ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
ما
بين الاستبداد السياسي
والاستبداد التربوي.. جدل
العلاقة والتبادل د.
صابر جيدوري منذ
أكثر من مائة عام حاول التنويري
السوري عبد الرحمن الكواكبي أن
يتبصر قواعد الاستبداد القامع
للحريات بالمجمل ولحرية
التعبير على وجه خاص، وما زالت
اليوم صرخته المتألمة تتردد
حاملة معها الكثير من الخيبة
والأسف، بسبب ما يقوم به نظام
الاستبداد في سوريا من قتل
وتعذيب وإقصاء لكل رأي مخالف،
في الوقت الذي أصبح فيه المستوى
الحضاري للمجتمعات يُقاس بمدى
قدرتها على التثاقف مع الآخر
المختلف والحوار معه، والإيمان
بوجوده وحقوقه، والتأكيد على
أهمية وجود نزعة إنسانية في
التربية والتعليم لمواجهة
ثقافة الصمت لدى المقهورين
والمحرومين، والاتجاه نحو
صياغة مجتمع ديمقراطي، لا يتصف
فيه التعليم بالحيادية، وإنما
يسعى إلى تحرير الإنسان وإنقاذ
كرامته من براثن الاستبداد. كما
بدأت الكثير من المجتمعات العمل
على تدعيم بناء قيمي قوامه
الحوار مع الآخر والتسامح معه،
ونشر مبادئ حقوق الإنسان وقيم
المواطنة وزرعها لدى الناشئة،
من أجل المساهمة في بناء مجتمع
ديمقراطي إنساني تنحسر فيه
مقومات ثقافة كاتم الصوت والخوف
من الحرية. من
جهة أخرى تعتبر عملية النضج
المتوازن في بناء شخصية الإنسان/
المواطن من أهم مقومات التربية
المدنية بغية التماسك
الاجتماعي، كما أنها من أقوى
ضمانات الوفاق الوطني والفعل
الجماعي. ثم إن حق الاختيار
وإتاحته للفرد منذ طفولته يمثل
ركيزة من ركائز التربية المدنية
في السعي لبناء مجتمع ديمقراطي.
والتمتع بحق الاختيار أو الخوف
من الاختيار أو الهروب من
تبعاته محكوم إلى حد كبير
بعوامل التنشئة والتربية
المدنية، وبما توفره من مواقف
وظروف لممارسة هذا الحق منذ
الطفولة. وحيث تسود سلطة الأمر
والنهى بصورة طاغية على تكوين
المواطن خلال مسيرة نموه، تتغلب
الاتجاهات النفسية والقيمية
نحو المسايرة لتلك السلطة في
صورها الوالدية أو المؤسسية أو
في غيرها من الصور؛ إذ لا يتطلع
الفرد إلا إلى توجهات تلك
السلطة إرضاءً لها، وإيثاراً
للعافية والطمأنينة (عمار، 2000:
236). ومع الأسف أن هذا هو واقع
التعليم في سوريا، فالنظام
السياسي يُسيطر على التعليم ليس
لمعالجة المشكلات وإيجاد
الحلول لها، وإنما لكي يُشكل
أفراداً يألفون الخنوع والذل
والاستكانة، ويتعايشون مع
الخوف والرعب، ويتعودون
السلبية والانهزامية. وبالتالي
فإن أفراداً هذه حالهم لن
يعرفوا طريقاً للإبداع
والابتكار واتخاذ التفكير
النقدي منهجاً وطريقة، بل أكثر
من ذلك يقوم النظام السياسي
بتوجيه النظام التربوي من أجل
أن تكون مخرجاته أداة لنظام
الاستبداد بغية ترسيخ واقع
القهر والظلم والحرمان في
فضاءات المجتمع المختلفة.. كيف
لا ودافع النظام التعليمي يكاد
يكون كله سياسياً، وإن هذا
الدافع هو العنصر الأساسي في
توجيه السياسات التربوية
وتحديد المهارات العقلية،
واختيار المعلومات التي تُعطى،
وإقصاء المعلومات التي تُشكل
وعياً ناقداً. وهذا ما يؤكده
الدكتور وطفة بقوله: " لقد
عملت أنظمة الاستبداد في
بلداننا بكل ما أوتيت من قوة إلى
تحويل المواطنين إلى رعايا
وعبيد، إلى أفراد يدينون
بالولاء الأعمى لنظام الفساد
والقهر والاستبداد، والمواطنة
من منظور النظام السياسي
المستبد لا تعدو أن تكون ولاء
المحكوم للحاكم ورضوخه لإرادة
النظام، حيث يشكل الخضوع المطلق
للحاكم المستبد مبتدأ المواطنة
والإذلال خبرها ومنتهاها، ذلك
هو حال الأنظمة التربوية في
البلدان الاستبدادية التي
تُدجن البشر على مفاهيم
العبودية، وتلقنهم أساليب
الخضوع والمذلة، وتدفعهم إلى
تقديس رموز النظام، كما تدفعهم
إلى تأليه الحاكم الصائر صنماً
للعبادة، هذه الأنظمة علمتنا
وما زالت تعلم أطفالنا بأن
كرامة المواطن تكون قبل كل شيء
في الخضوع للحاكم وتقديس رموزه
" (وطفة ، 2011: 1). ولو
دققنا النظر في التطبيق الحادث
في نظام التعليم في سوريا سوف
نجد أن ما قاله الدكتور وطفة
يشكل مساحة واسعة في سياسة
التعليم السوري، فالتعليم
السوري يعمل جاهداً من أجل
تدعيم النسق السياسي السائد
والمحافظة عليه، لأن الاستقرار
بالنسبة للسلطة المستبدة خاصية
مرغوبة وإيجابية، والتربية هي
الوسيلة التي يصبح المواطن
السوري من خلالها واعياً بالنسق
السياسي والثقافي ومدركاً
لهما، ومن هنا يمكن تقرير أن
نظام التعليم المختطف بأدواته
ومؤسساته وطاقاته البشرية،
يُعد وسيلة توظفها السلطة
المستبدة لإنجاح تربية المواطن
واحتواء وعيه لصالحها، دون أن
تُراعي هذه السلطة أن هناك
فرقاً بين المواطن الصالح كما
يراه المجتمع، والمواطن الصالح
كما تراه هي، فالمواطن الصالح
من وجهة نظر المجتمع هو الذي
تُشكل إرادته نوعاً من التناغم
الاجتماعي مع غيرها من
الإرادات، بينما المواطن
الصالح في نظر السلطة المستبدة
فهو الشخص الذي يؤيد الأوضاع
القائمة ويكرس نفسه من أجل
المحافظة عليها.. وإن مثل هذا
المواطن هو ما يسعى إلى تكوينه
نظام التعليم السوري بمكوناته
كافة، حيث يستهدف عبر سياساته
وأهدافه واستراتيجياته طبع
نفوس الطلبة بقيم الطاعة
والخضوع والاستكانة، وليس تلك
القيم التي تدفع باتجاه مستقبل
مشرق واعد.. وقد عبر عن تلك
السياسة التنويري السوري عبد
الرحمن الكواكبي بقوله: " إن
المستبد يتحكم في شؤون الناس
بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم
بهواه لا بشريعتهم، فلا يريد
المستبد أن يتصرف فرد بوحي خالص
من فكره المجرد، ولا أن يقتنع
أحد بفكرة انشرح لها صدره، بل
يريد أن يفعل الفعل أو يترك
لوجهه لا لوجه الحق، كذلك يطلب
السادة وكذالك يصنع العبيد" (الكواكبي،
2006: 41) وهكذا
فإن الاستبداد يتلخص في تغليب
إرادة واحدة لا تسمح بإرادات
أخرى تعمل إلى جانبها على خلاف
هواها، مما يعني أن المستبد
يختطف المبدأ الأساسي الذي يجب
أن تقوم عليه فكرة المواطنة ألا
وهو مبدأ حرية الإرادة.. هذا
المبدأ المختطف من قبل نظام
التعليم في سوريا، والذي لم
يدخل إلى مدارس هذا النظام بعد..
بل لم يُصبح الفصل الدراسي بعد
مساوياً لجمهورية صغيرة يتعاون
أفرادها من أجل الصالح العام.
وهذا ليس غريباً أو مدهشاً لأن
من أبرز السمات الموجودة في
التعليم السوري ما عبرت عنه
الملاحظة الذكية التي أبداها
الدكتور فؤاد زكريا في كتابه
"خطاب إلى العقل العربي"
وهي ملاحظة يكفي أن ينظر كل فرد
في المجتمع السوري إلى نفسه
ليجدها تنطبق عليه هو شخصياً،
وتلك الملاحظة هي: "إن
الإنسان العربي قد تربى على
الطاعة، والطاعة وباء لا يفلت
منه أحد، وإذا أطلقت لها العنان
أصابت عدواها الجميع، ذلك لأن
كل من يفرض الطاعة على من هم
دونه يجد نفسه مضطراً إلى طاعة
من يعلونه، وحين يطيع المرء لا
يكون ذاته، بل يمحو فرديته
ويستسلم إلى غيره، وأكاد أقول
إن أعظم إنجازات الإنسان لم
تتحقق إلا على أيدي أولئك الذين
رفضوا أن يكونوا مطيعين"(زكريا،1978:
82-83) ولعل
ما يوضح ما ذهب إليه الدكتور
فؤاد زكريا هو التدقيق في
الغامض والعفوي والاعتباطي
والعشوائي في العلاقات
التربوية القائمة في المدرسة
السورية بوصفها رموزاً لمنهجية
خفية تتماهى مع العملية
التربوية والتعليمية، وتتجلى
في غرس قيم الطاعة والخضوع
والمذلة في نفوس الناشئة،
فالمستقرئ لواقع المدرسة في
سوريا يكتشف أنها أداة لإعادة
إنتاج الأمر الواقع بكل سلبياته
واختناقاته لمصلحة النخبة
المهيمنة (وطفة، 2011: 141) ومن هنا
يأتي تخوف الدكتور وطفة وتأكيده
على إنه من غير التربية
الديمقراطية والتربية على
المواطنة يتحول المواطنون إلى
رعايا وأفراد رعاع، لا يمتلكون
مصيرهم السياسي وغير قادرين على
المشاركة الاجتماعية،
فالمواطنة تعني الممارسة الحرة
للمواطن في شؤون الحياة العامة
وفق أنظمة حرة يحددها القانون
وترسمها الأعراف الديمقراطية
في مجتمع جديد " (وطفة، 2011 : 1). ولعل
ما يوجد على هذا المحور القيمي
من صدأ بفعل السياسات القمعية
التي مارسها النظام السياسي في
سوريا قبل الثورة وبعدها، والتي
تقمع كل نزوع نحو الخروج
والتمرد على القيم المألوفة، أو
محاولة إعادة النظر فيما يُعد
مبادئ مقدسة، أو مواجهة
السياسات القمعية التي تعمل على
تشكيل غريزة القطيع في أسوأ
أشكالها، هو الذي دفع الدكتور
وطفة إلى التأكيد على ضرورة أن
نبدأ من نقطة الصفر"لأن وضعية
التربية على المواطنة في
البلدان العربية مخجلة في حقيقة
الأمر، وإن أغلب الفئات
الاجتماعية تجهل الدلالة
الموضوعية والتاريخية لهذا
المفهوم، فالكثير من المثقفين
يعرفون مفهوم المواطنة بكلمتين
لا ثالث لهما هما: حب الوطن
والتضحية من أجله. وحب الوطن كما
يريد النظام الحاكم في سوريا
يعني حب النظام وتقديسه
والتفاني في خدمته وطاعته
والتضحية من أجله، ومن هنا نشأت
فكرة التخوين لكل من يعارض
النظام السياسي أو يخالفه، لأن
الاعتراض على الممارسات
القمعية للسلطة تؤخذ على أنها
خيانة للوطن والدين والعرف
والتقاليد والقيم، وفقاً
للمعنى الذي تتبناه السلطة
القمعية لمفهوم المواطنة،
وعليه فإن مفهوم المواطنة
الحقيقي يعاني من موقف سياسي
وتربوي يناهضه ويعمل على تغييبه
وتشويه معانيه، شأنه في ذلك شأن
حقوق الإنسان والمفاهيم
الديمقراطية الأخرى " (وطفة ،
2011 : 3) . ومن
الجدير بالذكر أن ما تشهده
سوريا من انتهاكات لحقوق
الإنسان على خلفية الثورة
الشعبية قد أحدث تصدعاً كبيراً
في منظومة القيم التربوية
والتعليمية، فبدل أن يقوم
النظام بوضع الخطط التي تُسهم
في اكتساب الطلبة الثقة بالنفس
والقدرة على التغيير، وتجعلهم
شركاء فاعلين ومنفعلين في بناء
مجتمعهم، نجد أن اتجاهات
التلاميذ بدأت تأخذ منحى آخر
يُمكن وصفه بالسلبي تجاه السلطة
الحاكمة نتيجة الممارسات
القمعية التي وقعت على الكثير
من الطلبة وذويهم الذين خرجوا
يهتفون للحرية والديمقراطية
والكرامة الإنسانية، كما أن
الأجواء العنفية التي أحدثتها
السلطة في عموم الجغرافيا
السورية أثرت بشكل كبير على
التحصيل الدراسي للطلبة. فمن
المعلوم على الصعيد التربوي أن
التحصيل الدراسي للطلبة يتأثر
سلباً أو إيجاباً بمجموعة من
العوامل لعل أهمها العامل
النفسي والاجتماعي والاقتصادي..
فالحالة النفسية والاجتماعية
والاقتصادية السيئة التي
يعيشها الطلبة في معظم
المحافظات السورية نتيجة حصار
القرى وانتشار الحواجز
العسكرية، والممارسات
اللاإنسانية لقوات الأمن
والشبيحة اتجاه المواطنين، كان
لها آثاراً كارثية على العملية
التربوية والتعليمية. من
جهة أخرى نجد أن المعلم الذي
يُعد حجر أساس في إطار التربية
والتعليم واجه هو الآخر الكثير
من المشكلات النفسية
والاجتماعية والاقتصادية،
نتيجة الأجواء المرعبة التي
فرضها نظام الاستبداد على
الكثير من المعلمين في الكثير
من المدن السورية، حيث أصبح
الجميع يتساءل: كيف يؤدي المعلم
عمله التعليمي والتربوي وهو
يعلم أن معلماً زميله في بلدة
المسيفرة بدرعا قد تم سلخ جلده
كاملاً ؟ ثم كيف يؤدي المعلم
عمله وهو يتوقع أن يُعتقل أو
يُقتل في أية لحظة، لأن شقيقه
خرج في مظاهرة، أو قريبه مطلوب
لسلطة الاستبداد؟ هكذا هو واقع
العملية التربوية والتعليمية
في سوريا بعد الثورة، وفي
الحقيقة لم تكن هذه العملية
أحسن حالاً قبلها، فإذا كان
الأمر كذلك وهو كذلك، فكيف
نستطيع أن نطلب من المعلم-
والحال هكذا- بناء المتعلم
للقرن الواحد والعشرين؟ قرن
العدالة والحرية والمساواة
وحقوق الإنسان..إن التداعيات
التربوية التي أحدثتها سلطة
القهر والاستبداد في جسد
التربية السورية كثيرة
ومتعددة، لا تتوقف على انخفاض
التحصيل الدراسي للطلبة، أو
الحالة النفسية التي حدثت لهم
ولمعلميهم، ولا في مشكلة عدم
انتظام الطلبة في المدارس، بل
إن هناك أموراً تتصل بتوظيف
النظام للعملية التربوية
والتعليمية من أجل إعادة إنتاج
الاستبداد والقهر والحرمان،
وإن هناك خططاً واستراتيجيات
تربوية لإعادة تشكيل وعي الطلبة
بما ينسجم مع توجهات سلطة
الاستبداد في المرحلة القادمة،
بعبارة أخرى، هناك سياسة معدة
لاختطاف التعليم المختطف أصلاً
واستخدامه أداة لقمع كل من
يُجاهر برأي أو يحمل فكرة
عدائية ضد النظام.. من هنا يُمكن
التأكيد إنه لا بد من مواجهة
الاستبداد المقيت بجناحيه
السياسي والتربوي باعتباره
عائقاً أمام تبلور المجتمع
المدني الديمقراطي. فتأصيل
السلوك السياسي المدني الذي
يفترض أن الثوار السوريون
يناضلون من أجله، لا يمكن أن
يتعزز وينمو إلا في بيئة تتعزز
وتنمو فيها الدولة المدنية،
وهذا يعني أن السلوك التربوي
المدني لا يمكن هو الآخر أن
يتعزز وينمو إلا في بيئة مدرسية
مدنية تحتل فيها التربية على
حقوق الإنسان والمواطنة مكانة
متميزة.. إن أهم شعار رفعه الشعب
السوري أثناء الثورة هو احترام
الكرامة الإنسانية وعدم المساس
بحقوق الناس.. ومن أجل ذلك تقدم
الموت على المذلة والاستكانة
والخنوع.. لذلك لا بد وأن تمتد
الثورة إلى النظام التربوي
وكذلك النظام السياسي، بحيث
تتبوأ قيمة الكرامة الإنسانية
المكانة المركزية فيهما..
الكرامة الإنسانية التي تقتضي
أن نعامل الإنسان على أنه غاية
لذاته لا على أنه وسيلة لغيره
كما تتعامل معه سلطة الاستبداد
في سوريا الآن. د.
صابر جيدوري كلية
التربية - جامعة دمشق __________ المراجع: -
زكريا، فؤاد (1987). خطاب إلى
العقل العربي (كتاب العربي)،
العدد (17)، الكويت. -
عمار، حامد (2000). مواجهة
العولمة في التعليم والثقافة،
مكتبة الدار العربية للكتاب،
القاهرة. -
الكواكبي، عبد الرحمن (2006).
طبائع الاستبداد ومصارع
الاستعباد، بيروت، دار النفائس
للطباعة والنشر والتوزيع . -
وطفة ، علي (2011) التربية على
الاستبداد في العالم العربي: هل
يأتي زمن التربية على المواطنة
؟ مركز دمشق للدراسات النظرية
والحقوق المدنية. مسترجع من
موقع : http://www.mokarabat.com/s8533.htm -
وطفة، علي (2011). رأسمالية
المدرسة في عالم متغير: الوظيفة
الاستلابية للعنف الرمزي
والمناهج الخفية، اتحاد الكتاب
العرب، دمشق. ========================== الربيع
العربي صناعة شعبية عربية وليس
أميركية د.
قصي غريب مرت
سنة على حلول الربيع العربي على
الدول العربية وما زال يشكك بعض
الذين وقعوا تحت تأثير إغراء
نظرية المؤامرة من أن هذا
الربيع العربي - الذي أشعل
شرارته محمد البوعزيزي في تونس
بسبب الإحباطات المرتبطة
بالقمع السياسي والتردي
الإقتصادي وامتدت شرارته إلى
الدول العربية - هو صناعة شعبية
عربية بحتة، إنما يصرون بعقلية
متخلفة تعيش خارج العصر - حيث
تعتدي على حرمة كفاءة وقدرات
الفرد العربي وخياراته ورغبته
في التغيير نحو الأفضل - على أنه
صناعة أميركية بإمتياز؛ لإحياء
نظرية الفوضى الخلاقة في
المنطقة، وفرض تحول ديمقراطي
لخلق شرق أوسط جديد أميركي بدأ
التبشير له في عهد إدارة الرئيس
جورج دبليو بوش، في حين أن كل
المعطيات تشير وتؤكد على أن
الإدارة الأميركية الحالية -
وحتى مراكز البحوث والدراسات
الأميركية التي تزودها
بالأفكار والمشاريع والتي لها
تأثير مباشر وغير مباشر على صنع
القرار - قد تفاجأت بحلول الربيع
العربي، ولم يكن لديها القدرة
على توقعه بهذه السرعة
والإتساع، خاصة أن الحاكم
العربي المستبد الذي يأخذ شرعية
نظامه من رضا واشنطن وليس من
صناديق الإنتخاب باعتراف وزيرة
الخارجية الأميركية السابقة
كونداليزا رايس التي قالت : "
إن أميركا وعلى مدى ستين عاماً
سعت إلى تحقيق الإستقرار في
الشرق الأوسط على حساب
الديمقراطية ". قد نقل
عن طريق أجهزته الأمنية للإدراة
الأميركية الحالية وللإدارات
السابقة وأخبرها أن الشعوب
العربية الساكنة بين الماء
والماء والماء والصحراء قد دجنت
وتحولت إلى ( قطيع ) يسهل هشه
بالاتجاه الذي يريد؛ ومن ثم فإن
لديه القدرة على ضبط إيقاع حركة
هذا القطيع بعيداً عن أي تغيرات
أو تحولات، ولكن نتيجة لهذه
المباغتة من المتغيرات
والتحولات السريعة غير
المتوقعة التي قام بها الشعب
العربي المعادي للسياسة
الأميركية ضد أنظمة إستبدادية
فاسدة حولت الحياة بكل جوانبها
إلى جحيم متحالفة وخاضعة
للولايات المتحدة التي ساندتها
ووقفت إلى جانبها على حساب
شعاراتها عن الديمقراطية
والحرية واحترام حقوق الإنسان
من أجل تأمين مصالحها ضد
متطلبات واحتياجات ورغبات
شعوبها في الحرية والكرامة
والحياة الأفضل، فقد كانت محل
اهتمام الجانب الأميركي الذي
وصفها بأنها : أحداث بركانية
وزلزال سياسي تلاه تسونامي
ورياح تغيير تحولت إلى إعصار
وكان هناك، اتفاق على أن ما يحصل
في الساحة العربية من متغيرات
وتحولات سياسية زلزالية فيها
الكثير من المجهول والسوداوية
والإحباط وعدم التأكد والكابوس
والمخاطر على الولايات
المتحدة؛ إلا أنه يجب التكيف
معها ومحاولة ركوب الموجة
والتحكم في هذا التغيير. وقد
كان من أثر الصدمة المباغتة
التي خلفتها المتغيرات
والتحولات التي تحصل في الساحة
العربية على الجانب الأميركي أن
وزيرة الخارجية الأميركية
هيلاري كلينتون قد قيمت ما حصل
من متغيرات وتحولات في المنطقة
العربية بشكل متشائل - جمعت بين
التشائم والتفائل - وكان لديها
أن التغيير الذي حصل هو لحظة
مجهولة ولكنه في الوقت نفسه من
الممكن أن يكون فرصة فقالت : "
إن الشرق الأوسط يمر بمرحلة
تغيير سريعة جداً إنها لحظة
فيها الكثير من المجهول ولكن
أيضاً تشكل فرصة ". في حين
وصف نائب وزير الخارجية الأسبق
نيكولاس بيرنز ما تشهده المنطقة
العربية من متغيرات على أنه :
زلزال كبير؛ وأنه الأهم منذ
سقوط الإمبراطورية العثمانية
بعد الحرب العالمية الأولى،
ونصح إدارة الرئيس باراك أوباما
بأن تعيد حساباتها بصورة كاملة
بما يتكيف مع المتغيرات الجارية. كما أن
مستشار الأمن القومي الأميركي
توم دونيلون قد أكد على أن
الإدارة الأميركية تأخذ بعين
الإعتبار إستراتيجياً
المتغيرات والتحولات الجديدة
التي تحصل في الساحة العربية
والتي من الممكن أن تؤدي الى خلق
أوضاع جديدة فقال : " إن
الإدارة تقدر السياق
الإستراتيجي للموقف الحالي حتى
لو أدت الأحداث اليومية إلى
دائرة جديدة ". في حين
أن المدير التنفيذي لمعهد
واشنطن لسياسة الشرق الأدنى
روبرت ساتلوف قال : " على
الرغم من أن الربيع العربي قد
قدم فرصة لنهضة أشكال أخرى
متنوعة من الإسلاموية التي ربما
تكون أخف من أسلوب أسامة بن
لادن؛ لكنها ما تزال غير
ليبرالية ومعادية للغرب
ومهادية لأميركا، ومن المستبعد
أن يكرس الرئيس الأميركي منبره
للتحذير من الجانب الأسود لهذه
اللحظة الراهنة ... ولو أراد أن
يقول شيئاً جاداً فلن يستطيع
تجنب التنقيب في التعقيدات
الرمادية، والتناقضات المحبطة،
والضرورات الملحة للحظة
الراهنة، وتحديداً لكي ينجح
الخطاب فإنه يجب أن يضع
الولايات المتحدة في صف أكثر
الجوانب إيجابية في الثورات
العربية ضد الإستبداد، وأن يعكس
التوازن بين الأمل والخوف
المثار في أجزاء متساوية من
التغيير السياسي الزلزالي، وأن
يشير إلى الدعم الأميركي لعملية
الاختيار الديمقراطي "،
وطالب الرئيس الأميركي باراك
أوباما ببلورة رؤية متماسكة
للمصالح الأميركية في هذا العهد
الجديد غير المؤكد، وكذلك بلورة
إستراتيجية توافق تلك المصالح
وخاصة بعد أن أثر التغيير على
القائمة الرئيسة للأولويات
الإقليمية الأميركية. كما
وصف ساتلوف التغيير الذي حصل في
مصر بالكابوس على الولايات
المتحدة فقال : " الوضع السائد
في مصر ليس سوى كابوس من وجهة
النظر الأميركية ". وبشهادة
أدلى بها مدير مشروع فكرة في
معهد واشنطن لسياسة الشرق
الأدنى جيه سكوت كاربنتر قبالة
لجنة الشؤون الخارجية في مجلس
النواب الأميركي حول التحولات
السياسية التي تجري في المنطقة
العربية قال : " إن ركوب
الموجة الحالية لن يكون سهلا،ً
ويتطلب إبداعاً وموارد وقدرة
على اقناع حلفاء قلقين بأنه
يتعين التحكم في التغيير، وليس
إيقافه أو التراجع عنه "،
وأضاف قائلاً : " إن الإحباطات
المرتبطة بغياب الكرامة
الإنسانية والرغبة في التغيير
أشعلت الربيع العربي وقد أدت
تلك الشرارة إلى إندلاع الثورات
الشعبية التي نشهدها اليوم، ولم
يكن لهذه الثورات الشعبية أي
علاقة بالولايات المتحدة ... إن
الثورات التي حدثت والتي لا
تزال تحدث تخلق فرصاً جديدة
للولايات المتحدة لكنها تحمل في
طياتها مخاطر أيضاً ". أما
رئيسة تحرير مجلة فورين بوليسي
سوزان غلاسر فقد حذرت من ما حصل
في الساحة العربية من متغيرات
وتحولات أطاحت بالرؤوس الكبيرة
وقالت : " ينبغي أن يكون 2011
بمثابة مذكر بأن توقعات السياسة
الخارجية يمكن أن تكون غير
دقيقة بشكل كبير، فالفكرة بأنه
سيتم الإطاحة بثلاثة رؤوساء في
الشرق الأوسط، وأن العديد غيرهم
سيكونون على وشك الإنهيار كانت
ستبدو قبل عام فقط فكرة سخيفة
". وكانت
أثار الصدمة المباغتة قد ظهرت
بشكل واضح على الإدارة
الأميركية من خلال رد فعلها غير
المتزن في التعامل مع هذه
المتغيرات والتحولات العميقة
التي تحصل في الساحة العربية،
والتي تفاجأت بها ولم تكن في
حساباتها، فقد كان هناك تباين
ظاهر في السياسة الخارجية
الأميركية تجاه الربيع العربي؛
مثل دعوة حسني مبارك للرحيل عن
الحكم بعد أيام فقط من
المظاهرات الاحتجاجية في مصر،
وتردد واضح في التعامل مع
الحالة الليبية من خلال عدم
الرغبة في قيادة الجهد الدولي،
والدعوة إلى الحوار في الحالة
اليمنية، في حين رفضت الإدارة
الأميركية توجيه الإنتقاد إلى
بشار الأسد على الرغم من مرور
أسابيع على الإحتجاجات في سورية
وقمع قوات النظام لها بقسوة، بل
إن وزيرة الخارجية هيلاري
كلينتون كانت ترى في بشار الأسد
رجل إصلاحي ومن ثم يمكنه أن يقود
إنتقالاً حقيقياً إلى
الديمقراطية، ولكن زخم
الإنتفاضة الشعبية السورية ضد
النظام الإستبدادي الطائفي
والمطالبة بإسقاطه وقمعه لها
بإرتكاب جرائم ضد الإنسانية قد
أجبرت الإدارة الأميركية على
رفع سقف إيقاع موقفها السياسي،
وآخر ما وصل إليه الموقف
الأميركي المتردد هو تأكيد
الرئيس باراك أوباما على أن
أيام النظام في سورية قد أصبحت
معدودة، وأن نظام الأسد سيكتشف
قريباً بأنه لايمكن مقاومة قوة
التغيير ولا يمكن سحق كرامة
الإنسان. ولذلك
- من أجل إبقاء التأثير الأميركي
يبلي بلاءً حسناً في تطور
المتغيرات والتحولات بالمنطقة
العربية - عرض بعض المفكرين
والمحللين الأميركيين عدداً من
التوصيات التي ينبغي أن توجه
السياسة الخارجية الأميركية في
الفترة المقبلة التي لا يمكن
التنبؤ بها والتي يجب على
الإدارة الأميركية مراعاتها
والأخذ بها وفي مقدمتها : - أن
تقف الولايات المتحدة إلى جانب
كل المطالبين بالحرية في أي
مكان في العالم وعليها أن تتوقف
عن مساندة ودعم الأنظمة العربية
الإستبدادية التي لا يفهم
قادتها المثل والقيم
الأميركية، وكذلك التوقف عن
الإعتداء على حرمة ذكاء الشعوب
العربية التي تعي وتدرك
الإزدواجية التي تمارسها
الإدارات الأميركية في توظيف
وإستخدام شعارات الديمقراطية
وإحترام حقوق الإنسان تبعاً
لمصالحها خاصة، وأن هذه السياسة
الإنتهازية قد أسهمت في تراجع
واحترام مكانة الولايات
المتحدة في العالم. -
ينبغي على الإدارة الأميركية
إحترام الثورات العربية
والديمقراطيات العربية الجديدة
وليس الخوف منها من خلال
الإعتراف بالنتائج الديمقراطية
لها ومغادرة العقلية القديمة
التي تتهم المعارضين للسياسة
الأميركية بالمتشددين وخلق
التحالفات معهم ودعم الحكومات
التي تستجيب لمتطلبات شعوبها. - دعم
الولايات المتحدة حقوق الإنسان
والعدالة وسيادة القانون
والوقوف ضد الحكومات
الإستبدادية التي لا تحترم هذه
المبادئ. -
ضرورة تهيئة التغيير
الديمقراطي للدول التي تتوافر
فيها ظروف التغيير ويجب ألا
تعتمد الإدارة الأميركية على
إنموذج واحد يصلح للتعامل مع
جميع الدول العربية من خلال أن
السياق المحلي في كل دولة هو
العامل المهيمن الذي يحدد
إستقرار أو عدم إستقرار نظام
معين فوضع كل دولة يختلف تماماً
عن وضع الدولة التي تعقبها. وبناءاً
عليه وبما أن واشنطن ترى أن
مصالحها الإستراتيجية في الوطن
العربي قد أصبحت في خطر نتيجة
سقوط الأنظمة التي تعتمد عليها
فهي تحاول اقتناص الفرصة من
خلال حرصها على أن يكون لها دور
في إدارة الربيع العربي عبر
التدخل في تحديد نتائجه وهوية
أنظمة الحكم المستقبلية في
دوله، ولذلك فهي تعمل من أجل أن
تكون الأنظمة البديلة وبعض
قياداتها تتوافق بصورة عامة مع
القيم الأميركية وغير بعيدة
عنها، ولهذا بالتأكيد تضع خطط
الإختراق بالإتجاه الذي ترغب
فيه، ولكن بمقدورها أن تتدخل في
عملية توجيه التطورات السياسية
الداخلية والحراك السياسي إلا
أن مستقبل دول الربيع العربي
يعتمد في نهاية المطاف وبدرجة
كبيرة على الآليات الداخلية لكل
دولة، ووعي نخبها السياسية
الوطنية الصادقة بمصالحها
الوطنية، وإدراك مصالح
الولايات المتحدة وغيرها؛
فالأمر كله يعود إلى إرادة شعوب
هذه الدول لا على القوى
الخارجية في صياغة أهدافها
وتحديد مستقبلها السياسي
والإقتصادي والإجتماعي. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |