ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 22/05/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

 

سورية بين الثورة (التآمرية) والقمع (الوطني)

خصوصيات نظام يصطنع عدوّا أسطوريا ليخوض معركته الاستبدادية

نبيل شبيب

مع كل التقدير لشعب فلسطين الذي روى بدماء انتفاضاته وصموده تربة الثورة العربية على الظلم والعدوان..

مع كل التقدير لشعب تونس الذي فتح بوابة ربيع الثورة العربية الكبرى المعاصرة على الطغيان..

مع كل التقدير لشعب مصر الذي حلّق بالوجه الحضاري للثورة العربية إلى العلياء في سجلّ التاريخ..

مع كل التقدير لشعب اليمن الذي جعل من الوجه السلمي للثورة العربية نموذجا فريدا للأسرة البشرية..

مع كل التقدير لشعب ليبيا الذي واجه ويواجه آلة الإجرام في يد عميد المستبدين وكبير المشعوذين..

مع كل التقدير لشعوب عربية تحركت وتتأهّب للتحرّك، ولا بدّ أن ترى نور الفجر يحمل لها العدالة والحرية كأشقائها..

لا بد من توجيه التقدير من أعمق الاعماق تخصيصا لشعب سورية، التي لم يصدُق النظام الاستبدادي الفاسد المتسلّط عليها إطلاقا إلاّ في قوله: إن سورية ليست تونس ولا مصر ولا اليمن ولا ليبيا، بل لها خصوصياتها!..

وقد كشفت ثورة الشعب عن خصوصياتها، وكشفت أيضا عن القواسم المشتركة بينها وبين سائر الثورات العربية الأخرى، وفي مقدمتها أنّها سلمية شعبيا، وأنّ أجوبة الأنظمة عليها همجية وسيلة وغاية.

ولقد تصدّر خصوصيات سورية وثورتها، أنّ النظام القمعي في سورية لم يجد "سلاحا" في أيدي الثائرين، فلم ينكفئ كما كان في تونس ومصر، ولم يراوغ مراوغة ماكرة كما في اليمن، ولم يستطع بتصعيد البطش إلى درجات لا تُحتمل –كما في ليبيا- استدراج أحدٍ لحمل السلاح، فابتكر حكايات مختلقة، مضحكة مبكية، متناقضة مع بعضها بعضا، لا يصدقها النظام وإن نشرها ولا يصدّقها أحد سواه، ليصوّر عمليات القمع الهمجي الذي يمارسه، كما لو كان جولات معركة بين طرفين، وليس هجوما تخوضه عصابات مسلّحة ضدّ شعب أعزل.

هذه الخصوصية بالذات هي التي تجعل من استمرار ثورة شعب سورية ثورة بطولية تاريخيا، متميّزة في ربيع الثورة العربية، قادرة على أن تأخذ مكانها المتميز بين ثورات الشعوب الشقيقة، التي تميّز كل منها أيضا بجانب يعطيها مكانة تاريخية فريدة على مستوى الأسرة البشرية جمعاء.

 

نصرة الاستبداد.. تدعم الخطر الخارجي

لا ينفي ذلك وجود أخطار خارجية، ومؤامرات دولية، وأهداف لقوى الهيمنة الصهيوأمريكية تتناقض مع إرادة شعب سورية وثورته وغاياتها ومسارها، وكثير من الخطوات والمواقف الدولية يكشف عن كونها مدروسة، إن استهدفت النظام فليس من أجل الشعب بل مع محاولة استباق انتصار ثورته ومحاولة قطف ثمارها، ولهذا توجب الأخطار الخارجية دعم شعب سورية وثورته وليس دعم الاستبداد كما لو كان هو المستهدف بتلك الأخطار، وهو ما يتناقض مباشرة مع عدم التعرّض الأجنبي للاستبداد في سورية ولا سواها بما يسيء إلى "استبداده" طوال العقود الماضية.

وبالمقابل فإن دعم الاستبداد وما يصنع، والترويج لادّعائه أنّه على طريق الإصلاح رغم المعرفة بحقيقته وحقيقة ما يعرضه لترسيخ الاستبداد وليس لصناعة التغيير.. إن الدعم على هذه الصورة يضاعف من مفعول الأخطار الخارجية على سورية بشعبها وأرضها وتاريخها ودورها الإقليمي والدولي، وجميع ذلك ممّا وظّفه الاستبداد لخدمة بقائه واستمراره وقبضته الحديدية، ولهذا أيضا لا يمكن بحال من الأحوال -تحت أي عنوان بما في ذلك عنوان "دولة المقاومة والممانعة"- تسويغ البطش الإجرامي الفاجر بشعب يصنع ثورته البطولية التاريخية؟..

إنّ وجود الاستبداد بأي شكل ومسمّى مرفوض ويسوّغ العمل على إزالته، سواء كان مرتبطا بقوّة دولية مهيمنة أم لم يكن، فمجرّد حرمان الإنسان (أو أقلية سكانية.. أو غالبية شعبية) من الحريات والحقوق، المعنوية، أو المعنوية والمادية، هو بحدّ ذاته جريمة تستحق العقاب، وليس كفّ أيدي من يرتكبها عن ارتكابها فقط. 

فكيف وما يسمّى نظاما يستنفر الدبابات والمدفعية والشبيحة والعناصر الهمجية ليفتك بالشعب الأعزل، أطفالا ونساء وشيوخا وشبابا!..

وإنّ وجود الاستبداد الفاسد من الأصل هو القاسم المشترك الجوهري بين تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية وسواها، وهو الذي يفرض من حيث الأساس نصرة الشعوب ضدّ الاستبداد.. دون تردّد ولا أوهام!..

لا يمكن تسويغ استمرار الاستبداد في سورية بسياسات الممانعة، فليست إرادة الشعب الحرّة من جهة، ومقاومة العدوان الأجنبي والهيمنة الأجنبية من جهة أخرى "نقيضين لا يجتمعان"، بل عكس ذلك هو الصحيح.. إنّ الممانعة واحتضان المقاومة ترتفعان إلى مستوى "التعبئة والتحرير" بقدر ما تتحرّر إرادة الشعوب.

تحرير مصر من الاستبداد ينقلها من معادلة الهيمنة والتبعية، إلى حقبة تاريخية جديدة، وتحرير سورية من الاستبداد وترسيخ أوضاع العدالة والحرية، ينقلها إلى حقبة جديدة.. بعد زهاء خمسين سنة، كان التشبّث بالاستبداد خلالها هو العقبة دون أن يتحوّل احتضان المقاومة (الناشئة والعاملة خارج سورية) إلى صناعة المقاومة فعلا وممارستها من داخل سورية، هذا مع وجود المسوّغات والمشروعية، لأسباب عديدة، منها استمرار احتلال الجولان منذ 44 سنة.

الاستبدادُ هو العقبة الأكبر دون تعبئة الشعب، لتتحوّل الممانعة، من ممارسة المساومات، كما كان مثلا في التعامل مع الحدود السورية-العراقية عقب احتلال العراق، إلى ممارسة "سياسات البناء والنهوض والتعبئة والتحرير".. وهي سياسات لا يوجد بصددها في سورية منذ نصف قرن مثال يمكن ذكره.

الأهم من ذلك:

إنّ دور سورية الوطني والقومي والإسلامي والحضاري –بما في ذلك ما يرتبط بالممانعة والمقاومة- هو دور "سورية" وشعبها -وليس دور أي نظام قام أو يقوم فيها ما لم ينبثق عن إرادة شعبها.

لقد ظهر هذا الدور قبل الاستقلال (جبلة التي يقمع الاستبداد ثورتها الآن هي التي أنجبت عز الدين القسام.. وهو مثال واحد من عشرات)..

واستمرّ هذا الدور بعد الاستقلال (جول جمال شارك في الدفاع عن مصر في حرب 1956م، وكان من صنع سورية وليس الحزب الذي يحكم الاستبداد باسمه منذ عام 1963م.. وهذا أيضا مثال من أمثلة عديدة)..

هذا دور سورية.. دورها بجميع فئات شعبها وسائر مراحل تاريخها وميزات موقعها، ولا يُختزل في حكم استبدادي يجعل من عنوان الممانعة والمقاومة ذريعة لتسويغ مصادرة الحريات والحقوق وتكبيل الشعب وطاقاته بالقيود، فهو في مقدمة أسباب عدم الانتقال بسورية إلى دولة تحرير ونهوض منذ جيلين من الزمن.

إن درعا.. وبانياس.. ودوما.. والمعضمية.. وحمص.. ودير الزور.. وجميع المحطات الأخرى إلى تلكلخ ساعة كتابة هذه السطور، جميعها شواهد على البطولة الشعبية والإجرام الاستبدادي، وجميعها يقول:

إنّ الممانعة والمقاومة عناوين، تكتسب قيمتها بقدر ما تحقق من أهداف على أرض الواقع، تعبئة للطاقات، وتحريرا للأرض، ونهوضا ذاتيا يصدّ الهيمنة الأجنبية.. ولهذا يجب التأكيد –وليس الاطمئنان فقط- أنّه لن يستقرّ نظام حكم في سورية بعد الثورة، دون أن يواصل دور سورية الأرض والشعب والتاريخ والحضارة، فإن انبثق عن إرادة الشعب حقق الأهداف المشروعة لهذا الدور، وإن غلب الاستبداد مجددا، "تقمّص" هذا الدور شكليا أو جزئيا، ولكن دون أن يحقق "الأهداف" الجليلة.. وذاك هو الحال على امتداد أربعة عقود مضت وزيادة -وهذا سبب جوهري إلى جانب الاستبداد- لوجوب الثورة الشعبية ضدّه. 

 

قمع مسلح.. يبحث عن عدوّ!..

هل يقمع الحكم القائم في سورية ثورة الشعب من أجل "الممانعة والمقاومة".. أم من أجل بقائه؟..

إنّ من خصوصياته أسلوبه المبتكر في محاولة قمع ثورة الشعب:

1- "العزل الإعلامي" –وليس التعتيم فقط، فهذا ما أصبح في عالمنا المعاصر مستحيل التنفيذ، ولهذا لم تدع السلطات من اللحظة الأولى مجالا لآلة تصوير ولا قلم تحرير لمتابعة ما تصنعه وما خططت لصنعه، سوى ما يوجد داخل الحدود، وهو جزء لا ينفصم عن النظام الاستبدادي الفاسد الحاكم.. وهذا مقدمة للخصوصية التالية:

2- "الإنكار المتواصل للتقتيل.. وهو علني" بأساليب أثارت السخرية المريرة لصعوبة مناقشتها موضوعيا أصلا، بدءا بالشبيحة مرورا بالعصابات المسلحة بمرافقة العناصر الأمنية بألبستها الرسمية، انتهاء بالقناصة ولكن فوق المباني الرسمية التي تمتلئ بعناصر القمع المسلّحين أكثر ممّا يوجد فيها من الموظفين المدنيين الحكوميين.. وهذا مع إرفاقه بخصوصية ثالثة:

3- تناقض الاتهامات المتتالية ضدّ الثوّار مع بعضها بعضا، وقد تهافتت على أرض الواقع، بدءا بـ"فتنة طائفية" مزعومة، انتهاء (مؤقتا) بـ "إمارة إسلامية" تقوّض أركانَها الدبابات والمدفعية في قلب المدن السورية، واحدة بعد أخرى. ومن يتابع تلك الاتهامات، يجد أن النظام الاستبدادي في سورية وحّد بين ما يسمّى السلفية الجهادية والأمريكيين، وبين متسللين فلسطينيين وعدوّ صهيوني، وبين الفضائيات جميعا رغم اختلاف مشاربها، وبين الناشطين الحقوقيين في كل أرض وتحت كل سماء!..

انهارت هذه "الحصوصيات" الكاريكاتورية جميعا.. وسريعا.. ومع ذلك تمسّك بعض (وليس جميع) من لا يزالون يصفون أنفسهم في عصر الثورة العربية باليساريين والقوميين، بذريعة لم يعد لها مستقبل  حقيقي في ربيع الثورات العربية: ورقة الممانعة والمقاومة، وتكفي الإشارة في هذا الإطار إلى  ما تعنيه التباشير الأولى لرفع الحصار –عربيا- عن قطاع غزة بالتزامن مع حصار قمعي همجي للمدن السورية.

لقد انخفض حتى سقف المنطق من وراء هذه الذريعة لتسويغ ما يصنع الاستبداد الفاسد بثورة الحرية والكرامة في سورية.. فمن يتحدّث عن هذه الورقة ويربطها بالتسلّط على سورية منذ أكثر من أـربعة عقود، لا يخفى عليه أنه لم يتحقق بمشاركة نظام التسلّط أي نصر حاسم، فهو لا يربطها بإنجازات كبيرة تحققت –حتى بمقاييس يسارية متقلبة فضفاضة مرفوضة ناهيك عن قومية تاريخية عريقة- بل يربطها بتأثير وطأة الكوارث والنكبات عليه بأدنى المعايير: الامتناع عن المشاركة المباشرة في التسليم والتطبيع والانبطاح!.

لقد هبطت معايير الوطنية.. بعد أن غيّبت حقبة ما قبل الثورات العربية المقارنة الكريمة بين "الإنجازات الكبيرة" ورسّخت المقارنات المنكفئة عند رؤية "قمّة الوطنية" في مجرد الامتناع عن المشاركة الكاملة في تصفية قضية فلسطين المصيرية المحورية!..

ولكن بهذا المقياس وبأي مقياس آخر، ولو خلا من انكفاء التطلعات وهبوط سقف الآمال والأهداف:

هل يمكن استباحة السكوت عن قمع مسلّح لشعب أعزل؟..

هل يمكن القبول بالمشاركة في الجريمة بالدفاع عمّن يرتكبها؟..

 

متآمر على الشعب.. يتهم الشعب بالتآمر

لا يمكن لهذا المنطق مهما تقمّص لباس المقاومة والممانعة أن يصمد عند إنسان.. أي إنسان، يستشعر ما تعنيه كلمات الوطنية والعروبة والإسلام والإنسانية بحال من الأحوال.

لهذا: أصبح لا بدّ بمنظور من يمارس القمع الهمجي في سورية من "التضخيم من شأن العدوّ"، عبر التركيز على محور "المؤامرة الخارجية".

إنّ تآمر قوى الهيمنة الدولية لا يحتاج إلى أصابع الاتهام بالتآمر، فالشواهد مأساوية كبرى ودامية وعلنية منذ عشرات السنين حتى اليوم..

ولكن وصم الثورة الشعبية بالارتباط بها يعني لصق وصمة التآمر المزعوم بأطفال يكتبون شعارات ضدّ النظام على الجدران.. هم إذن "عناصر" مؤامرة دولية وليسوا "ضحايا" التعذيب في المعتقل.. أي التعذيب الذي ساهم في تفجير ثورة درعا وأخواتها وانتشارها إلى المدن الأخرى.. حتى إذا وصلت الثورة إلى  بانياس مثلا، أصبح فريق من الصبية الناشئين "عناصر المؤامرة الدولية" أيضا، أي عندما تمدّدوا بصدور عارية على الطريق المؤدّية إلى مدينتهم في محاولة "تآمرية" لمنع الدبابات آنذاك من الوصول إليها!..

هي إشكالية "مصطنعة".. فالدفاع عن الاستبداد بسبب "تآمر خارجي" يستثير ردود فعل متسرّعة باتجاه إنكار ذلك التآمر، وهو قائم قديما وحديثا، لا ينبغي أصلا أن يكون موضوع نقاش، ولا هجوم ودفاع، فلا يختلف حوله عاقلان، ولكن المرفوض هو توظيفه ذريعة لارتكاب جرائم من جانب الاستبداد المحلي، كالتي يرتكبها الاستبداد الدولي عبر التآمر الخارجي في مثل أفغانستان والعراق وفلسطين!..

وهي إشكالية "مصطنعة".. لأنّ من الثابت علاوة على ذلك:

1- لم يستهدف التآمر الخارجي سورية فقط بل جميع الأقطار العربية والإسلامية.. دون انقطاع

2- لم يتحقق هدف من أهداف التآمر الخارجي طوال عقود مضت إلا عبر واقع صنعته أنظمة مستبدة..

3- ومن هذه الأنظمة النظام القائم في سورية.

إنّ من يدافع عن الاستبداد في سورية اليوم، لم تنقطع شكواه من ارتباط الهيمنة والمؤامرات الخارجية دوما بمحور الاستبداد المحلي، تابعا.. أو مساوما، فلا يمكن القبول الآن بمقولة وجود تآمر خارجي كما لو أنّه يستهدف "إسقاط الاستبداد" وتحرير إرادة الشعوب!.. ولهذا:

إنّ إنكار وجود تآمر خارجي أو توقع انقطاعه خطأ جسيم، وأكبر منه خطأ الزعم أنّ ثورة الشعوب على الاستبداد من صنع تآمر خارجي.

سيستمرّ التآمر الخارجي ولكن سيتكيّف مع معطيات جديدة تفرضها الثورات العربية رغما عنه، وليس برغبة منه.. ولهذا يجب أن يتلاقى الجميع، على دعم الثورات وتحرير إرادة الشعوب، لمضاعفة القدرة الذاتية على مواجهة مزيد من التآمر الخارجي.. لا سيما الجاري الآن، لإجهاض تلك الثورات.. وليس لإسقاط الاستبداد، والجاري كذلك للحيلولة دون تفجّر طاقات البناء والنهوض والتحرير.. وليس لتقويض عقبة الاستبداد المحليّ الذي يكبّل الطاقات وتصنع التخلف والفساد والعجز والهزائم والنكبات.

يستحيل القبول بوصف ثورة الشعب بأنها تآمرية، أو القبول باعتبار التآمر الخارجي يستهدف الاستبداد، وإن كان ممانعا، ويستحيل أيضا القبول بوصف قمع استبدادي مسلّح لثورة شعب أعزل بأنه عمل وطني، سيّان ما يزعم من أجل متابعة القتل والاعتقال والتعذيب.

 

الإصلاح يحتّم إسقاط الاستبداد

من خصوصيات تعامل النظام في سورية مع الثورة طرح ورقة الإصلاحات بالتوازي مع عنف القمع المتصاعد، وتعود هذه الخصوصية إلى أنّ الاستبداد في سورية أشدّ رسوخا و"أعرق" تاريخا منه في أقطار عربية أخرى، وبالتالي يمكن أن يتحمّل "إصلاحات" من قبيل إلغاء حالة الطوارئ المزمنة شكلا، دون أن تتأثر بنيته الهيكلية وبالتالي ممارساته القمعية تأثرا جوهريا.

ولقد كان استخدام ورقة "الإصلاحات" اضطراريا فرضته الثورة الشعبية، فليس السؤال مطروحا حول دوافعها بل حول مدى جدّيتها الآن، أي:

- بعد 48 سنة على انقلاب 1963م، و41 سنة على انقلاب 1970م، و11سنة على وراثة ما صنع الانقلابان..

- وكذلك بعد التصريح قبيل ظهور إرهاصات الثورة أنّ الإصلاح يحتاج إلى جيل كامل، ثم التصريح عقب اندلاعها بإمكانية الإسراع في الإصلاح دون التسرّع، وأخيرا المطالبة -بعد انتشار الثورة جغرافيا ونوعيا- بفرصة زمنية، أي توقف الثورة، لتحقيق الإصلاح.

وسبق الإقرار بوجود هوّة ثقة.. أو فجوة فاصلة بين النظام والشعب، ولكن لم تُردم بل توسّعت بتصعيد القمع الأمني والاتهامات التي تقول إن الثورة ليست ثورة شعبية.

وليست المشكلة الأكبر في هذه الهوّة التي صنعتها عدة عقود، بل في نوعية البنية الاستبدادية القائمة مع ما استشرى من فساد فاحش فيها، فهذا ما يجعل كل خطوة إصلاحية جزئية فاقدة القيمة ما لم تبلغ مستوى التغيير الجذري الشامل الذي اندلعت الثورة من أجله، وبات محتما.

إنّ جوهر الاستبداد هو قدرة الحاكم على صناعة ما يريد، سلبا أو إيجابا، بمرسوم، دون محاسبة، وهذا ما ينطبق على فرض حالة الطوارئ مثلما ينطبق على إنهائها، والمطلوب إنهاء "حالة الاستبداد" المتمثلة في أسلوب المراسيم –وما يشابهه- فهو ما يجسّد تغييب إرادة الشعب.

وجوهر الاستبداد هو حقيقة امتلاك أجهزةٍ قمعية، مدربة على العنف الهمجي، جاهزة للاستخدام في أي وقت.. فلا يكفي توقف القمع مؤقتا تحت عنوان الإصلاح، بل يقتضي الإصلاح أن ينتهي وجود الأجهزة القمعية نفسها، بتشكيلها وقياداتها –أي.. أركان النظام نفسه- وطرق تدريب عناصرها على العنف الهمجي، وممارساتها.

والمطلوب على النسق ذاته إلغاء الفساد (العائلي.. والولائي) الذي يستحيل إلغاؤه إذا استمر وجود من يمارسونه في مواقعهم، التي يتجسّد الاستبداد من خلالها ومن خلال ممارساتهم.

كل خطوة "إصلاحية" جزئية من هذا القبيل تعني سقوط "قطعة أساسية" من مكوّنات الاستبداد نفسه، ويمكن تعداد المزيد حول احتكار السلطة، واستقلال القضاء، وفصل السلطات، وحرية الإعلام، ونزاهة التصويت.. ومن هنا يدرك الحكم الاستبدادي أنّ مسلسل الإصلاحات يعني مسلسل تساقط مكوّنات الاستبداد الفاسد وتغييبه.. أي تحقيق هدف الثورة: التغيير الجذري الشامل عبر إسقاط النظام.

لهذا لا تُعتبر مقولة "لا يتحقق الإصلاح من داخل الاستبداد" مجرّد شعار بل هي تحصيل حاصل، وهذا سبب استماتة أركان الفساد في نظام الاستبداد القائم استماتةً وحشية في تصعيد القمع المسلّح حجما ونوعا ومساحة.. من أجل بقاء القدرة على القمع، وبالتالي بقاء الاستبداد والفساد وما يرتكب من جرائم. كلّ ما سوى ذلك بدءأ باساطير الشبيحة والعصابات المسلّحة مرورا باتهام الشعب الثائر بالتآمر، انتهاء بقناع احتضان المقاومة وممارسة الممانعة.. كل ما سوى ذلك تفاصيل، جوهرها الحقيقي: وضع الرصاصة في رشاش لتمزق رأس طفل أو امرأة أو شيخ أو شاب وتقطع هدير حجرته وهو يطالب بالحرية والكرامة.

لقد أدرك شعب سورية المعادلة كما هي دون تزييف، ولهذا وضعت ثورة شعب سورية عناصر النظام القائم وأجهزته بين خيارين لا ثالث لهما:

1- التخلّي المطلق والفوري عن الاستبداد والفساد بصورة كاملة، ليصبح "النظام" جزءا من مكوّنات الشعب، بدلا من "سيّده المطلق"، ويخضع هو لإرادة الشعب بدلا من قمعه، وهذا ما يتطلّب موقفا حاسما بمضمونه واضحا بالجدولة الزمنية لخطوات التغيير، صانعا للثقة به عبر إجراءات فورية معروفة: تطهير المعتقلات وعودة المهجّرين وهيئة وطنية جامعة لفترة مؤقتة واسترداد الدولة وفق إرادة الشعب.. ويبدو أنّه قد فات الأوان على ذلك كله، أو:

2- استمرار الثورة رغم القمع والتضحيات، وقد تحوّلت هتافاتها بالفعل من "مطالب الإصلاح" إلى "إسقاط النظام" وستصل إلى محاكمة النظام"، وآنذاك يدرك مَن لم يدرك بعد، أن هذا التسلسل بالذات هو القاسم المشترك الأكبر بين الثورات الشعبية العربية، السلمية الوطنية الحضارية، بما يشمل سورية كسواها.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ