ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
بعد
سبعة عشر شهراً من الثورة
المباركة في سورية عبد
اللطيف الخياط في
الستة أشهر الأولى كنا من أسعد
الناس بالثورة السورية. كنا نرى
شيئاً لم تعرفه سورية في
تاريخها، حتى إنني سميتها في
مكان آخر "أعظم ثورة في تاريخ
سورية". كنا نرى كيف يهزم
الإنسان العادي بصدره العاري
النار والحديد، كنا نرى الإنسان
العادي: قويّاً أو ضعيفاً،
امرأة أو رجلاً، صغيراً أو
شابّاً أو عجوزاً،
كيف يخرجون وينادون بأنهم
بشر، لهم قيمة البشر، لهم حقوق
الناس والحرية والكرامة
والعدالة التي يستحقّها
الإنسان لمجرّد أنّه إنسان.
رأيناهم وهم يهزمون آلة القتل
الرهيبة، رأيناهم كيف لا يستطيع
جبار ولا طاغية أن ينزع منهم
حقوقهم، نادوا بأنّ حقوقهم في
الحريّة والعدالة والكرامة
أعزّ عليهم من حياتهم: الموت ولا
المذلة، ونادوا بأنهم أهل سلام:
سلمية سلمية، ونادوا بأنهم يكفي
أنهم سوريون، لا يريدون حقوقاً
فوق هذا الحق، نادوا بأنهم يد
واحدة على من يريد سلب
إنسانيتهم. وأن من يرى لنفسه
حقاً فوق حق البشر، وأنه خالد
باقٍ في كرسيه واهم، فلا أحد
باقٍ للأبد إلا الله. نادوا
بأنهم لا يركعون إلا لله. وردّ
الظالم بألوان من الفظاعة لم
يتخيل أحد أنها ستحدث، لم
يتصّور أحد أن يعامل إنسان
إنساناً كما حدث في سورية. ردّ
الظالم ورجاله بالرصاص
والتعذيب والقتل والاعتداء على
الأطفال والنساء والبيوت
والحرمات، وسجن وقتل زيداً
انتقاماً من عبيد. أخرج أبشع ما
عنده، وما كان يخفيه. ظهرت أسلحة
ما استخدمها أبداً ضد الصهيوني
المغتصب. ظهر أنّه عدو للناس
أكثر من نتنياهو. ظهر أنه عدو
سوريا الأول، وهو يجلس كحاكم
لها، وحوله أناس مثله أو أكثر
إجراماً. ولكنه كان يتعجب من هذا
الشعب الذي ظهر أنّه أبو
الأعاجيب. كلما كان السوريون
يتلقون الفظائع تزداد عزيمتهم
وإصرارهم. ظهر صدقهم في أن
الحرية أغلى من الحياة عندهم.
وكانوا يفوزون في كلّ مرّة،
يفوزون بأن يهتزّ الظالم ولا
ينال من هدفه في إخماد الثورة
شيئاً. كان إجرامه وبشطه مثل صبّ
الزيت على النار.
كان
انتصاراً من نوع عجيب. انتصار
الإنسان في صياحه أو صمته
أحياناً، انتصار الأعداد الحرة
على الحديد والنار وكل آلات
الدمار. انتصار الحنجرة على
الدبابة. انتصار ابراهيم قاشوش
على جبار سورية ومن حوله. ما كان
السوريون قد ذاقوا نشوة مثل هذا
النصر في أي عصر من عصورهم. نحن
كأكثر الأمم كنا نؤمن بأن
الحديد يقابله الحديد، والنار
تقابلها النار، والقوة والفتك
يقابله القوة والفتك، وأنك
تقابل العدوان بالعدوان
والباقي أظلم. ولكنّ السوريّين
فازوا لمدة نصف عام بنصر من نوع
جديد، لم نكن نتصّور هذه القوّة
الهائلة في الكلام الصادق وفي
الوقوف أمام الظالم لتقول له قف
يا ظالم، لست مالكاً لنا ولا
سيّد الموقف، لست أعظم من الأمة
ولا صاحب الكلمة الأخيرة.
وفعلاً تزلزلت كلّ أركان النظام
وتهاوت معنوياته، وصار يضرب
كالمجنون. ثمّ
لما طال الأمر ظنّ بعض الناس أنّ
السلام لا يمكن أن يصنع النصر.
فبدؤوا ينتقلون إلى السلاح.
وظهر الجيش الحرَ، قليلاً
ضعيفاً في البداية كأي مولود،
ثم صار قويّاً كبيراً، وينضمّ
إليه من الشرفاء كلَ يوم، ومن كل
الرتب والقدرات، بعضهم ممن
انشقوا عن الجيش وبعضهم من
أفراد الشعب. واليوم بدأت ترجح
الكفّة للشعب على حساب الظالم
الطاغية، ولم يعد يحرز إلا
تدميراً وقتلاً وتنكيلاً. أمّا
النصر فهو يبتعد عن ساحة
الطاغية كلّ يوم. نحن نرى الجيش
الحرّ وهو سائر إلى النصر لأننا
نثق بالله تعالى أولاً، ولأنّ
كلّ الدلائل الأرضية المادية
تثبت أنهم يدافعون عن الحق
والآخرون مهزومون من الداخل،
فأكثر الجيش السوري النظامي
مغلوب على أمره، يقاتل عن قضية
خاسرة، لا يريد حرب أبناء
جلدته، ولا الثورة تريد قتل
الجيش السوري. ولكنه أمر فرضته
أقلية قليلة، بطرق إبليسية،
بطرق بدأت تتهاوى ويظهر أنها لا
تقوم على أساس إلا الوهم
والخداع. ولذلك صرنا نرى هزيمة
الجبار أمام أعيينا، وكل يوم
تقترب بشائر النصر مسافة طيبة.
ولكن كما إن الساعات الأخيرة
قبل الولادة هي أشد الساعات
ألماً وكما أنّ أحلك الساعات هي
الساعة السابقة للفجر، فكذلك في
ولادة هذا النصر تكون الساعات
الأخيرة قبل حدوث النصر أشد
الساعات ألماً، وفعلاً صارت
الفواجع أكبر من أي وقت مضى من
عمر هذه الثورة المباركة.
ولكنها تبشر بنصر مبين إن شاء
الله. ويتساءل
المرء في خضم هذه المسيرة نحو
النصر هل ضاعت تلك الأصوات التي
كانت تفتت النظام بمجرد التعبير
باللسان واللوحات والكتابة على
الجدران؟ هل فقدنا الإيمان
بأننا حققنا ألف انتصار على
الظالم قبل أن نرفع بندقية
واحدة؟ كان يمكن في الحقيقة أن
نمضي في ذلك الطريق حتى سقوط
النظام، وكانت بشائر النصر عن
طريق الثورة السلمية تزداد
يوماً بعد يوم. ولكن السلاح أوضح
لعيون الناس، وأثره تراه كل
الطبقات، فاختاروا هذا الطريق،
وسوف يحققون النصر إن شاء الله،
وهو نصر قريب بإذن
الله، لا نرتاب في ذلك.
ولكنني سأتألم أكبر الألم إذا
فقد السوريون ذكرى ما حققوه في
الشهور الستة أو السبعة الأولى.
إنه نصر لا يقل روعة عن روعة
النصر بالسلاح، بل هو أروع. وهو
نصر ينتهي بإسقاط النظام دون أن
نريق قطرة دم خاطئة أو أن نهاجم
إنساناً يتبين من بعد أنّه بريء.
إنه طريق عظيم يغير معنى القوة.
وأي شيء أعظم من أن ترى الأمة
المجردة من السلاح وترى كل
إنسان، حتى لو كان صغيراً او
ضعيفاً أقوى من كل سلاح الدنيا
ما دام صاحبه مصراً على المضي في
طلب الحرية والكرامة والعدالة. أنا
أعلم أنني لا أمثل إلا حفنة من
الرجال والنساء الذين يرون هذه
القوة العظمى للمقاومة
السلمية، ولكن واجبي أن أكتب
هذا حتى ينظر فيه يوماً ما من
يعود إلى تاريخ الثورة السورية.
لأنني أريد أن يدرك الناس كم
قوّة الثورة السلمية. ومما
يسعدني إلى اليوم ونحن في أواسط
شهر آب 2012 أن مئات الألوف من
السوريين لا يزالون يخرجون كلّ
يوم بمظاهراتهم وإضرابهم
وانشقاقهم. وهو ما يدعوني إلى
التفاؤل أنّ هذا الإحساس لدى
الإنسان بقوته على الصمود
والاستمرار ولو بدون سلاح لا
يزال باقياً، وأن من ولدت عنده
الحرية فلا يملك أحد في الدنيا
إخمادها. وأن الحرية ليست في
السلاح، بل تظهر عند من لا يملك
السلاح أكثر مما تظهر عند من
يملك السلاح. *
*
* والنقطة
الأخرى هي أن أحد الشباب في
العائلة سألني هل إذا صار الأمر
بيدنا نترك الناس على قناعاتهم،
من يريد الدين ومن لا يريد
الدين؟ هل نترك من يريد أن يدفع
الزكاة ومن لا يريد فلا يدفع
الزكاة، وهل نترك من يريد أن
يستثمر أمواله بالربا ومن لا
يريد، ونترك النساء من تريد
الحجاب ومن لا تريد؟ هل نتسامح
مع الصغائر والكبائر؟ وهل يجوز
لنا أن لا نقيم شرع الله؟ فقلت
له: يا بني عليك أولاً أنت أن
تقيم شرع الله في نفسك وفي أهلك
ومن هم تحت أمرك. هذا أولاً. ولكن
من أجل التعامل مع بقية الناس
نحتاج لغة نتفاهم عليها جميعاً،
لغة تغنينا أن نجبر الآخر على ما
نعتقد أنه الصواب والحق،
وتغنينا عن أن نلجأ إلى القوة
والعنف. فكم من ألوف المرات في
تاريخنا الإسلامي أجبر من يملك
القوة غيره على ما يريد لمجرّد
أنه أقوى منه. وقلت له: ألا تلاحظ
يا بني أنه حتى لما جاء عمر بن
عبد العزيز وجد ألف قضية منحرفة
عن دين الله، فلم يقومها دفعة
واحدة. وكان له ابن متحمّس، وكان
هذا الابن لا يقبل تأجيل شيء،
وعمر بن عبد العزيز يقول له: لا
مهرب لي من أن أسير بحسب ما
تتيحه الظروف حتى أقوّم
الانحراف وأعيد الحق إلى نصابه.
وقلت لهذا الشاب: يا بني أنا
أعرف سلفيين من أكثر من فريق،
يرى بعضهم البعض الآخر منحرفاً
جداً، مع أنّهم كلّهم سلفيون،
فلو تركنا طرفاً يتحكم في طرف
لأساء لصورة الإسلام أيما إساءة.
فهؤلاء سلفيون يفترض أنهم في صف
واحد، وفيما بينهم خلافات غير
قليلة، وبعضهم يرى الفروق
الصغيرة كأنها جبالٌ ضخمة، فما
بالك ببقية المذاهب والتوجهات
الإسلاميّة، ما بالك بالسلفي
والمذهبي، وما بالك بالسلفي
والصوفي؟ وما بالك بالإخوان في
كل فرقهم وتنوعهم؟ أي من هؤلاء
نقول له: حكمك نافذ على الجميع.
ثم إن السوريين منهم من يريد
ديناً محافظاً شديداً، ومنهم من
يريد ديناً منفتحاً، أو دينا
ليبرالياً بمعاني حديثة. ومنهم
من يريد ليبرالية لا يدخل فيها
الدين، ومنهم من يريد
العلمانية، ومنهم من هو غير
مسلم. وربما أكثر السوريين لا
يتحمّل كل
هذه الفلسفات، بل يريد حياة
طيبة تيسر فيها الخدمات ويتحقق
فيها الأمان وراحة المواطن. لذلك
يا بني لا بدّ من لغة نتفاهم من
خلالها، لغة تسع كلّ إنسان مهما
كان توجهه. لا نريد أن نقفز إلى
الإجبار والقسر والعنف. نريد
مجالس يجلس فيها من يمثلون
الأمة ليسنوا القوانين
والقرارات، يكون الناس فيها
متساوين. ويكون مثلي ومثلك ممن
يريد أن يتحقّق دين الله صوتاً
طيباً للحقّ. هل تريد ألا يظهر
في الناس مفطر في رمضان؟ هل تريد
أن تكون المعاملات المصرفية
خالية من الربا؟ هل تريد حدوداً
معقولة من الأدب في لباس
المرأة؟ حسناً، طلبك طيب وحقّ
ولا بأس بما تقول. طبق هذا على
نفسك، وطبقه على من تملك حق
الأمر عليه، وطالب بهذا من خلال
المجالس التي تحكم البلاد، ومن
خلال الإعلام، ومن خلال أنواع
التعبير السلمي. ولا تسء الظن
بالسوريين أنهم سوف يختارون ما
هو بعيد عن الإسلام. هذا غير
صحيح. سوف يكون الإسلام هو الصوت
الأقوى على الدوام، وسوف ترى
كثيراً من أمور الحق تفوز في
المجالس. لا تأمل طبعاً أن ترى
كل ما تريده يطبق، ولكن المسحة
العامة والتوجه العام للمجتمع
السوري قريب من الإسلام، وسوف
لا يقبل طريقاً معاكساً للإسلام.
وإذا أطلقت حرية كل التوجهات
فما هو هذا التوجه الذي هو أقوى
من الإسلام؟ فهل
تسمي هذه اللغة المشتركة
للتفاهم ديمقراطية، أم تعددية.
حسناً أترك لك اختيار الكلمة
المناسبة. ولكن لا خيار لنا إلا
إما هذه اللغة المشتركة أو طريق
الإجبار الذي كان عليه
السلاطين، والذي آمن به بشار
وأمثاله. وقلت
للشاب: لاحظ يا بني كيف أنّ
الأمم كثيراً ما تصل إلى
تشريعات صالحة ليس باسم الدين،
ولكن لأن ما هو خير وصالح للأمم
لا بدّ أن يتوافق مع الإسلام.
ألا تلاحظ الأمم الواعية تصدر
قوانين تحرّم الخمر أحياناً (حصل
في أمريكا لمدة حوالي أحد عشر
عاماً بين الحربين العالميتين)،
وشبه تحريم كامل للتدخين،
ويتوجه الفرنسيون وهم أشهر
الأمم في إنتاج المسكرات
للامتناع عن المسكرات. فلماذا
لا نستفيد من ونطالب بقوانين
تفرض الخير وتمنع ما هو ضار،
فسنجد هذه القوانين هي ما يأمر
به الإسلام. وقد
لاحظت الآن في هذه الفترة، فترة
ما قبل فوز الثورة أن السوريين
حينما يريدون تشكيل مجلس أو
اختيار شعار فهم لا يقبلون أن
يفرض عليهم أحد رأيه، بل يحيلون
الأمر على الاقتراع. هذا ما يحصل
في المجالس التي رأيتها، وهي في
الغالب مجالس متدينة. فهل مؤشر
على نوع حياة المستقبل إن شاء
الله. ------------------------- المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |