ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
الشخصية
الناضجة والشعور بالمسؤولية بقلم:
محمد عادل فارس من
علامات نضج الشخصية وتوازنها أن
يكون الشعور بالمسؤولية
عالياً، لأن هذا الشعور ثمرة
لتصور الإنسان عن دوره في
الحياة، والتعاملِ مع سنن الله
في النفس والمجتمع، والتوازنِ
بين المطالبة بالحقوق والقيام
بالواجبات... وبالمقابل فإن ضعف
هذا الشعور يدل على خلل في هذه
التصورات، ناشئ عن التربية
البيتية والمجتمعية... ولضعف
الشعور بالمسؤولية مظاهر كثيرة
في حياة الفرد الشخصية وحياته
الأسرية، بل في تعامله مع
العالم من حوله، لا سيما إذا
تبوّأ موقعاً خطيراً، فإن خطورة
هذا الضعف تزداد سوءاً بازدياد
أهمية الموقع الذي يشغله
الإنسان. ويمكن
أن نضرب أمثلة شتى، في نواحٍ
متعدّدة في الحياة، يظهر فيها
الأثر السلبي لضعف الشعور
بالمسؤولية. 1-
الإنسان الذي يتعاطى "التدخين"
اتباعاً لشهوة شاذّة، مُعرِضاً
عما يعرفه من أضرار التدخين
الصحية والاجتماعية والمادية،
ومعرّضاً نفسه وأهله لهذه
الأضرار... إنسان ضعيف الشعور
بالمسؤولية. 2-
الطالب الذي يقصّر في دراسته،
مضيّعاً مرحلة من أشدّ مراحل
عمره حيوية، غافلاً عما ينفقه
عليه أهله ومجتمعه... يفتقد إلى
الشعور بالمسؤولية. 3- والذي
يفتي في دين الله بغير علم،
فيحلُّ حراماً أو يحرِّم
حلالاً، غير مكترث بما يترتب
على فعله هذا في الدنيا والآخرة...
لا يملك الشعور بالمسؤولية. 4- الذي
ينفق الأموال إنفاقاً سفيهاً لا
يتناسب مع وضعه المادي ووضع
أسرته... لا يشعر بالمسؤولية. 5- الذي
يمزح مزاحاً ضاراً، ويؤدي إلى
إثارة رعب، أو إلى فتنة
اجتماعية... يفتقد الشعور
بالمسؤولية. 6- ومثله
الذي يسهم في نشر الإشاعات في
المجتمع، مما يثير المشاعر، أو
يحدث بلبلةً، أو يضعف البنيان
الاجتماعي... يدل على افتقاره
للشعور بالمسؤولية. 7- والذي
يلقي الفضلات في الشوارع، ولا
يبالي بما يترتب على فعله من
منافاة للذوق العام وإحداث
لأضرار مادية... لا يكاد يشعر
بالمسؤولية. 8- وأشدّ
من هؤلاء جميعاً من يكون على رأس
أكبر دولة في العالم فيمتنع عن
التوقيع على اتفاقية كيوتو
للحدّ من تأثير التغير المناخي،
طمعاً منه في مكاسب حزبية أو
انتخابية... إنسان عديم الشعور
بالمسؤولية. والذي
يجمع هذه الأمثلة جميعاً ومئاتٍ
من الأمثلة الأخرى، هو الامتناع
عن القيام بعمل إيجابي، أو
التورط في عمل خاطئ... وإذا
كانت "الفلسفة" الكامنة
وراء ذلك كله هي، كما أسلفنا،
خطأَ الإنسان في تصوّره عن
دوره، وتعامله مع سنن الله،
والتوازن بين الحقوق والواجبات...
فإن الصفة النفسية التي تقعد
بصاحبها عن الشعور بالمسؤولية،
هي ضعف الهمة وتواضع الطموح،
ولذلك كثرت أقوال الحكماء عن
علوّ الهمة والمطامح النبيلة،
تعلي من شأن أصحاب الهمة
العالية، وتنعى على الهابطين. وقبل أن
نذكر أقوال بعض هؤلاء الحكماء
نذكر آيات من كتاب الله تعالى
تدعو إلى بذل الجهد والإقدام
على العمل وترك القعود، بل تدعو
إلى بذل الغالي والرخيص في سبيل
المعالي: - فمريم
ابنة عمران التي لجأت إلى جذع
النخلة حين اشتدّ بها المخاض،
أنطق الله تعالى لها جنينها أو
وليدها ليقول لها: ((وهُزّي إليك
بجذع النخلة تُسَاقِطْ عليك
رُطَباً جنيّاً)) يا الله. في هذا
الموقف الذي تعاني فيه هذه
الفتاة الألم البدني والنفسي،
يُطلَبُ منها أن تهزّ بجذع
النخلة؟ وما قدرتها على ذلك؟!
أليس الذي خلق في بطنها هذا
الجنين على غير السنن الجارية،
وأجرى من تحتها جدول ماء...
قادراً على أن يجعل الرُّطب
يتساقط بنفسه؟! بلى. ولكن
يعلمها، ويعلّمنا من بعدها، أن
على الإنسان أن يبذل ما يستطيع،
فمن سنة الله أن يحقق الله للبشر
ما يطلبون بعد أن يبذلوا جهدهم! - وفي
سورة التوبة يعاتب ربنا سبحانه
أولئك الذين تثاقلوا عن الجهاد،
ويكشف دوافعهم الداخلية: إنها
إيثار الحياة العاجلة وزينتها
على الحياة الباقية الرفيعة: ((يا
أيها الذين آمنوا، مالكم إذا
قيل لكم انفروا في سبيل الله
اثّاقلتم إلى الأرض؟! أرضيتم
بالحياة الدنيا من الآخرة؟!...)) وبشكل
خاص فإن المنافقين الذين
تخلّفوا عن المعركة قعدت بهم
الهمم الدنيئة: ((لو كان
عَرَضَاً قريباً وسفراً قاصداً
لاتّبعوك، ولكن بَعُدت عليهم
الشُّقَّة)) ويدعو
المؤمنين جميعاً إلى العمل
الجادّ البنّاء: ((وقل اعملوا
فسيرى الله عملكم ورسوله
والمؤمنون)) وانظر
الآن في أقوال بعض الحكماء: يقول
أحدهم وهو يحضّ الشباب خاصة على
الطموح إلى المعالي: شبابٌ
قُنّع لا خير فيهم
وأحْبِبْ بالشباب
الطامحينا ويقول
آخر، مفتخراً بعلوّ الهمة في
قومه: ونحن
أناسٌ لا توسّط بيننا
لنا الصدر دون العالمين أو
القبرُ ويقول
آخر محرّضاً من كان ضعيف
المسؤولية: قد
رشّحوك لأمرٍ لو فَطِنْتَ له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع
الهَمَل ويقول
آخر مبيّناً بلوغ الشعور
بالمسؤولية حداً عالياً في قومه: لو كان
في الألف منا واحد فدَعَوا:
مَن فارسٌ؟ خاله إياه
يعنونا ****** وإذا
كان ضعف الشعور بالمسؤولية –
كما رأينا – داءً يبتلى به أناس
في شرائح عمرية واجتماعية
مختلفة، ويظهر أثر هذا الداء في
سلوكات هؤلاء الناس في مواقف
حياتية مختلفة كذلك، فإننا يمكن
أن نقف بشيء من التفصيل
والتحليل، عند هذا الداء، في
البيئة الأسرية، وذلك عندما
يكبر الولد ولا يكبر معه الشعور
بالمسؤولية، بل يبقى في مستوى
الأطفال من حيث أنه يطلب الدعم
والحماية والرعاية المادية
والمعنوية... ولا يحس أن عليه
واجبات تنمو معه كلما نما. ****** الطفولة
مرحلة عمريّة محبّبة جميلة،
نستمتع بجمالها وبراءتها،
ونغتفر ما يصدر عنها من أخطاء،
بل قد نستظرف تلك الأخطاء
ونستملحها!. فأيّنا لا يستعذب
منظر الطفل الذي لم يبلغ السنة
الأولى من عمره وهو يحاول
الوقوف والمشي فيتعثّر ويقع؟
ولا يطرب لحديث ابن السنتين وهو
يلثغ في نطق الحروف؟ ولا يبتسم
لاستنتاجات ساذجة مضحكة يخرج
بها ابن السنوات الأربع؟!... وقد تقع
أخطاء كبيرة وجُنَح، بل مصائب
وكوارث، نتيجة تصرفات صبيّ في
السادسة أو السابعة، فنلتمس له
العذر، أو نعاقبه عقوبة رمزية...
إنه طفل. لكنّ
أحكامنا هذه تتغير تدريجياً
كلما زاد عمر الطفل... حتى إذا
أدرك سن البلوغ، وصار في مقام
الكبار، صرنا نستهجن ما كنّا
نستملحه منه في طفولته!. الطفل
مثلاً يلجأ إلى البكاء لاستدرار
عطف الكبار، أو استجلابِ
اهتمامهم به، أو صرف أنظارهم عن
تجاوزٍ نجَمَ عنه... فإذا بكى
الكبير لمثل هذه الأسباب سمّى
علماء النفس فِعْلَه هذا "نكوصاً
إلى سنّ الطفولة". ويقولون
مثلاً: "الطفل الصغير يظن أنّ
أباه على كل شيء قدير" فهو
يطلب منه أن يشتري له الثوب
والحلوى والدراجة... من غير أن
يقدّر أن هذا الشراء يُرهق جيبه!
ويطلب منه أن يذبح ابن الجيران
لأن ابن الجيران هذا سرق له
دميته!. ويُحاول
الأب عادة أن يتهرّب من
الاستجابة لطلبات طفله بأساليب
مختلفة، ويُخاطبه على "قدر
عقله" من غير أن يَغْضَب منه. فإذا
جاوز الطفل هذه المرحلة العمرية
وبقي يتصرف التصرفات غير
المسؤولة، ويهدر الوقت والمال،
ويُطالب بحقوقه، أو بما يظنّه
من حقوقه، ويُخلي نفسه من
القيام بواجبه، وينسى أن ما
لقيه من رعاية، وما أُنفق عليه
من مال، وما عُفِي عنه من أخطاء
وعبث... حين كان صبياً، صار ذلك
كله كالدّيْن في عُنُقِهِ، ووجب
عليه أن يفكّر جادّاً في أن
يسدّد هذا الدين، سواء في
الجانب المادي منه، أو الجانب
الأدبي... حين يبقى الكبير طفلاً
على هذا النحو فقد دخل في دائرة
المرضى!. وقد
يسلك المسلك نفسه في تعامله مع
مختلف مؤسسات المجتمع من مدرسةٍ
ونادٍ وحزب ودولة... إنّه يطالب
"بحقوقه" ويُعفي نفسه من
الواجبات! نعم إذا
صار شاباً وبقي يتصرّف على هذا
النحو صار عبئاً على مجتمعه،
وأصبح سلوكه مستهجناً. وقد
تتعقّد الأمور أكثر إذا رافق
هذا السلوكَ الطفوليَّ فلسفةٌ
وقناعات مُستعارة من بيئة أخرى،
مع إغفال الفروق بين منظومة
القيم والأعراف والقوانين التي
تحكم بيئة، وتحكم أخرى. الغربيون
مثلاً اصطلحوا على أن سن البلوغ
التي يحاسَب الإنسان وفقها هي
سن الثامنة عشرة! فالإنسان
قبلها غير مكلّف قانونياً،
والدولة تتحمّل عنه معظم نفقاته
منذ أن تحمل به أمّه، وخلال
سنوات طفولته، حتى يبلغ سن
البلوغ تلك! فإذا بلغ تلك السن
صار مسؤولاً عن نفسه ونفقات
دراسته ومسكنه... ذكراً كان أم
أنثى... فإذا كان بحاجة إلى بعض
رعاية، فالدولة هي التي تقوم
بذلك، وهو ملتزم تجاه الدولة
بمجموعة من الواجبات التي
تُعبّر عن ولائه لها، وإسهامه
في بنائها وردّ الجميل إليها...
إنها فلسفة متكاملة: تقليص في
واجب الأسرة تجاه أبنائها،
يقابله نقص في واجبات الأبناء
تجاه والديهم... لكنها فلسفة
معوجّة جانحة حيث خلخلت بناء
الأسرة وأضعفت روابطها، ولم
توجِد المحضن البديل، وأنّى لها
أن توجِد محضناً يسدُّ مسدّ
الأسرة في التربية والرعاية
والتعاطف والمودة... أما في
بلاد المسلمين فإن الأسرة هي
مدار معظم الحقوق والواجبات،
والطفل يلقى العناية والرعاية
من أفراد أسرته، بينما يكون دور
رعاية الدولة والمدرسة
والخادمة... ثانوياً. وبمقابل
ذلك تعظم واجباته تجاه أسرته،
وتأتي النصوص القرآنية
والحديثية لتؤكّد أهمية برّ
الوالدين والإحسان إليهما،
وتبين الحقوق الأدبية
والماديّة بين الأقارب
المقرّبين، كصلة الرحم
والإنفاق واقتسام الميراث... وما
إلى ذلك. وتكتمل
المنظومة الاعتقادية والأدبية
والقانونية لتجعل الأسرة
أولاً، والمجتمع المحيط بها
ثانياً، بيئة متكافلة فيما
بينها، يحس فيها كل امرئ
بواجبه، وينال فيها حقوقه،
ويتواصل أفرادها بالحبّ والبرّ
والإحسان، ويكون الناكص عن
واجباته طفيلياً، أو طفلاً في
سنّ متقدّمة!. ((ووصينا
الإنسان بوالديه. حملَته أمه
وَهْناً على وَهْنٍ. وفِصالُهُ
في عامين أن اشكر لي ولوالديك.
إليّ المصير)) سورة لقمان: 14. ((وقضى
ربك ألا تعبدوا إلا إياه
وبالوالدين إحساناً. إمّا
يبلُغنّ عندك الكِبَرَ أحدهما
أو كلاهما فلا تقل لهما: أفّ،
ولا تنهرهما. وقل لهما قولاً
كريماً. واخفض لهما جناح الذلّ
من الرحمة وقل ربّ ارحمهما كما
ربّياني صغيراً)) سورة الإسراء:
24,23. ((ومن
آياته أن خلق لكم من أنفسكم
أزواجاً لتسكنوا إليها. وجعل
بينكم مودّة ورحمة. إن في ذلك
لآيات لقوم يتفكّرون)) سورة
الروم:21. ونقرأ
في كتب الحديث الشريف: أحاديث
كثيرة في بر الوالدين وحقوق
الزوجين وواجباتهما تجاه
بعضهما بعضاً وتجاه أولادهما،
ورعاية اليتيم، والنفقة على
العيال، وصلة الرحم... وغير ذلك
مما يقوّي لحمة الأسرة ويربطها
بشبكة متوازنة من الحقوق
والواجبات، فضلاً عن الروابط
القلبية من المودة والرحمة
والعطف. بحيث لا يبقى هناك من
يُهضم حقه، أو يُعفى من
مسؤوليته!. ****** وبعد
هذا، هل لضعف الشعور بالمسؤولية
من علاج؟! في معظم
ظواهر الخلل الاجتماعي، يحمل
تشخيصُ المشكلة مفاتيحَ الحل
والعلاج، فكل سبب أدى إلى ظهور
المشكلة فإن علاجه علاج لها. ومع
ذلك يمكن الإشارة إلى بعض
العلاج: 1- تصحيح
المفاهيم الخاطئة لدى الإنسان
الذي لا يملك الشعور العالي
بالمسؤولية، ليعرف أن الله
تعالى لم يخلقْه عبثاً بل خلقه
ليختبره، وأمره بالكدّ والعمل
والبذل والعطاء: ((وهو
الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع
بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم
فيما آتاكم. إن ربّك سريع
العقاب، وإنه لغفور رحيم))
الأنعام:165. ((وقل
اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله
والمؤمنون)) التوبة: 105. ((أفحسبتم
أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا
لا تُرجعون)) المؤمنون: 115. 2-
التنبيه، بين الحين والآخر، إلى
تقصيره وما يترتّب على ذلك
التقصير. ((وذكِّرْ
فإن الذكرى تنفع المؤمنين))
الذاريات: 55. 3-
مصاحبة أصحاب الهمم العالية
الذين يحسُّون بعِظَمِ
المسؤولية الملقاة على عواتقهم
تجاه ربهم، وتجاه أنفسهم
وأهليهم وأمتهم... إذ ليس من شيء
يؤثّر في تربية النفوس وصقلها
وتوجيهها مثلُ صحبة أهل الصلاح
والخير والفضل... وحين تصاحب من
يطلب المعالي، ويبذل الجهود
العالية في بلوغ الكمال في أي
جانب من جوانب الحياة... لا شك
يسري في روحك من روحه شيء كثير.
ومن هنا جاءت النصوص الشرعية
تدعو إلى مصاحبة هؤلاء. ((يا أيها
الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا
مع الصادقين)) 4- ويشبه
ما سبق ويعضُدُه أن تقرأ سير
أصحاب الهمم العالية من الرسل
الكرام، ومن أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم ومن تبعهم
بإحسان، فترى كيف بذلوا في
هداية أقوامهم وفي رياضة
نفوسهم، وفي طلب الحديث النبوي
ونشر العلم، وفي الجهاد في سبيل
الله والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، والتصدّي لأهل البدع
والضلال... وهل
تحسب أن الحضارة التي جاء بها
الدين الحق قد نهضت على أكتاف
الخانعين والكسالى؟! كلا، بل
قامت على أمثال أبي بكر وعمر،
وخالد والقعقاع، وسعيد بن جبير،
وعبد الرحمن الغافقي، وأبي
حنيفة والشافعي، والبخاري
ومسلم، والقرطبي وابن كثير،
والنووي والعز بن عبد السلام،
وصلاح الدين وابن تيمية... ((والذين
جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا.
وإن الله لمعَ المحسنين)) ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |