ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
تعذيب
الناس .. جريمة خارج العصر أ.د
. عبد الرحمن البر* الحمد
لله ، والصلاة والسلام على رسول
الله وعلى آله وأصحابه ومن دعا
بدعوته إلى يوم الدين. وبعد ،
فما أكثر ما تطالعنا الأخبار
بحصول حالات تعذيب وقهر وإيذاء
لبعض المواطنين في أقسام الشرطة
أو في مقار الأجهزة الأمنية،
ولعله ليس آخرها ما جرى للشاب
السكندري سيد بلال الذي نسب إلى
أحد ضباط أمن الدولة التسبب في
قتله بتعذيبه، ربما لإجباره على
الاعتراف بارتكاب جريمة لا يد
له فيها ولا علم له بمرتكبها،
وهو ما يعد جريمة قتل غير
مشروعة، أو خارج إطار القانون
بالتعبيرات القانونية الحديثة،
وقد سبق أن كتبتُ عن الموقف
الصارم للشريعة الإسلامية من
هذه الجريمة، وعن أثر الاستبداد
في شيوع هذه الجريمة، وعن
الآثار السلبية المدمرة للحاضر
والمستقبل في الأمة التي يفشو
فيها هذا الداء الوبيل. ومع
سقوط زين العابدين بن علي أحد
أباطرة التعذيب والاستبداد في
عالمنا العربي والإسلامي، وما
يتكشف بشكل متكرر من حالات
التعذيب في أنحاء متعددة من
عالمنا العربي والإسلامي، فإن
من المهم أيضا أن نستقبل
بالترحيب استقالة وزير
الداخلية الكويتي إثر انكشاف
إحدى حالات التعذيب، وكان لافتا
أن الوزير قال في سابقة غير
معهودة في ظل النظم العربية
الحالية: إنه لا يشرفه أن يكون
على رأس وزارة تعذب المواطنين،
وإنا لندعو الله أن تصيب هذه
العدوى مراكز الإحساس في وزارات
الداخلية في بلادنا العربية
والإسلامية. وفي هذه
السلسلة أعيد إلقاء الضوء على
موقف الإسلام من هذه الجريمة
الكبرى، من خلال النقاط التالية: 1- موقف
الإسلام من تعذيب البشر في غير
حق. 2 -
ماذا يجب على من رأى التعذيب
أو علم به 3 -
حكم التعذيب المفضي إلى
القتل 4 - هل
يحل لمن وقع عليه التعذيب أن
ينتقم ممن عذبه أو أن ينتحر يأسا
وقنوطا واحتجاجا على الظلم. 5 - هل
يعذر القائم بالتعذيب إذا كان
مأمورا بذلك من قيادة أعلى 6 - أيها
الحكام، من رفق بالناس رفق الله
به ومن شق عليهم شق الله عليه 7 -
الإقساط والإحسان والعدل أصلح
أثرا وأجدى نفعا من الظلم
والجور والتعذيب 8 -
نماذج من العدل في التعامل مع
الناس أولا :
موقف الإسلام من تعذيب البشر في
غير حق: أخرج
الإمام مسلم في صحيحه عَنْ
هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ
حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ:
مَرَّ بِالشَّامِ عَلَى
أُنَاسٍ وَقَدْ أُقِيمُوا فِي
الشَّمْسِ وَصُبَّ عَلَى
رُءُوسِهِمُ الزَّيْتُ،
فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ:
يُعَذَّبُونَ فِي الْخَرَاجِ.
فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ
يُعَذِّبُ الَّذِينَ
يُعَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا» وفى
رواية عند الإمام مسلم أيضا، عن
عروة بن الزبير قَالَ: مَرَّ
هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ
حِزَامٍ عَلَى أُنَاسٍ مِنَ
الأَنْبَاطِ بِالشَّامِ قَدْ
أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ
فَقَالَ: مَا شَأْنُهُمْ؟
قَالُوا: حُبِسُوا فِي
الْجِزْيَةِ. فَقَالَ هِشَامٌ:
أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ
يُعَذِّبُ الَّذِينَ
يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي
الدُّنْيَا». والأنباط:
هم فلاحو العجم، أي الفلاحون في
الشام من غير العرب. وفى
رواية عند مسلم: عَنْ عُرْوَةَ
بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ
هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ وَجَدَ
رَجُلاً وَهُوَ عَلَى حِمْصَ
يُشَمِّسُ نَاسًا مِنَ
النَّبَطِ فِي أَدَاءِ
الْجِزْيَةِ، فَقَالَ: مَا
هَذَا؟ إِنِّي سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ
يُعَذِّبُ الَّذِينَ
يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي
الدُّنْيَا». وفي
رواية قَالَ: وَأَمِيرُهُمْ
يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ
سَعْدٍ عَلَى فِلَسْطِينَ
فَدَخَلَ عَلَيْهِ -أي دخل عليه
هشام- فَحَدَّثَهُ فَأَمَرَ
بِهِمْ فَخُلُّوا. هذا
الحديث يكشف أن سيدنا هشام بن
حكيم بن حزام رضي الله عنه رأى
قوما من النَّبَط أو من فلاحي
بلاد الشام من العجم من غير
المسلمين، وقد تأخَّروا عن أداء
الحقوق المالية للدولة، فأخذهم
الحاكم أو الوالي يومئذ وأقامهم
في حرِّ الشمس، وصبَّ على رؤوس
بعضهم الزيت زيادة في النكال
والتعذيب، متجاهلا نهي النبي
صلى الله عليه وسلم عن هذا الفعل
الشنيع. وهكذا
نرى الإسلام الحنيف واضحا كل
الوضوح في النهى عن تعذيب الناس
بغير حق، سواء كان هذا التعذيب
لإجبارهم على اعتناق شيء، أو
لإكراههم على فعل شيء، بل اعتبر
الإسلام الضغط والإكراه
بالتعذيب عملا مشينا يعرض فاعله
لعذاب الله يوم القيامة كما في
الحديث، حتى لو كان من توجه إليه
الضغط أو التعذيب مقصِّرا في
أداء الحق الذي عليه، فليس هذا
سبيلا مشروعا ولا مقبولا
لاقتضاء الحقوق، حتى لو كانت
حقوق الدولة. ومن
أروع التطبيقات في ذلك ما رواه
البيهقي عن رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفَ
قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَلَى بُزُرْجِ
سَابُورَ (بلدة من البلاد)
فَقَالَ: لاَ تَضْرِبَنَّ
رَجُلاً سَوْطًا فِي جِبَايَةِ
دِرْهَمٍ، ... وَلاَ تُقِمْ
رَجُلاً قَائِمًا فِي طَلَبِ
دِرْهَمٍ. قَالَ: قُلْتُ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذًا
أَرْجِعَ إِلَيْكَ كَمَا
ذَهَبْتُ مِنْ عِنْدِكَ! (يعني
لن يجبي شيئا للدولة) قَالَ:
وَإِنْ رَجَعْتَ كَمَا
ذَهَبْتَ، وَيْحَكَ! إِنَّمَا
أُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ
مِنْهُمُ الْعَفْوَ، يَعْنِي
الْفَضْلَ. ثانيا:
ماذا يجب على من رأى التعذيب أو
علم به: لما رأى
الصحابي الجليل هشام بن حكيم بن
حزام تلك الصورة البشعة التي
يرفضها الإسلام، لم يدفن رأسه
في الرمال ولم يتجاهل ما حصل،
بزعم أن المتعرضين للتعذيب
أخطؤوا أو أنهم غير مسلمين، أو
أن ما فعلوه يدخل في باب التمرد،
أو غير ذلك من التبريرات التي
يسوقها مفتو الضلالة لمن
يرتكبون أمثال هذه الجرائم،
وإنما أعلن اعتراضه على ذلك،
وبَّين الحكم الشرعي في هذا
الفعل القبيح المستقبح أصلا
وشرعا؛ فإن الوالي إذا اعتبر
تعذيب الناس هو السبيل إلى أداء
الحقوق، كان بذلك معذِّباً
نفساً بغير حق. وكان
هشام بن حكيم رضي الله عنه
إيجابيا حيث لم يكتف بذكر الحكم
الشرعي، بل تحرك وذهب إلى
الوالي الذي أمر بذلك وهو عمير
بن سعد فأبلغه بحديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فأمر عمير
بن سعد بهؤلاء الناس فخلي
سبيلهم. وتكرر
هذا من حكيم بن حزام مرة أخرى؛
حين رأى عياض بن غَنْم يفعل ذلك
مع أهل حمص من غير المسلمين وهو
يُشمِّسهم أو يقيمهم في الشمس،
ويبدو أن ذلك كان أحد صور النكال
والعقوبة لمن يخالف أمر الولاة. فقد
أخرج ابن حبان وغيره في صحيحه عن
عروة بن الزُّبَيْرِ: أَنَّ
هِشَامَ بن حَكِيمِ بن حِزَامٍ،
وَجَدَ عِيَاضَ بن غَنْمٍ
وَهُوَ عَلَى حِمْصَ شَمَّسَ
نَاسًا مِنَ النَّبَطِ فِي
أَخْذِ الْجِزْيَةِ، فَقَالَ
هِشَامُ بن حَكِيمٍ: مَا هَذَا
يَا عِيَاضُ؟ إِنِّي سمعتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ
يُعَذِّبُ الَّذِينَ
يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي
الدُّنْيَا». فلم
يقبل سيدنا هشام بن حكيم إذ رأى
هذا المنظر غير الإنساني وغير
اللائق أن يسكت على هذه
الجريمة، ومن ثم تحرك وأعلم
فاعل هذا بلعنة الله ورسوله
وبما يستحقه من عذاب حينما يلقى
الله تبارك وتعالى. وذلك ما يجب
على كل من رأي مثل هذا المنكر أو
علم بمثل هذه الجريمة. وهذه
دعوة لكل دعاة حقوق الإنسان
ولكل الجمعيات والهيئات
والأفراد ذات العلاقة بالقيام
بواجبهم في إنكار هذه الجريمة
أيا كان مرتكبها، بل هي دعوة
للأمة جميعا بعدم السكوت على
انتهاك كرامة الإنسان أيا كان
جنسه أو دينه، حتى لو كان مرتكبا
لشيء يستحق المؤاخذة عليه، فلا
يجوز معاقبته خارج السياق
القانوني للخطإ الذي ارتكبه. ثالثا:
التعذيب المفضي إلى القتل هو
قتل عمد: إذا كان
الإسلام قد حرم تعذيب النفس
البشرية بغير موجب شرعي حتى لو
كانت غير مسلمة، وحتى لو كانت
متعدية، كما رأينا في الحديث
هشام بن حكيم وهو يرفض تعذيب
الذين يتأخرون في أداء ما عليهم
من حق للدولة، فكيف إذا كان
التعذيب واقعا على الصالحين
والمصلحين لمجرد المخالفة في
الرأي؟ كيف إذا قام الحاكم أو
الأمير أو أعوانه بتعذيب من
خالفوهم في الرأي ومن عارضوهم
في فسادهم واستبدادهم. وكيف لو
أدى هذا التعذيب إلى القتل؟ لقد
تجاوز الإسلام كافة التشريعات
البشرية حين لم يقف عند حد وضع
العقوبات المادية الدنيوية
للاعتداء على النفس الإنسانية
بغير حق، بل توعد المعتدين على
النفوس بعذاب عظيم، فإن أفلت من
عقاب الدنيا لأي سبب فلن يفلت من
عقاب الله {وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ
خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ
وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا
عَظِيمًا} (النساء: 93) وتتابعت
الآيات القرآنية والأحاديث
النبوية في النهي عن الاعتداء
على النفس بأساليب مختلفة تملأ
النفس رهبةً من الإقدام على مثل
هذا الجرم العظيم. كيف وقد
أخبر الشارع عن امرأة أدخلت
النار بسبب هرَّة عذبتها. فقد
أخرج البخاري عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله
عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عُذِّبَتِ
امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ
حَبَسَتْهَا، حَتَّى مَاتَتْ
جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا
النَّارَ -قَالَ: فَقَالَ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لاَ أَنْتِ
أَطْعَمْتِهَا وَلاَ
سَقَيْتِهَا حِينَ
حَبَسْتِيهَا، وَلاَ أَنْتِ
أَرْسَلْتِيهَا فَأَكَلَتْ
مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ». هذا
فيمن عذَّب حيوانا حتى قتله،
فكيف بمن عذب إنسانا، فكيف بمن
عذب مسلما، فكيف بمن عذب تقيا،
فكيف بمن عذب مصلحا؟ أخرج
البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي
الله عنهما قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: «لَنْ يَزَالَ
الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ
دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا
حَرَامًا» وأخرج النَسائي
وغيره من حديث عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَتْلُ
مُؤْمِنٍ أَعْظَمُ عِنْدَ
اللَّهِ مِنْ زَوَالِ
الدُّنْيَا» أما في
الدنيا فإن فاعل هذا يعاقب
معاقبة قاتل العمد، يجب القصاص
منه حسبما أتت به أحكام
الشريعة، ويستوي في ذلك القائم
بالتعذيب والآمر به، فهم جميعا
شركاء في هذه الجريمة، ولا تسقط
الجريمة ولا العقوبة مهما طال
الزمن. وحسنا
فعلت الأمم المتحدة -وما أقل
حسناتها- حينما اعتبرت جريمة
تعذيب الناس بغير حق من الجرائم
ضد الإنسانية التي لا تسقط
بالتقادم، وأعطت كل دول العالم
على ذلك عهودها ومواثيقها بمنع
هذه الجريمة وملاحقة فاعليها
واعتبارها جرائم لا تسقط
بالتقادم، وأيا كانت مواقع
ومواضع الذين يقومون بها، فكل
قوانين الدنيا وكل دساتير
الدنيا جاءت لتؤكد هذا الموقف
الإسلامي الذي أكد من قبلها
بأمد بعيد على حرمة النفس
الإنسانية وعدم جواز تعذيبها
بغير موجب شرعي. ولو
اشترك في التعذيب أكثر من واحد
فإنهم جميعا يحاسبون باعتبارهم
قتلة، فقد روى الترمذي عن أبي
سعيد الخدري وأبي هريرة رضي
الله عنه عن رسول الله صلي الله
عليه وسلم قال: «لَوْ أَنَّ
أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ
الأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ
مُؤْمِنٍ لأَكَبَّهُمُ اللَّهُ
فِي النَّارِ». بل إن
من أعان على قتل شخص ولو بكلمة
فإنه ولا شك يكون آثماً مشاركاً
في دمه، وقد نهى الله عن الركون
والميل القلبي إلى الظالمين،
فقال عز وجل {وَلَا تَرْكَنُوا
إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا
لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ
أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا
تُنْصَرُونَ} (هود: 113)، فكيف
بإعانتهم ودلالتهم ومساعدتهم
على ظلمهم وتعذيبهم للناس؟ أخرج
ابن ماجه وغيره عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: «مَنْ أَعَانَ عَلَى
قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ
كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ مَكْتُوبٌ بَيْنَ
عَيْنَيْهِ: آيِسٌ مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ». رابعا:
هل يحل لمن وقع عليه التعذيب أن
ينتقم ممن عذبه أو أن ينتحر يأسا
وقنوطا واحتجاجا على الظلم: لا ريب
أن الإحساس بالظلم أمر في غاية
المرارة، وأنه يترك في النفوس
ألما لا ينمحي بسهولة، فإذا قرن
بالتعذيب والإهانة كان أمرَّ
وأصعب، وربما ملأ النفوس بالحقد
وبعث فيها الرغبة على الانتقام
بأي وسيلة، خصوصا إذا كان الظلم
من قبل السلطة وأجهزتها الأمنية
وغلب على الإنسان المظلوم
المهان أنه لا سبيل له إلى العدل
أو نيل الحق ممن عذبه وآذاه، فهل
يجوز لمن وقع عليه الظلم
والتعذيب أن يقتص بيده ممن ظلمه
أو عذبه؟ الإجابة:
لا يجوز ذلك، ولا يصح أن يقوم
بمعاقبة الظالم إلا الحاكم، أو
من يعيِّنه الحاكم لهذا العمل
كالقضاة وغيرهم، بعد أن ترفع
القضية إليهم ويتحققوا من
ثبوتها، وليس لآحاد الأمة ولا
لأي مجموعة فيها أن تقتص
للمظالم إذا تغافل عنها الحكام؛
لئلا يحدث ما يفتت الأمة ويشيع
فيها الفوضى، فإن لم يُقِمْها
ولاة الأمور فإنهم يتحملون إثمَ
هذه المظالم، ولكن لا يقوم
آحادُ الأمة بتطبيقها. وليس
علينا عندئذٍ إلا الأمرُ
بالمعروف والنهيُ عن المنكر
والدعوةُ لرد المظالم وتحقيق
العدالة بالوسائل المشروعة،
وليس القيام برد تلك المظالم من
اختصاص الأفراد أو الجماعات أو
الأحزاب أو الهيئات التي لم
ينتدبها الحاكم لهذه المهمة. وبناءً
على ما سبق لا يجوز لشخصٍ مهما
كان أن يتولى الانتقام والقصاص
ممن قام بالظلم والتعذيب، سواء
كان المظلوم نفسه أو أباه أو
أخاه أو عمّه أو خاله أو شيخَ
قبيلته أو رئيسَ جماعته أو غير
ذلك، وإلا عمت الفوضى المجتمعات
وسقط الناس في الفتنة. لكن مما
لا مانع منه أن يستفاد من
معاهدات منع التعذيب التي
وقعتها الدول في رفع قضايا
التعذيب على هذا الظالم
وملاحقته قضائيا خارج القطر
الذي وقعت فيه جريمة التعذيب،
وخصوصا إذا كان متمكنا في قطره
بحيث لا يمكن القصاص منه. لكن هل
تعبير بعض الناس عن الإحساس
بالظلم من خلال الانتحار وإحراق
أنفسهم هو السبيل الصحيح؟ مع
التقدير لكل ما نتج من ثورة
مباركة على إثر ما قام به الشاب
التونسي محمد البوعزيزي غفر
الله له فإنني أرى أن الأولى
بالحرق هم أولئك الظالمون الذين
استبدوا بالأمر وساموا الناس
سوء العذاب، وقد شرع الإسلام
أبواب الاحتجاج المختلفة على
الظلم والظالمين، وعد مواجهة
السلطان الجائر بكلمة الحق من
أعظم الجهاد ففيما أخرجه أبو
داود والترمذي وغيرهما عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ
الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ
عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِر». أَوْ
«أَمِيرٍ جَائِرٍ»، وفي مسند
أحمد: «أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ
رَجُلاً مَهَابَةُ النَّاسِ
أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ
إِذَا عَلِمَهُ أَلاَ إِنَّ
أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ
حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ
جَائِرٍ»، وفي رواية: «وَمَا
شَىْءٌ أَفْضَلَ مِنْ كَلِمَةِ
عَدْلٍ تُقَالُ عِنْدَ
سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَلاَ
يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمِ
اتِّقَاءُ النَّاسِ أَنْ
يَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ إِذَا
رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ»، وأخرج
النَسائي وغيره بسند صحيح عَنْ
طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ
رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم وَقَدْ وَضَعَ
رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ: أَيُّ
الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كَلِمَةُ
حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ
جَائِرٍ». وحتى لو
صعَّر السلطان خده فرفض كلمة
الحق، أو استشاط غضبا فقتل من
نطق بها فإنه يُعَدّ من أعظم
الشهداء، فقد صحح الحاكم في
المستدرك عن جابر رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «سَيِّدُ
الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ
عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ
قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائَرٍ
فَأَمَرَهُ فأمرهُ وَنَهَاهُ
ونهاهُ فَقَتَلَهُ». أما
الاحتجاج على الظلم عن طريق قتل
النفس أو الانتحار بأي طريقة
فهو ممنوع شرعا، فقد حرَّم
الإسلام قتل النفس بسبب اليأس
أو فقدان الأمل ونحو ذلك وسوَّى
بين الاعتداء على النفس
والاعتداء على الغير، فقال
تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء/29]
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم
من ذلك غاية التحذير، ففي
الصحيحين عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: «مَنَ قَتَلَ
نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ
فَحَدِيدَتُهُ فِى يَدِهِ
يَتَوَجَّأُ بِهَا فِى
بَطْنِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ
خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا
أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا
فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ
يَتَحَسَّاهُ فِى نَارِ
جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا
فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ
تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ
نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى
فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا
مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا».
وأخرج
مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ
سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ :
أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ
بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَلِّ
عَلَيْهِ. وقال أهل العلم:
إِنَّمَا فعل ذَلِكَ
لِيُحَذِّرَ النَّاسَ بِتَرْكِ
الصَّلاَةِ عَلَيْهِ فَلاَ
يَرْتَكِبُوا كَمَا ارْتَكَبَ،
مثلما فعل مع مَنْ مَاتَ
وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوَّلَ
الْأَمْرِ، لكن الصحابة صلوا
عليه، ولهذا كان رأي جمهور
الفقهاء الصلاة على قاتل نفسه،
وأمره إلى الله. خامسا:
إذا أكره السلطان أو غيره أحدا
على تعذيب شخص أو قتله بغير حق
فهل يكون ذلك عذرا لمن قام
بالتعذيب ويدخل ذلك في
الاستكراه الْمَعْفُوِّ عنه
شرعا؟ في
البداية لا بد من التأكيد على أن
كل نظام لا يستقر إلا بالسمع
والطاعة من المستويات الأدنى
للأعلى، لكن الشريعة لم تجعل
هذه الطاعة مطلقة، بل قيد
الشارع السمع والطاعة بالمعروف
معصية فيه، فلا طاعة لمخلوق في
معصية الخالق، وقد اخرج الشيخان
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضى الله
عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم قَالَ: «السَّمْعُ
وَالطَّاعَةُ حَقٌّ، مَا لَمْ
يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ،
فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ
فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ». ومن
المعلوم بالضرورة أن تعذيب
النفس بغير حق هو من أكبر
المعاصي وأشدها جرما، وإذا أفضى
إلى قتل فإنه يعد قتل عمد، كما
سبق، وبالتالي فلا يحل لضابط
ولا لجندي ولا لشخص كائنا من كان
أن يستجيب لمن يأمره بتعذيب شخص
آخر، لكن ماذا لو أكره على ذلك؟ من رحمة
الله تعالى بعباده أنه لم
يؤاخذهم بما ليس في طاقتهم، ولم
يكلفهم ما لا يطيقون، ولذلك عفا
عن الْمُكْرَه والمخطئ غير
المتعمد والناسي،كما في حديث
ابن ماجه الذي صححه ابن حبان
والحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم :«إِنَّ اللَّهَ
وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي
الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ
وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
وصرَّح
القرآن بالتجاوز عن المُكرَه
ولو على النطق بالكفر، معتبراً
أن لا إثم عليه في هذا القول،
فقال عز وجل {مَنْ كَفَرَ باللهِ
مِنْ بعدِ إيمانِهِ إلا مَنْ
أُكرِه وقلبُهُ مطمئنٌ
بالإيمان} (النحل: 106). لكن
العلماء جعلوا المُكْرَه على
ارتكاب فعلٍ مُحَرَّمٍ نوعين: الأول:
مَن لا قدرة له على الامتناع ولا
اختيار له بالكلية، فهذا لا إثم
عليه باتفاق العلماء، كمن حُمل
كَرْهاً وضُرِب به غيره حتى مات
ذلك الغير. النوع
الثاني: مَنْ أُكرِه مع إمكانه
ألَّا يفعل ما أُكرِه عليه،
ولكنه فعل ما أُكرِه عليه دفعاً
للضرر عن نفسه، أو طلبا للترقية
أو للحصول على مكافأة ممن
أكرهه، وتحت هذا النوع تندرج
هذه المسألة، إذْ قد يأمر
السلطان أو غيره من ذوي القوة
والسطوة بعضَ جنودهم أو
شُرَطَتهم أو أصحابهم بتعذيب أو
قتل نفسٍ بغير حق، ويخشى
المأمور بذلك أن يتعرض للضرر أو
العقوبة إن لم يستجب لهذا الضغط
وهذا الإكراه، فهل يباح له طاعة
من يأمره بالتعذيب أو القتل
متذرعاً بأنه مكره؟. الذي
اتفقت عليه كلمة علماء المسلمين:
أنه لو أُكره على قتل نفسٍ بغير
حقٍ، فإنه يجب عليه أن يمتنع،
ولا يجوز له بأي حالٍ من الأحوال
أن يقتله، حتى لو هُدِّد هو
بالقتل عند الامتناع، لأنه
عندئذٍ يكون قد قتله باختياره
افتداءً لنفسه من القتل، وهذا
لا يجوز. ويستطيع
المأمور بالتعذيب أو القتل من
رجال الشرطة أن يستقيل من
مهمته، بل يستطيع في ظل
القوانين القائمة أن يرفض الأمر
ويتظلم لدى الجهات القضائية
المختلفة، ولا عذر له إن استمر
في مهمة يدرك جرمها وحقارتها. سادسا:
أيها الحكام من رفق بالناس رفق
الله به ومن شق عليهم شق الله
عليه: روى
مسلم عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ شُمَاسَةَ قَالَ: أَتَيْتُ
عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ
شَيْءٍ، فَقَالَتْ: مِمَّنْ
أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ
أَهْلِ مِصْرَ. فَقَالَتْ:
كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ
لَكُمْ فِي غَزَاتِكُمْ
هَذِهِ؟ فَقَالَ: مَا نَقَمْنَا
مِنْهُ شَيْئًا، إِنْ كَانَ
لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا
الْبَعِيرُ فَيُعْطِيهِ
الْبَعِيرَ، وَالْعَبْدُ
فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ،
وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ
فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ.
فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لاَ
يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ
فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِى
بَكْرٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ
مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: «اللَّهُمَّ
مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ
أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ
عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ
عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ
أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا
فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ
بِهِ». فالوالي
الحكيم هو ذلك الذي يتفقد حاجة
من ولاه الله أمورهم، ويحقق لهم
الكفاية في حوائجهم، ولا ينشغل
بنفسه وحاشيته عن تفقد أحوالهم
وحل مشكلاتهم، فيستحق أن يرفق
الله به، ويملأ القلوب محبة له. والنبي
صلى الله عليه وسلم في هذا
الحديث يدعو على من شق على الأمة
بأن يلقى المشقة، كما يدعو
للرفيق بأن يعامله الله تبارك
وتعالى بمثل عمله، أي يفعل به ما
فعل بعباده من الرفق مجازاة له
بمثل فعله، وهذا دعاء ولا شك
مستجاب؛ لأنه دعاء النبي صلى
الله عليه وسلم. ولا يشك
عاقل في حقيقة استجابة الله
تعالى لدعاء النبي صلى الله
عليه وسلم ، ولا يرتاب عاقل في
أنه ما مرَّ على الناس حاكم أو
أمير ذو عسف وعنت وجور وظلم
وعامل الناس بالعتو والاستكبار
إلا كان آخر أمره وبالا
وانعكاسا للأحوال، ولعل ما جرى
لحاكم تونس المستبد شاهد واضح
على ذلك، وحتى إذا لم يعاقب بذلك
في الدنيا فإن الله تبارك
وتعالى يعاقبه على ذلك يوم
القيامة في سقر وبئس المستقر. وفيما
رواه أبو يوسف القاضي بسند حسن
عن ابن عباس عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: «أَلَا مَنْ
وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي
شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فِي
حَوَائِجِهِمْ رَفَقَ اللهُ
بِهِ يَوْمَ حَاجَتِهِ، وَمَن
احْتَجَبَ عَنْهُمْ دُونَ
حَوَائِجِهِمْ احْتَجَبَ اللهُ
عَنْهُ دُونَ خَلَّتِهِ
وَحَاجَتِهِ» فاعتبر
النبي صلى الله عليه وسلم
الاحتجاب عن قضاء مصالح الناس
لونا من ألوان التعذيب، إذ يجعل
الحياة على الناس شاقة، ولا
يستطيع المظلوم أن يبلغ مظلمته
ولا أن يأخذ حقه ولا أن ينتصف
له، فكيف إذا مارس مع ذلك
التعذيب البدني والنفسي على
الناس؟! ولهذا
كان عقلاء الحكام لا يتأخرون عن
التعرف غلى حوائج الناس، ولا
يتأخرون في قضائها. أخرج أبو
داود بسند صحيح أن أَبَا
مَرْيَمَ الأَزْدِيَّ قَالَ:
دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ
فَقَالَ: مَا أَنْعَمَنَا بِكَ
أَبَا فُلاَنٍ. وَهِيَ كَلِمَةٌ
تَقُولُهَا الْعَرَبُ،
فَقُلْتُ: حَدِيثًا سَمِعْتُهُ
أُخْبِرُكَ بِهِ، سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم يَقُولُ: «مَنْ وَلاَّهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا
مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ
فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ
وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمُ
احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ
دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ
وَفَقْرِهِ». قَالَ: فَجَعَلَ
مُعَاوِيَةُ رَجُلاً عَلَى
حَوَائِجِ النَّاسِ. ولهذا
قالت الحكماء: الظلم لا يدوم وإن
دام دمَّر، والعدل لا يدوم وإن
دام عمَّر. الظلم
مرتع وخيم وعاقبته وبال على
الظالمين قبل المظلومين، وهذا
من أبلغ الزجر عن المشقة على
الناس أو تعذيب الناس، ومن أبلغ
الحث على الرفق بعموم الرعية،
وهو ما تظاهرت عليه الأدلة
وجاءت به الأحاديث. وفيما
أخرجه الشيخان عن عَبْدِ
اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قال:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يَقُولُ: «كُلُّكُمْ
رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ
عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ
رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ ...» إلى آخر
الحديث، والرعاية تعنى العناية
والشفقة، مثلما يفعل الراعي
الشفيق بمن تحت يده، وبهذا
تستقر الحكومات والنظام ويحصل
الانتظام. شتَّان
بين دولةٍ أساسُ الحكم فيها
الاستبداد والسجنُ والكرباجُ
والتعذيب، ودولةٍ يقول حاكمُها
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
لوُلاته: «... أَلَا وَإِنِّي
لَمْ أَبْعَثْكُمْ أُمَرَاءَ
وَلَا جَبَّارِينَ، ولكِنْ
بَعَثْتُكُمْ أَئِمَّةَ
الهُدَي، يُهْتَدَي بِكُمْ،
أدِرُّوا على المسلمين
حقوقَهم، ولاَ تَضْرِبُوهم
فَتُذِلُّوهُمْ، وَلاَ
تُجَمِّرُوهُمْ (أي لا تحبسوهم
بغير حق) فَتَفْتِنُوهُمْ، ولا
تُغْلِقُوا الأَبْوَابَ
دونَهم، فَيَأْكُلَ قَوِيُّهم
ضَعِيفَهم، ولا تَسْتَأْثِرُوا
عليهم فتَظْلِمُوهُم، ولا
تَجْهَلُوا عليهم». وما
أروعَ قولَه صلي الله عليه وسلم
: «أَيُّهَا الرُّعَاءُ،
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ حِلْمٍ
أَحَبَّ إِلَى اللهِ، وَلَا
أَعَمَّ نَفْعًا مِنْ حِلْمِ
إِمَامٍ وَرِفْقِهِ، وَلَيْسَ
مِنْ جَهْلٍ أَبْغَضَ إِلَى
اللهِ وَأَعَمَّ ضَرَرًا مِنْ
جَهْلِ إِمَامٍ وَفَرَقَهِ(يعني
شدته)، وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذْ
بِالْعَافِيَةِ فِيمَا بَيْنَ
ظَهْرَانَيْهِ يُعْطَ
العَافِيَةَ مِنْ فَوْقِه». (انظر
كتاب الخراج لأبي يوسف القاضي) وقد
حذَّر النبيُّ صلى الله عليه
وسلم الحكام من ظلم الناس
وأخذهم بالشدة، فقال فيما رواه
مسلم: «إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ
الْحُطَمَةُ» يعني قليلَ
الرحمة برعيَّتِه، والذي
يسوقهم سَوْقًا شديدًا عنيفًا
لا رفقَ فيه، ويأخذهم بالشدة
والظلم ويطوعهم بالقهر
والتعذيب. سابعا:
الإقساط والإحسان والعدل أصلح
أثرا وأجدى نفعا من الظلم
والجور والتعذيب: إن
الإقساط إلى الرعية والعدل فيهم
والإحسان إليهم من أسباب رحمة
الله جل وعلا بالحكام
والمحكومين، وإن الظلم للرعية
والشدة عليهم والجور عليهم من
أسباب سخط الله تبارك وتعالى. أخرج
مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ
الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ
عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ
عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ
عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا
يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ
يَعْدِلُونَ فِى حُكْمِهِمْ
وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا». وخير
الأئمة من أحبته الرعية لرفقه،
وشر الأئمة من كرهته الرعية
لشدته وعسفه وظلمه وسماحه
لزبانيته بتعذيب الناس. أخرج
مسلم عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ،
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قَالَ: «خِيَارُ
أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ
تُحِبُّونَهُمْ
وَيُحِبُّونَكُمْ
وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ
وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ
وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ
الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ
وَيُبْغِضُونَكُمْ
وَتَلْعَنُونَهُمْ
وَيَلْعَنُونَكُمْ». وهكذا
كان الناس في العصر الأول،
وهكذا كان الخلفاء الراشدون
والأئمة المهديون. وإذا
نظرنا إلى مراحل السقوط في
تاريخنا الإسلامي قاطبةً، بل في
تاريخ كل أمم الأرض وجدنا أنها
كانت دائمًا تمر بمراحل من
الحكامِ الظلمة المستبدين،
الذين يسوقون الأمةَ بعصا الأمن
الغليظة، ويعتبرون أن تعذيب
الناس وإخضاعهم بالقهر علامة
القوة والهيبة، فيستبدون
بآرائهم ويخضعون لأهوائهم غير
عابئين بالرفق بالرعية أو
مشاورة أهل الرأي فيها، أو
بأخذها إلى ما فيه صلاحُ حالها،
بل يتلذذون بمعاناة الناس
ويستحلون تعذيبهم، ويسمحون
بتكديس الثروات في أيدي أعوانهم. أخرج
الترمذي عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا
كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ
خِيَارَكُمْ،
وَأَغْنِيَاؤُكُمْ
سُمَحَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ
شُورَى بَيْنَكُمْ؛ فَظَهْرُ
الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ
بَطْنِهَا (أي: الحياة خير لكم
من الموت)، وَإِذَا كَانَ
أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ،
وَأَغْنِيَاؤُكُمْ
بُخَلاَءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ
إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ
الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ
ظَهْرِهَا». (أي فالموت خير لكم
من الحياة). أفيمكن
أن تخالفَ أمةٌ هذه المبادئَ
الإنسانيةَ العاليةَ وهذه
القيمَ الربانية الرفيعة ثم
يكون لها شأنٌ أو كيانٌ محترمٌ،
ويبقي اسمُها في سِجِلِّ
الخلود؟! ثامنا:
من أرقى نماذج العدل في الإسلام: فهذا
الخليفة العادل عمر رضي الله
عنه، يقف فيخطب الناس في مكة،
وقد جاء الناس من جميع أقطار
الدولة الإسلامية، فيعلن لهم أن
سياسته تمنع بكل حسم تعذيب
الناس أو ضربهم بغير حق أو أخذ
أموالهم بغير حق، ويعطي لعموم
الرعية رفع شكاواهم إليه شخصيا
إن أصابهم شيء من ظلم الأمراء
الذين يوليهم أمور البلاد،
ويعلن أنه لن يترك حق المظلوم
ولن يتأخر عن القصاص من أي حاكم
يستغل سلطانه في إيذاء الناس
بغير حق، فيقول رضي الله عنه: «أيها
الناس إنا كنا نعرفكم (أي نعرف
حقيقة ما في نفوسكم) إذ كان فينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم
وإذ ينزل الوحي، وإذ نبَّأنا من
أخباركم، ألا وإن النبي صلى
الله عليه وسلم قد انطلق ورُفع
الوحي، وإنما نعرفكم بما أقول
لكم، ألا ومن يظهر منكم خيرا
ظننَّا به خيراً وأحببناه عليه،
ومن يظهر منكم شرا ظننا به شرا
وأبغضناه عليه، سرائركم فيما
بينكم وبين ربكم». ثم يقول:
«أما وإني والله لم أبعث عمالي
ليضربوا أبشاركم ويأخذوا
أموالكم، ولكني أبعثهم
ليعلموكم دينكم وسننكم،
ويعدلوا بينكم، ويقسموا فيكم
فَيْأَكم، ألا من فُعل فيه شيء
من ذلك فليرفعه إليّ، والذي نفس
عمر بيديه لأُقِصَّن منه». وعندئذ
قام عمرو بن العاص رضي الله عنه
قال: يا أمير المؤمنين: أرأيت لو
أن رجلا من المؤمنين كان على
رعية فأدَّب رعيتَه، أكنت
مُقِصَّه منه؟ قال: «وما لي لا
أُقِصُّه وقد رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه». ثم يقول
موجها كلامه للأئمة والولاة: «ألا
لا تضربوهم فتذلوهم، ولا
تمنعوهم حقهم فتكفِّروهم، ولا
تُجَمِّرُوهم فتفتنوهم، ولا
تُنْزِلوهم الغِياض فتضيعوهم».
هذا حديث أخرجه الحاكم وقال:
صحيح على شرط مسلم. وهو
يبين لك كيف يكون منهج الإسلام
في حماية الرعية وفي الرفق بها،
والرفض التام لأي تعذيب لأحد من
الناس. وهذا
المنهج نفسه هو الذي سلكه
الخليفة الراشد الخامس عمر بن
عبد العزيز رضي الله عنه، فقد
كتب إليه اثنان من ولاته قد
ولاهما شيئا من أمور العراق،
كتبا إليه يقولان: إن الناس لا
يصلحهم إلا السيف (أي الأخذ
بالشدة والترهيب والتخويف)،
فكتب عمر رضي الله عنه إليهما
يقول: «خبيثين من الخبث، رديئين
من الرديء، تعرضان عليَّ بدماء
المسلمين. ما أحد من الناس إلا
دمكما أهون عليّ من دمه». بل إنه
ولَّى على الموصل رجلا من
ولاته، فوصل الرجل إلى الموصل
فإذا هي من أكثر البلاد سرقا
ونقبا، فكتب الرجل إلى عمر بن
عبد العزيز رضي الله عنه يعلمه
حال البلاد، ويسأله: هل آخذهم
بالظِّنة وأضربهم على التهمة أن
يأخذ الناس بالظِّنَّة وأن
يضربهم على التُّهمة! (أي يأخذ
الناس بالظن والشبهة، ويضرب
المشتبه فيهم حتى يعترفوا
ويتبين الحق) أم آخذهم بالبينة
وما جرت عليه السنة؟ فماذا
كتب إليه عمر؟ كتب إليه: «خذوا
الناس بالبينة وما جرت عليه
السنة، فإن لم يُصلحهم الحق فلا
أصلحهم الله». يقول
هذا الوالي: ففعلتُ ذلك، فما
خرجتُ من الموصل حتى كانت من
أصلح البلاد وأقلها سرقا ونهبا. وهذه
قصة نهديها إلى الذين يتصورون
أن هيبة الدولة وأن حفظ الأمور
لا تأتي إلا بالشدة والتخويف
وبأخذ الناس بالظنة وبالتهمة،
وبتخويف الناس وتعذيبهم. هذا
بيان عملي يكشف أن أخذ الناس
بالحق وعدم أخذ الناس بالتهمة
هو السبيل إلى حفظ الأمن
والنظام، فهل من مدكر؟. أسأل
الله العظيم أن يحفظ علينا
ديننا وأمننا واستقرارنا وأن
يرزق الأمة والأئمة الصلاح
والإصلاح، وأسأله جل وعلا أن
يهدى الأمة والأئمة وأن يصلح
الرعاة والرعية وأن يؤلف بين
قلوبهم في الخيرات وأن يدفع شر
بعضهم عن بعض، إنه ولى ذلك
والقادر عليه. وصل
اللهم على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين. ـــــــــ *أستاذ
الحديث وعلومه بجامعة الأزهر
وعضو مكتب الإرشاد لجماعة
الإخوان المسلمين وعضو الإتحاد
العالمي لعلماء المسلمين. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |