آباؤنا وإخواننا وأبناؤنا المفقودون

كيف نحررهم

زهير سالم*

اتصلت بي ذات صباح، عبر الهاتف، قالت أنا فلانة، قرأت اسم أخي في قائمة المفقودين المنشورة على موقعكم. تذكرون أنه انقطعت أخباره. حاولت أن أستعيد الاسم، وأن أتبين الشخصية عبر قائمة تضم آلاف المفقودين هي بعض الأسماء التي استطاع مركزنا المتواضع الوصول إليها. قالت أخي مهندس، متزوج ترك يوم دخل السجن سنة 1980 ولداً وبنتاً، لكن الذي أريد أن أذكرك به، أن أخي لم تنقطع أخباره في السجن، قلت متلهفاً على معلومة: هل لديك عنه خبر جديد. قالت بتلقائية بريئة، نعم لقد زرناه عام 1984، للتوثيق التاريخي أذكر أن هذه المكالمة الهاتفية تمت في شهر أيار 2007 أي بعد ثلاثة وعشرين عاماً لتاريخ آخر زيارة تتعلق بها أخت الفقيد.

قلت: يا بنتي ألا تعتقدين أن ثلاثة وعشرين عاماً زمن طويل. قالت ماذا تقصد؟! هل تقصد أنهم قتلوه، هل تقصد أن أخي مات، أمي مازالت تنتظر، زوجته مازالت تنتظر، ابنه وابنته مازالا ينتظران، أنا مازلت أنتظر، كانت كلماتها تختلط بنشيج حاد وبكاء محروق. وجدت نفسي في غاية الحرج، وقد وضعت مكان (الناعي)، وكأن الثلاثة والعشرين عاماً لم تكن كافية لإقناع أسرة بأكملها أن وراء الأكمة قعر مظلمة هو المقبرة الجماعية التي احتوت أجساد عشرات الآلاف من الأحباب.

أضافت وسط النحيب والدموع: ساعدني ماذا أفعل؟

لم أكن ساعتها في وضع يسمح لي بتقديم أي مساعدة، بل كنت أنا نفسي بحاجة إلى المساعدة.. ولكن كلماتها المختلطة بالدمع والحرقة والألم ماتزال ترن في أذني: ساعدني ماذا أفعل؟

ومازلت أدور السؤال بحثاً عن جواب منذ ذلك اليوم، أولو الأرحام (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ماذا يفعلون ليكشفوا عن مصير أبنائهم، وليحرروا الذكرى، وليجمعوا شتات الرفات المرتهن في قبر يليق بإنسانية الإنسان؟!

وماذا يفعل إخوة الدين والعقيدة والدرب، ماذا يفعل الذي ينتظر وفاء للذي قضى ومضى ثابتاً على الطريق باسم الثغر وضاء الجبين؟!

ومازلت أطرح السؤال على الكثيرين، أحاول استفزاز البعض أو إثارة الحمية لدى الآخرين. أخذت جانب الفتاة المتصلة لأقول: ساعدونا ماذا نفعل؟ وإلى متى يظل الفارس الأنيق بأناقته وبهائه معلقاً كابن الزبير على شجرة الحجاج؟!

وأول ما أذكر (أسماء ذات النطاقين) تقف بكبريائها وعزتها أمام طاغوت الحجاج، تقف لترفع صوتها بكل القوة وكل الثقة: أما آن لهذا الفارس أن يترجل.

أول الفعل إذاً، أن يرتفع صوت أولي الأرحام صوت أسماء وأخواتها، أن تخرج الأمهات والزوجات والأخوات والبنات، وأن يطفن في كل محافظة على كل صعيد، أن يتحلقن حول القصر، الذي يقال له القصر الجمهوري، ويطالبن بصوت واحد أن يترجل الفارس البهي الأنيق، ثم أن يخرج بعد النساء والآباء والإخوة والأعمام والأخوال وأبناء العمومة والخؤولة وأبناء الحي والعشيرة والمحلة، وأن يسألوا جميعاً بصوت واحد عن مصير (البهي الوضيء) أن يطالبوا بالكشف عن مصير الفارس، وفك وثائق الرفات المعتقل، أو الحياة المتآكلة وراء الزنازين الرطبة إن بقي في الزنازين الرطبة حياة.

وعلى أولئك وهؤلاء، أن يدركوا أن زمن الخوف والتردد قد ولى، وأن صوتهم اليوم سيكون هو المرهوب وهو المسموع. وإلى جانب التحرك الجماعي، ينبغي أن يكون هناك تحرك فردي طلبات فردية للحق بالاتصال والرؤية والزيارة عبر المنظمات الإنسانية ذات الصلة في الداخل والخارج. الاتصال المباشر بالأجهزة الأمنية، ارفعوا هيبة الغيلان وأقنعتهم عن مسميات هذه الأجهزة، أطرقوا الأبواب، واسألوا عن الأحباب وربما يكون ذلك أقل الوفاء.

أما إخوة العقيدة والدرب الطويل، فأحيل عليهم سؤال الأخت المسكينة، أحيل عليهم كلماتها المختلطة بالدمع والقرح، وأقول لهم في أيام الروح هذه.. وإن عجزنا عن كل شيء فلن نعجز عن اعتصامات مهيبة تحيط بسفارات الوطن في عواصم الأرض التي ننتشر فيها ولن يكون دون هذا العجز عجز.

ساعدوني ماذا أفعل، قالتها أخت المفقود، وأقولها من خلفها ولن تجدوا كلماتي إلا صدى متعثراً لتلك الأخت التي سألت ومازالت تنتظر الجواب، وأنا أيضاً معها أنتظر الجواب.

وأنتم.. أليس كذلك؟!                      

أليس فينا من يجيب؟!

---------------

*مدير مركز الشرق العربي  

  للاتصال بمدير المركز

00447792232826

zuhair@asharqalarabi.org.uk

07/10/2007

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ