ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
تصريحات
البابا بنديكتوس السادس عشر والرؤية
الايديولوجية الضيقة الدكتور
عبدالقادر حسين ياسين* بعد
أزمة الرسوم الكاريكاتورية
المسيئة إلى الرسول التي نشرتها
صحيفةJyllands-Posten "يلاندسبوستن"
الدانماركية
في الثلاثين من أيلول 2005،
بدأت تلوح فى الأفق مؤشرات أزمة
جديدة بين المسلمين والغرب على
خلفية الانتقادات التي وجهها
البابا بنديكتوس السادس عشر إلى
الإسلام والمسلمين خلال زيارته
الى مسقط رأسه المانيا ، عندما
قال إن العقيدة المسيحية "تقوم
على المنطق" ، لكن العقيدة في
الإسلام تقوم على أساس أن "إرادة
الله لا تخضع لمحاكمة العقل أو
المنطق"... و "لا تدين
بالشدة المطلوبة" العنف الذى
يمارس باسم الايمان. ففي
محاضرة رئيسية حول "الإيمان
والعقل" ألقاها
في جامعة ريغينسبورغ في
ولاية بافاريا الألمانية التى
كان يدرِّس فيها علم اللاهوت
بين عامي 1969 و1977 ، قال البابا
بنديكتوس السادس عشر ان
المسيحية "ترتبط بصورة وثيقة
بالعقل" ، وهو الرأي الذى "يتباين"
مع رأي اولئك الذين "يقومون
بنشر دينهم عن طريق السيف" . وقال ان
الله ، فى العقيدة الاسلامية ،
"مطلق السمو"
ومشيئته ليست مرتبطة بأي من
مقولاتنا "ولا حتى بالعقل"
... واقام مقارنة مع الفكر
المسيحي المشبع بالفلسفة
الاغريقية ، موضحا ان هذا الفكر
"يرفض العمل ب "ما لا ينسجم
مع العقل" ،
وكل ما هو "مخالف للطبيعة
الالهية". وذكر
البابا مقطعا من حوار دار فى
القرن الرابع عشر بين
الامبراطور البيزنطي مانويل
باليولوغوس و"مثقف فارسي "
، إذ يقول الامبراطور للمثقف :
"أرني ما الجديد الذى جاء به
محمد ، لن
تجد الا أشياء شريرة وغير
انسانية مثل أمره بنشر الدين
الذى كان يبشر به بحد السيف".
واقتبس البابا عدة مرات مجادلة
الامبراطور بأن نشر الدين عن
طريق العنف غير منطقي وأن "العمل
دون عقلانية يعتبر ضد طبيعة
الخالق". كان
الامبراطور مانويل
باليولوغوس من اواخر
الأباطرة البيزنطيين الذين
عاشوا في فترة تفكك الامبرطورية
، بسبب
صراعاتها الاهلية في الداخل ،
والضغط العثماني من الخارج . وقد
اقام فترة طويلة في العاصمة
العثمانية القديمة بورصة .
وهناك، تقول المصادر
التاريخية، التقى قاضيا فارسيا
، ودارت حوارات بينهما جمعها
الامبراطور ، في وقت لاحق ،
في كتاب اسماه "ستة
وعشرون حوارا مع فارسي". وتشير
المصادر التاريخية الى استحالة
التحقق من تطابق هذه الحوارات
مع حقيقة ما دار بين الرجلين ،
لأن مانويل هو الذي دَوَّنها
بعد عودته الى القسطنطينية
وتوليه العرش ، على اثر وفاة
والده وانتصاره على اخيه في
الحرب التي دارت بينهما. ووفق
افضل التقديرات، تتخلل
الحوارات مقاطع استقاها مانويل
من مخيلته، ليس لأن القاضي
الفارسي لا يمتلك الحجج للرد
على ما يقدمه ضيفه ، بل لأن
الفترة التي نشرت فيها تلك
الحوارات بعد اكثر من عشرة
أعوام من حصولها، كانت فترة
اضطراب سياسي وأيديولوجي عميق
لناحية تصاعد الصراع بين انصار
الكاثوليكية في داخل
الامبراطورية البيزنطية. وتوجد
العديد من الدراسات التي تشدد
على ان ما بات يعتبر "فتحا"
عثمانيا للقسطنطينية ليس اكثر
من انتصار فريق خارجي لحلفائه
المحليين في حربهم الاهلية. ومن
بين الشواهد على ذلك ان الهجرة
من بيزنطية التي يكثر الحديث
عنها في اتجاه المدن الغربية،
لم تكن شاملة حيث ظل مئات الآلاف
من سكان الامبراطورية الذين
كانوا يعارضون الهيمنة
اللاتينية في ديارهم في اسطنبول
وغيرها، حتى الحرب اليونانية
التركية في القرن التاسع عشر ثم
سقوط الدولة العثمانية. يتجاهل
البابا بنديكتوس هذه
الخلفية التي تشير الى
التداخل الكبير في المعطيات
التاريخية وعبثية اجتزاء مقطع
من هنا ، وعبارة من هناك ،
لادعاء التماسك النظري للجانب
الذي ينتمي اليه الخطيب وتهافت
مقولات الطرف الآخر. في
الواقع ، إن البابا لم يسجل سبقا
فى هذا الشأن حيث أننا نجد عددا
كبيرا من المثقفين الغربيين من
السياسيين والمستشرقين
والفلاسفة تميزوا بالفكر
الأصولى المغرق فى الانغلاق
ورفض الآخر المتمثل فى الإسلام . فالفيلسوف
الفرنسي
Blaise Pascalباسكال(1623
– 1662 ) قد
جهر ، في كتابه الشهير
Pensée
"تأملات" بأن الحقيقة "لا
توجد خارج حدود جبال البرانس".
وأكثر من ذلك فقد وجه كلاما
بذيئا للرسول محمد. وينطلق
باسكال فى تقييمه التعسفي
للإسلام من منطلق مسيحي أصولي .
ويستغرب المرء أن يقع هذا
الفيلسوف والعالم الكبير فى هذا
النمط من التفكير غير الموضوعي
والمنافي للحقائق. وحتى
الفيلسوف الألمانى جورج فلهلم
فريدريش هيغل (1770 - 1831) الذى شغل
ولا يزال يشغل الفكر العالمي
منذ أكثر من 150 عاما ،
لم يسلم من الأصولية
الفكرية . ففي مقدمة كتابه Vorlesungen über die Philosophie der Geschichte"محاضرات في فلسفة التاريخ"
يؤكد هيغل بأن
الوعي "يكتمل فقط فى
الغرب" . وفي
التاريخ الحديث ، نجد أيضا
شخصية مهمة مثل "لورانس العرب"
قد وقعت بدورها فى مصيدة الفكر
المغلق الذي يلغي الآخر. ففى
كتابه The
Seven Pillars of Wisdom
"أعمدة الحكمة السبعة"
، أصدر
حكم قيمة بأن العقل العربي "غير
مؤهل لإنتاج الفلسفة"...إنه
يعتبر العقل العربى "قاصرا"
، وهذا
القصور "ظاهرة طبيعية فيه"
[كذا...!!] . ولم
يسبق للبابا الذي جعل من الحوار
بين الاديان احدى اولويات
بابويته ، ان تطرق علنا وبهذا
الوضوح الى الاسلام . غير انه لم
يتردد في ادانة "الجهاد" و"اعتناق
الدين مرورا بالعنف" بلغة
مبطنة ، خلال حديث الى اساتذة
جامعيين وطلاب في مدينة
راتيسبون في جنوب المانيا. وفي
الأسبوع الماضي حثَّ البابا
بنديكتوس الحكومات في الدول ذات
الأغلبية المسلمة على "بذل
المزيد من الجهد لحماية
الأقليات المسيحية." وأدان
البابا الهجمات على الكنائس
التي أسفرت عن مقتل عشرات
الأشخاص في مصر والعراق
ونيجيريا وقال إنها "بينت
الحاجة لتبني إجراءات فعالة
لحماية الأقليات الدينية." يفزعنا
كل من يزجّ الدين في جدالات
السياسة وتقلباتها، ويصبح
الفزع اشد عندما يكون الشخص ذو
حيثية مرجعية كبيرة في دينه. لا يتسع
هذا المقال للخوض في سجال أراد
البابا استعادته من القرون
الوسطى التي شهدت اكبر مواجهة
بين الغرب والشرق من خلال
الحروب الصليبية ، فاستعادة
جدلات التاريخ، علي هذا النحو،
توحي بالديمومة والاستمرارية ،
وكأن التاريخ "حلقات متصلة من
الصراعات والحروب" ولم يعرف
سلاما او هدنة، وهذا
بالطبع
ليس صحيحا، لان التاريخ،
نفسه، يقدم لنا وجها آخر
للعلاقة بين الغرب والاسلام . غني عن
البيان أنه ليس هناك، في الفهم
التاريخي، "جوهر ثابت" ،
حتى الدين يتعرض للازاحة
والتأويل وابراز جانب دون جانب
آخر، حسب المتطلب التاريخي.
فالكنيسة االكاثوليكية
اليوم ليست هي نفسها كنيسة
القرون الوسطى،
ولا اظن ان الكنيسة
الكاثوليكية اليوم تتباهي
بأعمال محاكم التفتيش والابادة
الجماعية لسكان امريكا
اللاتينية ولا حتى بالحروب
الصليبية ... وتكمن الخطورة
في تصريحات البابا ، في هذا
الوقت بالذات ، في انها تعطي
دفعا قويا للقائلين بان احتلال
افغانستان والعراق، والدعم
المطلق للعدوان الاسرائيلي في
فلسطين ، وتكريس انظمة التبعية
والفساد في العالم العربي ، هي
حرب صليبية على المسلمين. إن
المسألة ، في رأيي المتواضع ،
لا يمكن ان تكون "زلة لسان"
، او "سهواً غير مقصود" ،
فخليفة القديس بطرس الرسول ،
والزعيم الروحي للكنيسة
الكاثوليكية التي تضم أكثر من 700
مليون من المؤمنين ، ليس رجلا
ساذجا لا يعرف ما يقول، فهو
استاذ في علم اللاهوت، وكان
يحاضر في واحدة من أعرق
الجامعات الألمانية ، ويدرك
جيدا خطورة كلماته. والبابا
منسجم مع الفكر الأصولي المسيحي
المتطرف الذي يؤمن أنصاره
بمجموعة من الأساطير
الدينية يحاولون فرضها بالقوة
على العالم في نطاق النظام
العالمي الجديد. ولكنه ، بموقفه
العلني العدائي الأخير من
الإسلام ، يخرج عن سياسة اتبعها
سابقوه الذين تعاملوا بلباقة مع
المسلمين ، وإن كان بعضهم كان
يعمل في الخفاء على وقف انتشار
الإسلام خاصة في إفريقيا ومناطق
أخرى من العالم ، ويشجع على
التبشير في العالم الإسلامي
ويشارك في الحرب الفكرية على
الإسلام. ان ''المسلمين،
وخاصة المقيمين في الغرب،
يشعرون بألم عندما يلجؤون إلى
تبرير كونهم مسلمين نظرا لربط
وسائل الإعلام الغربية بشكل
دائم بين العنف والإرهاب وبين
الإسلام.. ويشعر مسلمو الغرب
أنهم متهمون وعليهم دائما إثبات
براءتهم من جرائم لم يرتكبوها. إن هجوم
البابا على الإسلام وقيمه
ومبادئه تكشف ، بما لا يدع مجالا
للشك ، نفاق طروحاته عن "الحوار"
بين الأديان والحضارات. لقد
إحتلَّ الغرب المسيحي بالقوة
المسلحة غالبية الدول
الاسلامية لقرون ، وأباد
الملايين من سكانها ، ولم يرحل
إلا عندما قاتلت هذه الشعوب
ببسالة لنيل حريتها واستقلالها.
وتحت راية نشر المسيحية
فتح الغرب المسيحي القارة
الأمريكية ، وأباد الملايين من
سكان البلاد الأصليين واستولى
بقوة السلاح على أراضيهم . إن
الإسلام الذي
يتهمه البابا بالعنف لم تحصد
حروبه ما حصدته الحروب بين
المسيحيين أو بين المسيحيين
وغيرهم ، والإسلام لم يدخل بلدا
إلا واشاع فيه العدل ، وانصف
سكانه وأشركهم في الحكم.
لم يتجاوز عدد القتلى
في كل الفتوحات الإسلامية
عدة آلاف ، في
حين ان الحروب الدينية
بين الكاثوليك
والبروتستانت حصدت أرواح عشرة
ملايين نسمة خلال القرون
الوسطى، والحرب العالمية
الثانية التي كانت كل الدول
المتحاربة فيها تدين بالمسيحية
خلفت خمسين مليون ضحية، وحرب
الجزائر التي خاضتها فرنسا
الإستعمارية حتى رحيلها في
العام 1961 حصدت أرواح مليون ونصف
مليون شهيد واللائحة طويلة. قبل
مئتي عام كانت الجامعات
الأوروبية تتحدى التفكير
الديني آنذاك وتناقش، بجسارة،
وجود الله من عدم وجوده، وعذرية
مريم ، وعلاقة السيد المسيح
بمريم المجدلية. وكانت الآراء
تتصادم والأفكار تتساجل
والعقائد تتلاقح وحرية الضمير
والمعتقد مصونة. وقد أنتجت هذه
الجامعات أعظم إنجاز لها هو "العقل
البرهاني". إن
البابا بنديكتوس السادس عشر ،
"خليفة القديس بطرس الرسول"
و"ظل الله في الأرض" ،
وأستاذ اللاهوت السابق ، الذي
يفخر بانتمائه الى المانيا ،
"بلد العلوم"
الذي أنجب "أمة من
العباقرة"
ينسى (أو يتناسى؟!)
ان الاسلام كان مهد العلوم ،
وان المسلمين كانوا أول من ترجم
الفلاسفة الاغريق
قبل انتقالهم الى التاريخ
الاوروبي . يقول
الكونت هانري دي كانتري في
كتابه " نبي الإسلام" : "ليس
هناك مثل واحد يذكر للدلالة على
أنّ محمدا أرسل حملة واحدة يحمل
فيها أمة بالقوّة على اعتناق
الإسلام، ولما استولى عمر [إبن
الخطاب]على مدينة القدس لم يلحق
بالمسيحيين أي ضرر، وعندما
استولى المسيحيون على تلك
المدينة قتلوا المسلمين من غير
إشفاق، وأحرقوا اليهود بلا رحمة". لقد نهى
الاسلام عن مهاجمة المرأة
والصبي والشيخ والرهبان في
الصوامع ، ولم يكن يختر إلاّ
خيار السلام ما وجد إلى ذلك
سبيلا. كان نشر
الإسلام بالموعظة الحسنة وصوت
العقل الذي تستجيب له الفطرة .
وتقول الكاتبة البريطانية
إيفلين كوبلد : "رحت أقرأ عن
الإسلام، وكلما أمعنت في
القراءة أزداد إيمانا بأن [الإسلام]
أكثر الأديان طواعية ، وعملية،
وقرباً إلى العقل... إنّ الإسلام
هو الدين الطبيعي الذي يتقبله
المرءُ بطوْعِه فيما لو تُرِك
لنفسه" والعقل
من شروط التكليف في الإسلام، و"الحكمة
ضالة المسلم" . وثمة العشرات
من الآيات القرآنية
تشير الى "أولي الألباب"
أي أصحاب العقول النيرة ،
الذين يفكرون ويتدبّرون
ويعلمون ويعملون. كما دعا
الإسلام إلى استخدام العقل،
وتحصيل العلم، وتعليم النّاس،
ونشر المعارف. في
كتابه الموسوعي الضخم A
Study of History
بقول المؤرخ البريطاني
الراحل آرنولد توينبي
Arnold
Toynbee أن الحضارة الإسلامية قامت على
استثمار “التفاعل بين نور
العقل ونور الإيمان” ،
, كانت - في عصرها الذهبي –
قائدة الحضارة الإنسانية علماً
وعملاً، وإيماناً وأخلاقاً،
وتقدّماً وازدهاراً... وهي التي
كانت "سبب نهضة أوروبا" ،
وبالتالي تقدمها العلمي
والحضاري المعاصر. واذا
اراد المرء الاستطراد في
استعراض افكار البابا حول "عقلانية
المسيحية" مقابل "لاعقلانية
الاسلام" ، فليس اسهل من
التذكير بالرحلة الطويلة التي
مرَّ بها اللاهوت المسيحي من
كونه "أفكارا مبعثرة لجماعة
يهودية منشقة" ، لتصبح تلك
البنية الايديولوجية التي ليس
الكاردينال رايتسينغر الا احد
دعاتها الاقل موهبة . فمن
الجدال مع "الافلاطونية
المحدثة" ، ومن اعمال القديس
بولس ، والقديس اوغسطين ، الى
توما الاكويني واميلار
ومالبرانش وغيرهم، امكن التوصل
الى توفيق معين بين الفلسفة
اليونانية واللاهوت المسيحي،
وهو توفيق كان عشرات من الفقهاء
والفلاسفة العرب والمسلمين، من
الامام الشافعي وابن سينا
والفارابي وابن رشد الى
الشاطبي، قد قالوا كلمتهم فيه
او أنجزوا ما يعادله على الضفة
الاخرى، الاسلامية. ان
المساحة الضيقة المخصصة للمقال
لا تكفي للخوض في مواقف الكنيسة
الكاثوليكية من الأديان الأخرى
(وليس فقط من الاسلام ) ، وحتى من
الكنائس الأرثوذكسية
والبروتستانتية. وقد
تعرضت الى هذه المواقف في رسالة
مطولة بعثت بها الى قداسة
البابا بنيدكتوس السادس عشر قبل
خمس سنوات . قد لا
يعرف الكثيرون أن الفاتيكان (ولغاية
المجمع المسكوني الأخير) كان
يعتبر المسلمين من "الهراطقة"
... وفي أفضل الأحوال من "الخراف
الضالة" ، وهو
كما لا يخفى
تعبير كهنوتي
قديم . بيد أن هذا لا يعني أن
تأخذنا العزة بالاثم ، ونتيح
لأنفسنا التعميم وأن "نضع
الكل في سلة واحدة". قبل
سنوات كنت في زيارة لكوبا...
وهناك التقيت بالدكتور إرنستو
كاردينال. كان ارنستو
لمن لا يعرفه
كاردينال نيكاراغوا (أعلى
مرتبة كهنوتية في الكنيسة
الكاثوليكية بعد البابا) ، وأحد
قادة "الجبهة الساندينية" (نسبة
الى قائد الثورة الأولى أوغستو
سيزار ساندينو [1895-1934] أحد زعماء
السكان الأصليين الذي قاد ثورة
مسلحة ضد الولايات المتحدة
استمرت عشر سنوات [1924
1934] معتمدا فقط على أبناء
شعبه من الفلاحين وصيادي
الأسماك البسطاء) . وبعد
انتصار الثورة التي تلقى العديد
من كوادرها القيادية ، بمن فيهم
دانيل أورتيغا ، تدريبات عسكرية
في قواعد المقاومة الفلسطينية
في لبنان وسوريا ،
وتطهير نيكاراغوا من
الدكتاتور تاشيتو سوموزا ، عين
ارنستو وزيرا للثقافة. وتكمن
شهرة ارنستو كاردينال ليس فقط
في مكانته الكهنوتية ، وليس فقط
في ثقافته الموسوعية (فهو شاعر
مجدد له خمسة دواوين وثلاثة كتب
حول تاريخ الحضارات والنهب
الاستعماري لثروات أمريكا
اللاتينية) ، وانما في أنه أحد
مؤسسي "لاهوت التحرير"
Liberation Theology و "كنيسة الفقراء"
التي تستند ، أساسا ، الى
قول السيد المسيح : "أقول لكم
انه لأسهل أن يدخل الجمَل في ثقب
الابرة من أن يدخل الغنيّ الى
ملكوت الله" (الكتاب المقدس ،
انجيل متى ، الفصل التاسع عشر :
الاصحاح 24). في ذلك
المساء من ليالي هافانا الصيفية
، كنت سعيدا بالاستماع الى رجل
تذكرك ملامحه البسيطة
وملابسه الرثة بالمسيحيين
الأوائل ، وتبهرك بساطته وحديثه
عن هموم "ملح الأرض" الذين
لا يجدون قوت يومهم . وانتقل بنا
الحديث (و"الحديث ذو شجون")
من الوضع في أمريكا اللاتينية ،
والأدب والشعروالفلسفة وتاريخ
الحضارات ، الى الدور الذي
تلعبه الكنيسة في النضال اليومي
للجماهير في أمريكا اللاتينية . وقلت
للكاردينال أننا
رغم آلاف الأميال التي تفصل
القدس عن ماناغوا وهافانا
في قارب واحد . فالنضال الذي
تخوضه الشعوب من أجل الحرية لا
ينفصل عن الكفاح من أجل لقمة
العيش والحياة الكريمة في أي
زمان ومكان . ولكي أوضح وجهة
نظري ، قلت له أنه قبل 1400 عاما
كان يعيش في فيافي شبه الجزيرة
العربية رجل يدعى جندب ابن
جنادة ، ويعرفه الناس بأبي ذرّ
الغفاري. كان يعبد الله "على
طريقته الخاصة" حتى قبل أن
يسلم . فلما بلغته أنباء محمد
أرسل أخاه الى مكة ل "يتحرى
الأمر".... ولكنه لم يصدق ما
سمعه من أخيه فذهب الى مكة بنفسه.
لقي أبو ذر محمدا في الكعبة ،
واستمع اليه ، وناقشه في العديد
من الأمور، وآمن به لتوِّه ...
وكان رابع من آمن بمحمد . اشتهر
أبو ذر بالتواضع الشديد والزهد
، ولم يكن يملك شروى نقير ، حتى
ليقال أنه كان يشبه السيد
المسيح . كان شديد التقوى شغوفا
بالعلم . وعندما رأى الفرق
الشاسع بين رغد العيش الذي ترفل
به "ارستقراطية" قريش
والفقر المدقع الذي يطحن فقراء
المسلمين في مكة والمدينة
، قال عبارته المأثورة : "إني
لأعجب لامرئ لا يجد قوت يومه لا
يخرج على الناس شاهرا سيفه..!". نظرت
الى ارنستو كاردينال ، ولاحظت
أنه في "ملكوت" بعيد... ظننت
أنني أطلت الحديث (وأعترف أن هذه
واحدة من عاداتي السيئة!!) في
موضوع قد لا يعنيه من قريب أو
بعيد... وكدت أعتذر عندما
نظر اليّ وقال : "ان
حديثك الشيق عن هذا الرجل
يذكرني بآباء المسيحية الأوائل...قلت
أنه لم يُصدّق ما قاله أخوه ،
فذهب الى محمد وناقشه وآمن .
يقول القديس أوغسطين ان الايمان
الذي لا يقوم على استخدام العقل
ليس ايمانا...أما حديثه عن
الكفاح من أجل لقمة العيش
والحياة الكريمة فما أحوجنا في
هذه الايام الى رجال من هذا
الطراز." وأخرج
من جيبه مفكرة صغيرة ، وطلب اليّ
أن أكتب "بالنص" ما قاله
أبو ذرّ بالعربية ، وأن أترجمه
الى الانجليزية ،
وفعلت... أعاد قراءة الترجمة
الانجليزية بصوت مرتفع بلكنة
اسبانية محببة ، وضحك وهو يقول :
"ان هذه المقولة
، كالكتاب المقدس ، صالحة
لكل زمان ومكان ... كل ما عليك أن
تفعله ، لكي يفهم المُعدمون ما
قاله هذا الرجل الطيب ، هو أن
تستبدل كلمة "السيف" ب "الكلاشنكوف". وعنما
قام البابا الراحل يوحنا بولص
الثاني بزيارة نيكاراغوا ، طلب
الى ارنستو كاردينال أن "لا
يتدخل في القضايا السياسية"
وأن لا يُحرّض "الرعاع"
[كذا...!!] على الثورة ، وذكره بأن
"يُعطي ما لقيصر لقيصر ، وما
للرب للرب"... وعندما
قال له ارنستو أن "القيصر
الأمريكي أخذ ما
له وما للرب أيضا" ، غضب
البابا (وكان من فرسان الحرب
الباردة ومعروفا بعدائه الشديد
للفكر الاشتراكي) غضبا شديدا
وأصدر "حرْما
بكسر الحاء وتسكين الراء
هرطوقيا" (وهو تقليد قديم
في الكنيسة الكاثوليكية اشبه
بالقانون يصدره البابا ضد "الهراطقة")
، وعزله من منصبه... وعاد ارنستو
، غير آسف ، الى "كنيسة
الفقراء" . هذا في
نيكاراغوا ، أما في السلفادور
فقد وقف الأسقف أوسكار روميرو ،
مطران العاصمة سان سلفادور ،
ببسالة ضد الطغمة العسكرية
المدعومة من الولايات
المتحدة ،
وضد "فرق الموت" Death
Squads، وقاتل بالسلاح مع المناضل
الفلسطيني الأممي ، ابن بيت لحم
البار ، الدكتور شفيق حنضل ، في
"قوات التحرير الوطني، (فارابوندو
مارتي) .
وفي 25 آذار 1980 قتلت "فرق الموت"
الأسقف روميرو وهو يصلي في احدى
كنائس الفقراء في أدغال
السلفادور. وفي
فلسطين ، مهد المسيحية ،
لنا في المناضل الراحل الأب
ابراهيم عياد ، والمطران
هيلاريون كبوجي ، مطران القدس
في المنفى ، والمطران حنا عطا
الله ، رئيس أساقفة سبسطية
للروم الأرثوذكس ،
قدوة حسنة . في عام 1975 ، أصدر
البابا الراحل بيانا أدان فيه
"الارهاب" الفلسطيني. وفي
اليوم التالي أعاد الأب ابراهيم
عياد وساما
كان الفاتيكان قد منحه أياه
تقديرا لعشرات السنين التي
أمضاها في خدمة الكنيسة . وكان لي
الشرف أن عرفته عن قرب ، وعشنا
معا أثناء حصار بيروت عام 1982 . لم
يكن يملك شروى نقير ، ويتناول من
الطعام "ما يسُدَ الرمق" ،
وكان يصر على أن ينام على سرير
خشبي رغم مرضه وهزال جسده. وأثناء
زيارة "رعوية" لتشيلي
لتفقد أبناء الجالية
الفلسطينية في أمريكا
اللاتينية ، ذكر له أحدهم أنه
ليس ثمة مسجد للصلاة ، أو
للاحتفال بالمناسبات الدينية ،
في سنتياغو ...فما كان من الأب
عياد الا أن قام بحملة لجمع
التبرعات من المسيحيين
الفلسطينيين (وبعضهم من أصحاب
الملايين) وبنى مسجدا ومدرسة
للمسلمين من أبناء الجالية . ومما
يؤسف له أن ردود فعل البعض
والاعتداءات التي تعرض لها بعض
أخوتنا المسيحيين (والتي يندى
لها جبين كل مسلم) جاءت لتؤكد
بعض ما قاله البابا بأن العنف
"متأصل" في سلوك المسلمين . وبعد ؛ إن
تسييس الكنيسة يعني الخروج بها
من موقعها الروحاني الذي يحتاجه
المؤمنون ، بينما تخوض الولايات
المتحدة الأمريكية معركتها ضد
العالم الثالث ( وليس فقط ضد
العالم الاسلامي) وفق أجندة
امبريالية لاعادة عجلة التاريخ
الى الوراء ، بهدف فرض السيطرة
الأمريكية على شعوب العالم
الثالث واستنزاف موارده حتى
النهاية . وهذه المقولة ان كانت
تدل على شيء، فليس على اكثر من
الجهل المغلف بالرؤية
الايديولوجية الضيقة التي لن
تجد ترجمة لها في معزل عن
اتهامها بسوء النية. ويبدو لي أن
البابا بنديكتوس السادس عشر لم
يتخلص من ظل الكاردينال
رايتسنغرالمشرف على "مجمع
العقيدة والايمان" (الاسم
الحديث لمحاكم التفتيش). فكانت
النتيجة ان استعاد الاول الثاني
... وبعثه ليؤجج ما لا نفع فيه . ------------------ * كاتب
وأكاديمي فلسطيني مقيم في
السويد . ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |