ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
جنوب
السودان...قليل من الصراحة عريب
الرنتاوي تدفعك
محبتك للشعب السوداني الطيّب
والمُحب، لزيارة السودان مرة
تلو الأخرى، ليس الآن أو
مؤخراً، حيث الفنادق والمطاعم
والسيارات الفخمة تنتشر في
عاصمة البلاد، بل وحتى في تلك
الأزمنة التي كان الهبوط فيها
بمطار الخرطوم، يشبه الهبوط
الاضطراري الذي تحدثك عنه
مضيفات الطيران قبيل إقلاع
الطائرة. ولقد
ترددت على الخرطوم مرات عديدة،
منذ سوار الذهب وحتى أيامنا
هذه...وأتيح لي أن ألتقي مروحة
واسعة من قادة السودان ومثقفيه
وصحفيّه، ومن مختلف التيارات،
ولكم كانت الحوارات مع هؤلاء
ممتعة ومفيدة وشيّقة، فالنخب
السودانية معروفة بثقافتها
الواسعة ونهمها للمعرفة الذي لا
حدود له. وأصدقكم
القول، أنني لم أشعر مرة واحدة
بأن "الجنوب" جزء عزيز على
الشمال، يعادل انسلاخه عن الوطن
الأم، اقتلاع واحدة من العينين،
كما يقال في التعبير الشعري
المجازي، بل وأكاد أجزم، بأن
كثيرٍ من السودانيين، لا تربطهم
بالجنوب والجنوبيين أية روابط،
تتعدى الخريطة الجغرافية،
و"مصادفات الطريق"
و"خنادق القتال" في الحرب
الأهلية الأطول في تاريخ ما بعد
الاستعمار والاستقلالات
الحديثة....لم ألحظ في أي من
زياراتي ذلك الاختلاط
الاجتماعي وروابط الصداقة
والتزواج بين الشماليين
والجنوبيين، فأنت حين تلتقي
بجنوبي، يكون جل الحاضرين، إن
لم أقل كلهم، من الجنوب، والأمر
كذلك حين تلتقي بعصبة من
الأصدقاء الشماليين، حيث لا
وجود غالباً لجنوبي واحد فيما
بينهم. ولطالما
أسّر إليّ بعض الساسة والكتاب
السودانيين، بأن سودان آمن
وهادئ بلا جنوب، أفضل من سودان
محترب مع الجنوب، فالفجوة بين
"الغابة والصحراء"، تكاد
تكون شاملة للدين واللون والعرق
والقومية إلى غير ما هنالك، وهي
فجوة ما كان بالإمكان تجسيرها،
إلا بنظام سياسي منفتح،
ديمقراطي وتعددي، وتنمية شاملة
متوازنة، وقدرات استثنائية على
العيش المشترك، وهي مبادئ وقيم،
لم ينجح أي من النظم التي تعاقبت
على حكم سودان ما بعد الاستقلال
على توفيرها. ومن باب
الصراحة، دعونا نعترف، أن
الشمال العربي، مارس
"فوقية" ظاهرة، شبيهة إلى
حد كبير، بتلك التي مارسها
الجنوب والوسط العربيين في
العراق ضد الشمال الكردي طوال
سنوات وعقود، وكما ارتبط
العبودية في أذهاننا بلون
البشرة، فقد ارتبط الاسترقاق
والاستعباد بالكرد والأكراد
والتكريد والاستكراد إلى آخر
مصفوفة الاشتقاقات العنصرية
المعروفة، التي لم تنفع في
تبديدها من "الوعي الشعبي
السائد" لا روابط الجيرة ولا
روابط الدين المشترك والوطن
الواحد الذي "يلمنا"
جميعاً. وأحسب
أن الجنوبيين ظلوا قابعين في
هوامش الخرائط السياسية
والاقتصادية والاجتماعية
للسودان، بصرف النظر عن هوية
النظم التي تعاقبت على حكمه،
وأن هذا الوضع ما كان ليستمر،
خصوصاً بعد تنامي التدخلات
الخارجية التي اعقبت صعود
"نظام الانقاذ" للحكم،
واتخاذه مواقف وسياسات معادية
لإسرائيل والولايات المتحدة،
و"غير مطواعة" للقاهرة،
وأحياناً مصطدمة معها. وزاد
الدين بلّة، اتجاه "نظام
الإنقاذ" لتطبيق الشريعة في
السودان، ليس الآن، بل وفي عهد
القطبية الثنائية: البشير -
الترابي، وبرغم تنصل حسن
الترابي اللاحق من مسؤولياته
فيما آلت إليه الأوضاع في
السودان، إلا أن الجاهل وحده،
يصدق بان الرجل بريء من دم
السودان والسودانيين وأوزارهم،
فقد كان شريكاً في الحكم، ومن
موقع المُقرر والحاكم بأمره،
إلى أن وقع الخلاف، وسقطت تجربة
"حكم الرأسين" وانتقل
الرجل إلى المعارضة، وعاد
للاصطفاف في خندق واحد مع خصوم
الأمس، كدأبه دوما. طار
الجنوب، وبقيت الشريعة...ولا
أدري أي مكسب يمكن تسجيله هنا
حتى يجدد قادة الخرطوم العهد من
جديد على الاستمساك بالشريعة
وحكمها، بعد الاستفتاء وبعد
الانفصال...لا أدري ما إن كان
استمرار العمل بالشريعة سوف
يعيد انتاج مسلسل انفصال الجنوب
في مناطق أخرى من السودان، أم أن
النخبة الحاكمة في البلاد
ستنتبه قبل خراب البصرة ودارفور
والنوبة ومناطق شرق وغرب وأعالي
وأقاصي، إلى غير ما هناك من
أسماء تصف المساحات المترامية
للبلد الشقيق. أياً
يكن من أمر، غداً ستذهب
"سكرة" الانفصال وتأتي
"فكرة" المشاكل والتحديات
التي ستعقب قيام دولة الجنوب،
والتحدي الكبير الذي سيواجه
"السودانين" هو: هل يتخندق
الشمال أولا أم الجنوب، في
قائمة الدول الفاشلة؟...هل هذا
ممر إجباري؟...هل يمكن الإفلات
من هذا المصير الأسود؟. أغلب
التقديرات، بما فيها تقديرات
كارتر، تعطي انطباعا متشائما
حيال مستقبل دولة الجنوب...أما
الشمال فمصيره بعد أن فقد 80
بالمائة من نفطه، رهن بقدرة
البلاد عن اجتراح سياسات
واستراتيجيات جديدة، تتخطى
"منطق الثورة والدعوة
والرسالة" إلى منطق الدولة
والتنمية والانفتاح على العالم
وحل المشاكل مع المجتمع الدولي. إذا كان
مصير الجنوب رهن بالقدرة على
بناء مؤسسات الدولة وبناها
التحتية والانتقال من القبيلة
إلى الدولة الحديثة، فإن مصير
الشمال، رهن بالقدرة على معالجة
الأزمات المتفجرة في دارفور
والمشاكل الكامنة في غير منطقة
ورقعة، ناهيك عن الخلاف الشمالي
– الشمالي، المحتدم بين سلطة
ومعارضة، فهل تنجح الخرطوم في
تكريس بناء الدولة على حساب
"المناطقية
والقبائلية"...هل تنجح جوبا في
الانتقال من الجهوية
والقبائلية إلى فضاء
الدولة....هل تنجح الدولتان في
بناء روابط اقتصادية وتجارية
وثقافية وإنسانية، تمنع
الانزلاق لحروب لاحق، وتبني على
إرث طويل من العيش الإجباري
المشترك ؟!...أسئلة وتساؤلات
برسم قادمات الأيام والسنين. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |