ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
استرسالٌ
في حوارٍ كان.. وحوار يمكن أن
يكون.. ضمّني
منذ أشهر في إحدى مدن الغرب
لقاءٌ مع عزيز قادم من الوطن. لم
يكن اللقاء مقرراً، ولكنه كان
مقدرا. بعد تعارف ساقته
المقادير، صاح الشاب: (عمو أبو
الطيب) ليفتح سجلاً من حقك أن
تتساءل: هل يستعاد؟! لم يذكّرني
بنفسه، وإنما استحضرته طفلاً
رائعاً يفتح الباب كلما زرنا
والده الحبيب أحد طرفي النهار.
وقبل أن تمتدّ بيننا حبال
الكلام، أبحرتُ في عينيه إلى
وراء وراء.. حضر مجلسنا الحيّ
والباب وعتبة الدار والأريكة
والبسمة التي ما غابت للوجه
الوضيء، تتخيّله يتلوّى بين
مخلب وناب، وتسمعه وهو يهتف (الله
أكبر) وقد دهمه رصاص الجلادين
صبيحة السابع والعشرين من
حزيران.. ثم امتد بنا المقام
والمقال، تحدّث عن انقطاع
الأخبار بدون يأس من الانتظار،
جدته التي تقرأ القرآن وتقوم
الليل تؤكد، وكذلك والدته الأم
الصبور، أنه قريبا سيعود،
وستعود للصباحات بهجتها،
وللأماسي سكينتها. حدثني عن
إخوته وأخواته وعن المعاناة
وأبعادها، وكان
يخفي بعض رسائل العتب الرقيق في
ثنايا الحديث. في الغوص في
الواقع أكثر، وفي فتح آفاق
المستقبل، تبين من خلال عرض
المجريات والتصورات أنه أكثر من
قريب. ودار حديث طويل عن الواقع
بكل ما فيه. عُرضَتْ إشكالاتٌ
وطُرحَتْ تساؤلاتٌ حول
السياسات والمواقف والتحالفات..
كان المتحدث ناطقاً باسم جيل!!
جيل من أبناء المحنة بل من
رجالها.. فإلى
الرجال أبناء هذا الجيل.. هذا
الاسترسال في الحوار في كلام
كان، وكلام يمكن أن يكون:
إلى بقية الأحباب..
الأحباب الذين غابوا وهم في
الفؤاد حضور.. أحبتنا بقية الأحباب الذين
قضوا فمضوا.. وصل
العتاب الجميل فكان صداه في
نفوس إخوانكم أجمل، وكانت
دلالاته الحانية على الدرب،
المتخوفة عليه أوضح ما فيه
وأعدل. رسالتنا هذه ليست
جواباً، وإنما هي استرسال فيما
أفضتم فيه، فما شرحتم حق من حقه
الإمعان، لتفصيل بعض ما أوجزتم،
وبيان بعض ما أجملتم. أحبتنا.. أول أمرنا وآخره
عهد قطعناه ومَن قضى ومضى،
نقطعه اليومَ معكم، لتقطعوه مع
من يليكم: (من المؤمنين رجال
صدقوا ما عاهدوا الله عليه،
فمنهم من قضى نحبه ومنهم من
ينتظر، وما بدلوا تبديلاً).
بيعةٌ ماضية، ربح بيعها، فلا
نقيل ولا نستقيل. وما هي إلا
أيامٌ قليلة قريبة، إن شاء
الله، حتى تصيرَ الراية التي
ظلت مرفوعة وإن خضبت، إلى
سواعدكم الواثقة، لتأخذوها
بيمين، وتستأنفوا بها مسيرة
استأنفها آباؤكم وإخوانكم،
حملاً بالسند الموصول إلى محمد
رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا
العهد بيننا هو بعض الدلالة، بل
رأس الدلالة التي اقتبسناها من
عتبكم الجميل، وإجمالكم
الموجز، وتساؤلاتكم ترسم أفق
اهتمام عام بأمر المسلمين
خاصتهم وعامتهم. فألقى كل ذلك
السكينة في قلوبنا، إلى أنّ
الراية ستجد دائماً السواعدَ
التي تحتضنها، وأن طريق الدعوة
إلى الله، سيظل موصولاً بكم
وبأمثالكم إن شاء الله. أحبتنا
أحبة الأحباب الذين قضوا
ومضوا.. الأحباب
الذين غُيّبوا فما غابوا، من
إخوة العقيدة الأوفياء، مضَوْا
شهداءَ مصطفَيْن أخياراً (ويتخذ
منكم شهداء) ليكون عبء الانتظار
من بعد، وتبعاته، وأمانته على
الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم،
على حين انفضاض من الخلق، وجفاء
من القريب، وكَلَب من العدو،
فحمل إخوانكم الذين ينتظرون،
الأمانةَ بما قدروا عليه،
ودافعوا عن الراية جهدَهم، فظلت
مرفوعةًً خفاقة، وثبتوا على
النهج فما غيّروا ولا بدّلوا،
ولا وهنوا ولا هانوا، لسان
حالهم ومقالهم دعاء سيدهم يومَ
أجمع الناس على خذلانه (اللهم
إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي
وهواني على الناس، أنت رب
المستضعفين وأنت ربي، إلى من
تكلني؟. إلى بعيد يتجهمني؟. أم
إلى قريب ملكته أمري؟. إن لم يكن
بك عليّ غضبٌ فلا أبالي، ولكن
عافيتك أوسع لي..). أحبتنا، أحبة الأحباب بقية
من قضى ومضى.. منذ
كانت المحنة، وامتدت يد الإثم
والغدر إلى جسدنا الحيّ تنهشه،
وتنتقص خيرَ ما فيه من أنجم زهر،
وسادة قادة، وجنود أوفياء بررة،
كانت بقية هؤلاء الأحباب، وما
خلّفوا وراءهم من أهل وذرية.
الحضور الذي لا يغيب، والأولوية
التي لا يتقدم عليها غير أصل
الأمر وركنه الركين، الدين
والعقيدة والمبدأ والثبات على
الطريق. ما تزال صور الأحباب
الحبيبة تترقرق عبر الطاهر
الشفاف، يعتصر القلوب وينهمر من
العيون، ما زالوا وما زلتم
الغيّب الحضور، وما يزال أمر
إخوانكم فيما يضطربون فيه، من
شأنهم وشأنكم: همّاً حاضراً،
وذكراً دائماً. يُذكَرُ الأحباب
الذين قضَوا فتُذكَرون،
وتُذكَرون فيذكَرُ من قضى ومضى،
لنكونَ: هم، وأنتم، ونحن،
ثلاثيةَ الحب والوفاء والثبات. أحبتنا أحبة الأحباب بقية
من قضى ومضى.. أما
العذاب والمعاناة والألم،
معاناة من قضى، ومعاناتكم، فلم
تكن لتغيب لحظة ليس عن العقول
فقط وإنما عن القلوب والنفوس،
لم تغب لحظة حقيقة تمكن مخلب
وناب من لحمنا الحيّ، ومن
أجسامكم الغضة ونفوسكم البرة
الطاهرة. لم تغب عنا تداعيات
حرمانكم من حنان ورعاية كان
منبعه صدور آبائكم، ولم تغب عنا
سياسات الرهق والضنك التي فرضها
عليكم من افتقد أبسط معايير
الانتماء الإنساني. لم يغب عنا
كل ذلك، ونعلم أن مجرد علمنا لم
يكن ليخفف عنكم، أما سكوتنا عنه
فلم يكن ليشفع لنا فيه إلا خوفنا
أن نزيد من معاناتكم. وقدرتنا
على المبادرة كان مضروباً عليها
بقيود مما تعلمون ومما لا
تعلمون. نعلم
أيّ ثمن دفعت طفولتكم، وأيّ
معاناة عانيتم أنتم والصالحات
القانتات من أمهاتكم وأخواتكم.
ونعلم أيّ ثمن دفعتم فتياناً
يافعين!! ونعلم أي ثمن تدفعون
وأنتم اليومَ بحمد الله شباب
مقتدرون، تدافعون عن نقاء راية
حملها من قبل آباؤكم. عذرنا في
كل ما سبق أننا حاولنا ولم نألُ،
وتتبّعنا فلم نحِطْ بمواقع
الحاجة، أو لم نصل إلى حيث يجب
أن نكون، في الوقت الذي يجب أن
نكون. وما أجملَ أن ندفع فنحتسب،
فكل مصيبة في جنب الله جلل،
وسيظلّ الاحتسابُ الموقفَ
الشرعيّ الأسمى الذي ينقّي قلوب
المؤمنين من غلّ ونقمة. وما
أجمل أن يدفعنا الدمع والدفع
إلى المدافعة، سنة الله الماضية
في خلقه (ولولا دفعُ الله الناسَ
بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع
وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم
الله كثيراً، ولينصرنّ الله من
ينصره، إن الله لقوي عزيز). أحبتنا
هو العذر أو الاعتذار، نرفعه
إقراراً ليعبر عليه حبنا وأسفنا
وإشفاقنا، ولتعلموا أن تقصيرنا
لم يكن عن غفلة، وإنما عن عجز عن
الإحاطة أو التواصل، وكم من
محاولة أعيقت، وكم من ثمن دفع
على طريق الوصول إليكم ، وكم
مرةً خطف المسعى عن الطريق!! أحبتنا بقية الأحباب الذين
قضوا ومضوا.. أما
الطريق، فما أجمل الحديث عنه
وما أروع؟! الطريق بمعالمه
وآفاقه، بغايته وأهدافه،
بثنياته ومنعرجاته، الطريق
الذي تتساءلون عنه، وتبدون بعض
ما تبدون من شأن محجته التي كانت
وستبقى بيضاء، ليلها كنهارها لا
يزيغ عنها إلا هالك. الطريق
هو محجّة محمد بن عبد الله صلى
الله عليه وسلم، التزمه وسار
عليه الراشدون من صحب وسلف
صالحين. طريق تتبدّى معالمه
بإنعام النظر، وإدراك المقصد،
وبالدوران مع الكتاب حيث دار. أدوات
الرؤية الأولية على الطريق
اللاحب المنير، فقهٌ عميقٌ
مستبصرٌ نافذ، يحيط بكليات
الشريعة، ويتوقف عند مقاصدها،
وإدراكٌ للواقع المتغير، بكل
معطياته ومتطلباته ومستجداته
ومتغيراته. منهجنا
في المقاصد والغايات والأهداف
صلبٌ صلابةَ الحديد، لا نغيّر
ولا نبدّل، ومنهجنا في الوسائل
والأدوات ناعمٌ نعومةَ الحرير،
نأخذ ونترك، نقدّم ونؤخّر. خطابنا،
نصوغ لكل مقام مقاله، ونخاطب كل
قوم بالأقرب إلى عقولهم
ونفوسهم، قال (هل من امبر امصيام
في امسفر) فأجاب الحبيب صلى الله
عليه وسلم (ليس من امبر امصيام
في امسفر). اللغة حاملٌ للأفكار
ومعبّر عن المقاصد، وهي الثوب
الذي يجمل الحقائق وييسّرها
ويسهّل على المخاطَب الإقبالَ
عليها. وهذا تفسير بعض ما يشكل
على البعض فيظن أنه قد كان ما لا
يمكن أن يكون!! أحبتنا.. نحن وأنتم ومن
مضى منا ومن بقي ومن سيأتي..
مرجعيتنا الثابتُ من كتاب الله
وسنة نبيه، وفهمٌ يؤتاه المرء،
يبنيه على استيعاب متكامل
للمعطيين الشرعيّ والواقعيّ.
ولنا ولكم في مناهج الفقهاء
وقواعدهم وتقريراتهم سبيل إلى
البصيرة وأيّ سبيل. وقد
أضفنا إلى كلّ ذلك في منهجنا،
مذاكرةً دائمةً وملتزمةً مع أهل
العلم والذكر، من رجال الفقه
والدعوة في عالمنا الإسلامي،
استيثاقاً واستشارة، واستقصاءً
لوجوه الحق، ونتخيّر بين خيارات
الشريعة الإسلامية وإتاحاتها
الأيسرَ والأقرب. أحبابنا بقية الأحباب الذين
قضوا ومضوا.. وحين
تدلهمّ الفتن، وتتكاثرُ
التحدّيات، يتقدّم فقه المصالح
والمفاسد، في احتمال الأدنى
ودفع الأكبر من المفاسد، أو في
تفويت الأدنى لتحقيق الأكبر من
المصالح. هذا الفقه المقرّر عند
علماء الأمة قاطبة، هو مستندنا
فيما نتخذ من مواقف، أو ننشئ من
علاقات، أو ننهج من سياسات.
وتقديرُ المصلحة والمفسدة بابٌ
من الفقه تختلف فيه الفهوم
وتتفاوت التقديرات، وبالتالي
تنشأ هنا وهناك بعضُ التباينات. ونحن
وأنتم وكل المهتمين بشأن
المسلمين في سورية العربية
المسلمة، في دائرة المراجعة
والحوار البنّاء، ولن يمنعنا
رأيٌ رأيناه، أو موقفٌ اتخذناه،
ثم بدا لنا خللُه، أن نراجعَ
أنفسنا فيه لنرجعَ إلى حقّ
سيبقى دائماً هو هدفنا وبغيتنا. أحبتنا بقية الأحباب الذين
قضوا ومضوا.. هذا
كلام كان يتردّد في النفس،
مشاعرَ وأفكاراً زمانا، حتى جاء
يومه، فعسى أن يكون فيه بعض عذر
وبعض عزاء، وعسى أن يكون عهداً
على المضيّ معاً على الطريق. --------------- *مدير
مركز الشرق العربي للاتصال بمدير المركز 00447792232826
09/04/2008
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |