ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 23/01/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

 

تيري جونز والحامل الثقافي

ديالا بشارة*

في مشهد براني لافت, ولغة استعراضية استعلائية شكلانية محمومة, أراد القس العنصري تيري جونز أن يحرق القرآن في مشهد متعدد القراءات أمام وتحت أنظار البشرية كلها.

أراد جونز أن يستخدم الرمز, القرآن, جسراً ليعبر عليه إلى نتائج غامضة, مستفيداً من بعد الحدث, من رمزية المشهد ذاته, كي يرسم صورة اهليلجية باذخة للزمن ذاته, لهذا الرمز المهيمن, ذي السطوة الطاغية, العالي في تجريديته, في إلوهيته, اختزاناته, في عمقه, في بعده الإنساني والروحي والعقلي, في مقارباته الإشكالية وأبعاده السياسية والاجتماعية.

لهذا رغب هذا البدائي, القس تيري جونز أن يُقدم على عمل نافر, منفر, كريه ومؤلم لمشاعر كتلة بشرية كبيرة. يحرضها على الكراهية, يحرق كتابها المقدس, الجاذب, المملوء بالرموز والإيحاءات والإشارات والدلالات في مكان عام وحركي, في عملية احتفالية عامة, مسرحها العالم كله. ان يكون القرآن, بكل ثقله الزماني والمكاني, بجماله وكبريائه, موضع التجاذب والتنابذ.

الضحية الذي سيجري تقديمه للمحرقة هو الرمز بكل جلائه, القرآن, الشاهد والحدث, الخصم والمحكوم عليه.

هذا الثقل العام للرمز, للقرآن, لمكانته, قدسيته, نبله وعظمته ورسوخه التاريخي في وجدان الملايين, المستقطب, الجاذب, الفاعل العظيم في آلية الزمن وحركيته, في مده وجزره, في فرحه وعذاباته, سلمه وحروبه يستخدم كموضوع فاعل.

لقد قام هذا الرجل القميء, جونز, الشاذ أخلاقياً, المنبوذ سلوكياً في عمل منفر وكريه كي يلفت الأنظار, في محاولة مركزة, مركزية لاستحضار التاريخ, قديمه وحديثه, في أحداثه الكبيرة والخطيرة, في منعطفاته المعبرة.

ان رمزية المحاولة هو لاستحضار الماضي بثقله, برموزه وناسه ولغته, في سياقات زمانه وتعرجاته, لدفعه ورميه في الحاضر. الغاية, وسيلة, الهدف منها هو الغوص في العمق, في تعميق الانقسام الاجتماعي والنفسي على الصعيد العالمي بين المسيحيين والمسلمين, من اجل تأجيج الصراع المغموس بالدم على كل المستويات.

هي محاولة خلخلة, زعزعة هذا العالم الهش والمتداعي إلى خراب ودمار, من أجل التأثير السلبي الحاد والحاسم على مجريات الأمور ولفت الأنظار إلى قدرة هذا الحدث ذاته على بناء تصورات ورؤى ومشاهد لا تخلوا من دلالات عميقة. كما أن جونز أراد  أن يفعل ذلك ضمن حركة مسرحية هوليودية لا تخلوا من أهداف كونية بعيدة المدى, الغاية منها دفع الناس للهياج والانفلات من اللحظة الراهنة وسحبه إلى التمزق الروحي والنفسي.

لم يأت تصرف القس تيري جونز من عبث أو فراغ, إنما جاء من وعي مدروس, وعي جمعي حامل للدلالات, مفرط في تخندقه, في تمحوره على نفسه, في تشكله التاريخي وانغماسه في ذاته, في ثقافته, في استعلائيته المضخمة القائمة على التمحور الذاتي والمتمركزة على ثقافة ممركزة, مركزية. ثقافة لديها شعورها بالتفوق وفرض أجندتها وقوتها وتراتبيتها على العالم عامة وعالمنا العربي والإسلامي خاصة.

 فالفرد كما هو معلوم هو نتاج مخزون ثقافي وروحي ونفسي مؤطر في بنية اجتماعية, مترابطة داخل نسق جمعي, تعمل البيئة التاريخية على تغذيته واستمراره في عقل الإنسان وتكوينه الروحي والنفسي ونقله من جيل إلى آخر عبر تغذيته على مر العصور ومدها بالروافد المعرفية وانساق التفكير المتقاربة التي تساهم في تنميط العقل والفكر القادم إليها عبر حامل مرسخ وكامن في النفس, وراسخ في أعماق الذات الأنا المتمركزة حول نفسها, الحاملة للإشارات المتواصلة والمتعددة ما بين المتلقي والمرسل.

إن ما فعله جونز هو نتاج عقل منسجم مع نفسه, مع وعي جمعي متفوق في نظرته إلى نفسه والآخر المختلف عنه, إلى السياقات التاريخية لأنماط الفكر, والإدراك الواعي بثقل اللحظة وصخبها ورمزيتها وقوة الإشكال التي تحدثه في الآخر. لأن الحدث ذاته حدث مهم.

أراد جونز, المدرك لوعيه الأنا الشعوري, وفي دخيلة نفسه العميقة, اللاشعورية, إن البشرية متكتلة على بعضها ضمن سياقات ثقافية ونفسية متناغمة, منسجمة, تتواصل عبر لغة مشتركة داخل حدود سيكولوجية متماسكة ومتواصلة ولا تقبل الآخر, الغريب, المختلف حتى في البيئات الاجتماعية الأكثر تحضراً. مدركاً أن البشرية تعيش في الماضي, داخل عقل الطوطم, في بيئة ضيقة وحقب ماضوية مغرقة في القدم, وصولاً إلى عقلية القبيلة الأولى, المتضامنة مع بعضها في مواجهة المختلف والغريب. لم يغير الغرب, الممثل بجونز, وحامله الثقافي إلى الآن من نظرته إلى نفسه المتعالية والآخر الأدنى. لان البشرية ما زالت تعيش في بنية القبيلة المغلقة, المنغلقة على نفسها, في عودتها إلى المربع الأول, اليهودية والتلمود والمسيحيات المتعددة, في علاقة تنميطية في الفكر والممارسة, في التقوقع على الذات ورفض الآخر المختلف, المسلم تحديداً ثم البوذية, والكونفوشية وغيرها

القرآن كثقل كوني, في حوامله, في رموزه, قيمه وأفكاره, في بعده الإنساني والاجتماعي والتاريخي, في سياقات تفرده وقربه من الناس, في ربطه السماء بالأرض جعل واحداً مثل جونز يعلم ما يقدم عليه, ويعلم ردود الفعل ومقدار الألم والقهر الذي سيسببه للمسلمين في كل أنحاء العالم.

فالمحرقة التي ينوي هذا الهمجي أن يشعلها ذات أبعاد رمزية مرعبة, تتداخل فيها علاقة الإنسان بالكون والوجود, فلسفياً ومعرفياً وسيكولوجياً, بالمنظور الأبعد, في القدرة على نقل البشرية من الطوطم البدئي, القبيلة, إلى المدنية في سياق اللحظات التاريخية العميقة وفي مسارات حركته, وفي تنظيمه علاقات البشر ببعضهم وبالوجود والكون ضمن سياق منفتح, سياق القرآن الفكري والاجتماعي والسياسي المحدد لقواعد وسلوكيات البشر والتزامات هذا الفكر المركب والبسيط بالناس وحياتهم.

الدين هو حالة تكثيف للذات في الذات, انصهار هذه الذات العاقلة بالوجود والكون وإعادة الذات إلى ذاتها, في علاقة مفتوحة ومنفتحة مع الطبيعة والوجود, وإعادة التناسق والتساوق مع الكون, في حالة انفتاح النفس على العوالم الأخرى المختلفة.

إن انغلاق الدين على الدين ذاته, والتقوقع فيه, في الذات الواحدة, ينعكس الوضع بشكل سلبي على الجميع. إن حالة التقوقع, الانغلاق, عنصرية مستحكمة, تخرج من كونها هوية جامعة أو رابطة لعلاقات البشر,إنما عملية نفي للحقيقة, للآخر المختلف, لأنه بدلالته الثقافية ومخزونه الجمعي يرفع الأمر إلى درجة الصدام والصراع.

إن احتكار الحقيقة من قبل البعض يفوت الفرصة للحوار والتفاهم والتواصل الإنساني, للعقل, والانسياق نحو نمطية منحطة محنطة, مكرسة لقيم ثقافوية أحادية الجانب لا ترى في الآخر إلا شر يجب معاقبته. فالإنسان المتعصب, منغلق على نفسه, فاقد الإرادة والحرية, يتأسس وعيه في الماضي, في الوعاء الثقافي الذي يحمله تحت قبة عقله الغير محرضة على الإبداع أو التطور. كائن تقليدي, قمعي, عنفي, سيكولوجيته النفسية قائمة على احتقار الآخر ونفيه من الحياة. ينطلق من ذات منغلقة, رافضة لأي مشاركة مع الآخر, هي استجابة للشكالانية الواحدة القائمة في ذات الجماعة ذاتها, القامعة لأي جديد قادم إليها

مع الأسف ما زالت البيئة العالمية خصبة للاستعلاء والفوقية تحت ثقل ذاكرة مملوءة بالدلالات التي تودي إلى الانقسام الاجتماعي والإنساني, يغذيها الانقسام الثقافي العميق بأبعاده الاجتماعية والسياسية, يؤدي عملياً إلى استحالة التواصل بين المسلمين بالمسيحيين ويزيد الفجوة بينهم في التعايش المشترك والتواصل الإنساني, لغياب لغة جامعة بينهم.

ــــــــــ

*كاتبة لبنانية - السويد

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ