ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 03/01/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

 

جاسم درويش فخرو

بعض ذكريات(*)

بقلم الأستاذ عصام العطار

كان أول ما رأيت الشيخ جاسم الدرويش رحمه الله تعالى في مأدبة أقامها له الأخ الشيخ زهير الشاويش في بيته في دمشق ، وكنت عرفتُه من قبل بما سمعته عنه من العلماء والأساتذة الفضلاء من « الإخوان المسلمين » وغيرهم ، الذين شرّدَتهم عن بلدهم وأهلهم المحنة ، ففتح لهم قلبَه كما فتح لهم أبوابَ العمل العلميّ والتعليميّ والدعويّ في « قَطَر » وكان هو رئيس لجنةِ معارفها ، فآوى كثيرين منهم أَحْوَجَ ما يكونون إلى العمل والمأوى ، وأفادَهم ، وأفادَ بهم بلدَه وأجيالَ بلدِه ونهضةَ بلده أثمنَ فائدة ، وكان لهم أخاً وصديقاً كما كان رئيساً ومسؤولا

*    *    *

كان الشيخ جاسم طويلَ القامة مهيبَ الطّلعة ، مُشْرِقَ الوجه ، أنيسَ المحضر ، ناطقَ النظرات ، يملأُ عينَك إذا رأيتَه ، فإذا جلستَ إليه وامتَدّتْ بكما الجلْسَة ، وامتدَّ بكما الحديث ، وتشعّبتِ الموضوعات ، ملأ قلبَك بمعرفتهِ وفهمه ، وذكائهِ وحكمته ؛ وأدبهِ وذوقهِ وتواضعه ..

ولقد نشأتْ بيننا منذ التقينا في دمشق مودة وصداقة ما زادتْها الأيامُ والسنواتُ إلاّ رُسُوخاً ونماءً وثقة ، فكان من أقربِ الناسِ إليّ ، وكنتُ من أقرب الناس إليه ، ومن أعرف الناس بأحواله وأفكاره وآرائه

ومما زاده محبة وتقديراً عندي بُعْدُه الروحي -إن صحّ هذا التعبير- ، وما شهدتُ من عبادته وخشوعه لربه ، فقد جَمَعنا الحجُّ أكثرَ من مرّة فكُنا لا نكادُ نفترق ، كنّا نجلسُ في الحرم جنباً إلى جنب ، أتوجّهُ إلى الله بما أُحِبّ ، ويُقْبل على الله بقلبه وفكره ولسانه يتلو كتابَه العزيز بشغفٍ وخشوعٍ قليل المثال

*    *    *

عندما عدت بعد أداء فريضة الحج سنة 1964م عن طريق لبنان ، كما سافرت إلى الحج عن طريق لبنان ، ودخلتُ الحدودَ السورية ، أخبرتْني سلطاتُ الأمنِ على الحدودِ بقرارِ مَجْلِسِ الرئاسةِ السوريّ بمنعي من دخولِ البلاد .. وهذا هو أولُ دربِ الغربة والتشرّد ، الذي امتدَّ مِنَ الشرقِ إلى الغرب ، ومِنَ الشبابِ إلى الشيخوخة ، ومن الصحة إلى المرض ..

وبقيتُ مُكْرَهاً في لبنان

وفي لبنان كَثُر لقائي بالشيخ جاسم وبخاصةٍ عندما كان يأتي إلى لبنان مع الشيخ علي آل ثاني حاكم قطر في ذلك الوقت رحمه الله تعالى

ومرضتُ في لبنان مرضاً شديداً طويلاً فأُدخلت « مستشفى البربير » والدكتور نسيب البربير من وجوه السنة في لبنان ، وقد كان من قبل وزيراً ، أو صار من بعد وزيراً ، لم أعد أتذكر ، وكان الشيخ جاسم يزورني كلَّ يوم في المستشفى ، إلى أن كتب الله تعالى لي الشفاء

قلتُ كنتُ ألتقي بالشيخ جاسم كثيراً وبخاصة عندما كنتُ أزورُ مع الشيخ زهير الشاويش الشيخ علي آل ثاني حاكم قطر الأسبق في قصره : « الريّان » في بلدة عاليه في لبنان .

وكنتُ تعرفت على الشيخ عليّ وتعرّف عليّ في سورية قبل أن أخرج منها ، وكان يحتفي بي وبزيارتي ، ويستقبلُني استقبالاً لا يَسْتقبل بمثله إلاّ كبار الأمراء ، ويختصّني دون سائرِ الزائرين بحليبِ النوقِ الحريصِ عليه ، والذي يَحْمل من أجلهِ نِياقَهُ من بلدٍ إلى بلد ، إلى لبنان عندما يكون في لبنان ، وإلى سويسرا عندما يكون في سويسرا

ولا أنسى أبداً مرةً قطع فيها جلسته مع زوّاره ودعاني إلى غرفة من غرف القصر الداخلية ، ودعا معي صديقَه ورفيقه وموضع ثقته الشيخ جاسم . أجلسني بجانبه بمودة وبساطة وحنان ظاهر وقال لي برقة ودون أيّ تكلف

اسمع يا عصام أنتَ تعيشُ في خطر مؤكّد ، وأعداؤك يتربّصون بك من كلّ مكان ، وستُستَشهدُ كما استُشْهدَ الحسين . أنتَ يا عصام أمانة في أعناقنا ، ودمُك غالٍ علينا ، فلا تَفْجَعْنا في نفسك . تعالَ إلى عندنا في قطر ، سنهدي إليك فيلا مناسبة للسكن ، والمبلغ الذي تراه لنفقاتك ونفقات من لعلك تعولهم في سورية ، وهناك الهاتف تتصل به متى تشاء وبمن تشاء في أيّ مكانٍ من الأرض

ولَمّا رأى عدمَ تجاوبي ، وسمع اعتذاري ، نادى الشيخ جاسم وقال :

- تعال يا جاسم ساعدني عليه فلعلّك تقدر على إقناعه أكثرَ مني

وجاء جاسم وحاول كما حاول الشيخ عليّ ، ولكنني أصررت على الرفض والاعتذار رغم ما كان في ذلك من حرج وإحراج

رحمك الله يا شيخ علي آل ثاني

إنني لا أنسى أبداً عاطفتك الأخوية والأبوية الصادقة ، ومحاولتك النبيلة الخالصة ، وإن لم اعتذرت عنها ولم أقبلها ، وأصف هذه العاطفة بالأبويّة مع الأخويّة ، لأنّ الشيخ عليّ والشيخ جاسم أكبر منّي سناً بأكثر من ثلاثينَ سنة

ولما زارني الشيخ جاسم في مدينة « آخن » في ألمانيا الغربية بعد سنوات من إخراجنا من لبنان ، وجاء معه بصهره السيد محمد الأنصاري سفير قطر في ألمانيا في ذلك الوقت ، وبنته زوجة السفير ، وكانت زوجتي الشهيدة أم أيمن لا تزال في قيد الحياة ، قَصَّ الشيخ جاسم على صهره وبنتِه في جلستنا العائلية الصميميّة قصصاً من حياتنا في بلادنا ومُغْتَرَباتِنا ما كنتُ أظنّه يعرفها ، وقصَّ فيما قصّه خبرَ ما عرضَه عليَّ الشيخ علي آل ثاني من عروض كبيرة كريمة لم أقبلها ، وقال لهما بعاطفة صادقة وتأثر بالغ : وصيتي إليكما في ألمانيا عصام العطار وأسرته .. من كان يحبني من كان يبرّني من كان يحرص على رضاي فليكن في خدمة هذه الأسرة

*    *    *

ولأَعُدْ إلى لبنان قبلَ إخراجي من لبنان ، وعندَ إخراجي من لبنان ، وبعدَ إخراجي من لبنان

فقد وُضعت في تلك المرحلة التاريخية في لبنان ، وفي دول غيرِه من بَعْدُ بين أمرين : أن أقبل مساومات لا يقبلها مثلي ، ولا يرضاها ديني ومنهجي الحرّ المستقل ، فأنال الاستقرار وما أشاء من الدنيا ، أو أن أرحل أو أُرَحّل ..

وقَرّرَتِ السلطاتُ اللبنانية إخراجي من لبنان!

سألوني : إلى أين تختار أن تُرَحَّل ؟

ولم أُرِدْ أن أتوجّه إلى بلد قريب فتح أبوابَه لي ، صيانةً -كما قلت- لاستقلالـيّتي واستقلاليةِ حركتي ومنهجي ، فاخترتُ قُطْراً عربيّاً إسلاميّاً بعيداً عن خلافاتنا وصراعاتنا المباشرة

قلت : أختار الجزائر

ولم يكن هنالك يومها طائرة إلى الجزائر ، فأجبروني على ركوب طائرة إلى الكويت .

وصلتُ إلى مطار الكويت ليلة عيد الأضحى ، وكان بإمكان من يحمل جوازاً سوريّاً مثلي أن يدخل وقتها الكويت بلا تأشيرة ، وأن يبقى فيها إذا أحبّ شهرا

وارتبك رجال الأمن لحضوري ، واتصلوا بمراجعهم المسؤولة ليسألوا ماذا عليهم أن يفعلوا ، فلم يجدوا مسؤولاً كبيراً يرجعون إليه ، أو لم يُرِدْ من وجدوه أن ينفرد بقرار في هذا الموضوع ، فطلبوا إليّ أن أكون بفندق كبير سَمّوْه لي ، وأن أُزَوّدهم بعنواني بسرعة واستمرار إذا تغيّر العنوان ، وما أن دخلت غرفتي في الفندق وأنا متعب شديد التعب ، حتى رَنّ جَرَسُ الهاتف في الغرفة ، فرفعتُ السماعة فإذا بجاسم الدرويش على الهاتف :

- الحمد لله على السلامة

- كيف عرفتَ بوجودي في هذا الفندق ، في هذه الغرفة ، في هذا الوقت ؟!

- لقد كنا نُتابع خطاك منذ نُقِلْت من السجن! إلى المطار ، وأُرْكِبتَ الطائرة الكويتية على غير انتظار، وأُنْزِلتَ في هذا الفندق الذي تنـزل فيه الآن

قلوبُنا معك ، والله معك ، ويا عارَ بلادٍ لا تَتّسع لمثلك من المؤمنين الأحرار

*    *    *

وعندما استشهدتْ « أم أيمن » رحمها الله تعالى في مدينة آخن ، في 17/03/1981م ، في مؤامرة رهيبة متعدّدة الدوافع والأبعاد والشركاء كانت تستهدف القضاء على الأسرة كلّها ، وعندما فُرضَ عَلَيَّ فرضاً لمدة طويلة من الزمان ألاّ أستقرّ في مكان ، لم تكن تصرفه صعوبةٌ عن الاتصال والاطمئنان

وكانت عندي جميعُ هواتفه حتّى هاتفه في غرفة نومه ، وكان يرجوني أن أتصل به في نهاره أو ليله عندما أحب أو أحتاج دون أيِّ تحرّج ؛ ولكنني لم أفعل ذلك قطُّ ، ولم أتصل به في يوم من الأيام إلاّ في وقتٍ من برنامجه فيه أن يتلقى الاتصالات وأن يستقبل الناس

*    *    *

رحم الله الأخ جاسم ، والصديق جاسم ، والعمّ جاسم ؛ فكلُّ مَزِيّةٍ من مزاياه السامية تجعل منه في مجالها رجلاً كبيراً ، وقدوة حسنة : دينُه ، خلقُهُ ، عقلُه ، حكمتُه ، همتُه ، شهامتُه ، صدقُه ، وفاؤُه ، عِفّةُ لسانه ، حبُّه للخير ، صنعُه للخير ، دلالتُه على الخير ، حبُّه للعلم ، خدمته للعلم ، إسهامه في نشر العلم ، اهتمامُه بالإسلام والمسلمين ، غيرتُه على الإسلام والمسلمين ، خدمتُه للإسلام والمسلمين .. كلُّ مزيةٍ من مزاياه هذه وأمثالِها كافيةٌ لتجعل منه في مجالها رجلاً كبيراً ، وقدوةً صالحة ، فكيفَ إذا اجتمعتْ هذه المزايا كلُّها في رجل واحد ؟

إنّ جاسم درويش فخرو ليس رجلاً من رجالات قطر وحدها ؛ ولكنه رجلٌ من رجالات العالم الإسلاميّ كلّه .. رحمه الله

_____________

(*) شخصيةُ العامِ في دولة قطر هذه السنة هي شخصية أحد رجالاتها وبناة نهضتها السابقين : الشيخ جاسم درويش فخرو رحمه الله تعالى ، وقد رغب إليَّ بعض أبنائه ، وعارفي فضله ، والمحتفلين بذكراه ، ممن عرفوا ما كان يغبط بيني وبينه من أخوة وصداقة ومودة أن أكتب بعض ذكرياتي الشخصية عنه ، فكان هذا المقال.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ