ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 05/12/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

 

مع سليمان عليه السلام في سورة النمل

الدكتور عثمان قدري مكانسي

نقرأ قوله تعالى: ولقد آتينا داود وسليمان علماً ، وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين.. فنجد :

1- العلم : سمة أهل الفضل ومناط التشريف ونور الفكر الذي يكرم صاحبه على غيره.

2- شكر الله وحمده: فهما عليهما السلام يحمدان الله تعالى أنْ أكرمهما بالعلم ( إنما يخشى الله من عباده العلماءُ) وكثيراً ما نجد الأرزاق متنوعة فهذا يعطى مالاً وذاك علماً والآخر وسامة وغيره أخلاقاً ، فنجد العلم والأخلاق سيدي الموقف . وقد أحسن الشاعر حافظ إبراهيم في قوله:

 فالناس هذا حظه مال وذا    علم ، وذاك مكارم الأخلاق

 فالمال إن لم تدّخره محصنا    بالعلم كان نهاية الإملاق

 والعلم إن لم تكتنفه شمائل    تعليه كان مطية الإخفاق

 لا تحسبنّ العلم ينفع وحدَه    ما لم يُتوّجْ ربّه بخلاق

3- الهمة العالية : فقد علما أن النبوّة والعلم والحكمة رفعتهما على كثير من عباد الله المؤمنين

4- الإرث: قال تعالى : وورث سليمانُ داودَ . وقد نعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة. ، فما الذي ورثه سليمان من أبيه داود عليهما السلام؟ نقول: إنّ الإرث هنا في النبوة والعلم – وهذا ما نجده في دعاء زكريا عليه السلام يسأل الله تعالى ولداً صالحاً يرثه في الدعوة والعلم والنبوّة:

-وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا .

وهذا ما نفهمه من قول يعقوب عليه السلام حين أخبره ابنه يوسف برؤياه فأوّل الرؤيا بالنبوة والمكانة العالية الرفيعة الموصلة بجديه إبراهيم وإسحاق عليهما السلام ، وبهذه النبوة تتم النعمة على آل يعقوب وتكتمل فضائل الاجتباء:

- وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .

 5- الاعتراف بالفضل: " إن هذا لهو الفضل المبين." واعتراف سليمان بفضل الله يرفع مقامه ، وتأمل في قوله عليه السلام " (- عُلّمنا منطق الطير ..، وأوتينا من كل شيء ) وهما الفعلان المبنيان للمجهول يدلان على إسناد الفضل إلى الله ، فمنه الخير كله. فهو سبحانه من علّم وهو سبحانه من أعطى ، فله الخير وله المنّ الكرم .

أما قارون فقد شقي حين جحد فضل الله سبحانه عليه وادّعى الذكاء والقدرة في جمع المال ولم يرْع ذمة الله ولا أدى حقّ المال ، وعاش مستكبراً يأبى النصيحة ويزدري الناس:

 - إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ

- وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ .

- قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ .

وكيف لا يُسأل المجرمون عن ذنوبهم؟! هذا ما سألنيه أحدهم فقلت له : ياهذا ؛ هؤلاء أهون على الله أن يحاسبهم إنما تلطقطهم ألسنة النيران إلى سواء الجحيم بالذلة والصغار . ونجد في المقابل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أن الله عز وجل يكرم خاصة المؤمنين الصالحين بدخول الجنة دون حساب ولا عقاب واقرأ معي قوله صلى الله عليه وسلم :

 ( سبعون ألفاً يدخلون الجنة دون حساب ولا عقاب )

6- الترتيب في الحديث:

-  وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير ، فهم يوزعون. ذكر الأقوى ( الجنّ، ثم الإنس ، ثم الطير) ذكر الأهمّ فالأقل أهمية . وهذا من أساليب التربية القرآنية

-  إننا نجد هذا الترتيب في القرآن كثيراً كقوله تعالى: " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث" فذكر من الشهوات أشدها : النساء ، ثم البنين ثم المال الذي يُصرف على النساء والبنين ، ثم ذكر من المال أفضله : الذهب ، وأتبعه بالفضة . أما الخيل فهي عند العرب أفضل من الأنعام ( الإبل والبقر والغنم) وهذا الحيوانات بأنواعها أفضل عند العرب من الزرع . إنه ذكر الأهم فالأقل أهمية.

-  ولا ننس الكلمتين ( يوزعون، وأوزعني ) من وزع ، فالأولى تعني أن أوائل الجيش ينتظرون في أماكنهم حتى يكتمل مجيئ أواخرهم ، والثانية :أوزعني تعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي (من الإلهام والعون ). وجمال الكَلِم القرآني ذلك الجناس اللفظي المختلف المعنى المؤتلف المبنى .

-  واقرأ قوله تعالى : " ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" وهذا يذكرنا بالرجل الصالح في سورة الأحقاف " ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه كرها ووضعته كرها حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي ، إني تبت إليك وإني من المسلمين" فالدعاء واحد يختلف قليلاً بين نبي ورجل صالح .. وأصلح لي في ذريتي.. إن الكلام في جله واحد

7- علمنا منطق الطير

-فرْقٌ بين عُلمنا منطق الطير وفهمنا لغة الطير، فالفهم قد لا يعني القدرة على الحديث أما الأولى ( عُلّمنا منطق الطير ) ففيها القدرة على الحديث بلغة الطير، وهذا أبلغ في التعبير عن المراد ، وسبحان من أنزل القرآن على نبيه عربياً بيناً لا لبس فيه.

- وداوود كذلك علم منطق الطير(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ .

- إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ . وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ .

وهذا لم يختص به داوود وسليمان به وحدهما فهناك آثار تدل على فهم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك فقد ورد في الأحاديث أن جملاً شكا صاحبه الذي يتعبه في العمل ويحمّله فوق طاقته. فنبهه النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذر وأعلن أنه سيعامل جمله معاملة طيبة .

- كما أن الحصا يُسمع تسبيحها في كف الرسول صلى الله عليه وسلم

8- الطيور والحيوانات أمم أمثالنا:

-  ويجتمع جيش النبي سليمان ويحشده ثم يسير به .. حتى إذا أتوا على وادي النمل.

-  والحيوانات والطيور والحشرات أمم متكاملة لها نظامها وحياتها الخاصة المنظمة "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم."

-  نملة عاقلة تنصح ( ولا بد للعاقل أن ينصح غيره وهذا واجبه.) فتنادي شعبها خائفة عليهم أن ييباد تحت وطأة جيش سليمان فتنادي بملء فيها" يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ، لا يحطمنّكم سليمان وجنوده"

-  فلا حاجة للمجابهة لسبب الضعف ،أو الضآلة ،أو توقع الخسارة الكبيرة .وقد يسيء البعض لعدم معرفتهم أو انتباههم { وهم لا يشعرون} وهذا النصح من حسن التدبير .

-  إنّ الحاكم أو الوجيه( النملة) تخاف على قومها من الإبادة. فهي ( رحيمة بهم) .

-  والنبي سليمان عليه السلام حريص على الرحمة بالحيوان ، فتبسم ضاحكاً من قولها ، وأوقف جيشه حتى غارالنمل في الأرض

-  فماذا تقول بمن يقتل الناس بعشرات الآلاف ليبقى حاكماً لمن يبقى حياً من الأمة بعد إذلالها لا سمح الله. ؟! هؤلاء الحكام أسوأ من الشياطين وألعن من الأبالسة وأحقر من الرويبضات فهل يعقلون أم على قلوب أقفالها؟!

8- انتماء الرجل الصالح للصالحين

" ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين"

-  نجد البر بالوالدين

-  طلب العون من الله على شكر النعمة.

-  وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين

-  نجد في سورة يوسف " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ، فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين. "

-  ونحن نقول : اللهم احشرنا في عبادك الصالحين .

9- الاهتمام بالجنود

-  النبي القائد سليمان عليه السلام يتفقد الطير.

-  هناك حذف في قوله : ( مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين) وكأنه يقول: ( أهو موجود لا أراه ) أم هو غائب فعلاً ؟ ولعله يريد أن يقول : لا أود أن يكون واحد من جندي غائباً دون إذن ولا عذر.

-  ونرى الحزم في التعامل مع الجنود. لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ) والسلطان المبين هو الدليل على سبب الغياب. العقوبة أولاً إن كان مهملاً متهاوناً ، والقتل ثانياً إن تجاوز في غيابه حد الجندية على مبدأ درهم وقاية خير من قنطار علاج فالتسيب إذا غاب الحزم مشكلة يصعب حلها، ولا عقوبة إن كان من غيابه فائدة مرجوّة.

-  إن الحزم دون ظلم يحفظ النظام

10- الجندي شجاع ذكي

-  تصور أن الجندي الصغير ( الهدهد) يقول لقائده على مسمع من الجند :عندي من المعلومات ما ليس عندك. ومعلوماتي يقينية ليست ظنية.

-  وقد يكون العلم عند صغير الحجم ضعيف البنية ، الفقير الذي لا يملأ العين .

-  وما يقولها إلا في حضرة القائد الذي هدد بالعقوبة وما أدراك ما العقوبة لكنه يعلم أن القائد وقافٌ على الحق ويحب الجندي الماهر الذي يخدم قضيته بإخلاص وسوف يتجاوز عن غيابه لما فيه من فائدة كبرى

11- التقرير الضافي المفصل

-  حدد الهدهد المكان الذي ذهب إليه وجاء بخبره ، وذكر نوعية الحاكم – فهي امرأة – وبيّن قوتها وشرفها - والدليل ( عرش عظيم) ونبه إلى عبادتهم فهم يعبدون الشمس من دون الله تعالى

-  لقد أضلهم الشيطان في عبادة غير الله تعالى.

-  ثم إننا نلحظ التوجيه إلى عبادة الله سبحانه ، فهي العبادة الحقة . وهو سبحانه من يستحق العبادة فقط. " ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون ، الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم" .. إنه تقرير ضاف تام.

12- تحقق القائد من الخبر

-  لا يؤخذ القائد بالكلام المعسول فلا بد من التحقق من هذا الخبر قال: ( سننظر...).

-  يجب أن تكون ثقة القائد بجنوده أكبر من سوء ظنه بهم. ( أصدقت أم كنت من الكاذبين) فقدم احتمال الصدق على الكذب ففي صفة الصدق خاطبه بضمير المفرد وفي احتمال صفة الكذب حذره أن يكون من جملة الكاذبين! واستبعد الكذب ابتداء حين ذكر الفعل الماضي ( كان) .

-  كلفه أن يأخذ كتابه فيلقيه على القوم ، وهو في هذه الحالة مراقب بطريقة ما .

-  وعلمه كيف يرمي الكتاب ويتلقط الخبر دون أن يعلموا بوجوده ( فألقه إليهم ثم تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون ) .

-  ولعلهم إن جهلوا من ألقاه عليهم لم يتابعوه واستوهلوا الأمر، فاستعظموه.

-  ولن يظن البشر أن طيراً كان رسولَ سليمان إليهم .

13- ذكاء الملكة وحسن تدبيرها.

-  كرّمت الملكة الكتاب ( الرسالة) لأسباب عدة ، أولها :أنها تلقته وهي فوق عرشها العظيم ، وثانيها أنّ صاحب الكتاب الملك سليمان المعروف بقوته وعظمته ، وأما ثالثها فقد بدأ الكتابُ بالبسملة ، وأعظِمْ بالبدء بسم الله الرحمن الرحيم ورابعها : أن الكتاب نهي واحد وأمر واحد ( ألا تعلوا عليّ واتوني مسلمين. )، ولا يكون النهي إلا من المتمكن ، ولا الأمر إلا من القوة ، وخامسها : ذلك الاختصار فالكتاب خمس كلمات.

-  ذكرني هذا الاختصار وتلك القوة بكتاب نقفور ملك الروم لهارون الرشيد خليفة المسلمين يهدده ويتوعده، فما كان من هارون رحمه الله إلا أن كتب على ظهر رسالة نقفور : ( إلى نقفور كلب الروم ؛ الجواب ما تراه ،لا ما تسمعه) وسيّر إليه جيشاً كسر به ظهره .

-  على الرغم أن الملكة أخذت بالكتاب وهالها ما فيه من ثقة صاحب الكتاب بنفسه أحبت أن لا تستأثر بالجواب وأن تحمّل رؤساء قومها مسؤولية اتخاذ القرار ، فطلبت آراءهم : ( يا يها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون) ولا بد من أخذ الرأي والمشورة ، فهذا دأب الحاكم اللبيب .

-  رأى مَلؤها أدبها فأخبروها بقوتهم وقدرتهم على القتال ، وتركوا لها البتّ في الحكم حين رأوها لم تستأثر به ابتداء .. وأراهم أخطأوا حين تركوا لها اتخاذ القرار فقرار الحرب لا يتخذه الفرد وحده. وكأن العرب منذ القديم اعتادوا ديكتاتورية الفرد فأذعنوا لذلك ألم يقل الشاعر مخاطباً شيخ قبيلته:

 لك المرباع منا والصفايا وحكمك والنشيطة والفُضولُ

فالمرباع : ربع المغنم يأخذه رئيس القبيلة .

والصفايا : جمع صفي . وهو ما يصطفيه الشيخ لنفسه من المغنم ،

والنشيطة : ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل بلوغهم إلى الموضع الذي قصدوه ، فكان يختص به رئيس القبيلة دون غيره.

 والفضول : ما يفضل من الغنيمة عند القسمة .

وعلى هذا فللقائد أو الملك والرئيس كل شيء .

وإننا نرى دولنا فقيرة معدمة ترزح تحت كاهل الديون بينما يسلب الحاكم كل شيء ويهربه إلى خزائن الغرب وبنوكها ليأكلوه بعد أن يسقط الحاكم السارق .. أليس هذا ما نراه كل يوم؟!

-  ولعلهم – إن أحسنا الظنّ رأوا في حديثها رغبة في الصلح والمناورة التي قد تأتي بحل مناسب فرضوا بذلك .( نحن أولوا قوة وألو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين)

-  من ذكائها وحسن تدبيرها أنه أرادت أن تجنب مملكتها التهديم والتدمير حين يدخلها ملك قوي بالحرب والقوة . جنوده الجن والإنس والطير فأرسلت حكمة حفظها الدهر بأحرف من نور: ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ، وكذلك يفعلون ) ...

============================

الحركات الإسلامية وفتنة الحكم

د. مصطفى يوسف اللداوي

هل بدأ عهد الأحزاب الإسلامية وآن أوان مشاركتها في الحكم، بعد سنواتٍ من المشاركة في الحياة النيابية، ومشاركةٍ فردية على استحياء في الحكومات المشكلة، دون إذنٍ أو موافقةٍ رسمية من القيادة العليا للقوى والأحزاب الإسلامية، التي لم تكن تجيز المشاركة في الحكومات، أو المساهمة في الحكم، الذي كان في تقديرها ضالاً علمانياً، أو ديكتاتورياً استبدادياً، أو عميلاً خائناً، أوضعيفاً تابعاً، فكان الفصل أو التجميد من التنظيم مصير كل من يخالف ويفضل الوزارة على الالتزام بقرار التنظيم، مما جعل مشاركتهم مشاركة فردية، تعبر عن أرائهم وأفكارهم ولا تعكس رأي وأفكار الحركات والأحزاب الإسلامية التي كانوا ينتمون إليها.

أما اليوم فقد أصبحت القوى الإسلامية تشكل الحكومات، وترسم السياسات، وتحدد المسارات العامة لدولها، وتضع الخطط العملية لبرامجها الاقتصادية والتنموية والتعليمية، بعد أن أثبتت عبر صناديق الانتخاب أنها الأقوى عملاً وتنظيماً، والأعرق أصولاً وتاريخاً، والأنشط شباباً وأعضاءاً، والأكثر حضوراً وفاعلية، فحصدت أغلب الأصوات، ونالت الغالبية من مقاعد البرلمانات ومجالس الأمة والشورى، فحازت بذلك على ثقة وولاء الشعوب.

 ما الذي تغير حتى باتت القوى الإسلامية تبادر إلى المشاركة في الحياة السياسية، وتتجاوز سياسات الرفض والتقوقع والانعزال وتوافق على المشاركة في الحياة السياسية والانخراط في الحكم، هل تغيرت مفاهيمها وتبدلت أفكارها فبدت أكثر قبولاً، وأصبح فيها دعاةٌ للدولة المدنية والحياة العصرية، وكثر المنظرون من العلماء ورجال الدين مجوزين لها الاشتراك في حكوماتٍ ووزاراتٍ لا تتبنى الإسلام منهجاً وسبيل حياة، أم أنها سئمت أن تبقى محكومة ومنقادة لغيرها، على هامش الحياة ليس لها أن تشارك أو تعارض أو تبدي وجهة نظر، أم أن الشعوب قد ملت حكامها القدامى وتعبت من سياساتهم الفئوية والشخصية الدموية والاستبدادية فرغبت في التغيير، وقررت استبدالهم بآخرين علهم يكونون خيراً منهم.

أم أن الفيتو المفروض على مشاركتها قد رفع، ولم يعد ثمة اعتراض عليها، بعد أن اطمأن المعترضون من اللاعبين الدوليين الكبار على سلامة أفكار الحركات الإسلامية، واعتدال سياساتهم، وتغير مفاهيمهم، ونبذهم للعنف والإرهاب، واستعدادهم للقبول بالآخر، وإرساء مفاهيم الديمقراطية، والتنازل عن بعض الموروثات الفكرية والثوابت العقدية لجهة الولاء والبراء، فلم يعد ثمة خطر منهم، فقد أصبحوا وهم وغيرهم سواء، لا شئ فيهم يختلف عن الآخرين أو السابقين، فهم مثلهم ملتزمين بالمواثيق والعهود، ولديهم الاستعداد للاعتراف بالاتفاقيات الدولية الموقعة، ولا يوجد ما يمنعهم من التعامل مع الواقع كما هو اليوم، إذ لا نية عندهم ولا قدرة لديهم على تغييره.

مخطئ من يظن أن الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية وأقطاب الاستعمار العالمي القديم والجديد راضين عن صعود نجم القوى الإسلامية، وفوز الحركات الإسلامية، وتصدرها تشكيل الحكومات وتعيين الوزارات ورسم السياسات، أو أنهم راضين عن توجه الشعوب العربية نحو صناديق الانتخابات للمشاركة في انتخاباتٍ حرةٍ ونزيهةٍ شفافة ليختاروا القوى الإسلامية والشخصيات المستقلة التي تتبنى سياساتٍ معارضة للغرب، وغير موالية للولايات المتحدة الأمريكية، فالغرب غير راضٍ وهو غاضبٌ ومستفزٌ وثائر، بل هو مصدومٌ ومهمومٌ وقلق، ويشعر أنه يعيش كابوساً مزعجاً، وحلماً أو خيالاً قد يصحو منه بعد قليل، ولكنه أدرك أن ما هو فيه حقيقة وليس خيالاً، وأنه واقعٌ على الأرض ولم يعد كما كان محالاً، وعليه أن يقبل بالحال أو يصمت عليه أو يكذب وينافق ليخطط ويمكر ويخادع.

ومخطئٌ من يعتقد أن الغرب سيساعد الحكومات الجديدة على نجاح تجربتهم في الحكم، وسيقدم لهم العون والمساعدة بما يحقق لهم التميز والنجاح، ولبلادهم التقدم والرخاء والازدهار، ولشعوبهم الحرية والرفاهية والأمان، فلن يكون الغرب سعيداً بنجاح التجربة الإسلامية في الحكم، ولن تكون البسمة المرسومة على شفاههم إلا صفراء وهم يلتقون بالإسلاميين أو يظهرون أمام الكاميرات وهم مضطرين للابتسام أمامها، ولن يكون قادته سعداء وهم يضعون أيديهم في أيدي قادة الحركات الإسلامية وقد أصبحوا وزراء أو رؤساء حكومات ، ولو خير الغرب في قراره لاختار النموذج الجزائري ولو كان دموياً، ولفضل الانقلاب على نتائج الانتخابات ورفض الديمقراطية التي جاءت بالقوى الإسلامية إلى سدة الحكم، إذ لا تهمهم الديمقراطية في بلادنا العربية إذا كانت على حساب مصالحهم، وجاءت بمن يخالف سياستهم، وينقلب على خططهم، ويحارب مشاريعهم، ويسعى للحفاظ على الهوية والكرامة العربية، ويرفض أن تسرق مقدرات وخيرات العرب، وأن تكون نهباً للغرب، يستولي عليها بأبخس الأسعار، ويتحكم فيها وفي أسواقها، ويحول دون سيطرة العرب على مكنون بلادهم، وخيرات أرضهم.

الحقيقة أن الشعوب العربية التي صنعت بشبابها ورجالها ونسائها الربيع العربي الثائر على الظلم والاستبداد، والرافضة للتبعية والخنوع والانقياد، والتي سئمت حكامها من اللصوص والجلادين، ومن العملاء والخائنين، ومن الغلمان والعبيد، ومن المتشبهين بالغرب والمقلدين لغير العرب، قد قرروا الانقلاب على الحكام الذين زرعهم الغرب في بلادنا، واستأمنهم فيها على أهدافه، وألزمهم بتنفيذ سياساته، وجعلهم حراساً لمشاريعه، وخدماً لمصالحه، فاستبقاهم في مناصبهم ولكنه ربطهم إلى وتدٍ قد استمرأ الذل والهوان، ورضي بالضرب والخسف والطرق شرط أن يبقى في الأرض مغروساً ولا يخلع، ولكن الشعوب العربية قررت الثورة عليهم، وخلع جذورهم من الأرض، واستئصال زرعهم الدخيل من أرضنا، فطردتهم بالثورة، وأقصتهم بالانتخابات، وأبعدتهم عن مناصبهم بالطرق المشروعة، واختارت غيرهم برضا وقناعة، وانتخبتهم وهي تعلم حقيقتهم، وتدرك برامجهم، وتعرف سير رجالهم، وحقيقة تطلعاتهم، وصدق غيرتهم، فقبلت بهم حكاماً لها، ومشرعين لأنظمتها، وحراساً لخيراتها، وأمناء على مستقبلها.

إنها الحركات الإسلامية تحصد الخير الذي زرعته، وتجني الثمار الطيبة التي أشرفت عليها ورعتها واهتمت بها سنين طويلة، وهي تجني أمل الشعوب وثقتهم بها، وقد حازت على أصوات المحبين لها، والحانقين على سياسة من كانوا قبلها، وقد قررت الشعوب اختيارها وهي تعلم أنها تناكف الغرب وتعاكس إرادته، ولكنها انتصرت لحريتها وكرامتها وعزتها واستقلالها، وقررت أن تقول كلمتها مدوية دون خوف، عل الحكومات الجديدة التي عانى رجالها الكثير، سجوناً وإعداماً وتضييقاً ومطاردة، يكونون على القدر المسؤولية، ويؤدون الأمانة على خير وجه، ويستخدمون السلطة لخدمة الشعب، ولا يسقطون تحت بريقها ويفتنون بها ليفتنوا الشعوب من جديد، ويذيقونها بأساً دعوا الله أن يخلصهم به منه.

moustafa.leddawi@gmail.com

==========================

الفرق بين صلح الرملة و"السلام" مع العدو الصهيوني

د. إبراهيم علوش

ما برح بعض "المعتدلين" اليوم يسعون لتبرير الانخراط في "عملية السلام" مع العدو الصهيوني بوسائل شتى وبذرائع شبه "تاريخية"، منها مثلاً "صلح الرملة" الذي أبرمه الناصر صلاح الدين مع ريكاردوس قلب الأسد ملك بريطانيا في بداية شهر أيلول عام 1192، أي بعد تحرير القدس ومعظم أراضي بلاد الشام بخمس سنوات تقريباً.

 

وكان صلح الرملة يقضي ببقاء الساحل الشامي بين صور ويافا بيد الفرنجة، على أن يبقى بقية ما تم تحريره من الأراضي المحتلة، ومنها القدس، بيد المسلمين، وأن يعيد الصليبيون عسقلان للمسلمين، وأن يُسمح للفرنجة بالحج إلى القدس مسالمين، على أن تكون بين الفرنجة والمسلمين هدنة عسكرية مدتها خمس سنوات.

 

ونظراً لما لصلاح الدين محرر القدس من مكانة وسمعة في عقول وقلوب العرب والمسلمين، فإن دعاة التفاهم والتعايش والصلح والاعتراف بالعدو الصهيوني يحاولون التستر بسيرته متظاهرين عبثاً بأنهم لم يفعلوا شيئاً لم يقم به صلاح الدين من قبلهم، وشتان ما بينه وبينهم. ولذلك لا بد من العودة لتوضيح الفرق ما بين صلح الرملة، من جهة، و"عملية السلام" مع العدو الصهيوني، من جهة أخرى. فالفرق بين المقاومين والمفرطين كالفرق بين أكثر نقطة انخفاضاً في غور الأردن وقمم الجبال.

 

في البداية لا بد من القول أن القياس الآلي على الوقائع التاريخية دون أخذ السياق السياسي وميزان القوى، والكثير من العوامل الأخرى المحيطة بالحدث، بعين الاعتبار يقود إلى الضلال والتخبط في الاستنتاجات. والمعاهدة التي تكون ضرورية لمصلحة الأمة في لحظة ما قد تعبر عن الخيانة أو التهاون والتفريط في لحظة أخرى. لكن صلح الرملة لم يكن خيانة ولا تفريطاً ولا تهاوناً، على النقيض من "عملية السلام" مع العدو الصهيوني اليوم.

 

وخلاصة قصة صلح الرملة أن الأوروبيين تداعوا بعد معركة حطين، وتحرير القدس، وسقوط الكثير من الإمارات الصليبية في بلاد الشام بيد قوات صلاح الدين في خريف عام 1187، إلى حملة صليبية ثالثة جمعوا لها قوى ضخمة تعد بمئات الآلاف بقيادة ملوك ألمانيا وفرنسا وبريطانيا من أجل "تغيير النظام" في بلاد الشام. وقد انطلقت تلك الحملة، عبر طرق مختلفة، باتجاه بلاد الشام، بعد عامين من تحرير القدس.

 

وكان صلاح الدين قد ارتكب خطأً إستراتيجياً، حسب إجماع المؤرخين الأصدقاء والمعادين، بترك مدينة صور على ساحل جنوب لبنان بيد الفرنجة، لا بل بالسماح، بتسامحه المعروف، لكثيرٍ من المحاربين الفرنجة الهاربين من فلسطين وشرق الأردن وصيدا وبيروت واللاذقية وطرطوس باللجوء آمنين إلى صور مع أموالهم وممتلكاتهم. وكانت صور محصنة جيداً من البر والبحر، وبالتالي وقف أمامها صلاح الدين أكثر من مرة وقرر أن يتجاوزها، خاصة أن جيشه كان مرهقاً من الحروب، وخزينة الدولة الأيوبية مفلسة، فقرر صلاح الدين تسريح قسم كبير من الجيش في الشتاء، مركناً لانتصاراته المزلزلة ومراهناً على ما يبدو أن راس اللسان الصغير المحاصر في صور لن يكون له من الأمر شيء، خاصة أن المسيحيين العرب كانوا مع صلاح الدين، وسبق أن أسهموا معه بفتح أسوار القدس. ولو غنم جزءاً مما نقله المحاربون الصليبيون لصور، وهو منهوب من بلادنا أصلاً، وحلالٌ عليه، لحل مشكلة موازنة الجيش.

 

لكن غلطة الشاطر بألف، ودمشق التي انطلقت منها الجيوش لتحرير القدس مستهدفة، ولبنان، خاصرة بلاد الشام، مفتوح بحرياً على أوروبا. وكان صلاح الدين قد أرسل عشرة سفن من مصر لمحاصرة صور بحرياً، لكن الصليبيين دمروا خمسة منها، وهرب بقيتها إلى بيروت. ولم يتابع صلاح الدين الأمر. لا بل أنه أطلق في تموز 1188 سراح "غي" ملك القدس الصليبي المخلوع مستحلفاً إياه أمام الملأ ألا يرفع سلاحاً يوماً بوجه المسلمين، فحلف.. ونكث بعدها.

 

أبان ذلك، كان الفرنجة المحاصرون في صور قد بادروا إلى استدعاء العون بحرياً من أوروبا، وفي آب 1189 تقدمت حملة بحرية انطلاقاً من صور باتجاه عكا، بالاشتراك مع قوات فرنجة طازجة من أوروبا، وعلى رأسها الملك الصليبي الناكث بعهوده "غي"، وانشأ الصليبيون طوقاً برياً وبحرياً حول حامية عكا المقاومة ظل يتجدد بإمدادات لا تنضب من البحر. وظلت عكا تقاتل عامين، حتى انهارت في تموز عام 1191.

 

وقبلها كان فريدريك برباروسا، ملك الألمان، قد راح يتقدم على رأس مئتي ألف مقاتل (أو مئة ألف أو أقل، حسب المراجع الغربية) باتجاه بلاد الشام، عن طريق هضبة الأناضول، في تشرين الأول 1189، وقد أعتبر صلاح الدين تقدم الألمان الخطر الأكبر الذي طفق يحشد القوى لمواجهته، لكن فريدريك برباروسا الذي اجتاح الإمارات التركية بسهولة أصيب بسكتة قلبية قبيل وصوله لإنطاكية، وهو يستحم بمجرى ماء (لا يصل لوسط الرجل، حسب ابن الأثير) عند جبال طوروس في 10/6/1190، وكان في الثامنة والستين من العمر، فتشتت جيشه، وتخلصت بلادنا من لعنته، ونزل ما تبقى من جيشه، وهو خمسة آلاف، في عكا.

 

لكن لم يكد خطر الألمان يضمحل حتى تعاظم كالعادة خطر الفرنسيين والبريطانيين وحلفائهم، وفي نيسان 1191 نزل ملك فرنسا فيليب أغسطس مع جيوشه إلى جوار عكا، وفي حزيران من نفس العام تبعه ملك بريطانيا ريكاردوس قلب الأسد، وما لبثت عكا أن سقطت بعد تعذر وصول الإمدادات إليها، فذبح ريكاردوس ثلاثة آلاف من الأسرى على أسوارها، منهم 2700 جندي، و300 من عائلاتهم، على النقيض من تسامح المسلمين مع أسرى الفرنجة.

وقررت القيادة العسكرية أن الزج بكل جيش المسلمين في هجوم شامل على عكا كان سيدمره، ويترك البلاد مفتوحة لهجوم صليبي عام، فاتخذت بدلاً عن ذلك إستراتيجية احتواء الغزاة عسكرياً على ساحل فلسطين قدر الإمكان. وهكذا سار جيش الصليبيين جنوباً يرافقه أسطوله في البحر، وسار جيش المسلمين بخط موازٍ لجيش الصليبيين في الداخل الفلسطيني، وشاغله، واشتبك معه مراراً في عدة معارك على مدى عام ونيف تقريباً، لم تحسم نهائياً لأيٍ من الطرفين، ومنها معركة أرسوف شمال يافا في أيلول 1191 (وهي غير معركة أرسوف التي قادها الظاهر بيبرس ضد الصليبيين عام 1265).

 

وتمكن الصليبيون خلال هذه الحملة الصليبية الثالثة من التمدد من عكا إلى حيفا ويافا إلى عسقلان، وكان العرب المتطوعة وجيش صلاح الدين يمارسان حرب العصابات ضد جيش الفرنجة يومياً لإنهاكه واستنزافه ومنعه من الاستقرار، وكانت خطة جيش المسلمين المركزية هي الحفاظ على الداخل، واحتواء الصليبيين في شريط ساحلي ضيق، ومنعهم من تحقيق هدفهم الإستراتيجي، وهو استعادة القدس التي حررها صلاح الدين بعد 88 عاماً من الاحتلال.

 

وكانت الصراعات بين ملك فرنسا فيليب وملك بريطانيا ريكاردوس قد لعبت دورها في عودة الملك الفرنسي إلى بلاده في صيف عام 1191، بعد مئة يوم فقط من مجيئه لعكا، تاركاً قيادة الحملة الصليبية الثالثة لريكاردوس. ولعبت الصراعات على الملك في بريطانيا دورهاً أيضاً في تخويف ريكاردوس من ترك مملكته طويلاً. فراح ريكاردوس يفاوض صلاح الدين عبر أخيه العادل، لأن صلاح الدين رفض أن يقابله وجهاً لوجه، ومن ثم ألم المرض الشديد بريكاردوس، فعالجه الأطباء العرب، ومن هنا جاء صلح الرملة.

 

إذن، فلنلاحظ أن: 1) صلاح الدين رفض أن يقابل ريكاردوس، وفاوضه عبر أخيه العادل، 2) صلح الرملة كان هدنة محدودة الأجل، ولم يكن اعترافاً "تاريخياً" بحق العدو بالوجود، 3) المسلمين تمكنوا من منع جيش الفرنجة من تحقيق هدفه الأساسي وهو احتلال القدس، 4) صلح الرملة نص على بند يعترف بسيادة المسلمين على القدس، وكل داخل فلسطين، للمرة الأولى منذ بدأت الحروب الصليبية، 5) الصلح أنتج عودة ريكاردوس قلب الأسد إلى بلاده فتخلص الناس من شره، ولم يؤدي إلى استيطان ريكاردوس في فلسطين، وهو ما يشكل نصراً معنوياً كبيراً، 6) "التنازل" الذي قدمه صلاح الدين بالسماح للفرنجة الأجانب بالحج إلى القدس مسالمين لم يخرج قيد أنملة عن مبدأ السيادة العربية-الإسلامية على القدس، وينسجم مع العهدة العمرية، 7) صلاح الدين بقي متحصنا بالقدس، وكانت مقاومته العسكرية الباسلة للغزو الصليبي، وموقفه السياسي الصلب، هو الذي أجبر الفرنجة على التخلي عن استكمال حملتهم الثالثة على بلاد الشام بعد انكفائهم في شريط ساحلي ضيق.

 

إذن لم يكن صلح الرملة معاهدة استسلام تكرس هزيمة عسكرية، بل كان مناورة دبلوماسية لحماية نصر عسكري ضخم كان قد تم تحقيقه قبلها بخمس سنوات، بتكسير معظم الإمارات الصليبية في بلاد الشام، خاصةً في فلسطين وشرق الأردن. وكان صلح الرملة يمثل نهاية الحملة الصليبية الثالثة، ولم يتم توقيعه من قبل أطراف خائرة القوى ومتهالكة على كسب ود الغرب، ولم ينتج عن هزائم عسكرية للعرب، ولا عن استعداد للتفريط بالسيادة، ولا عن تساهل مع مشروع التدخل الخارجي ب"تغيير النظام" "حقناً للدماء"، بل نتج عن قوة انتصرت من قبل، ونجحت بمحاصرة الحملة الصليبية الثالثة في الساحل، وتستطيع بالتالي أن تراهن على نفسها لاقتلاع ما تبقى منها.

 

أما الداعون للسلام مع "إسرائيل" اليوم فلا يهادنون مؤقتاً ليحاربوا، بل يستسلمون، ويعترفون، وهذا فرق كبير، وهم لم يحرروا شيئاً، ولم يبنوا قوى، ولا يتمسكون بموقفٍ مبدئي صلب، ولا يفاوضون حتى من موقع ضعف، بل من موقع يأس، وتقوم كل إستراتيجيتهم على جعل العدو يحبهم!

 

وللأسف أن صلاح الدين أصيب بمرض شديد بعد صلح الرملة بقليل، وتوفي بعده ستة أشهر بالضبط، عن ستةً وخمسين عاماً، ولم يكن الأيوبيون بعده للأسف على ما كان عليه صلاح الدين، فأفلتت الأمور من أيديهم.

 

ولكن إذا كان لنا أن نراهن على موقف صلاح الدين في اقتلاع الصليبيين من الشريط الساحلي الضيق، فمن مراسلاته مع ريكاردوس قلب الأسد. أنظروا مثلاً بعض ما جاء في رسالة ريكاردوس لصلاح الدين، وبعضاً مما رد به عليها:

 

- ريكاردوس: "فأما القدس فمحل عبادتنا ولا نقبل أبداً بالعدول عنها حتى وإن لزم أن نقاتل إلى أخر رجل فينا. وأما الأرض فنريد أن يعاد إلينا ما هو واقع غربي نهر الأردن".

- ويرد صلاح الدين: "المدينة المقدسة أمر تركها غير وارد في حسابنا، والمسلمون لا يقبلون بذلك قط. وأما الأرض فطالما كانت أرضنا، واحتلالكم إياها ليس إلا عَرَضاً. ولقد أقمتم فيها بسبب ضعف المسلمين الذين كانوا فيها، أما والحرب قائمة فإننا لن نسمح لكم بالتمتع بما ملكتم".

 

وفي النهاية، رحل ريكاردوس دون أن يرى القدس، ودون أن يأخذ الأرض الواقعة غربي نهر الأردن، أما ما أخذه الصليبيون، فصلاح الدين يقول له أنها أرضٌ محتلة لن يُسمح للمحتلين أن يتمتعوا بها، وهذا رفض مبدئي لحق الاحتلال بالوجود، وليس "عملية سلام" مع المحتل، أو اعتراف ب"قرارات الشرعية الدولية" ولا سعي لنيل رضا الغرب للتمتع بالحكم أو من أجل الوصول إليه، على طريقة بعض "الثوار" العرب مؤخراً.

 

أخيراً، لا ننسى أن نذكّر، من وحي تجربة صلاح الدين وغيرها، أن سقوط القدس يعني سقوط الشام والموصل ومصر، مملكة صلاح الدين، وأن ثبات الشام ومصر يعني تحرير القدس.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ