهيمنة.. لا لمعيشة الإنسان،
وأصبحت الوسائل التقنية
الحديثة عصا للتأديب والحصار..
لا الرقيّ بالإنسان، وأصبح جلّ
المنظمات الدولية، والمؤتمرات
العملاقة، أدوات لترسيخ أسباب
الانحراف في الواقع الراهن، على
دعامتي ثقافة الصراع والثقافة
العنصرية المحوريتين في "شرعة
الغاب". هل من
مخرج؟.. لم تعد
هذه الصورة الرهيبة بجميع
مشاهدها الإجمالية والتفصيلية،
مجرّد صورة يخطّها قلم كاتب
غاضب أو ريشة فنان ثائر، أو
إبداع ضمير إنساني حيّ.. فمن
أراد توثيق الوثائق وشهادة
الأرقام لم يعد يحتاج إلى البحث
طويلا، فكل ميدان من ميادين
الحقوق والحريات الإنسانية
ينطوي على معلومات وفيرة منشورة
معروفة، تتجاوز قدرة كلّ قلم
وريشة وإبداع على مجرّد تعدادها..
فالجائعون ربع البشرية أو
خمسها، والقتلى من الأطفال بؤسا
ومرضا وإجراما حربيا تعدّهم
الإحصاءات مع كل ثانية وليس مع
كل يوم أو شهر أو سنة، وضحايا
الاغتصاب والإدمان والقتل
العشوائي في المدارس والقتل
البطيء في عمليات الحصار تملأ
صورهم الشاشات وتقتحم البيوت
مهما أدمن أصحابها على متابعة
مشاهد الرقص والطرب. صورة
رهيبة، وأرهب ما فيها أنّها
واقع نعايشه وليست فيلما
سينمائيا تدور أحداثه وتنتهي مع
انتهائه، وما لم نستوعبها واقعا
قائما لا يمكن أن نرى المخرج
منها لاستعادة إنسانية الإنسان
وكرامته وحقوقه وحرياته، سيّان
ما لونه أو جنسه أو لغته أو
موطنه أو معتقده. لا بدّ
أولا من الإقرار بأنّ أبواب "الترقيع"
موصدة، ولكنّ أبواب "التغيير"
لا يمكن أن توصد ما دامت الأرض
والسماء، فلا بدّ من تغيير جذري
في التصوّرات والأفكار، لتولد
في حراكها قيادت التغيير.. لا بد
من فهم الحقوق والحريات فهما
آخر يستبعد كلّ أثر من آثار
ثقافة الصراع وثقافة العنصرية
في استيعابها وفي العمل على
تحقيقها. ليست
الكرامة حقا ينتزع.. بل هي واجب
على المجتمع البشري، بمسؤولية
جماعية مشتركة، ألاّ تتعرّض
كرامة فرد واحد فيه للانتهاك. ليست
الحقوق حقوقا فردية يعجز
الضعفاء عن تحصيلها بل هي
واجبات جماعية يأثم من لا يعمل
على تحقيقها لغيره قبل نفسه. ليست
الحريات سلعة توهب أو تشترى أو
تنتزع انتزاعا، بل هي أصيلة مع
نفخ الروح في كل جنين، لا تفارقه
حتى تفارق روحه جسده، فلا يعاقب
من يعجز عن الدفاع عنها تجاه
المستبدين بتركه وشأنه أسيرا
للاستبداد والاستعباد والقهر،
بل هي مسؤولية المجتمع كلّه أن
يعاقب من يمارس الاستبداد
والاستعباد والقهر. ولا
يمكن لقوة من صنع أهل الأرض
جميعا أن تحيي المسؤولية
الذاتية، لتنشأ عنها المسؤولية
الجماعية، كما تصنع الأديان من
وحي السماء، عبر قوّة ذاتية
داخلية في أعماق القلوب.. فهي
سرّ كينونة الوجدان، وهي جذوة
ما نسمّيه الضمير العالمي، فمن
يحارب العقائد، تحت أي عنوان،
إنّما يخدم استمرار هيمنة البشر
على البشر واستعباد فريق لفريق،
وهو آثم بحق نفسه وآثم بحق غيره. ومن
يستوعب الكرامة والحقوق
والحريات على أنّها واجبات
جماعية، يعمل على الفور من أجل
إيجاد الآليات الجماعية
لضمانها لكل إنسان، ذكرا كان أو
أنثى، طفلا كان أو بالغا، فقيرا
أو غنيا، ضعيفا أو قويا، بل
مؤمنا كان أم كافرا، ولا يمكن أن
يحصل "الجميع" على كرامتهم
وحقوقهم وحرياتهم المشروعة، ما
لم يعمل "الجميع" أو من
يحمل صفة الإنسان من بين "الجميع"
معاً على صيانتها للجميع، فلا
يخوض أحد جولة من أجل نفسه إلا
في صيغة جولة من أجل الجميع، ولا
يمكن أصلا أن يبلغ فردا القدرة
على تحصيل شيء من ذلك لنفسه، في
ظل شرعة الغاب، شرعة الصراع
العنصري، إنّما يستطيع "الجميع"
–وهم الكثرة الكاثرة- أن يمنعوا
القلّة المنحرفة من تطبيق شرعة
الغاب على الكثرة الكاثرة. هي رؤية
يصنعها الأمل في مستقبل إنساني
كريم، وللأمل قوّة تصنع الأفكار
والتصوّرات، وتصنع الأحلام
والثورات، وينبثق عنها تيّار
التغيير الجذري المنشود، ما لم
يبق التعبير عن الأمل مجرّد
صيحة في واد.. ولئن بقي كذلك
فستبقى السيطرة لقلّة من
الذئاب، وسيبقى الضحايا أولئك
من الكثرة الكاثرة الذين
يصمتون، أو يتكلّمون.. ولكن لا
يتلاقون ويعملون. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |