ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 10/08/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

 

مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ

أ.د. عبد الرحمن البر*

أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهم، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ» .

وأخرج أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ» وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا: كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ، فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا.

وعند أحمد وابن ماجة وصححه ابن حبان عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ طَالِبًا»

1 - شرح المثل الوارد في الحديث :

لما كان دأب الناس أن يستهينوا بصغائر الأمور ولا يلقوا لها بالا إلى أن يفاجؤوا بأنهم قد وقعوا في الأمر الكبير، أو أن اجتماع الصغيرة إلى الصغيرة قد أوقع في الكبيرة، وقد صار من الصعب تفادي آثار تراكم هذه الصغائر بعد استفحالها، وفي هذا الحديث يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة من الوقوع في هذا الخطأ وهو ارتكاب «مُحَقَّرَات الذُّنُوب» أَيْ: صَغَائِرَهَا التي رُبَّمَا يُسَامَحُ صَاحِبُهَا فِيهَا، فيكثر من الوقوع فيها، فينقلها بالإصرار وعدم التوبة من الصغائر إلى الكبائر، أو تدفعه الاستهانة بها إلى الوقوع فيما هو أكبر فيقع في الكبيرة، ويشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الله قَدْ يُعَاقِبُ عَلَى الصَّغِيرَةِ، لأن لها من الله طَالِبًا أَيْ: نَوْعًا مِنَ الْعَذَابِ يَطْلُبُ مرتكبها، وَفي ذات الوقت قد يَعْفُو اللَّهُ عَنِ الْكَبِيرَةِ، كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، ثم يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا مثالا علي ذلك: بقوم نزلوا في وادٍ، وأرادوا أن ينضجوا طعاما لهم، فجاء أحدهم بعودصغير، وجاء الآخر بعود أو بعض عود، وتتابع القوم في إحضار الأعواد، حتي جمعوا شيئا كثيرا فأنضجوا به طعامهم، وهكذا الذنوب تكون شيئا صغيرا في نظر صاحبها ويكثر بعضها بعضا حتي تكبر وتكون سببا في هلاكه.

2 - المحقرات واستهانة الناس بها :

المُحَقَّرَاتِ: جمع مُحَقَّرة وَهِي الذُّنُوب الَّتِي يحتقرها فاعلها ويستصغرها استهانة بشأنها. وهي محقرة بحسب ظن مرتكبها وقد لا تكون كذلك في الحقيقة، ولدى المؤمن حساسية كبيرة للذنب بخلاف المنافق، فالأول يخاف ذنبه الصغير والثاني لا يقلق من ارتكاب الكبائر والجنابات، فقد أخرج البخار ي وغيره عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ»

وقد رأينا كيف استهان المنافقون وضعاف الإيمان بالخوض في عرض أطهر النساء الطيبة المطيبة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة، وتناقلوا هذا الإفك ظنا منهم أن تناقله أمر هين محقور، فنزل التحذير الإلهي الكاشف عن عظم هذا الذنب وسوء تقدير الناس له فقال تعالى {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 14 - 17] أي تحسبون الكلام في الأعراض سهلا ،بل هو عند الله عظيم.

وأخرج البخاري عنْ أنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أعْمالاً هِيَ أدَقُّ فِي أعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم المُوبِقاتِ. قَالَ أبُو عَبْدِ الله البخاري: يَعْنِي بِذالِكَ المُهْلِكاتِ. وهذا القول مروي عن عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحتى لو كان العمل بالفعل من الصغائر المحقورة فإن اجتماع الصغائر يجعلها كبيرة، كما بين هذا الحديث، وأخرج أبو داود في (الزهد) عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّهَا تَرَاكَمُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ وَتُحْصِي أَعْمَالَكُمْ». وأخرج الترمذي وصححه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}». وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عَنِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] قَالَ: «هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ , حَتَّى يَرِينَ عَلَى الْقَلْبِ فَيَسْوَدَّ». وأخرج أبو طاهر المخلص في (المخلصيات) عن الحسنِ في قولِهِ: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون} قالَ: «الذنبُ على الذنبِ، والذنبُ على الذنبِ، حتى يَعمى القلبُ فيموتَ». وأخرج البهقي في شعب الإيمان عن إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ قال: «قَلْبُ الْمُؤْمِنِ أَبْيَضُ نَقِيٌّ مَجْلِيٌّ مُحَلًّى مِثْلَ الْمِرْآةِ، فَلَا يَأْتِيهُ الشَّيْطَانُ مِنْ نَاحِيَةٍ مِنَ النَّوَاحِي بِشَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي إِلَّا نَظَرَ إِلَيْهِ كَمَا يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ فِي الْمِرْآةِ، فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ مُحِيَتِ النُّكْتَةُ مِنْ قَلْبِهِ وَانْجَلَى، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ وَعَاوَدَ أَيْضًا، وَتَتَابَعَتِ الذُّنُوبُ، ذَنْبٌ بَعْدَ ذَنْبٍ، نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ نُكْتَةٌ حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. قَالَ: «الذَّنْبُ بَعْدَ الذَّنْبِ، حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ فِي إِبْطَاءٍ، مَا نَجَعَ فِي هَذَا الْقَلْبِ الْمَوَاعِظُ، فَإِنْ تَابَ إِلَى اللهِ قَبِلَهُ اللهُ وَانْجَلَى عَنْ قَلْبِهِ كَجَلْيِ الْمِرْآةِ».

ومن جهة أخرى فإن الإنسان حين يقع في الذنب الصغير مرة بعد مرة من غير توبة واستغفار تهون المعصية في نفسه شيئا فشيئا فيتجرأ بعد الوقوع في الصغائر على الوقوع في الكبائر فيهلك، ومن هنا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ترك المشتبهات من الأمور؛ لأن من تجرأ على تعاطي تلك المشتبهات، فإنه لا يأمن أن يقع في الحرام الواضح، لأنه بسبب اعتياده وتساهله وتجرُّئه على المتشابهات تصير فيه جرأة على ارتكاب الحرام غير المشتبه عليه، وفي هذا أخرج الشيخان عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهم، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ».

ولما كان مرتكب الصغيرة تجره العادة إلى ارتكاب الكبيرة كان التحذير النبوي من الاستهانة بالوقوع في الصغائر، حتى حذر النبي صلى الله عليه وسلم من سرقة البيضة والحبل، فيما أخرجه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» فقال أهل العلم : إن البيضة والحبل أقل من النصاب الذي يقطع فيه السارق، ولكنه إذا تعاطى هذه الأشياء الحقيرة وصار ذلك خُلُقاً له جرَّأه على سرقة ما هو أكثر من ذلك مما يبلغ قدره ما يقطع به ، فليحذر هذا القليل قبل أن تملكه العادة فيتعاطى سرقة ما هو أكثر من ذلك.

وكم من إنسان جره فعل الصغيرة إلى ارتكاب الكبيرة، بل جره ذلك إلى هدم أصل الإيمان والموت على الشرك، وما قصة عابد بني إسرائيل من ذلك ببعيد، فقد أخرج الحاكم بسند صحيح ووافقه الذهبي ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وأخرج الخرائطي –واللفظ له- في (اعتلال القلوب) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قال: «كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَاهِبٌ يَعْبُدُ اللَّهَ زَمَانًا مِنَ الدَّهْرِ، حَتَّى كَانَ يُؤْتَى بِالْمَجَانِينَ يُعَوِّذُهُمْ فَيَبْرَءُوا عَلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ فِي شَرَفٍ مِنْ قَوْمِهَا قَدْ جُنَّتْ، وَكَانَ لَهَا إِخْوَةٌ فَأَتَوْهُ بِهَا، فَلَمْ يَزَلِ الشَّيْطَانُ يُزَيِّنُ لَهُ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا اسْتَبَانَ حَمْلُهَا لَمْ يَزَلْ يُخَوِّفُهُ وَيُزَيِّنُ لَهُ قَتْلَهَا حَتَّى قَتَلَهَا وَدَفَنَهَا، فَذَهَبَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ حَتَّى أَتَى بَعْضَ إِخْوَتِهَا، فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي فَعَلَ الرَّاهِبُ، ثُمَّ أَتَى بَقِيَّةَ إِخْوَتِهَا رَجُلًا رَجُلًا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْتِي أَخَاهُ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَتَانِي آتٍ فَذَكَرَ لِي شَيْئًا كَبُرَ عَلَيَّ ذِكْرُهُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، حَتَّى رَفَعُوا ذَلِكَ إِلَى مَلِكِهِمْ، فَسَارَ النَّاسُ حَتَّى اسْتَنْزَلُوهُ مِنْ صَوْمَعَتِهِ، وَأَقَرَّ لَهُمْ بِالَّذِي فَعَلَ، فَأُمِرَ بِهِ فَصُلِبَ، فَلَمَّا رُفِعَ عَلَى خَشَبَةٍ تَمَثَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: أَنَا الَّذِي زَيَّنْتُ لَكَ هَذَا، وَأَلْقَيْتُكَ فِيهِ، فَهَلْ أَنْتَ مُطِيعِي فِيمَا أَقُولُ لَكَ، وَأُخَلِّصُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: تَسْجُدُ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً، فَسَجَدَ لَهُ، وَقُتِلَ الرَّجُلُ. فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16]» وهكذا تفعل صغار الذنوب حينما يستهين بها صاحبها. ولله در القائل

خَلِّ الذُّنُوبَ حَقِيرَهَا ... وَكَثِيرَهَا فَهُوَ التُّقَى

كُنْ مِثْلَ مَاشٍ فَوْقَ أَرْ ... ضِ الشَّوْكِ يحْذَرُ مَا يَرَى

لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً ... إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى

ومن جهة ثالثة فقد يكون تشديد العقاب على الصغائر لكون مرتكبها استهان بنظر الله إليه، ولم ينظر إلى عظمة الخالق الذي عصاه، ومن ثم لا يجد في نفسه دافعا للتوبة مما وقع فيه، أخرج ابن المبارك في الزهد والرقائق عن بِلَال بْن سَعْدٍ رحمه الله قال: «لَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ، وَلَكِنِ انْظُرْ مَنْ عَصَيْتَ» ، وقد أخرج مسلم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» فهذا الوعيد الشديد والتغليظ الشديد في أكل أموال الناس بالباطل ولو كان قضيبا من أراك للتحذير من الاستهانة بأمر الله،

أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهم، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ» .

وأخرج أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ» وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا: كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ، فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا.

وكم من مسلم تحرز من الكبائر الظاهرة واستهان بهذه المحقرات وبنظر الله إليه فيها فكانت سر هلاكه، قال الغزالي: «تواتر الصغائر عظيم التأثير في سواد القلب، وهو كتواتر قطرات الماء على الحجر فإنه يحدث فيه حفرة لا محالة مع لين الماء وصلابة الحجر»، وقال أبو عبد الرحمن الحُبُلي: «مثل الذي يجتنب الكبائر ويقع في المحقرات، كرجل لقاه سبع فاتقاه حتى نجا منه، ثم لقيه فحل إبل فاتقاه فنجا منه، فلدغته نملة فأوجعته، ثم أخرى، ثم أخرى، حتى اجتمعن عليه فصَرَعْنَه، وكذلك الذي يجتنب الكبائر ويقع في المحقرات. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إن الله يغفر الكبائر فلا تيأسوا، ويعذب على الصغائر فلا تغتروا».

3 - هل ينافي هذا الحديث ما جاء في مغفرة الصغائر بل في مغفرة الكبائر للمؤمنين؟

من المعلوم أن المعاصي تنقسم إلى صغائر وكبائر، وأن الكبائر بعضها أعظم من بعض، وأن من الصغائر ما تكفره الصلوات الخمس أو صوم رمضان أو الحج أو العمرة أو الوضوء أو صوم عرفة أو صوم عاشوراء أو فعل الحسنة، وغير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، بل منها ما يكفره اجتناب الكبائر، كما قال {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء: 31] ووصف الله المؤمنين فقال {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37]، ووصف الذين أحسنوا فقال {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 31، 32] فذكر كبائر الإثم ، وذكر اللمم، فدل ذلك على التفريق بينهما، وبين أن اللمم مغفور، وأخرج مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» وفي رواية: «مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ»، وأخرج النسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبا ن والحاكم عن أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنهم قالا: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَكَبَّ، فَأَكَبَّ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا يَبْكِي، لَا نَدْرِي عَلَى مَاذَا حَلَفَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فِي وَجْهِهِ الْبُشْرَى، فَكَانَتْ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ، وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ، إِلَّا فُتِّحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَقِيلَ لَهُ: ادْخُلْ بِسَلَامٍ»، وفي رواية ابن حبان: «إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى إِنَّهَا لَتَصْطَفِقُ» ، ثُمَّ تَلَا {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}.

فسمَّى الشرعُ ما تُكَفِّره الصلاة ونحوها صغائر، وما لا تكفره كبائر، وجعل اجتناب الكبائر مع فعل الواجبات ماحيا للصغائر ومكفرا لها، ويدل لذلك أيضا قوله تعالى { أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]، وأخرج الشيخان –واللفظ لمسلم- عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا، فَأَنَا هَذَا، فَاقْضِ فِيَّ مَا شِئْتَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ سَتَرَكَ اللهُ، لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ، قَالَ: فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ، فَأَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا دَعَاهُ، وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا نَبِيَّ اللهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ قَالَ: «بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً».

وأخرج الشيخان عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، وَهُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ» قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ» - وفي رواية: «نَعَمْ، وَإِنْ شَرِبَ الخَمْرَ». وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ.

قَالَ البخاري: هَذَا عِنْدَ المَوْتِ، أَوْ قَبْلَهُ إِذَا تَابَ وَنَدِمَ، وَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، غُفِرَ لَهُ.

وأخرج أحمد بسند صحيح عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقُصُّ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ، فَقُلْتُ: وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الثَّانِيَةَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، فَقُلْتُ فِي الثَّانِيَةَ: وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ الله؟ِفَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الثَّالِثَةَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] فَقُلْتُ الثَّالِثَةَ: وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي الدَّرْدَاءِ»، وفي رواية: قَالَ: فَخَرَجْتُ لِأُنَادِيَ بِهَا فِي النَّاسِ، قَالَ: فَلَقِيَنِي عُمَرُ، فَقَالَ: ارْجِعْ، فَإِنَّ النَّاسَ إِنْ عَلِمُوا بِهَذِهِ، اتَّكَلُوا عَلَيْهَا، فَرَجَعْتُ فَأَخْبَرْتُهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَ عُمَرُ».

فتعاضد القرآن وصحيح السنة على أن الذنوب منها الصغائر والكبائر، وأن الصغائر مغفورة متى اجتنبت الكبائر.

وقد فرَّق الفاروق عمر بن الخطاب بين الكبائر وبين الذنوب الصغائر التي لا يسلم منها البشر، وعاب على من أراد حمل الناس على ضرورة اجتناب الصغائر والكبائر، فأخرج الطبري في التفسير بسند صحيح عن الحسن رحمه الله: أن ناساً لقَوْا عبدَ الله بن عمرو بمصر، فقالوا: نرى أشياءَ من كتاب الله أَمرَ أن يُعْمَل بها لا يُعْمَل بها، وأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك. فقدم وقدموا معه ، فلقيه عمر رضي الله عنه فقال: متى قدمت؟ قال: منذ كذا وكذا. قال: أبإذن قدمت؟ قال: فلا أدري كيف رد عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن ناساً لقوني بمصر فقالوا: إنا نرى أشياءَ من كتاب الله تبارك وتعالى أَمَرَ أن يُعْمَل بها لا يُعْمَل بها فأحبوا أن يلقَوْك في ذلك. فقال : اجمعهم لي. قال: فجمعتُهم له -قال ابن عون: أظنه قال في بَهْو- فأخذ أدناهم رجلاً فقال: أَنْشُدك بالله وبحق الإسلام عليك، أقرأتَ القرآن كله؟ قال: نعم. قال : فهل أحصيتَه في نفسك؟ قال: اللهم لا. قال: ولو قال نعم لَخَصَمه. قال: فهل أحصيتَه في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ فهل أحصيته في أثرك؟ قال: ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم، فقال: ثكلتْ عمرَ أمُّه!‍ أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟ قد علم ربُّنا أن ستكون لنا سيئات. قال: وتلا {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} هل علم أهل المدينة -أو قال: هل علم أحد- بما قدَمتم؟ قالوا: لا. قال: لو علموا لوعظت بكم .

وهو رضي الله عنه يقصد أن الناس لا يمكن أن يفعلوا كل ما أمروا به، ويجتنبوا كل ما نهوا عنه، بل لا بد أن تقع منهم أخطاء في هذا وذاك يغفرها الله لهم ما داموا متحرزين من الكبائر قائمين بالواجبات مداومين على الاستغفار، بل التائبون من الكبائر تغفر ذنوبهم فلأن تغفر الصغائر أولى.

وهذا كله لا ينافي ما جاء في الحديث الذي معنا من التحذير من الصغائر؛ لأن التحذير موجه إلى من يرتكب الصغائر استهانة بها، فلا تحدثه نفسه بالتوبة منها، أو يرتكبها استهانة بنظر الله إليه، فيقع في كبيرة الاستهانة بأمر الله، أو يتجاهل التوبة منها فتهون المعاصي في قلبه فيجره ذلك إلى الكبائر، فيكون في مشيئة الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه.

قال الطحاوي في شرح مشكل الآثار تعليقا على التحذير من محقرات الذنوب مع ما جاء في القرآن والسنة من غفرانها إذا اجتنبت الكبائر: «فَتَأَمَّلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ، فَوَجَدْنَا فِيهِ تَحْذِيرَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مَأْخُوذُونَ بِهَا مَعَ إِيمَانِهِمْ، مُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ، وَفِي ذَلِكَ مَا قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَرْفَعُ عُقُوبَاتِ صِغَارِ الذُّنُوبِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَرْفَعُ عُقُوبَاتِ صِغَارِهَا، كَانَ بِأَنْ لَا يَرْفَعُ عُقُوبَاتِ كِبَارِهَا أَوْلَى، وَقَدْ وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}، وَفِي ذَلِكَ مَا قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْوَعْدِ الْمَذْكُورِينَ فِي حَدِيثَيْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ تِلَاوَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وَعِنْدَ جَوَابِهِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَمِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لِمَا قَالَهُ لَهُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ بِمَا أَجَابَهُ بِهِ مِنْهُمَا، وَإِنَّهُمْ زَالُوا بَعْدَ الزِّنَى وَبَعْدَ السَّرِقَةِ اللَّذَيْنِ كَانَا مِنْهُمْ عَنِ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ اللَّذَيْنِ كَانَا مِنْهُمْ إِلَى ضِدِّهِمَا (أي تابا عن ذينك الذنبين إلى ضدهما)، فَخَرَجُوا مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ لِأَهْلِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَدَخَلُوا فِي أَهْلِ الْوَعْدِ الَّذِي أَعْقَبَهُ، فَبَانَ بِحَمْدِ اللهِ وَنِعْمَتِهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعَانِي أَحَادِيثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا ذَكَرْنَا مِمَّا بَانَ بِهِ مِنْهُمَا، وَاللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ».

وقال البيهقي في السنن الكبرى تعليقا على حديث المحقرات: « وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَخْبَارُ وَمَا جَانَسَهَا فِي التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ فِيمَنْ أَصَرَّ عَلَى الذُّنُوبِ غَيْرَ مُسْتَغْفِرٍ مِنْهَا, وَلَا مُحَدِّثٍ نَفْسَهُ بِتَرْكِهَا».

_________

*أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

=======================

بسم الله الرحمن الرحيم

" لكل ظالم يومان فلا تعجلوا"

سالم الفلاحات

Salem.falahat@hotmail.com

هكذا يرى الحكامُ والظلام مهما كانت مواقعهم في بلاد العرب اليوم القذاة في عيون شعوبهم، لكنهم لايرون الجذع في عيونهم،لو بلغت رقابهم من الانحناء والالتواء اكثر مما هي عليه رقاب الجمال لكنهم يرونها مستقيمة بينما يرون كل ما سواهم ضُلالاً مُعْوجّين أصحيح أنهم لا يدركون خطر افعالهم أم أنهم استمرأوا الظلم واستمتعوا به حتى أن قتل الشعوب وتدميرها

ما عاد يعني لهم شيئاً.

صحيح أن الظلم درجات ، وأن الظالمين في الارض مستويات متعددة فمنهم من ساوى فرعون وزاد عنه ،ومنهم دون ذلك، ومنهم ظَلَمة صغار ، لكن الظلم هو الظلم والظلم ظلمات يوم القيامة

 ومن منهم من لا يتلوى المظلومين في سجنة دهوراً أو شهوراً؟

 ومن منهم لم يصدق كذابيه ويكذب الصادقين الاخيار؟

 ومن منهم لم يحرم أماً أو امهات رؤية ابنائهن مدداً متطاولة ؟

 ومن منهم من لم يسخر القوانين والتشريعات لبقائه حتى الموت لو استطاع؟

ترى لو تخفيتم وخرجتم الى شعوبكم واستمعتم للمظلومين من ضحاياكم- إن أمنوا على انفسهم – ماذا ستسمعون وهل هنلك استثناءات كبيرة تستحق الذكر؟

دعك من المنتفعين والمرتزقة والطفيليين الذين يصفقون لكم بمقدار مصالحهم ، يصفقون لكل مقبل، ويصفعون كل مدبر منكم ويسلقونه بالسنة حداد أشحة على الخير

إنهم بطاناتكم، وأغش الناس لكم، وهم سفلة السفلة، باعوا دينهم بدنياكم يحولون بينكم وبين مراجعة انفسكم أو التفكير بالتوبة فقد انتدبوا انفسهم رغباً ورهباً ليزينوا لكم الظلم والعدوان والعسف من أجل الانتفاع بدنياهم والتغطية على فسادهم وسرقاتهم

دروسٌ من دماءٍ ودموع لكلِ ذي بصيرة أو بقية بصيرة في عالمنا العربي اليوم، وليس ما جرى هذه الايام هو الدرس الأول أو الأخير ألم يذهب الشاه وصدام وزين العابدين ومبارك وهل يعجبكم حال القذافي وعلي صالح وبشار الأسد اليوم؟

ألم يحيطوا أنفسهم بأجهزة أمنية متعددة بعضها فوق بعض؟ ألم يشتروا الولاءات والذمم ألم يتألهوا على شعوبهم وهل اغنى عنهم ذلك شيئا؟

إن الصادعة التي حصلت وهزّت الأمة كلها بل والعالم أجمع توجب على الحكام العرب التوقف والنظر والتدقيق والمراجعة الجادة وأخذ العبرة

إن اكتفاءهم بالهروب للأمام لن ينفعهم شيئاً وسيرهقهم ويرهق شعوبهم التي ستصل الى حالة لا تستطيع معها الصبر

إن الاكتفاء بثقافة الاستخذاء والاستسلام والضعف والتيئيس والاتكاء على امريكا واعوانها وعلى كسب رضى العدو الصهيوني لن يؤَمّن لهم الرحلة الى نهايتها، وغيرُ بعيدٍ كان أحد كبرائهم الذي كان يقول:- ( الذي لا يخاف امريكا لا يخاف الله ) وها هو اليوم مقعد ذليل في قفص الاتهام وأين أمريكا عنه؟

ماذا عليهم لو وثقوا بالمخلصين من ابناء شعبهم الذين يدورون مع مصالح امتهم واوطانهم حيث دارت حتى لو اصابهم الضر ووقع عليهم الظلم ؟

ماذا عليهم لو تركوا شعوبهم تعيش حرة تحكم نفسها وتتحمل مسؤولياتها السياسية والمعيشية والاجتماعية والاخلاقية ؟

ماذا عليهم لو استمعوا لنداء العقل وافادوا من تجارب غيرهم، فوحدهُ الشقي الذي لا يتعظ إلا بنفسه

وقد ثبت أن الحكم بالحديد أو بالنار أو بالدولار لا يدوم .

 فسيبرد الحديد ( ويبدح) أمام الاصرار على الحرية .

 وستنطفىء النار بمياه الحقيقة الناصعة ، أو حتى ببصقات المقهورين .

 وسيزول بريق الدولار باختفاء ثقافة الخوف والطمع والحرص وعجزه عن استرضاء كل الناس كل الوقت .

وسينفض الناس عن الحكام الظلمة أولاً ثم يطاردونهم ثانياً بالدعاء واللعنات وبالقضاء العادل في الدنيا انتظاراً لعدل الله الكامل يوم القيامة .

  إن الحب والانتماء بالاكراه، مؤقتٌ لا يلبث أن يزول بزوال الاكراه أو بوجود قوة أكبر

  وإن الحب والانتماء بالاغراء مؤقت لا يلبث ان يزول بزوال الاغراء نفسه أو بوجود من يدفع اكثر وما اكثر الباحثين عن العملاء اليوم لتدمير البلاد والعباد

  إن الحب والانتماء بالعصبية المجردة لا يلبث ان يزولبتعارض المصالح أو تهديدها وعندها يقتل الأخ أخاه والأبن أباه ..... وهكذا يفعلون.

  وإن الحُبَ والانتماء بالاغواء والتضليل مؤقت لا يلبث ان يزول بزوال السحر او بوجود سحار اكبر واكذب ، أو عند انكشاف الحقيقة .

أما الشعوب الحية التي بدأت تشق طريقها وتعرفُ مصالحها وهي مستعدةٌ لدفع التكاليف مهما بلغ ثمنها فلن يربطها بالحاكم بشيء إلا اذا بادلها الاحترام المتبادل والحب الصادق والاصغاء الدقيق والاقناع العقلي المجرد والحرية الواسعة والاستماعُ الى النقد الجاد والاستعداد لتصويب الأخطاء والاختلالات دون تسويف، وأحقية الجميع في تحمل المسؤوليات وتعميم حرية التعبير وتيقن المواطن بأنه جزءٌ من هذا الوطن يتحمل المغانم والمغارم، يتفاضل الناس فيه بأعمالهم وكفاءاتهم وعطائهم لا بعلاقاتهم بمراكز القوة المتسلطة وإلا فقد ولىّ عهد الاستعباد والذل والسلبية

ولقد ارسى رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدة عظيمة للعلاقة بين الشعوب وحكامها فقال " خَيْرُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ يُبْغِضُونَكُمْ وَتُبْغِضُونَهُمْ ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ "

وأخيراً فليحذر الظلمة فلهم يومان عظيمان أحدهما بيد الشعوب في الدنيا وارادة الشعوب لا تقهروالثاني وهو الاخطر والأعظم فهو عند الله يوم يقوم الناس لرب العالمين يوم يقتصُ للشاة الجلحاء من الشاةِ القرناء.

=================

على حبيب وخلفيات إقالته ...

عقاب يحيى*

كتبت البارحة مقالاً بعنوان : كيف؟، ومتى ؟، وأين يتحقق شعار الشعب بإسقاط النظام، وأكّدت ما كنت كتبته قبل أشهر عن أقصر الطرق، وأنجع الحلول، واقلها تضحيات، ومخاطر، وزمناً : أن يقوم جيشنا، أو أصحاب القرار والشأن فيه بواجبهم المأمول بالانضمام إلى الشعب، ورفض الانجرار لما تدفع به الطغمة، العائلة، المافيا، جيشنا، وسمعته، وبلادنا إلى هاوية المخاطر، والاحتمالات المفتوحة على أشداق الحرب الأهلية، والتدخلات الخارجية، والمذابح الجماعية ؟؟ ..

 

 لم أكن أحلم، ولا أضرب بالرمل، ولا أطرح افتراضات نظرية، ولا أصول واقعية لها، لكن ، وقد دفع النظام البلاد إلى مجهول المجاهيل، فإن المنطق يقول أنه لا بدّ من وجود عقلاء، وحرصاء على البلد في هذا الجيش الذي كان يوماً فخر الوطنية، يفكرون بمخرج آمن عبر اشتلاع أسباب الأزمة : الطغمة .. ينسحب ذلك على أصحاب القرار في الجيش، وأعني بهم بكل الصراحة : كبار الضباط الذين ينتمون للطائفة العلوية والذين يمسكون بمفاصله الحيوية، الذين لا بدّ وأن ما آل إليه البلد من أزمة مرعبة بسبب السياسة الرعناء للطغمة يشغلهم، ويدفعهم للتفكير الجاد بمصيرهم، ومصير البلد، ومستقبل وجود وعلاقات مكوناته فيه، وباتجاه رفض سياسة السحق الأمني، والمجازر المتنقلة، واحتلال المدن بالدبابات وقصفها، وإطلاق لؤم الشبيحة والمعبّأين طائفياً ومليشياوياً للتفظيع بالمتظاهرين، ثم القيام بالمأمول منهم في إنهاء هذا الوضع الشاذ، وإفساح المجال لمرحلة انتقالية محددة لوضع أسس وبنيان ودستور الدولة المدنية الديمقراطية ..

 

****

كان بالذهن أكوام من القصص والحكايا التي رافقت عمرنا منذ انقلاب التفحيح الأسدي.. عن نيّة هنا، ومحاولة قريبة هناك، وكلمات سر، وساعات صفر، وأسماء ضباط، ووزراء العهد الجديد، والتي تعاملنا معها، ومن موقع المسؤولية، بالرفض والتشكيك، والتي لم يرَ النور أحدها، وكثيرها كان ممسّرحاً، وملغوماً.. الأمر الذي أدى بنا إلى شطبها من وارد الاحتمالات .. وصولاً إلى مجزرة حماة المفصل والمنعطف 1982 حين خرست بعدها كل الحكايا والروايات، وحين نام الجميع على شوك التأبيد الذي لا تسمع فيه سوى صوت الفحيح.. فالتوريث الغريب الذي فقأ عيون كل حكايا الخلاف، والتباين بين عظام الرقبة، ومافيا الحكم ..

 

لكن وحين اغتيل رفيق الحريري، وقامت ثورة الأرز بزخمها واتهامها المباشر للنظام السوري بالقتل، وخروجه المذل من لبنان.. وحين راحت تقارير المحقق ميليس تخترق الخطوط الحمراء، وتدخل المنطقة المحظورة للنظام باتهامه المباشر بالاعتيال، وسط ضغط دولي قاده الرئيس الفرنسي جاك شيراك..وبدا الوضع السوري : نظاماً، وعصباً، وربما مستقبلاً في مهبّ ريح العاصفة القوية، تململ كثير، وتحرّك عدد مهم من كبار الضباط والشخصيات السياسية المحسوبة على النظام بحثاً عن مخرج يتجه نحو التخلص من العائلة وحواشيها، وكان اللواء غازي كنعان، ضابط الأمن الذكي، والمسؤول لسنوات طويلة عن الملف اللبناني، والمرّحل إلى وزير داخلية، عنوانها، وربما أداتها للقيام بحركة انقلابية، أو خَلاصية.. فكان القتل وسيلة التخلص من المشروع برمته.. والذي قيل في خلفياته الكثير، وأهمها : وجود جهات خارجية(الولايات المتحدة ومن خلفها الصهيونية) ببيع تلك المعلومات للنظام مقابل مقايضات معهودة تحت طاولات المعهود.. فكان القتل الذي أخرج على شكل انتحار..

 

 وللدلالة على ذلك يذكر الرئيس شيراك في مذكراته المنشورة عن قرب سقوط النظام عام 2006، لكنه لا يشير إلى الأسباب التي حالت دون ذلك ..

***

 اليوم تفتح إقالة، أو قتل وزير الدفاع علي حبيب واستبداله بمسيحي لا يكش ولا ينش ولا يتش ولا يهش.. تفتح باب الاحتمالات، لأنها تأتي في وقت يستحيل فيه أن تكون طبيعية، ودون وجود خلافات من مستوى حاد، ناهيك عن احتمالات لحركة ما اكتشفت، أو أجهضت (خصوصاً إذا ما صدقت أنباء مقتله).. فهل كانت هناك محاولة واكتشفت ؟؟.. هل رفض وزير الدفاع هذا المصير الكالح الذي وُضع فيه الجيش؟؟، هل تصارع مع الشبيح الدموي ماهر؟، وأين موقع ودور الخبيث آصف شوكت؟؟..

 

 وعلى سيرة الانتحار.. فسجل نظام الطغمة يثير التفكّه لسذاجة بجاحة التلفيق، تماماً كسذاجة ودجل التلفيقات المسلسلة عن الثورة..

فحين أريد تحويل المسكين، الموظف برتبة رئيس وزراء محمود الزعبي.. إلى كبش فداء للفساد والموبقات..هددهم بكشف الملفات الثقيلة"، وإذ به يقرر ب"إرادته الحرة" وضع حدّ لحياته انتحاراً بالرصاص !!!!.. بينما يعرف الجميع كيف قتل، ومن الذي قتله، وكذا الحال بالنسبة للواء غازي كنعان الذي قتل في مكتبه من قبل آصف شوكت واثنين معه.. ثم قالوا أنه انتحر.. والأنكى أن أخاه وُجد " منحراً" بعد أيام قرب سكة القطار في طرطوس، وكأن العائلة غاوية انتحار..

وإذا ما تمت تصفية العماد علي حبيب، ابن النظام، وأحد أعمدة عظام الرقبة، فالأكيد سيكون عاشق انتحار(كمن سبقه) وسيلفقون له قصة ظريفة من قصصهم المسلية، الغبية، اللئيمة .

**

نعم : الطبيعي أن يفكر المخلصون في الجيش، الحريصون على وحدة البلد، ونسيجه، وعلى مستقبل التعايش بين مكوناته.. بأفضل كيفية لوضع حد لسياسة الحقد المجنون، وانفلات خزين الكهوف من خلال إنهاء حكم الطغمة العائلية والمافيوزية، وأن يضعوا أيديهم على قلوبهم لما تجّره سياسة الحرب ضد الشعب والمدن، ونتائجها الخطيرة بعيدة المدى التي لا يمكن لكل ذرائع الفبركة أن تغسل آثارها، ناهيك عمّا يلوح من بوادر حركات دولية، وإقليمية باتجاه التدخل، وربما ما هو أفظع ما لم تقطع يد المجرم، ويعاقب على فعله الإجرامي الذي لا يمكن مطلقاً ابتلاعه، ولا هضمه، ولا تسويته، وفتح الطريق لمرحلة التعددية، ولبناء الدولة المدنية الديمقراطية.. ليكونوا بذلك عند حسن ظن شعبهم بهم، وبمستوى التحديات التي تواجه الوطن..

__________

*كاتب وروائي  الجزائر

=========================

ثورة الغرباء

مجاهد مأمون ديرانية

لم أرَ في الثورات ثورةً تخلى عنها القريب والبعيد والعدو والصديق كثورة الحرية والكرامة في سوريا، ثورة الغرباء!

ثورتنا تخلت عنها دول العرب، فصمت بعضها (وخيراً فعل)، وبعضها أمدّ عدوَّنا، النظامَ المجرم القاتل، بأسباب الحياة من مال ودعم في المحافل الدولية، ثم ألقى أمينُ جامعتها على بعيرها المثقل بالآثام قشّةَ الختام، حينما منح رئيسَ عصابة البغي الشرعيةَ وقدم له المبررات للاستمرار في التقتيل والإجرام.

ثورتنا تخلت عنها دول المسلمين، فصمت بعضها (وخيراً فعل)، وبعضها أمدّ عدوَّنا ، النظامَ المجرم القاتل، بأسباب الحياة من مال ودعم في المحافل الدولية، ثم ألقت منظمتها -منظمة المؤتمر الإسلامي- على بعيرها المثقل بالآثام قشة الختام، حينما تحفّظت على إدانة النظام وأجهضت المساعي الدولية لتحميله مسؤولية التقتيل والإجرام.

ثورتنا تخلت عنها دول الجوار التي آثرت أن تتحالف مع عدونا، النظام المجرم القاتل، أو سكتت عن جرائمه وسوّغت له المضي في التقتيل والإجرام. ثورتنا تخلت عنها القوى والهيئات والمنظمات الوطنية والثورية في طول العالم العربي وعرضه، وهي التي زعمت -زوراً- على الدوام أنها تدعم خيارات الشعوب وتدافع عن استقلالها وحريتها، وروّجت تلك الأكاذيب يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام.

ثورتنا اجتمع على خذلانها ودَعْم عدوّها، النظامِ المجرم القاتل، إيرانُ وأصدقاءُ إيران وأعداء إيران، وإسرائيلُ وأصدقاء إسرائيل وأعداء إسرائيل، ولم يحصل ذلك مع ثورة قبلها قط. ثورتنا تخلى عنها الإعلام العربي والعالمي وتركها تصارع وحدها الفناء وتبدع الوسائل المناسبة في سبيل البقاء، ولم يحصل ذلك مع ثورة قبلها قط.

كل ذلك حصل، ولقيت ثورة الحرية في سوريا من الخذلان ما لم تلقَه ثورةٌ قبلها لا في الشرق ولا في الغرب، ولا في الماضي ولا في الحاضر، ولكن الأحرار حسموا الخيار ومضوا في الطريق غيرَ معتمدين إلا على الله الحسيب المُجيب القادر القهّار، ومنذ اليوم الأول هتفوا: الله معنا. حتى قبل أن يهتدي منسّقو ثورتهم إلى تسمية جمعة من الجمع بهذا الاسم كانوا هم قد اعتمدوه عنواناً لثورتهم وجعلوه هو الهتاف وهو الشعار، فحق لها أن نسمّيها “ثورة الله معنا”، ونِعْمَت التسمية ونعمت الثورة، ثورة الأبرار الأخيار الأحرار.

لقد اعتمدوا على الله وحده لمّا فقدوا المُعين واستنصروه حين فقدوا النصير، وصبروا صبر الجبال الراسيات وثبتوا ثباتاً عجيباً أذهل الدنيا، فانقادت لهم الدنيا وطوّع الله لهم جندَ الأرض، فانحاز الإعلام أخيراً إلى ثورتهم على رأس شهرين من انفجارها، بعدما قدموا قرباناً ألفَ شهيد وبعدما نشروا عشرة آلاف مقطع من المقاطع المصوّرة، صوروها بأنفسهم ووزعوها على العالم بأنفسهم، فكانوا هم وسيلةَ الإعلام حين تخلت عنهم وسائل الإعلام.

ثم انتزعوا -على رأس أربعة أشهر- اهتمام العالم فراح يرقبهم ويدرس ثورتهم، يتساءل مذهولاً غيرَ مصدق: أيمكن لهؤلاء الضَّعَفَة العزّل أن يغلبوا واحداً من أشد الأنظمة القمعية بأساً وقوة في الدنيا؟ هل من الحكمة أن نراهن عليهم ونتخلى عن النظام؟ إن ساسة الدول وقادتها يعلمون -كما نعلم- أن عالم السياسة لا يقوم إلاّ على المصالح، لا محلَّ فيه للأخلاق والمشاعر وهاتيك الأوهام، فهل تملي عليهم مصالحهم أن يصطفّوا مع النظام أم مع الأحرار الذين ثاروا على النظام؟

لعلهم ترددوا طويلاً، ولكن ثوار سوريا حسموا المسألة، فإنهم قد مضوا في ثورتهم لا يضرهم آلافٌ يتساقطون بين أيدهم من الشهداء، ولا عشراتُ آلاف يُتخَطّفون من بينهم من الأسرى والمعتقلين، وما زال أولئك الأبطال ثابتين ثبات الجبال، لا يَهِنون ولا يضعفون، حتى حَنى العالمُ رأسَه أخيراً وأقر لهم بالغلبة… علم أنهم هم المنصورون -بإذن الله- وأن خصمهم آيل إلى الانقراض، فألقى الورقة الخاسرة وانحاز إلى المعسكر الرابح.

لقد حققت ثورة الغرباء المستحيل، أبحرت سفينتُها وحيدةً في البحر الهائج المضطرب فقطعت فيه الشوط الطويل. ظن الأكثرون أنها لا بدّ غارقةٌ وأنها لا أمل لها بالوصول إلى شاطئ الأمان، لكن أصحابها الضعفاء الغرباء آمنوا بأنفسهم وبقضيتهم وبثورتهم، وآمنوا قبل ذلك كله بربهم ووثقوا بأنه لن يخذلهم: أمَّنْ يُجيبُ المضطرَّ إذا دعاه؟ فدعوه فاستجاب وسَلَك بسفينتهم العُباب، فالحمد لله رب الأرباب هازم الأحزاب شديد العقاب.

يا أيها الناس: جهزوا أنفسكم للمشهد الكبير، لقد اقترب يوم الحساب.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ