ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 22/03/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

 

نعم تغيّرت المعادلة

جلال / عقاب يحيى

 نعم حدث التبدّل فاختلفت الموازين ومعها المعادلة حين دخل الشعب الميدان، وحين قرر أن يمسك زمام قراره ويقوم بالتغيير ..

عقود فوق عقود ونظام الاستبداد المتكلس، المتغطرس يصول ويجول كالطاووس، بل كالوحش المفترس الباحث عن الضحايا والدماء معلناً (انتصاراته) الكثيرة على حقوق الشعب وأمانيه، وممعناً بالاستفشار والاستعلاء وامتهان الكرامة وإنسانية الإنسان، مطلقاً العنان لكل أنواع القمع المنهج، والإبادة المنظمة للرأي الآخر، ومعها عمليات النهب المعمم والإفساد المبرمج لتحويل الوطن إلى ضيعة مختومة باسم(القائد  الزعيم  الملك) المثقل بالأوسمة والنياشين والثروات المنهوبة، والصلاحيات المطلقة، ومن حوله العائلة والعشيرة والمقربين في نظام غرائبي أقرب لنظم المافيا الفالتة من أي رقيب أو حساب .

عاث الاستبداد طويلاً وهو يفتك بالخلايا الحيّة للأمة : تصفية واغتيالات واعتقالات وملاحقات متعددة الأشكال، وحصاراً وحملات تشويه، حتى إذا ما نام دهراً على تابوت الشعب ازداد استهتاراً وصلفاً وكأنه خالد، مؤبّد ..

فجأة يشعل البوعزيزي الشرارة وإذ بالدنيا غير الدنيا، وإذ بالشعب غيره ما اعتقد الحكام، وإذ بالشباب يتقدّم الصفوف بصدور عارية وإرادة صلدة، ومستوى راقياً من التنظيم والاحتجاج والارتفاع بالمطالب من تلك الإصلاحية والمطلبية إلى الشيء الطبيعي : إسقاط النظام .

علّقت تونس الجرس فالتقفته الكنانة ثورة من أهم ثورات الشعوب وهي تحمل معها تأثيرها الساحق، وإذ بالأرض العربية من المحيط إلى الخليج تمور بالغليان فيحطم الشباب توابيت الموت، ويقتحمون قيود المنع والقمع، فيخترقون الخوف ويلقونه أرضاً ليكتشف الجميع أي نوع من الحكام هم من يتسلط على مقدرات شعوبنا، وأي صنف من السرّاق والبلطجية والغباء والصلف هؤلاء.. وإذ بالعرب يصنعون التاريخ بعد أن غيّبوا عنه قرونا .. تاريخ عصر الشعوب وتأسيس الدولة المدنية . دولة الحريات الديمقراطية التي لا مكان فيها للتأبيد والاستبداد والدكتاتورية والقمع.. وإذ بمعادلة جديدة تنبثق من شلال الدماء والتضحيات معلنة أن زمناً آخر مختلف يهلّ علينا.. وأن نهاية الاستبداد قد قربت.. وأن الشعوب هي المرجع، والأبقى والأقوى، وهي البداية والنهاية . الوسيلة والغاية .

 *****

 عقود والمعادلة شديدة الاختلال لصالح نظام الاستبداد حين تمكن في معاركه المستمرة من تحقيق (الانتصار) الساحق على المعارضة والقوى الشعبية، وأدخل مجتمعاتنا في غيبوبة التدجين والفزع والنفاق والمسخ والشق ومحاولات التفتيت وبعث الجرثمة القديمة والجديدة لتفتك بالخلايا الحيّة والوحدة الوطنية وبذهنه أنه تأبّد، وأن الشعب خاضع، خانع، قانع (بالمقسوم)، ولا ينقصه سوى المزيد من تمجيد القائد الملهم وعصاباته الحاكمة، وإعلان الولاء والطاعة(حتى قيام الساعة) .

 لم يسمع أحدهم لأنّات الجوع، وصراخ الثكالى والمعتلين بكل أمراضهم الناتجة عمّا يفعله الكبت بالبشر، ولم يرَ أيّهم ملايين الباحثين عن اللقمة في المزابل، القاطنين في المقابر والمحاشر والعشوائيات، القابضين على جمر الوطن وأحلام الفجر القادم يوماً، ناهيك عن أدنى الحقوق الطبيعية للمواطن، فاستفشروا وهم يعبثون ويقبرون الأحلام والأماني، وهم يركلون الوطن إلى حضيض تخلفهم، وزرائبهم، واستثماراتهم، ونهبهم الذي لا يشبع، ولا يقف عند حدود، وفي حين كانت المطالبات جد معتدلة، وشديدة (الرخاوة) والمرونة والعقلانية التي لا تتعدى القيام ببعض الإصلاحات والإجراءات التجميلية واجهوها بصلف القوة، والاعتقال، والقنص، والأحكام الجائرة التي كان وقودها آلاف المناضلين والناشطين السياسيين من كل المشارب والأطياف، بينما آلة الكذب تدور طافحة بالتهم الفاسقة، والأحكام الجائرة (والأمة في قاع القاع) بسببهم، وهم يستسخفون عقول الشعب بتلك (الجرائم) التي " تهن نفسية الأمة" فتلقي بالمناضلين أعواماً في المعتقلات !!! .

 لم يظهر"كرمهم" ولطفهم، وحسن معشرهم، وشعبيتهم عقوداً ..إلا حين انزنقوا، وحين صرخ الشعب بملء الصوت أن ارحلوا، وإذا بهم(بشر عاديون)، و"شعبيون"، ومتواضعون، وفوق ذلك : " شديدو الكرم والرحمة" وهات يا مراسيم وقرارات، وهات يا التفافات ورشوات، وهات يا صيحات الاستغاثة : أن أعينونا أيها الشعب.. لأننا نحبكم.. ولأن العيون لا تنام سهراً لأجل راحتكم !!! ..معتقدين بذلك أنهم يلفون ثم يدورون على حقوق الشعب فيسامحهم على جرائمهم المتلتلة .

 ******

(الرئيس الشاب) الذي فرضه توريث مرتّب على صدر وأقدار سورية.. حقن نفسه وأحاديثه بكثير من فذلكات المصطلحات القابلة لتأويلات متعددة، خاصة لمن يريد تفصيص حروف اللغة العربية، وموقع حروف العلة والجر وإشارات التعجّب والاستفهام، وموقع النقط فوق الحروف، وتشكيل الظروف، ومداليل الكلمات فداخ كثير، وأطرق كثير بانتظار حل الألغاز، وفك مجاهيل المعاني، وإذ بالاستبداد مغلفاً بحبر التغرير والتمرير، وإذ بالشعارات المتقيّئة تعلن الانتحار على قباب المساجد وأجراس الكنائس فيرددها زمان التكلّس والتخويف.. وإذ بالإصلاح تفتيق العبقرية المنفلتة من كل عقال معلنة الإمعان في النهج الأحادي الرافض لكل إصلاح حقيقي، حين يسقط المعهود جميع الوعود وحين يتلاقى المستبد مع أشقائه : (أنا أو الطوفان)، والأنا هي فعل القتل المنظم لكل من يرفع رأسه، وليبيا المثال الفاقع، ودرعا(أول الغيث) .

 كثيرون من أصحاب النوايا الطيّبة، والقلوب الرحيمة تساءلوا كثيراً، ومراراً عن السرّ العجيب في عناد حكّام الاستبداد وعنجهيتهم، وتراجعهم، وتنازلاتهم في الوقت الضائع، ولماذا لم يقوموا(طالما أنهم فلتة الزمان) في استباق الانفجار وتطويقه، أو إغراقه ببعض الإجراءات الإصلاحية(بعض التنازلات الشكلية)، ولماذا يصرّون على عنجهية الرفض حتى إذا ما داهمهم طوف الشعب باتوا كالقملة المفروكة، أو الوحش الضاري.. لماذا وألف مثلها في أعناق الاستبداد تؤكّد أنهم صادقون في شيء وحيد : تمسّكهم بالحكم حتى آخر مواطن(إن قدروا)، ولا مانع لديهم(جميعاً بلا استثناء)، من (إعلان الحرب) المفتوحة على الشعب، ومن استخدام كل تركة التخلف والقتل، ووسائل الفتك كي يبقوا..وكان القذافي المثال النقي عنهم، وما يفعله مستبدّ اليمن، والبحرين.. وغيره..شواهد تفقأ عيون الحقائق، بينما يدخل السباق رئيس الحكم السوري مسجلاً(أصالته) منذ لحظة إطلاق صافرة التاريخ السوري الجديد، ومجدداً تاريخاً لم تنسه أبداً ذاكرة الشعب السوري في عموم المدن والبلدات، وحماة الشاهد الأبدي، وتدمر تحكي أوابد التكرار، وذلك الغرب الذي دعمهم وحماهم وحالفهم عقوداً، والذي يواجه اليوم حرج دفق وثورة الشارع التي وضعته في الزاوية الحرجة، فيرتجّ هنا، ويتحمّس هناك، وتبرز الازدواجية التي عهدناها حاملة على الأعناق مصالح المصالح التي تحركه، ودوسه، حيثما قدر، على أماني الشعوب وحرياتها الديمقراطية .

 *****

دعاة الإصلاح في بلدنا الحبيب كلّوا وهم يأملون ويتأملون، ونشف حليب انتظارهم وما حصّلوا سوى الوهم، والعناد المكابر، وما زال بعضهم يلهث حتى الآن عسى أن يختلط الوهم بالحلم فيفاجؤهم حاكم الحكام ببعض الفتات، لكن شعبنا يقتحم الخوف شرارات منذرة، وبيارق مبشّرة، ليعلن أنه قادر على اختراق محرّمات النظام، وأنه صمم انتزاع حقوقه بيديه، لأن جميع المراهنات على الإصلاح الداخلي قد ماتت، وهي ميّتة بالأصل عند كل من يعرف جوهر هذا النظام وفلسفته، وركائز اعتماده، وطريقة تفكيره، وبعابعه المصنّعة، وتكتيكاته المتشقلبة، واهتراء زمن الخداع بحمل بيارق الممانعة والمقاومة، وانكشاف حقائق المساومة، وأن الحرية غالية المهر، وسيدفعها.. وها هو يدشّن البداية ليلتحق بأخوته في سوح وميادين الحرية، فتنتصب درعا رمزاً عالياً تصرخ بدمائها من عمق تاريخ طويل : أن الشعب لن يخنع، ولن يخاف، وأن زمناً جديداً تستحقه سورية، البلد الحبيب .

 وفي حين كنا نتمنى أن لا تطأ قدم أجنبي شبراً من الأرض العربية، وأن لا يجرّ الاستبداد الأوضاع إلى تدخّل القوى الخارجية(بشرعية أممية أم بدونها)، لكن الإصرار على قتل الشعب بهذه الطريقة الغريبة وإعلان الحرب الرسمية عليه، واستخدام كل آلة الحرب والدمار ضد المدنيين.. فتحت المجال واسعاً لحضور الخارج بقوة وبأغطية شرعية، بل وحتى شعبية، وكأنّ حاكم ليبيا(وهذا ما أشرت إليه في مقال سابق) كان يستدعي بقوة هذا التدخل ليرتدي لباس الوطني الذي يدافع عن تراب الوطن وحدوده، في حين أنه لم يترك ثقباً واحداً، ومنذ بداية الأحداث  الثورة السلمية  لإمكانية الاستماع إلى مطالب وصوت الشعب، والتصرف من موقع المسؤولية عن شعب ووطن، ذلك أن غرور النرجسية، وأمراض الذات المتورّمة سرطانياً لا تسمح لمستبد أن يتواضع فيتنازل ولو قليلاً ليدرك أن لديه شعباً له حقوق ويملك حلماً في التغيير، وتنفّس هواء نقياً بعيداً عن الهواء الفاسد، المعلب . إن جميع العرب الأحرار يرفضون أي وجود أجنبي في الأرض العربية، ومستعدون لمقاومته، والشعب الثائر أكثر من يعرف كيف يصون حريته واستقلاله، وكيف يحارب كل من يمسّ أهدافه .

 *****

لقد انقلبت دنيا العرب، فاختلّت المعادلة .

عقود متلتلة ونظام الاستبداد وحيد يصول ويجول بعد أن انتصر على الشعب وقوى المعارضة، ويبدو أنه رقد وغفا وارتخى فوق هذه الحقيقة.. حتى إذا ما داهمته(تسونامي) الشعب ارتجف فخرج الزبد غاضباً، كحلياً يقاوم الحقيقة محاولاً ليّ عنقها، أو تحطيمها بما يملك من وسائل..رافضاً الاعتراف أن زمناً آخر يفرض منطقه عليه، وأن معادلة جديدة يصوغها الشعب ستشقّ طريقها وتدخل الميدان رغماً عنه لزحزحة تلك المعادلة وحيدة الجانب، وإقامة وضع جديد .

نعم.. لقد تغيّرت المواقع، وحدث تبادل فيها، وللمرة الأولى منذ عقود وعقود تنعكس الآية، فينقل الشعب الخوف إلى قصور وحصون الحاكم، ويجبره على الكوبسة بالقادم، وبالذهن المصير البائس لحاكمي تونس ومصر في قائمة مفتوحة تشملهم جميعاً.. لذلك يحاولون منذ أيام بدء عملية الهجوم المعاكس التي كان حاكم ليبيا أشرسهم، وأكثرهم نقاء وصدقاً فيها : إعلان الحرب المفتوحة على الشعب، ورفض الرحيل .

في هذا الإطار يأتي التدخل السعودي(والخليجي) السافر في الحالة البحرينية، ومحاولة خلط الأوراق فيها، وابتزاز مجموعة من الأوضاع والتخوّفات كفزاعة تعمل على تشويه ثورة الشارع البحريني، وطمس حقوقه في نظام ديمقراطي قائم على المساواة والتكافؤ البعيد عن الانتماء المذهبي، وتحويل ممالك الاستبداد المطلق إلى نوع من الحكم الدستوري الذي يقرر ممثلي الشعب المنتخبين .

 إن محاولة تجيير ثورة الشارع البحريني لصالح أجندات إقليمية(إيران بالتحديد)، وإدخال الجيوش الخليجية لقمعها بالقوة.. تفتح الأبواب على مصاريعها لكل أنواع التدخلات الخارجية، وتعزز الشروخ العمودية التي تغذيها نظم الاستبداد كلها، بما فيها نظام إيران الاستبدادي، وكذا القوى الخارجية، خاصة الصهيونية العالمية وكيانها الاستيطاني.. في محاولة لإجهاض ثورات الشعوب العربية، وإغراقها في مستنقعات متخلفة يسهل صيدها فيها، أو تلطيخها .

 وإذا كان نظام الاستبداد المتفسخ يلجأ كثيراً هذه الفترة إلى يافطات المؤامرة الخارجية(وكأنه في الموقع الوطني، وكأنه لم يودي بالأمة وقضاياها)، فإن التهمة مردودة عليه، لأنه هو بذاته المؤامرة على الأمة وحقوقها، وهو المدمّر بتنهيج لحقوقها ومصالحها وحاضرها ومستقبلها، وهو الحليف الأكبر لها، واليد الضاربة في مخططاتها . أكثر من ذلك : إنه من يفتح الأبواب، بممارساته وقمعه وقهره لها كي تتسلل من جميع المنافذ التي يمكن أن تكون موجودة فيه، أو عبر الثغرات التي تحدث نتيجة مرحلة الثورة، والانشغال بالهدف الرئيس، أو في المرحلة الانتقالية الصعبة، وتعدد المهام، وتنوّع المصالح والخلفيات والبرامج، وقوة بقايا النظام، وقوة نفوذ تركة العقود .

إن المندّسين الحقيقيين ليسوا سوى كلاب الأنظمة وخناجرها المسمومة الذين ترسلهم لتشويه نقاء انتفاضات الشعوب ومحاولة طعنها بمقتل في الخلف . هم جراثيم المرض، بل إن أكبر مندّس هو الاستبداد وممثليه، وليس الشعب الذي صبر عليهم طويلاً، وتحمّل فوق طاقة البشر، ولم يبق له سوى الانفجار .

 نعم..تغيّرت المعادلة بدخول الشعب الطرف الرئيس فيها، ولم تعد قائمة على عامل واحد(النظام)، وهي معادلة تبحث عن توازنها الطبيعي في الميدان، وعبر سيرورة صعبة من التضحيات، والصمود، والإرادة حتى انتزاع الحق المغتصب ..لكنها المعادلة التي ستعرف كيف تقيم العدل، وكيف تواجه إرث الاستبداد فتفتح الأبواب لهواء الحرية، وإدخال بلادنا العصر الحديث .

=======================

السيد الرئيس..!! البقاء لله

بدرالدين حسن قربي

أشرقت شمسنا تملأ أرضنا ضياءً، وتنادي على كل الطيبين من أهل سورية الأحرار: لكل أجل كتاب، ولكل ظالم يوم، ولكل ليل نهاية، وقد طلع فجرنا وانطلقت انتفاضة شعبنا، وهديرها لاأحلى ولاأجلّ: الشعب السوري مابينذل، ونحن كلنا إخوة طلّ. ورسالتها إلى من يهمه الأمر: البقاء لله.

قالوا: لسنا تونس ولسنا مصر، وفي البلدين سقط النظام ورحل الديكتاتور. واشتعلت الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى وكان ظنهم ألا تشتعل لأنها غير تونس ومصر كما يظن السورييون بأنفسهم. وبما أن نظام ملك ملوك أفريقيا أقرب مايكون إلى النظام السوري شبهاً وتشابهاً، فاعتصموا بالصمت وماقالوا أنهم ليسوا ليبيا وليسوا القذافي الذي بدا في غاية التناحة والغباوة، ومتوحشاً في مواجهة شعبه قتلاً وإبادة، بل اعتبروا مايحدث في الجماهيرية شأناً داخلياً يستوجب عدم التدخل الخارجي حرصاً على ليبيا شعباً وأرضاً وعروبة، رغم أن الديكتاتور القذافي لم يُبق منها شيئاً، ولم يقصّروا أيضاً بإرسال مساعدات لوجستية خفية له فضلاً عن السلاح والعتاد والذخائر والطيّارين مما يدفع به أكثر وأكثر إيغالاً في التوحش والإبادة، لأنها بعض معركتهم مع الشعب السوري على أرض ليبيا، ولتُري السوريين - فيما لو انتفضوا - المصير الذي ينتظرهم في النموذج الليبي. والحقيقة أن النظام السوري بما فعل ويفعل، ورغم المطالبات الكثيرة والدائمة بالإصلاح فهو يؤكد دائماً باختلاقه الأعذار المختلفة عجزه عن إصلاح نفسه رغم حكمه المديد، وذلك لأعطال بنيوية وطبائع شمولية في تركيبته تذكّر ببعض أنظمة الدول الشرقية مما باد من سنين وسنين وبات من التاريخ. وإلا، فهل من المعقول والناس في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين والرئيس يتكلم عن الإصلاح ومشاريع الإصلاح في كل مناسبة، ونحن مانزال في دولةٍ محكومة باستحضار أرواح أموات من خلال نصب وتماثيل موضوعة على مداخل ومخارج المدن السورية، تخصص لها المئات من عناصر المفارز الأمنية والحراسات البوليسية التي تتناوب القيام على خدمتها آناء الليل وأطراف النهار على مدار الساعة، والتي بدورها تتطلب نفقات باهظة من رواتب وصيانات وغير ذلك مما يقتطع من قوت الفقراء وعرق الكادحين.

وعليه، فإننا بمناسبة استمرار اعتقال السلطات الأمنية لعدد من أطفال مدينة درعا منذ أكثر من أسبوعين ممن هم بين العاشرة والرابعة عشرة من العمر بتهمة كتابة بعض شعارات على جدران مدينتهم مما يرونه يومياً من أخبار العرب العاربة والمستعربة المنتفضة والثائرة على ظالميها وفاسديها على القنوات الفضائية من مثل الشعب يريد إسقاط النظام، وجعلها إطلاقَ سراحهم محور بحث ومساومة بين السلطة والأهالي لإخضاعهم وإذلالهم مما له في الحقيقة مدلولات كثيرة، وإننا أيضاً بمناسبة استمرار رؤية الناس جميعاً ومعهم بالتأكيد الجهات الرسمية ما تنقله الفضائيات مع هذه الانتفاضات امتهان الجماهير لنصب وجداريات وصور عملاقة للرؤساء الحالقين والراحلين والمتنحين بمن فيهم الرئيس القذافي والعياذ بالله، صُرف عليها الملايين من قوت الشعب وممن لم يكن يجرؤ أحد على مسها بسوء، وهي تُكسّر وتُحطّم، أو تُضرب بالأحذية والنعال أو تُمزّق وتُشوّه في العديد من بلاد العرب ممن كان يُهتَف لأصحابها نفديك بالروح والدم، وممن كانوا يُنعتون قبل أيام قليلة بأوصاف العظمة وألقاب الفخامة، فإننا نجد أن الجهات المعنية مدعوة إلى تدارك الأمر إما بقطع الكهرباء عن عموم البلدان بحيث لايستطيع بعدها أحد من الناس صغيرهم وكبيرهم أن يرى شيئاً مما يحصل حوله من جديد الحياة ومستجدات الأمور، وهو أمر بات في حكم المستحيل لأسباب كثيرة، أو أن يقوم من يهمه الأمر وهو الأسهل والأفضل برفع تلك التماثيل واللوحات والنصب، تمثالاً تمثالاً، وإزالتها بنفسه لوحةً لوحة وتوضيبها على طريقته قطعة قطعة، ليمنع عنها السوء والبهدلة وقبل فوات الأوان، ولتكون جاهزة مع ماوضّبه ويوضّبه من مقتنيات وأموال وشنط وعفش ومتاع من مستلزمات الرحلة والرحيل، لترحيله مسبقاً أو جاهزيته ساعة الزنقة مما قد ينسى معها الإنسان الضروري من أشيائه وحاجاته، وتضيع عليه حاجات كثيرة.

نأمل لدعوتنا إلى المعنيين أن تجد آذاناً صاغية، تتفهمها في إطارها من النصح الأمين والنيّة الحسنة.

السيد الرئيس ..!! ساعة الفرج دقّت، وانتفاضة الياسمين السورية تحركت، وجماهيرها الغاضبة انطلقت، ورسالتها إليكم تأكّدت: البقاء لله.

=========================

قضية سورية.. التقدم والتطور .. معطيات النهوض وآفاق الإبداع

نبيل شبيب

عندما تتعدّد المرجعيات والمنطلقات والرؤى والتصوّرات، تتعدّد الصيغ التي تُطرح فكريا أو فلسفيا تحت عنوان النهوض والتقدّم، وتتعدّد الوسائل التي تُطرح منهجيا على طريق الإبداع والتطوّر. وهذا ما يسري على الساحة السورية كسواها من البلدان العربيّة والإسلامية. ولكن ألا يوجد قاسم مشترك بين الجميع حول جوهر النهوض والتقدّم، يصلح للالتقاء عليه والانطلاق منه على أرضية مشتركة للعمل؟..

ثمّ كيف نشأت في سورية وسواها عقدة مستعصية -ظهرت أو اصطُنعت- بين ما انتشر في العقود الماضية تحت عنوان الإبداع في عطاءات الفكر والأدب والفنون، وبين النظرة الموضوعية إلى ارتباط التقدّم بالإبداع، والنهوض بعطاءات فكرية وأدبية وثقافية وجمالية وفنية، تمثّل عادة روح النهوض الحضاري في أمّة من الأمم، وتعبّر عن التزاماتها وتطلّعاتها في ميدان القيم والأخلاق، إلى جانب الإبداع العلمي والتقني المجرّد المتجدّد؟..

وهل تمثّل قضية الإبداع عقدة مستعصية أو معضلة واقعية فعلا، يجب العمل على تجاوزها بين توجّهات إسلامية وعلمانية، أم هي من منتجات الصراع والانحراف في بعض مساراته فحسب؟..

 

اتّهامات تعميميّة

من العقبات التي حالت دون التلاقي على أهمّ الأهداف التي يُفترض فيها أن تكون مشتركة في الحاضنة الوطنية السورية الواحدة، أنّ طرح الاختلاف في المرجعيّات والمنطلقات لم ينحصر في تبادل الانتقادات والاتهامات في نقاط الاختلاف بحدّ ذاتها، بل تعدّاها -دون الاستناد إلى منطق أو دليل- إلى أساليب:

1- تخلط بين ما هو واقع قائم يمكن الاتفاق أو الاختلاف حول فهمه وتفسيره واتّخاذ موقف منه، وما هو افتراءات محضة، مَن يحاور عليها يحاور على لا شيء.

2- صياغة ذلك الخليط في اتّهامات للآخر، وتعميمها على مَن تنطبق أو لا تنطبق عليه، والترويج لها، مع تجاهل الإيجابيات والقواسم المشتركة.

3- ثمّ ربط مضمون الاتهامات ربطا متعسّفا في غالب الأحيان، بمضمون مرجعية الآخر، لتعزيز رفضها ورفض أصحابها، بما يتجاوز نقد أخطائهم، المحتملة بطبيعة الحال، أو أخطاء فريق منهم، في الدعوة إلى مرجعيّته.

وتصبّ الحصيلةُ بوضوح في نهج الإقصاء والاستئصال وممارساته، بدلا عن صيغة حوار جادّ بحثا عن السبيل الأجدى لهدف مشترك، يسمح بعمل مشترك وإن بقي الاختلاف قائما حول التفاصيل، أو حتّى على أهداف وسبل أخرى.

في مسألة النهوض والتقدّم، ودون الاستغراق في التفاصيل، نجد هذا الانحراف في ممارسة الاختلاف مستشريا في أكثر من قطاع، من ذلك على سبيل المثال تبادل اتّهامين تعميميّيْن رئيسيين:

1- أوّلهما اتّهام العلمانيين للإسلاميين إطلاقا بالتخلّف وربط ذلك باستحالة تحقيق هدف التقدّم والنهوض انطلاقا من مرجعيّة إسلامية "تراثيّة".

2- والثاني اتّهام الإسلاميين للعلمانيين إطلاقا بالتغريب وربط ذلك باستحالة تحقيق هدف التقدّم والنهوض انطلاقا من مرجعية علمانية "مستوردة".

ومن ذلك أيضا:

1- اتّهام العلمانيين للإسلاميين عموما بالانغلاق على كلّ إبداع فكري وفنّي وأدبي انغلاقا يعتمد التحريم الديني أو اصطناع محرّمات لا أصل لها في الدين.

2- واتّهام الإسلاميين للعلمانيين عموما بالإباحية وتدمير الأخلاق والقيم تحت عنوان الإبداع واتّخاذه مطيّة لخرق المحرّمات الإسلامية بما يصل حتّى للتطاول على الذات الإلهية أو التشكيك في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي.

لا شكّ أنّ كلاّ من الفريقين "المتّهمين" كان -وما يزال- يضمّ في صفوفه أو في نطاق فئات تنسب نفسها إليه، نسبةً مئوية معيّنة، يغلب التعصّب والتعنّت عليها، فيمكن أن تسري عليها الحجج والاستدلالات التي ترافق أحيانا الاتّهام "التعميمي" الموجّه للآخر، ولكن لا عبرة عند صاحب الاتّهام آنذاك في عدم سريان ما يورده، على الغالبية عند الطرف الآخر.

بالمقابل لا شكّ أيضا في أنّ التعامل من منطلق المصلحة العليا في الحاضنة الوطنية المشتركة، يمكن أن يكشف عبر بذل جهد حقيقيّ في التواصل والحوار وفي تعزيز مواقف الإنصاف والتعقّل، أنّ الاختلاف في مسألة النهوض والتقدّم بالذات، أصغر بكثير ممّا صوّرته حملات الصراع التاريخي بين الفريقين، على امتداد المنطقة، وليس في سورية فقط، وأنّ عقدة الاستقامة والانحراف تحت عنوان الإبداع أصغر حجما وأضيق نطاقا ممّا يصوّره التركيز عليها من الجانبين في الآونة الأخيرة على وجه التخصيص.

إنّ نسبة المتخصّصين من أصحاب التوجّهات الإسلامية في مختلف العلوم التقنية الحديثة، والعاملين في مختلف ميادين الإنتاج المادي، تجعل من المضحك المبكي وجود فريق من مدمني توجيه الاتّهامات، يقول إنّ جميع الإسلاميين أو غالبيتهم يرفضون سلوك طريق العلم طلبا للنهوض الحضاري، وطريقَ الإنجاز طلبا للتقدّم التقني والمادي.

وإنّ نسبة المتطلّعين في صفوف العلمانيين إلى استقلال حقيقيّ عن هيمنة أجنبية تجعل من المضحك المبكي وجودَ فريق من مدمني توجيه الاتّهامات، يقول إنّ جميع العلمانيّين أو غالبيّتهم يسلكون طريق التغريب وتسليم البلاد قلبا وقالبا للهيمنة الأجنبية بدعوى ضرورات النهوض والتقدّم.

كذلك فإنّ حجم العطاء الأدبي وتنوّعه قديما وحديثا مع الالتزام بالإسلام وقيمه، وحجم العطاء الفني المتنامي حديثا مع الحرص على مضامين إسلامية فيه، يكشف عن قدر متنوّع واسع النطاق متعدّد المستويات من الإبداع الإسلامي في مختلف الميادين، يستدعي في الأصل عدم الاهتمام بمحاولة الردّ على الاتّهام بأنّ الإسلاميين يرفضون الإبداع من حيث الأساس، ومقابل ذلك يبدو تركيز العلمانيين على القلّة في صفوف الإسلاميين، الرافضة لأيّ شكل من أشكال الإبداع، لا يتجاوز النظرة الموضوعية المنهجية فقط، بل يخدم أغراض تلك القلّة بتعميم رؤيتها المحدودة الانتشار، على الإسلاميين جميعا.

وإنّ محدودية حجم ما يتجاوز القيم والأخلاق والثوابت الإسلامية، في مضامينه وفي أساليب التعبير عنه من ألوان الإبداع الأدبي والفني لأصحاب الإنتاج العلمانيين في هذه الميادين، بالمقارنة مع إنتاجهم بمجموعه، يجعل تعميم تلك النسبة المئوية الماضية على ذلك الطريق تحت عنوان الإبداع، على جميع العلمانيين، اتّهاما بعيدا عن الموضوعية المنهجية، ويصوّر واقع ذلك الإبداع تصويرا منحرفا، يتطابق مع ما يريده أولئك الذين يتجاوزون تلك الحدود، وهم قلّة في نطاق المبدعين من العلمانيّين، وهذا بغضّ النظر عن حجم التلاقي وحجم الافتراق على صعيد المنطلقات الأساسية للإسلام والعلمانية.

إنّ نقاط الاختلاف الحقيقيّة والجادّة بين الفريقين لا علاقة لها بحقيقة الحاجة الماسّة أو الضرورة المطلقة أن يكون النهوض والتقدّم هدفا نسعى إليه باتّباع أحدث الأساليب علما، وتطبيقا، وزراعة، وتصنيعا، وإنتاجا، وتسويقا، وتخطيطا، وإدارة، وتطويرا، وإبداعا.

ولا علاقة لنقاط الاختلاف أيضا بضرورة توظيف استخدام المنتجات، أي المنتجات المادية الحضارية، لتحقيق المصلحة العليا المشتركة، ومصالح الإنسان الذاتية المشروعة.

كما أنّه لا علاقة لها من حيث أصل الإبداع وضرورته والحاجة البشرية المتواصلة إليه، وكونه جزءا من شروط النهوض في مختلف الميادين، إن لم نقل إنّه هو روح النهوض في الأمّة في مختلف أطوارها التاريخية، فإن انقطع توقّفت عجلة التطوّر نفسها.

إنّما تتركّز نقاط الاختلاف الفعليّ على بعض التفاصيل بشأن ضوابط أساليب الإنتاج، وعلى أساليب استخدام تلك المنتجات، في ميادين ترتبط بمنظومة القيم والأخلاق، فهنا تختلف الرؤى، وهنا الميدان الحقيقي لأيّ حوار جادّ، وأيّ رغبة صادقة في العثور على أرضيّة مشتركة لعمل مشترك، ولا يمنع هذا الاختلاف والعمل لتجاوزه، من التحرّك الموازي على طريق العلم والعمل بعناصرهما الثابتة الأخرى، المشتركة عموما، في اتّجاه التقدّم والنهوض مع عطاءات تطويرية وإبداعية متواصلة.

 

العجز ومغالطات التخلّف

سورية -كمعظم البلدان العربية والإسلامية منفردة ومجتمعة- لا تنقصها الأسباب الموضوعية للنهوض والتقدّم والرقيّ في مختلف الميادين، وهو من ناحية المبدأ، قبل النظر في الشروط العملية، ما ينبغي تحقيقه مع التوازن بين جانبين رئيسيين:

1- أوّلهما جانب الانطلاق من الأهداف الذاتية، والاعتماد على الذات.

2- وثانيهما جانب التعامل مع الآخر خارج الحدود، وفق قواعد قويمة، سواء من حيث التعاون على ما يحقّق المصالح المتبادلة حقيقةً لا كلاما، أو من حيث الانفتاح على الآخر بالقدر الذي لا يؤدّي إلى الذوبان فيه، سواء دار الحديث هنا عن الجانب المادي، ماليا واقتصاديا، أو عن هويّة ذاتية، أو تميّز ذاتي، أو خصوصيّة حضارية، أو سوى ذلك من مسميّات تدور حول محور واحد.

إنّ جوهر العجز الحقيقي عن التقدّم ذاتيا لا يكمن في عدم توافر الشروط الأساسية والعملية، أي الثروات والطاقات والإمكانات، المادية والبشرية، وهي متوافرة في بلادنا قطعا، ولا يحتاج ذلك إلى دليل وبيان، بل إنّ قسطا كبيرا من تقدّم الغرب المعاصر يعتمد عليها وعلى استغلالها، أمّا عدم تحقيق التقدّم، نتيجة عدم "توظيفها" محليا لتحقيق الأهداف المشروعة فيمكن وصفه بالتهاون أو التقصير، ويمكن أن يبلغ -إذا استمرّ مع العمد والإصرار- مستوى خيانة عظمى، ولكنّ وصفه بالعجز الذاتي، وإلقاء التهمة بذلك على عموم البلد وسكانه، وصف تضليلي. وهذا بغضّ النظر عن تبادل الاتّهامات بشأن العجز، هل هو نتيجة "نزعة تراثية" أم "نزعة تغريبية".

ولئن شاع الحديث عن "العجز" على الألسنة الأقرب إلى تسويغ ما تصنع -أو ما لا تصنع- السلطات في الآونة الأخيرة، فلم يكن شيوعه من قبيل تحليل أوضاعنا وتشخيص الداء بحثاً عن الدواء والمخرج، بصورة منهجيّة موضوعيّة، وإنّما كان ذلك من باب ادّعاء المسوّغات المخادعة المرفوضة، ليستمرّ التحرّك على طريق التبعيّة، الخاطئة المرفوضة، وبالتالي لتحقيق منافع ذاتية غير مشروعة، يستحيل أن توصل إلى نهوض وتقدّم.

لا بدّ من التلاقي على تجاوز العجز، المصنوع صنعا عبر انحراف السياسة استبدادا والإدارة فسادا، لوضع أقدامنا على طريق النهوض والتقدّم حقيقةً لا زعما، في مرحلة الإصلاح التغييري ولاحقا. وأوّل ميادين التلاقي هو إزالة عقباتٍ صنعتها في وجهه مراحل ماضية، ومن ذلك على سبيل الإيجاز إجمالا دون الحصر:

1- التخلّص من المغالطة المستمرّة المنطوية على تناقض ظاهر بين دعوة ضرورية متكرّرة إلى النهوض والتقدّم، وادّعاء مزيّف أنّنا أصبحنا على طريق النهوض فعلا، والواقع هو أنّ المعايير الموضوعية بمنظور علمي، بحوثا أساسيّة وتطويريّة، وعلى الصعيد التقني ابتكارا إبداعيا متجدّدا، وعلى الصعيد الصناعي تصميما وإنتاجا وتسويقا، وعلى الصعيد الزراعي استغلالا للأراضي وتشغيلا لليد العاملة واكتفاء ذاتيا واستقلالا حقيقيا، وعلى غير ذلك من الأصعدة كالتخصّص وخفض البطالة والقضاء على الأمّية ونشر التدريب المهني.. جميع تلك المعايير المعتبرة لمسيرة نهضة ماديّة غير متوافرة محليّا -ولكن استشرت هجرة الأدمغة واليد العاملة بالمقابل- أو هي على الأقل غير متوافرة بما يكفي، لزعم أنّنا نهضنا أو بدأنا النهوض، فما توافر منها محدود، وكثيرٌ منه مرتَجل دون تخطيط، وأقلّ ما يقال بصدده إنّ عطاءاته موزّعة مبعثرة تفتقر إلى البنى التحتية الأساسية، وإلى معاهد ومؤسسات وأجهزة تخصّصية وأنظمة تعليمية وتأهيلية هادفة، وإدارة لا ينخر الفساد فيها نخرا.

ويعني ذلك أنّ لهدف النهوض والتقدّم أولوية ثابتة لا ينبغي التهوين من شأنها.

2- التخلّص من المغالطة القائمة في الزعم القائل بنقص أساسي في الطاقات التخصّصية، الضرورية للنهوض والتقدّم، فهذا ما يقابله الإقرار مثلا بظاهرة هجرة الأدمغة بأعداد ضخمة، يعتمد عليها قسطٌ كبير من الإنتاج والإنجاز داخل الدول المتقدّمة، فضلا عمّا لا يُحصى من ظواهر استشراءِ فساد، يعطي الأولوية للولاءات والمنافع الأنانية بدلا من الكفاءات والمصلحة العليا، مع ما يعنيه ذلك من هَدْر للطاقات التخصّصيّة، إلى جانب ترسيخ التخلّف لا صناعة التقدّم.

ويعني ذلك أنّ مسألة الاعتماد على الذات، وتثبيت قاعدة العمل على أساس الكفاءات والتخّصصات لا الولاءات، مسألة حيوية جوهرية لا ينبغي التهاون في تثبيتها.

3- التخلّص من المغالطة القائمة على خداع الذات، عبر زعمٍ يقول إنّ الضغوط الأجنبية والظروف الإقليمية هي التي تمنع من تحقيق النهوض والتقدّم -ولا ننفي وجودها وتأثيرها من حيث الأصل- ولكنّ المغالطة تكمن في اتّخاذها ذريعة للتملّص من المسؤولية الذاتية فحسب. بل بات هذا الجانب الخارجي من بين أسباب التخلّف يُستخدم بدوره تسويغا للمزيد، على طريق ترسيخ القعود عن النهوض والتقدّم، أي عدم التحرّك تحرّكا مؤثرا في الاتّجاه الذي نريد، بما يشمل البناء الذاتي لتتحقّق مواجهة الضغوط الخارجية وللإسهام في تصحيح الظروف الإقليمية في وقت واحد. إنّما السبب الأهمّ للسقوط والتخلّف، داخل القطر الواحد كسورية، أو ما بين الأقطار المتجاورة إقليميا بغضّ النظر عن نوعية الروابط بينها، وهي بين بلداننا في الأصل روابط وثيقةٌ تاريخيا ومصيريةٌ حاضرا ومستقبلا، السبب الجوهريّ الأهمّ هو الانحرافُ الكبير سياسةً وبالتالي إدارة وتخطيطا واقتصادا، مع هدر الطاقات فسادا، وتكبيلها استبدادا، والانشغال عن العطاء صراعا، فضلا عن الأسباب الأولية كالارتجال والمحسوبية والمنافع الذاتية الأنانيّة غير المشروعة.

ويعني ذلك أنّ مبدأ المسؤولية السياسية لصاحب المنصب السياسي مرتبطة بما يتحقّق من نتائج، فلا يمكن القبول ببقائه في منصبه لأيّ اعتبار آخر، هذا دون أن يقترن عزله أو استقالته بالانتقاص من شخصه وحقوقه، فقد يصلح لمسؤوليّة أخرى.

4- وأكبر المغالطات وأخطرها ما يشاع من تصوّرات بصدد الطريق الموصلة إلى نهضة حضارية، ومحور المغالطات الرئيسي الزعمُ أنّنا بين طريقين لا ثالث لهما:

أ- إمّا الأخذ بجميع ما في البلدان المتقدّمة، تقدّما علميا وسلوكا وقيما، فنسير على طريقها فكرا ومنهجا وسلوكا وأخلاقا، ونقتبس أساليبها في التقنية والاستثمار والإنتاج والتسويق والاستهلاك، جنبا إلى جنب مع طرائقها المعيشية، والعلاقات البشرية فيها، بخيرها وشرّها، ومواطن نجاحها وإخفاقها، واستقرارها وأزماتها.

ب- أو أن نبدأ في الجانب العلمي والتقنيّ والمادي من التقدّم -منعزلين- من نقطة الصفر، ويستحيل آنذاك أن نتجاوز الهوّة الفاصلة بين تخلّف وتقدّم في عالمنا المعاصر، وقد باتت تزداد عمقا واتّساعا، وتضعنا أكثر من سوانا في قاع المنحدر.

وهذه مغالطة تحتاج إلى وقفة أطول عندها.

 

شواهد تاريخية

لا يوجد في التاريخ القديم ولا الحديث مثالٌ واحد على شعب من الشعوب أو أمّة من الأمم أو مجموعة من الشعوب والأمم، سلكت طريق النهوض الحضاري وحقّقته، بادئة من نقطة الصفر في مسيرة التقدّم التقني والمادي، كما أنّه لا يوجد مثال واحد على سلوك هذا الطريق عبر النقل المطلق عن الآخر خارج الحدود، في ميادين المعتقدات والأفكار والتصوّرات والقيم والأخلاق، ناهيك عن الاستيراد الاستهلاكي المحض.

هذا ما يسري على مثال الحضارة الإسلامية تاريخيّا في جولتها الأولى بعد عهد النبوّة، فالعرب ومَن أسلم معهم أو تقبّل سيادة النهج الإسلامي في منطقته الحضارية من الأقوام الأخرى، كانوا متخلّفين ماديّا عن معظم مَن عاصرهم من شعوب وأمم، فصنعت الأمّة معا، انطلاقا من الوحي، وعاءَها الحضاري القائم على قيمٍ ذاتية متميّزة، تختلف إلى درجة التناقض المباشر مع ما كان منتشرا في البلدان "المتحضّرة" المعاصرة آنيّا، ثمّ أمكن ملء هذا الوعاء الحضاري الذاتي من حيث قيمه ومناهجه، بالأسباب الموضوعيّة للتقدّم المادي والعلمي والتقني، وهنا انطلق البناء الحضاري، ليس من نقطة الصفر، بل من المستوى الذي وصل إليه التقدّم البشري في تلك الحقبة من مسيرته التاريخية، المشتركة، المتواصلة من عصور الأدوات البدائية الحجرية إلى يومنا هذا دون انقطاع، والمتنقّلة من حيث قيادتها وتوجيهها من أمّة إلى أمّة، ومن بقعة جغرافية إلى أخرى، فإذا بالبناء الحضاري الإسلامي جوهرا وتوجّها، يقوم خلال جيل واحد، ويتجاوز مضمونا ومكانة وتأثيرا، سائرَ ما عاصره، قبل أن يقضي أبناء الجيل التالي نحبهم.

ويسري شبيه ذلك -مع تطاول العنصر الزمني- على حقبة ميلاد النهضة الغربية الحديثة، وقد بدأت عندما كانت المنطقة الغربية بمجموعها في الحضيض، إبادةً إجراميّة دموية للهنود الحمر في الأمريكتين، وحروبا دموية متواصلة على الأرض الأوروبية، واستبدادا دمويا داخل نطاق كلّ قطر صغير أو امبراطوريّة كبيرة، واستغلالاً وطبقيةً وجهلاً ومرضا، بينما كانت الحضارة الإسلامية في أوج ازدهارها، تتحدّث عنها كتب التاريخ الغربية معبّرة عن حجم "انبهار" الغربيّين بما وصل إليه المسلمون ومن معهم آنذاك، ما بين الأندلس وبلاد الرافدين وجبال القوقاز.

آنذاك لم ينطلق الأوروبيّون من تأثير سلبيّ للانبهار، ففي عصر "التنوير" لم ينقلوا كلّ شيء عبر الاحتكاك في الأندلس وجنوب أوروبا وأثناء الحروب الصليبية، بل بعض الأفكار الأساسيّة والقيم الجوهريّة عن الحضارة الإسلامية، ومنها ما وجد طريقه إلى مواثيق حقوق الإنسان وحريّاته بعد حقبة إعدام العلماء، وحرق "الساحرات"، واستعباد الفلاحين، واسترقاق الضعفاء، ولكنّهم صنعوا لأنفسهم -وهم في الحضيض علميّا وتقنيا وماديا- وعاءً "تنويريا" ذاتيا حضاريا، أعطوه صبغة مستمدّة من بعض جوانب عصور الإغريق والرومان من قلب منطقتهم الجغرافية، و"تراثهم" التاريخي، فكان هذا الوعاء الذاتي، من حيث الأفكار والقيم، مناط "مناعتهم" دون الذوبان نتيجة الاحتكاك والاقتباس والانفتاح على الحضارة الإسلامية المعاصرة السائدة آنذاك، فتجاوزوها بعد أن استفحل فيها ما أصاب أهلها داخليّا من أمراض ذاتية، ونهضوا ليستأنفوا التقدّم العلمي والتقني والمادي، من النقطة التي كان قد وصلت إليها الحضارة الإسلامية بمسيرة التقدّم البشرية المشتركة آنذاك.

لم يأخذ الأوروبيون أو الغربيون عموما بوعاء القيم الحضاري الإسلامي بكلّ ما فيه، فلم يذوبوا حضاريا، ولم يبدؤوا من نقطة الصفر إنجازا وإنتاجا، ولم يكن ذلك من الأصل ممكنا ولا مطلوبا.

إنّ "التقليد" الحقيقي للغرب في نهضته الحديثة، كان في كتابات التغريب على امتداد القرن الميلادي العشرين، وكثير من الكتابات المعاصرة في بلادنا "تقليدا مزيّفا". فمَن أراد الاستفادة من تجربة النهوض التاريخية في الغرب وأراد "تقليدها" حقّا، فأوّل ما ينبغي أن يقتبس منها هو أنّها صنعت لنفسها خصوصيّة حضارية، على صعيد المعتقدات والأفكار والتصوّرات المستمدّة من مسيرتها الفلسفية الذاتيّة، فاستطاعت "اقتباس" منجزات التقدّم المادي والتقني في عصرها دون "الذوبان" في الآخر، الإسلامي آنذاك.

علام لا يكون سلوك "التقليد والتغريب" إذن قائما على جوهر هذا السلوك الحضاري المشترك في الحضارات البشرية المتعاقبة، بدلا من تقليدٍ أعمى وتغريبٍ مطلق، وذوبانٍ لا يصنع نهوضا ولا تقدّما، بل تبعيّةً للمركز الحضاري الغربي فحسب؟!.

 

طريق النهوض

إنّ الحديث المتكرّر بصورة مباشرة وغير مباشرة عن استحالة أن نصنع لأنفسنا وللبشرية وعاء حضاريا ذاتيا جديدا، قائما على قيمنا وتصوّراتنا، بحجّة تخلّفنا ماديا وتقنيا، حديث يتناقض مع تلك الوقائع التاريخية، ومع المعطيات المعاصرة على السواء، لا سيّما على ضوء التناقض الكبير المتنامي في الوقت الحاضر بالذات، ما بين الرقيّ العلمي والمادي والتقني من جهة والمعاناة الإنسانية من جهة أخرى، داخل الغرب نفسه، وخارج حدوده حيث وصل مهيمنا عن طريق وسائل الحضارة الغربية المعاصرة.

وعلاوة على ذلك بات هذا الحديث المتكرّر عن عجزٍ ذاتي مزعوم أداةً لإثارة صراع الاتّجاهات والتصوّرات في بلادنا، وبالتالي سببا رئيسيا من أسباب وأد بذور النهضة المرجوّة قبل أن توضع في التربة، وذاك ممّا وضعَنا على منحدر التخلّف على امتداد عشرات السنين الماضية.

لا توجد بين شروط النهوض والتقدّم ابتداءً أيّ ضرورةٍ للأخذ بكلّ ما في الغرب، وذاك مستحيل أصلا، ولا توجد أيّ ضرورة للبدء من نقطة الصفر في المسيرة العلمية والتقنية والمادية، وذاك عند من يردّده "تخويفا" ابتكارٌ لوهمٍ يجري توظيفه ذريعةً في الصراع مع الآخر.

والحديث عن هذا وذاك لا يستند إلى دليل منطقي ولا استقرائي، ويتجاهل ما صنعناه في تاريخنا، وما صنعه سوانا في تاريخه، وينشر "القنوط" من إمكانية النهوض والتقدّم أصلا، بدلا من أن يصنع الأمل، كأوّل لبنة لا غنى عنها على طريق البناء.

ومن العبث الحديث عن أنّ طريق النهوض والتقدّم سيتطلّب عدّة قرون كما كان مع مسيرة النهضة الغربية الحديثة مثلا، فتلك مقولة حافلة بالمغالطات، ومحورها الرئيسيّ تجاهل أنّ "سرعة النهوض" تتلاءم دوما مع "سرعة العصر"، ولعلّ الاستثناء الوحيد في تاريخ البشرية كان للحضارة الإسلامية التي قامت على جيل صنعه الوحي توجيها والنبوّة تأسيسا، ففاقت بسرعة مسيرتها سرعة عصرها.

وضرورة الاعتماد على الثروات والطاقات والإمكانات الذاتية وصناعة وعاء حضاري ذاتي، جميع ذلك لا يتناقض ولا ينبغي أن يتناقض مع انفتاح فكري ممكن، وتواصل إنساني مفيد، وتعاون بشري واجب، إنّما تتحقّق هذه العلاقات جميعها وتنمو بقدر ما يكون لنا فكر حضاري، وخصوصية إنسانية، وإرادة ذاتيّة، والتزام بأرضية متوازنة للعلاقات البشرية.

لا جدوى بالمقابل من انغلاق مطلق، فهو مستحيل منطقيا، وغير قائم واقعا، ولا يدعو إليه الجادّون في طرح هدف النهوض والتقدّم، إنّما يرفضون التغريب المطلق لا الانفتاح، ويعتمدون على الثوابت الحضارية الذاتية دون تعصّب. وفي جميع الأحوال لا يصل الرفض إلى أدوات التقدّم التي ينتقل إرثها بين الأجيال البشرية، ويزيد حجمه، من عصر إلى عصر، إنّما يدور الرفض وبالتالي يظهر الاختلاف مع الآخر، حول ما يؤخذ أو لا يؤخذ من قيم وسلوكيات في العلاقات البشرية، مع ملاحظة عدم وجود انطباق في ذلك ابتداءً بين أيّ مجتمع وآخر، سواء داخل الدائرة الحضارية الغربية نفسها، أو داخل نطاق الأسرة البشرية عموما، وهنا تكمن جذور مشكلة مَن يرون في التعامل مع الإبداع معضلة، إذا صحّ وصفها بالمعضلة فعلا، عندما يسوّغون كثيرا ممّا يصنعون بالعنصر المشترك الإنساني، فيجلبون الغريب والمستهجَن أو ما ثبت إخفاقه، داخل أرضه، ويسعون لتوطينه في تربة بشرية وحضارية ترفضه وتلفظه من حيث الأساس لا النتائج فقط.

لا مبالغة في القول إنّ طريق النهوض والتقدّم يبدأ بقرار مشترك، ولم نتّخذ القرار بعد، ناهيك عن الشروع في تنفيذه، وإن كنّا لا ننقطع عن الحديث حوله، والقرار:

1- قرار فكريّ مشترك أوّلا، يصنع الأجواء والمعطيات الأولى للنهوض والتقدّم، ويضبط مسيرة التطوير والإبداع، شريطة أن يقترن بالخروج من متاهة صراع الأفكار والاتّجاهات -ولا نقول اختلافها- فقد بات الصراع لا الاختلاف أكبر العوائق في وجه النهوض المرجوّ على كلّ صعيد.

2- ثمّ هو قرار سياسيّ ثانيا، فكثير ممّا تطرحه ندواتنا ومؤتمراتنا وكتبنا وأقلام المفكّرين في بلادنا، بات في وادٍ والقرار السياسي في وادٍ آخر، وما لم يجتمع هذا وذاك على أرضيّة مشتركة متكاملة، وإن استحال دوام التطابق بينهما، فلن نخطو خطوة واحدة على طريق النهوض والتقدّم، رغم توافر الأسباب والمعطيات والضرورات المصيرية، ومع تجاوز أكذوبة العجز الذي نتوهّمه، وخواء حملة التيئيس التي نتعرّض لها. وما دام هذا القرار بعيدا عن أذهان المسؤولين في السلطات الحاكمة، فلن تكون المعارضة، في سورية وسواها، بديلا حقيقيا، ما لم تتمكّن من التلاقي على أرضيّة مشتركة ينطلق القرار فكريا وسياسيا عنها، ويكون مشتركا بين سائر أطرافها وأطيافها، ومن شاء السير معها من داخل السلطة نفسها.

والقرار المقصود، هو القرار الذي يقترن بمخطّطات العمل والشروع فيه.

 

هل الإبداع معضلة؟

من العسير تحديد تعريف اصطلاحي للإبداع، فالكلمة باتت مستهلكة بمقولات جعلتها أشبه بهيولى متعدّدة الأشكال والألوان في أتّون الخلافات. ولو رجعنا إلى المعاجم اللغوية لأمكن استخلاص مفهوم مبدئي في حدود "إيجاد الجديد". وسلّمُ التطور في الحياة البشرية قائم على إيجاد الجديد في مختلف الميادين، وأوّلها ميدان العلم والتقنية، فالإبداع في هذا المجال أمرٌ ضروري حاسم، الأصلُ فيه هو الاتّفاق دون تحفّظ، لا الخلاف. وكما أبدع الأقدمون الكتابة في سورية والورق في الصين والآلة الطابعة في ألمانيا، يبدع المحدثون الجدد، كلّ يوم، في كلّ مكان، في مختلف ميادين العلم والتقنية.

والإبداع الفكري لم ينقطع أيضا، إلاّ أنّه يختلف عن الإبداع العلمي، ولا يمكن القول إنّ مسيرته كانت دوما مسيرة ارتقاء حضاري، بل كان طوال التاريخ البشري عرضة للارتفاع والسقوط، فالأفكار الجديدة التي أوجدت القومية في أوروبا مثلا، تلتها أفكار جديدة أخرى جعلتها تعصّبا فاشيا ونازيا، ثمّ أفكار جديدة تالية نبذتها وأعطت الحرية الفردية المطلقة أو شبه المطلقة، مكان الصدارة، وانطلقت في الوقت الحاضر كتابات كثير من المفكّرين المعاصرين في الغرب في مسيرة الإبداع الفكري لتكشف عن انحرافات وقعت، وأخطاء تفاقمت، وعواقب باتت تستدعي إعادة النظر فيما كان مفروغا منه قبل عقود معدودة وليس قبل أجيال عديدة فحسب.

هنا لا بدّ من التساؤل عمّا يمكن "إبداعه" من ضوابط تساهم بدرجة ما، في ضبط المسيرة الفكرية، وتخفيف احتمالات الانحراف والخطأ، لتجنّب العواقب قدر الإمكان، قبل وقوعها.

والضوابط الممكنة في الميدان الفكري لا تعني، ولا ينبغي أن تعني بحال من الأحوال، الحجر على الفكر المبدع، وتقييد الرأي المخالف، إنّما المطلوب هو:

1- إدراك أنّ من طبيعة كلّ فكر إبداعي جديد، أنّه لم يوضع موضع التجربة بعد لكشف حقيقة مفعوله، ومواضع الشطط فيه، فلا يصحّ طرحه كما لو كان بدهية مطلقة لا تقبل الجدال.

2- لا يمكن تبعا لذلك القبول بربط فكر إبداعي جديد بمحاولة فرضه، اعتمادا على عنصر موازين القوّة، والمقصود هنا قوّة السلطة، أو قوّة المال، أو سوى ذلك من أسباب القوّة في المجتمعات المختلفة، التي يمكن أن تتبنّى فكرا معيّنا، فتنشره، وتحظر سواه.

3- حياة الفكر الإبداعي الجديد رهن بمواجهته الناقدة، لا فرضه، فلا بدّ من طرح الفكر الجديد الذاتي على الفكر الآخر، ولا جدوى ممّا أصبح للأسف في حكم المعتاد، أن تنتشر شبكات دعم الفكر الواحد، غالبا نتيجة قربه من السلطة، وأن يُضيَّق الحصار -حسب موقع مَن يحاصَر- على الفكر الآخر.

4- إنّ سلامة المنطلق والهدف عند صاحب فكر إبداعي، رهن بمدى رغبته -وليس استعداده فقط- أن يتعرّف على النقد الموجّه لفكره، ليعيد النظر فيه، ويصحّحه عند الحاجة، وليس أن يكتفي بالبحث عن الأقربين فكرا أو منفعة ما، ليسمع أو يقرأ التأييد أو ليجنّد المدافعين أو المصفّقين، متجاهلا سواهم.

وما يسري على الإبداع الفكري يسري بدرجة أبعد مدى على الإبداع في الميادين الأدبية والفنية والجمالية، لا سيّما وأنّها أقرب بطبيعتها إلى عدم التزام موازين ومعايير ثابتة، مثلما يُنتظر في الأصل من بحث علمي منهجي أو دراسة فكرية متوازنة. كما أنّها أشدّ تأثيرا على صناعة الإنسان، وصناعة علاقاته بالآخر، وبالتالي هي أشدّ تأثيرا على الحياة اليومية في المجتمع، أو ما سبق وصفه بروح التطوّر والتقدّم والنهوض في كلّ مجتمع من المجتمعات.

إنّ مكمن الإشكالية فيما يُطرح تحت عنوان إبداع، فيثير خلافا مع الآخر، هو فيما يُنشر بهذا الصدد من مقولات لتسويغ الانحراف والأخطاء في الإبداع، وليس دفاعا عن جوهر الإبداع نفسه، أي بمعنى إيجاد الجديد فكرا وأدبا وفنّا.

من ذلك على سبيل المثال تكرار القول إنّ نهوض الغرب كان عبر التحرّر من جميع القيود في ميادين الأدب والفنّ على وجه التخصيص، وأن هذا من صنع عصر التنوير، وفي هذا التصوّر مغالطة تاريخية بعيدة المدى، فجميع ما انتشر من مدارس فكرية وأدبية وفنية وُصفت بالإبداعية، مثل الوجودية والسريالية والعدمية والتفكيكية وغيرها، جميع ذلك انتشر في أوروبا بعد أن وضعت قدميها على سلّم النهوض العلمي والتقني، فلم يكن هو الذي صنع النهوض، بل كان من المنتجات "الإضافية"، كيلا نقول إن قسطا كبيرا منه كان اعتباطيّا، لا يقدّم ولا يؤخّر في صناعة التقدّم ولا صناعة الإنسان، وإنّ قسطا أكبر كان مسيئا إلى حدّ كبير.

بتعبير آخر، إنّ حاجتنا إلى النهوض والتقدّم مرتبطة بإيجاد معطياتهما الموضوعية الأساسية، وليس منها التحرّر من القيم والأخلاق الضابطة لإبداع أدبيّ أو فنّي، بغضّ النظر عن الاختلاف حول تأييد ذلك أو رفضه، فربط الموقف بمسألة النهوض العلمي والتقدّم التقني والمادي، من خلال استشهاد تاريخي خاطئ، هو موضع الخلل.

ومن المغالطات الكبرى في الحديث عن أشكال من الإبداع أثارت بمضامينها أو إخراجها الخلافات، مغالطة قائمة على القول إنّ عدم انتشار تلك "الإبداعات" راجع إلى عدم فهم الغالبية من سكان البلدان العربية والإسلامية لها. وليس هذا صحيحا من زوايا متعدّدة:

1- إنّ الشطط، أو الشذوذ "الإبداعي" في الآداب والفنون، وهو منقول في غالبيته العظمى عن الغرب عبر تقليد مدارسه المتعاقبة، بما فيها تلك التي اندثرت في هذه الأثناء، هذا الشطط الشاذّ لا تفهمه ولا تتفاعل معه الغالبية في الغرب نفسه، ولا يتجاوز كثير منه أن يكون أشبه بالتقليعات المؤقّتة، لا تكاد تظهر إحداها حتى تندثر وتتبعها أخرى، فبعض ما اعتُبر اتجاهات فنيّة مبتكرة لم يصمد جيلا واحدا، وبعضها لم يتجاوز المنطقة التي نشأ فيها، والسبب بسيط، ويعود إلى التلاقي بين الإنسان والإنسان من وراء الأزمان ومن وراء الأجناس والأعراق البشرية، على مواصفات مشتركة، من حيث الأذواق الطبيعية أو الفطرية، فالرفض المحليّ العامّ ناشئ عن هذه المواصفات المشتركة في الدرجة الأولى، وإن اقترن أحيانا بمواقف متعصّبة متشنّجة من جانب قلّة.

2- إذا كانت الغالبية ترفض ذلك الصنف من الإبداع، كما يقول أصحابه الذين يتّهمون العامّة بالعجز عن فهم ما يبدعون، فما غرض صاحبه منه إذن؟.. هل يعطي ما يعطي لنفسه والقلّة القليلة المواكبة له على ذات الطريق فحسب؟.. وعلام إذن تلك الثورة التي تنطلق من أولئك "المبدعين" كلّما اعترض فريقٌ من تلك الغالبية على بعض ما يصنعون، وليس عليه كلّه وإن تشابه كثير منه مضمونا وإخراجا، بل غالبا ما كان الاعتراض عندما يتجاوز مضمون "الإبداع" في حالات معيّنة، وبأسلوب استفزازي مختلف الضوابط، العقدية والخلقية، بل حتّى الذوق الإنساني المجرّد فيما يتمّ اختياره من المعاني أو الألفاظ أو المشاهد، ويكبر الاعتراض، وقد يشتدّ، على قدر ما يسبقه من صبر طويل، وعلى قدر حجم الاستفزاز نفسه.

3- إنّ أكبر أسماء المبدعين المشاهير في التاريخ، من مختلف الأمم والأقوام والأجناس والأعراق والديانات، إنّما هي لأفراد أبدعوا فكرا أو أدبا أو فنّا، ولكن لم يكن في إبداعهم في حينه ما يتجاوز حدود ضوابط آنية معاصرة سارية عند قومهم، في ميادين العقيدة والقيم والأخلاق والأذواق، وإن طرحوا فكرا جديدا وتصوّرا جديدا، وانتقدوا أوضاعا ظالمة أو منحرفة، أم يمكن القول بذلك عن أمثال تولستوي وبيتهوفن وجوته وشكسبير وهوجو وأمثالهم، وحتى ميكيافيللي عند من يطلّع على مجموع ما أعطى وليس على ما اشتهر عنه بصدد الغاية تسوّغ الوسيلة؟

ليس صحيحا تعليل الفجوة بين نخب "الإبداع" والجمهور، بأنّه كامن في عدم فهمه أو استيعابه، أو ما شابه ذلك مثل العزوف عن القراءة والمتابعة الجادّة، فجميع ذلك عوامل إضافية إلى جوهر مشكلة عزلة النخب جماهيريا وعدم وصول الإبداع إلى "المستهدَفين" به من الشعوب. لا ينبغي اختزال هذه المشكلة بتحميل المسؤولية للجماهير، فالعنصر الحاسم هو أنّ مسؤوليّة الوصول بأفكار مَن ينتسب إلى تلك النخب أو ينسب نفسه إليها بإبداع أدبي وعطاء ثقافي وطرح فكري، هي مسؤوليته هو، التي تفرض عليه هو، أن يراعي واقع الطرف المستهلك واحتياجاته، في مضمون إنتاجه وأسلوب تعبيره. ومن المغالطات الخادعة للنفس الزعم القائل إنّ هذا يهبط بمستوى الإنتاج، فقيمة الإبداع أو الفكرة أو الطرح الجديد ليست قيمة ذاتية بمعزل عن الوسط الذي ينتمي صاحب الإنتاج إليه ويستهدفه، بل تعلو تلك القيمة بمقدار ما يتمكّن صاحب العطاء من الوصول بأرقى ما يستطيع عطاءه إلى أوسع قطاع ممكن من الوسط الاجتماعي الذي يحتضنه ويعتبر نفسه فيه من النخبة.

إنّ النماذج المعروفة من الإبداع العالمي، التي تجاوزت الحدود وانتشرت في القارات الخمس ترجمةً وتفاعلا، لم تصل إلى هذا المستوى العالمي عبر مضامين وأساليب متميّزة بخصوصيّتها فحسب، بل من خلال قدرة أصحابها أيضا على الجمع بين الإبداعِ مضموناً يمسّ احتياجات إنسانيّة جامعة، والعطاءِ أسلوباً تستوعبه وتتفاعل معه أعداد كبيرة من أبناء الأسرة البشرية. وإنّ تقديم الأفكار -بغضّ النظر عن قيمتها الذاتية- في قوالب تعبير مستعصية على الفهم إلاّ عند قطاع محدود من النخب نفسها، يساهم في بقاء تلك النخب وعطاءاتها فيما تسمّيه -وهما- برجها العاجي، بعيدة عن الشعوب وهمومها وتطلّعاتها المستقبلية. ومَن يتابع ما يُطرح من كتابات تحت عناوين متعدّدة للحوار الفكري الإيجابي المنبعث مجدّدا في هذه المرحلة، يمكن أن يرجّح بقاء قسط كبير منه في واد، وجيل المستقبل في واد آخر.

 

ضوابط الإبداع

الإبداع من القضايا التي أثيرت مع توجيه رأس الحربة فيها إلى الإسلاميين على وجه التخصيص، وهذا ممّا يدفع إلى وضع قضية الإبداع في إطار رؤية إسلامية لمستقبل سورية، من المنظور الإسلامي الذاتي لصاحب هذه الكلمات.

إن الإبداع في العلوم والآداب، والفنون والثقافات، وفي مختلف مجالات الحياة، مفروض إسلاميا، مطلوب منطقيا، ولكن مع ضوابطه المتوازنة القويمة، فكما أنّ في كلّ منهج من مناهج الحياة والحكم، ثوابت ومعايير، تتسع وتضيق، وتتفاوت غالبا على حسب الانتماء الحضاري نفسه، ثبّت الإسلام لمن يأخذ بنهجه حضاريا وإن لم يأخذ به عقيدة، ضوابط متوازنة، هي التي تؤثّر عليهم في اختيار ما يقبلون ويرفضون، ممّا يتوارثونه عن الآباء والأجداد وممّا يبدعونه عبر ما يسعون إليه من علم ومعرفة وعطاء، من المهد إلى اللحد، في أيّ مكان من الأرض، وفي أيّ ميدان من الميادين، إضافة إلى ثوابت ومعايير لِما يقيمونه من علاقات فيما بينهم، وعلى المستوى البشري، جنبا إلى جنب مع ما فرضه الإسلام أو حثّ عليه من جهود، للاطّلاع على ما يكمن في الإنسان نفسه من أسرار، وفي الكون حوله من سنن، تشهد عليها آيات الله "في الأفاق وفي أنفسهم".

وليست الضوابط المطلوبة مع الإبداع المفروض في ذلك كله ، إلاّ في حدود ما يحقّق الإنسانُ من خلاله القدرة على التعامل مع البشر، وليس مع نفسه واقتناعاته فقط، حاملا رسالة التعارف والحقّ والعدل، والتقدّم والرقيّ والسعادة والخير والهدى والفلاح.

وإنّ الضوابط التي يخضع لها الإبداع في منهج الإسلام، لا تكاد تبلغ ما يوازي نسبة مئوية محدودة، من القيود التي تفرضها في هذه الأثناء العلمانية الغربية على مَن لا يقبل بها وبمناهجها وتعاليمها، سواء كان داخل حدود الغرب أو خارج حدوده حيث وصل سلطانها، مباشرة أو عبر أتباعها.

إنّ أبواب الإبداع مفتوحة على مصراعيها إسلاميا، إنّما لا بدّ على هذا الطريق من ضوابط، ومن ذلك على سبيل المثال:

أولا: الإبداع المحليّ المقبول هو ما ترتضيه الأمّة

لا يعني ذلك منع أيّ نخبة من طرح ما يريد أفرادها، ولكنّ القيمة الإبداعية تسمو في العطاء الإبداعي بقدر ما تجد التجاوب والتفاعل على صعيد شريحة عريضة من الأمّة نفسها، وليس الإنتاج الإبداعي، بمعنى إيجاد الجديد، هدفا بحدّ ذاته، إنّما هو وسيلة لتحقيق غاية، من الغايات الضرورية أو الحاجيّة أو التحسينية الجمالية. وجميع ذلك يرتبط بالأمّة وما ينقصها وما تحتاج إليه وما تتذوّقه، وبالتالي ما يمكن أن تأباه وترفضه، فهي التي تقبل أو ترفض، وهي مصدر معايير القبول والرفض، بما في ذلك المعايير التشريعية.

ولا عبرة هنا للحجّة القائلة إنّ العامل الحاسم في الإبداع هو "اختراق المحرّمات والمحظورات" مدخلا إلى التغيير، وقد يكون ذلك صحيحا في حالات ما، فحتّى على افتراض صحّته جدلا، لا يلغي ذلك أنّ الحديث عن الضوابط، هو في حصيلته حديث عن العملية التشريعية لمعايير القبول أو الرفض، وهذه لا يمكن منطقيا أن تُبنى وتُنظّم على "اختراق المحرّمات والمحظورات"، وإلاّ فإنّ قتل البريء من المحرّمات مثلا، فإذا تصوّرنا في مثال للتوضيح ظهور الدعوة إلى قتل البريء في إبداع أدبي أو فني أو فكري، يبقى محتّما اعتبار القتل وبالتالي اعتبار الدعوة "جريمة" ويبقى ضروريا منع "المبدع" من ذلك أو التهديد بالعقوبة الرادعة في النظام التشريعي القائم، ولا مكان هنا لزعم صاحب الإبداع أنّه "يخترق المحرّمات والمحظورات" للتغيير.

الأمّة، أو غالبية الشعب في دولة، مصدر ترسيخ الثوابت، ومنها المحرّمات والمحظورات، وهذا ما ينشأ نشأة طبيعية من التكوين العقدي والثقافي والحضاري تاريخيا، فإذا تقرّرت الثوابت، وفق رؤية الغالبية لها، كانت هي المعيار للعملية التشريعية عموما، كما هو قائم في كلّ دولة معتبرة من الدول، وهذا يشمل ميدان الإبداع، رفضا وقبولا.

ثانيا: ليس لأيّ "نخبة" فرض إرادة "مبدعيها" على الغالبية

لا مكان لمنطق الاستعلاء من جانب أيّ نخبة، سيّان ما هو انتماء أصحابها، سواء على صعيد مناصرة إبداع جديد أو رفضه، والفارق كبير بين المناصرة وبين سلب الآخر حقّ الاعتراض، لا سيّما إذا كان الإبداع موضع الخلاف صادرا عن فرد أو مجموعة أفراد، تناصره نسبة متدنيّة، وكان التعبير عن الرفض من جانب الغالبية، وصادرا عن فئات لها مكانتها فيها، وقد شهدت بعض الأحداث حول "أعمال إبداعية" مثيرة للجدل، كيف كان بين المعترضين، علماء وأدباء وصحفيون وطلبة وأساتذة جامعيون ومفكّرون، فمن يكون "المثقّفون" في بلد من البلدان إذن إن لم يكن هؤلاء؟..

والأمّة هي طرف "المستهلكين" لأيّ عمل إبداعي، فمن أحقّ من غالبيّتها في إعلان قبوله أو رفضه؟.. وإذا كان "المبدعون" لا يهمّهم تلك الفئة من المثقّفين "المستهلكين" من داخل الأمّة، فلِمن ينتجون إبداعهم إذن؟..

ما قيمة الرواية الأدبية، أو القطعة المسرحية، أو اللوحة الفنية، أو أيّ صورة من صور الإنتاج الإبداعي، إذا لم يكن مقياس قيمة الإبداع فيها، مرتبطا بحجم الجمهور الذي يتلقّاها ويتفاعل معها، وما قيمة صاحبها نفسه في ميدان الإبداع بالذات، إذا انفصل بنفسه عن "الجمهور" مستعليا عليه، وزاعما لنفسه القدرة على إعادة "تربيته" وإعادة صياغة فكره وقلبه وقيمه وذوقه كما يهوى؟

ثالثا: الثوابت الذاتية حضاريا وثقافيا هي مصدر المعايير في التعامل مع الجديد "الوارد"

إن المقياس الذي يرتضيه عامّة أهل المنطقة الحضارية الإسلامية، هو كما ظهر مرّة بعد أخرى، في حدث بعد حدث، وفي ميدان بعد ميدان، وفي بلد بعد بلد، هو المقياس الذي نشأ نتيجة عوامل عقدية وحضارية وتاريخية ذاتية، وليس مقياسا يؤخذ من منطقة أخرى، لتوطينه محليا، بحجّة نجاحه أو فائدته في تلك المنطقة، على افتراض أن زعم نجاحه وفائدته صحيح فعلا.

هذا ما يسري أيضا على التعامل مع الإبداع في ميادين صناعة الإنسان وتوجيه العلاقات مع الآخر إنسانيا، وليست هذه المقولة خاصّة بالمنطقة الحضارية الإسلامية، وليس المقصود بها حظر "استيراد" إبداع الآخر إنسانيا، إنّما هي مقولة سارية المفعول على أرض الواقع في كلّ منطقة حضارية بشرية، وفي كلّ عصر من العصور، فلا يجد الأوروبيون مثلا حرجا في التعرّف على ما لدى "الشرقيّين" كما يسمّون أهل المنطقة الإسلامية ومعها الصين واليابان وجيرانهما، ثمّ هم لا ينطلقون من منظومة القيم لدى الآخر إنسانيا، وهو مصدر الإبداع، بل يطبّقون على ما يتعرّفون عليه الرؤى والمقاييس الأوروبية الناشئة محليا، من عصر التنوير وما سبقه وما لحق به، ولا يعتبرون هذا "الإبداع" المستورد مصدرا لتوجيه منظومة الأخلاق والقيم الأوروبية، بغضّ النظر عن تقويمها بمنظور إسلامي إنساني أو إنساني عام.

لا يوجد في أنحاء العالم مَن ينطلق من ثوابتنا نحن، في استنباط مقاييسه ومعاييره ومناهج صناعة الأذواق والجماليات لدى قومه، ولا يوجد ما يفرض أو يستدعي أن ننطلق نحن من ثوابت خارج نطاقنا، في استنباط مقاييسنا ومعاييرنا ومناهج صناعة الأذواق والجماليات لدى قومنا.

وسيّان ماذا يملك غيرنا وما يصنع، سلبا أو إيجابا، الأصلُ هو أن نصنع نحن ما نريد في عالم الإبداع، فنرتضي لأنفسنا ثوابتنا، مقياسا ومعيارا، وهي الثوابت التي صنعتها معطياتنا الحضارية والثقافية الذاتية، ولا نجهل أنّ الذي صاغها هو الإسلام لأنّنا مسلمون من حيث غالبية السكان، وكذلك لأنّ تاريخ سائر من يسكنون البلدان الإسلامية من غير المسلمين، جزء من تاريخها، قد نشؤوا على أرضيته الثقافية، وهذه لها قيمها ومعاييرها ومقاييسها، التي صنعتها عوامل مشتركة في تاريخ الحضارة الإسلامية المشتركة بين الجميع.

رابعا: الاعتراض لكل فرد، والحكم لأهل التخصّص والكفاءة، والإباحة والحظر للمرجعية الدستورية

إن من أعظم ميزات الإسلام عدم وجود تعقيدات "كهنوتية" فيه، فهذا ما يجعل المسلم -والمسلمة- منذ أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، وعبر عصر الخلفاء الراشدين إلى اليوم، مؤهّلا للاعتراض، ويملك حقّ الاعتراض، على ما يراه متناقضا مع أصل من الأصول الإسلامية، اعتمادا على حسّه الإيماني، وفي حدود علمه بالإسلام وأحكامه المعروفة بالضرورة. ولهذا لم يكن يوجد تناقض إلاّ نادرا بين:

- موقف يصدر عن الحسّ الإسلامي لفرد مسلم.

- وموقف تمليه الخبرة الاختصاصية، كما في حالة الأدباء والكتاب والمثقفين، الملتزمين بإسلامهم عقيدة، ومعهم من لا ينتسب إلى الإسلام عقيدة وإنّما هويّة تاريخية وحضارية.

- وموقف يصدر عن عالم فقيه.

والأفضل هو فيما يصدر عن تلاقي صاحب الاختصاص الفقهي وصاحب الاختصاص الأدبي أو الفني، على أرضية الالتزام بثوابت الأمة، للانطلاق منها إلى مواقف قويمة وأحكام منهجية، بعيدة عن التعسّف وعن التشنّج وردود الأفعال، ومستقلّة عمّا تقتضيه مصلحة وقتية لهذه الفئة أو تلك ولو تعارضت مع المصلحة المشتركة العليا. ويبقى أنّ المرجع النهائي في تقويم القيمة الاجتماعية والحضارية لعمل أدبي أو فني، أي مدى التزام الإبداع فيه بثوابت الأمة، هو المرجعية الثابتة دستوريا باختيار الغالبيّة لها.

يُستخلص من هذا الفصل:

1- الاتّهامات المتبادلة في مسائل النهوض والتقدم والتطوير والإبداع اتّهامات ناشئة عن حقبة الصراع، وتتجاوز الحقائق الموضوعية المميّزة لأطراف هذه الاتّهامات، لا سيّما ما بين الإسلاميين والعلمانيين عموما.

2- البقاء في دائرة الاتّهامات يعزّز المنظور المنحرف للقلّة التي تثيرها ضدّ الآخر، على حساب الغالبيّة ذات المنطلقات الموضوعية في الاختلاف والضوابط المنطقية في الخلاف، وهذا رغم وجود عناصر مشتركة واسعة النطاق، بين التيارات المتعدّدة، تسمح بوجود أرضية مشتركة وعمل مشترك على طريق النهوض والتطوّر.

3- ليست إشكالية التقدّم والنهوض كامنة عند طرف دون آخر، وليست الخلافات شاملة للمعطيات الجوهرية الضرورية لعملية البناء، وتنحصر في الدرجة الأولى في اختلاف النظرة إلى ضوابط منظومة القيم والأخلاق.

4- يجب التخلّص من المغالطات المعرقلة لعمل مشترك على طريق النهوض، مثل زعم العجز عموما، أو ادّعاء أنّ التقدّم قد تحقّق، أو التخويف من حجم هوّة التخلّف والتقدّم المعاصرة وطبيعتها.

5- لا يتحقّق النهوض بالأخذ عن الآخر عالميّا في مختلف الميادين دون تمييز، ولا يمنع التفاوت الحضاري الآنيّ من متابعة مسيرة التقدّم العلمي والتقني والمادي حيث وصلت إليه في المسيرة البشرية التاريخية المشتركة.

6- لا غنى عن الإبداع المرافق للنهوض، المحقّق للتطوّر المتجدّد، في مختلف الميادين، لا سيّما الأدبية والفنية والجمالية، ولا يوجد ما يسوّغ انحرافات باسم الإبداع، وبدعوى خرق المحظورات والمحرّمات في حسّ الأمّة أو غالبيتها، فليس هذا شرطا من شروط التقدّم والتطوّر لدى أيّ أمّة من الأمم، ولا في أيّ حقبة من حقب التاريخ.

7- لا يوجد إبداع دون ضوابط، ومصدر الضوابط -لا الحظر المطلق- هو الثوابت، وهي ما ترتضيه غالبية الأمّة نتيجة طبيعية لتكوينها التاريخي الحضاري.

إنّ مسيرة النهوض والتقدّم، والتطوّر والإبداع، إذا تحقّق الاتفاق على معالم انطلاقتها الأولى ضمن إطار أرضيّة مشتركة للمعارضة، في مرحلة صناعة الإصلاح التغييري المفروض على المعارضة -ومَن شاء من السلطة- في سورية، فإن استمرار المسيرة مستقبلا، رهن بوجود جوانب أخرى حاسمة في أرضيّة الإصلاح التغييري، ويظهر من هذا الفصل وسواه أنّ محورها الرئيسي هو وجود أسسٍ قويمة على صعيد منظومة الفكر والقيم.

=========================

في آذار تتعانق أرواح ضحايا درعا مع أرواح ضحايا القامشلي وعفرين..

المحامي مصطفى أوسو

 مرة أخرى واستمراراً لسياسة القمع والاستبداد والتنكيل...، بحق المواطنين السوريين ومصادرة حقوقهم وحرياتهم الأساسية، قامت السلطات الأمنية السورية بتاريخ 18 / 3 / 2011 بإطلاق الرصاص الحي والقاتل على تجمع سلمي حضاري في محافظة درعا، مطالب بالحرية والعدالة والديمقراطية والمساواة وتحسين ظروف حياتهم ومعيشتهم ومحاربة الفساد والمفسدين...

 وقد أدى هذا العمل الإجرامي الذي ينم عن مدى استهتار هذه السلطات بالقيم الإنسانية، إلى وقوع العشرات من الإصابات والعديد من الجرحى، إضافة إلى إزهاق أرواح ثلاثة مواطنين، تم تشيعهم إلى مثواهم الأخير يوم 19 / 3 / 2011 والتي لم تخلو من العنف هي الأخرى في مواجهة المشيعين، لتعانق أرواح هؤلاء الضحايا الثلاثة أرواح أخوانهم ضحايا إطلاق الرصاص الحي والقاتل في القامشلي وعفرين...، أعوام 2004 و 2007 و 2008 ولتصبح دمائهم الزكية الطاهرة أمانة غالية في أعناقنا نحن الموجودين على قيد الحياة، للعمل بصفوف موحدة من أجل تحقيق أمانيهم وتطلعاتهم في بناء وطن تزدهر فيه الحرية وتنمو فيه بذرة الديمقراطية، وطن لا مكان فيه للصوص والحرامية والفاسدين، وطن يعيش فيه أبنائه بكرامة وآمان وطمأنينة واستقرار، وطن لا مكان فيه للاستغلال والتمييز والاضطهاد...

 أن إمعان السلطات الأمنية السورية في إطلاق الرصاص الحي القاتل على التجمعات السلمية للمواطنين السوريين، سواء المطالبين بحقوقهم وحرياتهم... أو الفرحين والمبتهجين بأعيادهم ومناسباتهم، يؤكد بأنها لا تأبه أبداً بأي عرف أو قانون أو شرعة...، وضعية أو سماوية...، فالحق في الحياة، يعتبر من الحقوق اللصيقة بالإنسان، وهو نتيجة جوهرية لكل إنسان، وهو المصدر المحرك لإرادته في الوجود والتمايز والإبداع...، ولخصوصية هذا الحق، حق الإنسان في الحياة ،ولأنه الأساس لحقوق الإنسان الأخرى، فأن القانون الوضعي كفل احترامه، كما حماه أيضاً التشريعات السماوية، ولذلك فأن أي انتهاك له وبأي ذريعة كانت تعتبر جريمة قتل قصد يعاقب عليها القانون بأقسى أنواع العقوبات، فقد نصت المادة السادسة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 على أن حق الحياة هو حق متأصل في الإنسان، ولأن سوريا انضمت إلى هذا العهد وصادقت عليه وتعهدت بالالتزام به، فأن هذا العهد يصبح جزء لا يتجزأ من تشريعها الداخلي ( الوطني )، أي أن الحق في الحياة يجب أن يكون متأصلاً في المواطن السوري، لا أن يكون مهدوراً ببلاش وبطلقة رصاص من بندقية رجل أمن.

 ومثلما لم تنجح عمليات ممارسة السلطات الأمنية السورية للقمع والعنف وإزهاق الأرواح...، بحق أبناء الشعب الكردي في سوريا، في تحقيق أهدافها العنصرية والقضاء على واقع وجوده التاريخي وشطبه وإلغاءه... والنيل من إرادته وعزيمته في التعبير عن ذاته ومواصلة نضاله السلمي الديمقراطي الجماهيري...، وتحقيق آماله وطموحاته وحقوقه الإنسانية والاقتصادية والثقافية والقومية...، وتعزيز أواصر العلاقات التاريخية والتعايش المشترك بينه وبين الشعب العربي والقوميات الأخرى في سوريا، رغم ما رافقتها من حرب إعلامية سلطوية شعواء لتشويه سمعة الكرد وإظهارهم لدى أخوتهم السوريين بمظهر الانفصاليين والمتآمرين والمتآمركين والمرتبطين مع الخارج...، لدق إسفين بينه وبين أخيه الشعب العربي في سوريا، إلا أن الشعب السوري، بعربه وكرده وقومياته الأخرى المتآخية على مر التاريخ، وبفضل جهود أبناءه المخلصين استطاع أن يجهض تلك المؤامرة الخبيثة، ليبقى الشعب السوري أخوة في هذا الوطن يشاركون بعضهم البعض الأفراح والأحزان ويعيشون في حب وسلام ومودة ووئام...، مما جسده بشكل عملي وواقعي الناشط السوري الأستاذ رياض درار، بعد أحداث القامشلي بحوالي سنة واحدة وفي خيمة عزاء ضحية قمع الأجهزة الأمنية السورية الشيخ محمد معشوق الخزنوي بكلمة وموقف مؤثرة دخل على أثرها السجن لعدة سنوات...، نقول مثلما لم تنجح عمليات العنف والقمع وإزهاق أرواح أبناء الشعب الكردي في تحقيق أهدافها...، فإن العنف الممارس اليوم بحق عموم أبناء الشعب السوري وأبناء محافظة درعا بشكل خاص وإزهاق أرواحهم بدم بارد ودون وازع من ضمير، لم ولن تحقق أهدافها في لجم تطلعاته المشروعة والقضاء على إرادته في التغيير الديمقراطي السلمي وتحقيق سيادة القانون وضمان استقلالية القضاء ومحاربة الفساد والرشوة والمحسوبية وإهدار المال العام...، وإنهاء حالة القمع والظلم والاستبداد والاضطهاد...، من خلال القضاء على أسسها ومرتكزاتها الفكرية والسياسية والقانونية...، كحالة الطوارئ والأحكام العرفية والقوانين والمحاكم الاستثنائية واحتكار السلطة والثروة...، وخاصة إننا نشهد اليوم ما يشبه تسونامي التغيير في المنطقة العربية بفضل النهوض الجماهيري العارم وعدم رضاها بالوضع القائم المؤسس على الحرمان والفقر والتهميش والإلغاء والإقصاء وغياب الحريات ومصادرة الحقوق...، بالتزامن مع طفرة الثورة الإعلامية التي تتابع الحدث من مكان وقوعه لحظة بلحظة وثانية بثانية، وكذلك بالترافق مع تطور مفاهيم حقوق الإنسان في العالم، وخاصة مفهومي " السيادة الوطنية " و " حق التدخل الإنساني " حيث لم تعد أية دولة في العالم تستطيع أن تتذرع بأنها تمارس سيادتها الوطنية عندما ترتكب جرائم ضد الإنسانية.

 وإذا كنت أتوجه بالتعازي الحارة لأهالي ضحايا الرصاص الحي القاتل في محافظة درعا وبالشفاء العاجل للجرحى والمصابين، فأنه يجب العمل على تشكيل لجنة تحقيق محايدة, تقوم بالكشف عن المسببين للعنف والممارسين له, وعن المسؤولين عن وقوع الضحايا من قتلى وجرحى, وأحالتهم إلى القضاء ومحاسبتهم...، ولا بد لكافة الفعاليات الوطنية والديمقراطية في البلاد، من التحرك العاجل والعاجل جداً لوقف هذا النزيف والعنف الغير مبرر والضغط على النظام لوقف ممارساته القمعية بحق المواطنين السوريين والاستهتار بأرواحهم...، والبدء ببناء مجتمع يسوده الديمقراطية والعدالة والمساواة...، وينتفي فيه الهيمنة والاستبداد والاضطهاد...، مجتمع يتمتع فيه الجميع بحرياتهم وحقوقهم المدنية والسياسية والثقافية والقومية...، مجتمع يصون الخصوصية ويراعي التعددية السياسية والقومية والدينية...، ويعيش فيه الجميع بسلام وأمان في ظل سيادة دولة الحق والقانون.

========================

حشود الإسلاميين ومخاوف الأوصياء

علي عبدالعال

تكرر الحديث كثيرا عن الحشد الذي قام به الإسلاميون للتصويت بنعم على التعديلات الدستورية، وكان أكثر المتحدثين منتقدين للإسلاميين بالطبع باعتبار ما فعلوه تجاوزًا لا يصح برأيهم.. وقد اطلعت على كتابات وتابعت عددا من البرامج الحوارية على الفضائيات، مساء يوم الاستفتاء، ولسوء حظي كان كل المتحدثين الذين استمعت إليهم وقرأت لهم ممن يطلق عليهم "ليبراليون" وكانت وجهة حديثهم واحدة، لا تخرج عن اتهام الإسلاميين على ما فعلوه، فضلا عن تشويه صورتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.. فأين الخلل؟

تقول مسلمات الممارسة السياسية التي تتيحها "الديمقراطية" كنظرية ومنظومة حاكمة للعمل السياسي، أن الحق مكفول لكل قوة سياسية في حشد أنصارها خلف ما تعتقد انه صواب وتراه في مصلحتها، وهذا أصل قديم ومعروف لولاه لما كان يمكن الحديث عن أي منافسة أو حزبية سياسية تتعدد فيها البرامج المقدمة.

وأذكر هنا أن الديمقراطية لم تكن اختيار كثير من الإسلاميين، خاصة الذين يرون في قواعد وآليات الحكم المعروفة في التراث الإسلامي ما يغني عن الديمقراطية كنظرية غربية في الأساس، ولكنهم قبلوها وارتضوا آلياتها لما باتت تلقاه حاليا من توافق كبير بين قوى المجتمع وأطيافه، باعتبارها السبيل الوحيد للمشاركة العامة.

ومن ثم فمن الغريب أن تخرج مثل هذه الاتهامات لما فيها من انقلاب على ثوابت الديمقراطية من الليبراليين والمتبتلين في محرابها.

حقيقة حشد الإسلاميون بمختلف جماعاتهم وجمعياتهم (إخوان، وسلفيون، وجماعة إسلامية، وتبليغ) إلى آخره، لكن ما العيب في ذلك خاصة وليسوا وحدهم الذين حشدوا، بل حشدت الأحزاب العلمانية واليسارية هي الأخرى خلف "لا"، وحشدت الكنيسة رسميا، وحشد رجال الأعمال من ذوي التوجهات المعروفة. بل وكان أيضا من بين الإسلاميين من دعا إلى رفض التعديلات والتصويت ب "لا" كما فعل كل من الداعية عمرو خالد ومعتز مسعود.. وهذه كلها ممارسات مشروعة في إطار من التنافس يكفله هذا الجو الديمقراطي في أعقاب ثورة أنهى به المصريون عقود طويلة من الاستبداد والإقصاء.

ومما يدفع به المنتقدون قولهم أيضا إن الإسلاميين كثفوا من "أساليب التخويف" بقولهم إن التصويت ب "لا" سوف ينتهي إلى تغيير المادة الثانية من الدستور. وهو ما حصل بالفعل وكنت شاهدا على ذلك، لكن ما الضير إذا كانت طبيعة العملية الاقناعية بأبسط الأشياء تستلزم الجمع بين الترغيب والترهيب؟. وإذا كان الأمر هنا يتعلق بالمواطن المصري ومدى وعيه فلنتركه يختار ما يقتنع به، اللهم إلا إذا كنتم تعتقدون أن الشعب مازال قاصرا، أو غير قادر على فهم الأفكار التي تعرض عليه، أو ربما لا يعرف مصلحته، وهو ما يستدعي طبعا أن ينصبكم أوصياء عليه.

 لكن  من جهة أخرى  كيف إذا كنتم حقيقة منزعجين من أساليب التخويف تغمضون أعينكم عن تلك الفزاعات التي استخدمتها الأطراف الأخرى؟ من قبيل: أن التصويت بنعم سوف يأتي بالإخوان لحكم مصر، وأنه يمثل خيانة لدماء الشهداء، وسوف يعني استمرار الاضطهاد بحق الأقباط.

يقولون أيضا لقد توافق الإخوان مع الحزب الوطني في تأييد التعديلات، وهذه نكتة بحق، ربما كانت تهدف مثلا إلى أن نعتقد بوجود تحالف سري بين الإخوان والحزب الحاكم سابقا، ما داموا جميعا مؤيدين للتعديلات الدستورية !!، وهي نكتة متشعبة في الوقت نفسه، لأنها تتحدث عن "الوطني" كأن هناك حزبا يحمل هذا الاسم، له هياكله وقياداته، أبلغوا هؤلاء الأوصياء أنهم مؤيدون للتعديلات ومتوافقين مع الإخوان حولها.

يبدو لي أن تلك النخب التي باتت تتمتع بمساحات جيدة في وسائل الإعلام تسعى ربما إلى القفز واستباق الأمور في البلاد لإيجاد منافسة سياسية دون منافسين، وخلق شكل معين من أشكال الديمقراطية يمكن أن نطلق عليه "الديمقراطية المفصلة" أو "ديمقراطية الأوصياء" تناسب حالة الفشل التي باتت تلاحقها لعجزها عن إيجاد تواصل حقيقي مع الشارع.. بحيث تمنع من جهة أخرى أي قوى غير هؤلاء الأوصياء من المشاركة باعتبارهم لا يفهمون الديمقراطية ولا يستحقونها.

كانوا في السابق يقولون إن الإسلاميين انقلابيين ورافضين للديمقراطية بطبيعتهم وها هم الآن يعيبون عليهم المنافسة الحقيقية والقيام بالحشد خلف ما يعتقدون أنه صواب، ولو صدقوا لقالوا إننا مفلسون ولا قدرة لنا على منافسة شريفة سوى التحول إلى أبواق لتشويه الآخر.

 

أخشى أن يخرجوا علينا فيما بعد مشترطين لدخولهم أي منافسة سياسية ألا يحشد لها الإسلاميون أو أن يتخلوا مثلا عن شيء من وجودهم في الشارع شفقة بالأوصياء !.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ