ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
وجوه
من زمن الجاهلية
أ.
محمد بن سعيد الفطيسي
يقول أحد الأدباء ( أمران لا
يحدد لهما وقت بدقة , النوم في
حياة الفرد , والانحطاط في حياة
الأمة , فلا يشعر بهما إلا إذا
غلبا واستوليا ).
ولقد شاهدت في عمري المحدود
– ولا زلت أشاهد – الكثير من
الأمثلة الحية على هذا الاتجاه
المؤسف – أي – مشاهد وصور تراجع
مكانة هذه الأمة العظيمة
الخالدة – أطال الله عمرها –
وعجل فرجها , أمثلة من حياة
أجيال قدر لها أن تدفع ضريبة
وثمن هروبها من تكاليف العزة
والحرية والكرامة , فيسجل في سفر
التاريخ أنها كانت الأجيال –
المحسوبة على هذا الدين العظيم ,
وهذه الأمة الكريمة , - والتي
فزعت من مواجهة النور , وتاهت في
خضم الحياة , وضلت في زحمة
المجتمع والحضارة الإنسانية .
فعجبا لأمة يخشى بعض
أبناءها السير في النور
والطرقات الفسيحة الواسعة , فلا
ترتاح نفوسهم وأفئدتهم الخائفة
وتَطْمَئِنُّ سوى في الطرقات
الضيقة والأزقة المظلمة
الموحشة , يخشون الكلمة الصادقة
والنقد البناء والنصيحة
الهادفة والدعوة الى الحق لأنهم
مدركون تمام الإدراك لقوة
تيارها وتأثيرها على الآخرين ,
يخشونها مخافة المتخمين من
الجوع , والأغنياء من الفقر , ومن
تعود على الراحة والدعة ولو تحت
سياط الذلة والعبودية , فهم كما
قال الحق عزوجل فيهم { وَإِذَا
رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ
أَجْسَامُهُمْ , وَإِن
يَقُولُواْ تَسْمَعْ
لِقَوْلِهِمْ , كَأَنَّهُمْ
خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ,
يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ
عَلَيْهِمْ , هُمُ
ٱلْعَدُوُّ
فَٱحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ
ٱللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
} صدق الله العظيم .
كم يشبهون سكان ذلك العالم
التجاري المفلس الذي واجهه محمد
صلى الله عليه وسلم في بداية
دعوته الى حد بعيد , العالم
الحائر الضال المادي الذي اختار
العمى على النور , والظلال على
الهدى , العالم الذي قامت قيامة
جاهليته لان الله اختار من
بينهم رجلا رشيد يدعوهم الى
الكلمة الصادقة , ويوجههم الى
أخطاءهم , وينتقد فساد تصرفاتهم
وسلوكياتهم وحكوماتهم التجارية
الجاهلية , فاجلبت على الداعي
صلى الله عليه وسلم بخيلها
ورجلها , وجاءت بحدها وحديدها , {
وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ
أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ
عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ
هَـذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } صدق
الله العظيم .
نعم ..... وقفت قريش بتجارها
وساستها وقادتها وكبراءها
وعدتها وعتادها أمام الدعوة
الكريمة والكلمة الصادقة
بالرفض والمواجهة والحرب لأنهم
كانوا خائفون على تجارتهم
وأموالهم القائمة على أكل أموال
الناس بالباطل , والمتاجرة
بشقاء الفقراء والبؤساء
والضعفاء , خائفون على سلطتهم
وسلطانهم ومناصبهم القائمة على
الظلم والتعصب والجبروت والقمع
, لان الدين الجديد يساوي بين
الغني والفقير , والمالك
والمملوك , ولان الدين الجديد
يرفض كل أنواع العبودية والكبت
والطائفية والتفرقة والعنصرية ,
وهم بالطبع يقتاتون من وراء هذا
, وبدونه لا يمكن لهم الاستمرار
والبقاء في هذه الحياة , فهم
أشبه بالطفيليات التي تقتات على
الفاسد النتن من الجيف
والقاذورات .
تلك كانت مقومات ذلك النصر
الخالد في ضمير الكون , الضارب
في جذور الحياة , الذي ترتفع به
ملايين الأصوات في مشارق الأرض
ومغاربها , وتترنم به ملايين
الشفاه , لان الإسلام في صميمه
حركة تحررية ثورية , تبدأ في
ضمير الفرد وتنتهي في محيط
الجماعة , أنه أعظم انقلاب في
التاريخ الإنساني , كونه حطم
طاغوت التمييز والعنصرية
والتفرقة والمذهبية والطائفية ,
ودمر رموز الفساد والظلم ومن
يعيشون على شقاء الآخرين وقوتهم
وأرزاقهم , ( فإذا رأيت المظالم
تقع وإذا سمعت المظلومين يصرخون
, ثم لم تجد الأمة الإسلامية
حاضرة لدفع الظلم , وتحطيم
الظالم , فلك ان تشك مباشرة في
وجودها ).
وها نحن اليوم وبعد ألـ 1432
سنة من ذلك الانقلاب التاريخي
العظيم الذي حطم أغلال العبودية
والرق والقهر والكبت وكل أنواع
الظلم والفساد , وانتزع من تجار
قريش سياطهم وسلطتهم , وأعاد الى
المظلومين والمقهورين والبؤساء
والضعفاء مكانتهم الإنسانية
والاجتماعية , وغير وجه الكون
الحالك المظلم , الى آخر مشرق
منير صالح للحياة بكرامة وعزة
وإنسانية , نرى عودة تلك الثلة
المتاجرة بقوت الشعوب وعرقهم ,
بحريتهم وكرامتهم , بأفكارهم
وآراءهم , بل واستفحال قوتهم
ومكانتهم في كل أرجاء هذه الأمة
العظيمة .
نعم .... نرى عودة ثانية لتجار
قريش وسياطهم وقسوة قلوبهم ,
نراهم في كل شخص يتمثل لنا على
تراب هذه الأمة العظيمة الخالدة
في صورة الظلم والطغيان
والجبروت والقهر , في صورة
الأغنياء الذين لا تهمهم سوى
بطونهم المتخمة بينما إخوة لهم
في مشارق الأرض ومغاربها تئن من
الجوع والمرض والفقر والفاقة ,
نشاهدهم في صور الحكومات التي
ترفض الشرفاء والمخلصين من
أبناءها , لتستبدلهم بعملاء
الاستعمار وتجار الكلمة
الرخيصة والأدب المنحل والعبيد
الذين يهربون من الحرية , ولا
يجدون أنفسهم إلا في سلاسل الرق.
نراهم في كل أشكال المتاجرة
بالإنسانية والحرية والعدالة
في كل أرجاء هذه الأمة الغالية ,
في القهر والجوع والظلم الذي
نراه في عيون أطفال العراق
وفلسطين وكل شبر عزيز على تراب
هذه الأمة العظيمة , نراه في
صورة المسئول الخائن الذي حول
ثروات الأوطان والشعوب الى
مزارع له ولابناءه ومن يحسبون
عليه , بينما يعيش بقية أبناء
وطنه وأمته عيشة قاسية مرة ,
نراه في صور الذين قدر لهم ان
يملكوا المطارق ومفاتيح السجون
والمعتقلات , فلا يقذفوا في
غياهبها سوى الأبرياء والشرفاء
الذي رفضوا الانسياق لمواكب
العبودية والارتزاق والعمالة
للاستعمار وأعوانه وأشكاله .
وكما ان
تجار وساسة قريش الأولى قبل 1432
سنة قد ابتكروا وسائل التنكيل
بالأحرار والشرفاء والمخلصين
لامتهم وعقيدتهم وأوطانهم
ومبادئ الكرامة والفضيلة
والكلمة الحرة الصادقة والنقد
البناء , كذلك فعل تجار قريش في
القرن الحادي والعشرين , والذين
لا يختلفون عنهم كثيرا , سوى
أنهم أكثر قسوة وظلم , ويملكون
من صور التنكيل المتقدمة ما
عجزت عن اختراعه قريش الأولى ,
بل – والله – ان أولئك في
الجاهلية لأرحم ألف مرة من قريش
الجاهلية في القرن الحادي
والعشرين .
إنما وعلى الرغم من ثبات تلك
الحقائق المرة
, فان هناك حقائق أخرى لا تقل
عنها ثبوتا , حقائق تشير الى ان
المستقبل للأحرار والشرفاء
والمخلصين لامتهم وعقيدتهم ,
وان ملكية هذه الأمة العظيمة
الخالدة سترد يوما لأصحابها
الحقيقيين , أصحابها الذين
يخافون على عزتها وكرامتها
ومجدها , لا على جيوبهم ودفاتر
شيكاتهم وأرصدتهم البنكية
ووظائفهم الرسمية , وقد دلت
التجارب الماضية كلها على أن
الأرض الطاهرة الزكية ترفض قبول
الغث الفاسد من الحشائش , {
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ
جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ
النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ
اللَّهُ الأَمْثَالَ } صدق الله
العظيم.
فإلى الذين قدر لهم ان
يكونوا أحرارا أو عبيدا في سوق
قريش , الى الأغنياء الذين تمتلئ
بهم غرف الإنعاش بسبب التخم "
اتقوا الله في جياع هذه الأمة
" , الى الآمنين في دورهم
تذكروا إخوة لكم في فلسطين
والعراق وكل شبر في هذه الأمة
الغالية وهم يعيشون تحت وطأة
الظلم والقهر والاحتلال , والى
أصحاب الجاه والسلطة والمناصب ,
وكل من قدر الله له مكان
المسؤولية في هذه الأمة , اتقوا
الله في أماناتكم ومناصبكم
فانتم يوم القيامة ستسالون عن
كل ذلك , الى هؤلاء جميعا نقول
لهم قول الحق عزوجل : {
وَاتَّقُواْ يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى
اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ
لاَ يُظْلَمُونَ } صدق الله
العظيم. ــــــــ *باحث
في الشؤون السياسية والعلاقات
الدولية – رئيس تحرير صحيفة
السياسي التابعة للمعهد العربي
للبحوث والدراسات
الإستراتيجية. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |