ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس 11/06/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


الغلو والاستثمار في الغلو..

يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله

ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين..

زهير سالم*

الغلو ظاهرة إنسانية تغلب على بعض أصحاب العقائد والأفكار، فتكون في الفكر انغلاقا وفي الموقف ضيقا وحرجا. ففي العقائد لا يتجاوز الحق أصبع المشير إليه إذا أشار، وفي المواقف لا تعدو مساحته موضع قدميه. إن اُخذ بأمر من أمور الدين أو الدنيا سد عليه أمره هذا الآفاق. إن أحب أفرط وعمي عن كل نقص، وإن أبغض أبعد ونسب كل نقيصة وشر. وإن أُخذ بصيام صام الدهر، أو بقيام لم يذق طعم النوم، أو بجهاد لم ير الناس من حوله خلقت إلا لقائم السيف به يصول وبه يجول وبه يقول.

  ظاهرة في الأديان والمناهج والأفكار حمّلت الإنسانية الإصر، وابتدعت الرهبانية (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ). وألّهت البشر، واخترعت الأوهام لتسوس النفوس أو تطفئ فتستغفل العقول: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ...) والنداء لأهل الكتاب خصوص يراد به عموم، يشمل كل أهل كتاب من الغلاة الذين يضيقون الواسع، ويحرّجون السمح، ويعسرون اليسر، ويعتقدون أن كل من لم يمر من تحت إبطهم خارج عن الحق مفارق للصواب . وكأن الحقيقة لم تمنح نفسها لغيرهم، وكأن الصواب ولد معهم. إن تقل بقولهم فأنت أنت، وإلا فأنت الكافر بالدين، أو المنغلق في العقل والفكر، أو المارق الفاسق في الموقف.

ومن أبرز مظاهر الغلو تضييق على الذات، وضيق بالآخر، وتجاوز الحد في الحب والكره والإقدام والإحجام، والشدة على الناس في حملهم على رأي الذي يقول(مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ).

ويتجاوز الغلو ميادينه النفسية والعقلية وانعكاساته السلبية الفردية فيمتد لسان صاحبه ويده في عملية لتقويم الخلق على نحو ما يرى الغالي الجافي فتراه يصيح:

وكنت إذا ما غمزت قناة قوم     كسرت كعوبها أو تستقيما

 فكأن الله سبحانه قد عجز عن خلق الخلق كما يريد، أو حملهم على ما يريد فأوكل إلى هذا الغالي بضيقه وجفائه أن يعيد تسوية الخلق. وإلزامهم ما كان الخالق البارئ المصور سبحانه أقدر على إلزامهم به، وهو الذي يقول (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)

  وقد وقف أبو طاهر القرمطي من قبل على ظهر الكعبة بعد أن اقتلع الحجر الأسود وأعمل السيف في حجاج البيت وردم بئر زمزم بالأشلاء والدماء وقد رأى نفسه لله ندا ينادي

أنـا بالله وبالله أنـا     يخلق الخلق وأفنيهم أنا

وما زلنا نسمع هذا النداء على صوت الغلاة في كل زمان ومكان بأصوات ولهجات متعددة متباينة لاحصر لها، بعضها على لسان قادة دول، أو زعماء أحزاب وحركات، أو حملة أقلام ينفخون في كير الفتنة، أو في ضحايا المعمعة من صغار الأتباع وراء هذا الفريق أو ذاك.

تسأل الغالي وقد تجاوز غلو الكلمة ليخوض في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم خبط عشواء: كيف؟! فيجيب: نعجل بالمؤمنين إلى الجنة وبالكافرين إلى النار. وكأن الله لم يخلقهم ولم يمهلهم ولم يعلن عن ذاته، جلت ذاته، ربا للعالمين، وفي الربوبية ما فيها من معاني الرعاية والرحمة والإمداد.

والغلو مع أنه مشتق في بعض مظاهره من ضيق في العقل، واضطراب في النفس، وخلل في استقرار الكينونة الإنسانية بالالتزام بمقتضيات ( أحسن التقويم )، والتوازن بين الغرائز والنوازع، ومتطلبات الجسم والنفس والعقل والروح، والاضطراب السوي بين قابي قوس الخوف والرجاء؛ فإنه في بعض بواعثه الخفية منفذ للتعبير عن إرادة العلو في الأرض وفرض الاستتباع على الناس، والتسلل إلى ذلك بسلوك مداخل الفساد بما فيها من ظلم وتجاوز وبغي ومصادرة لإرادة الناس أو جرأة على سفك للدماء. بمعنى أن بعض مريدي العلو في الأرض والفساد يوظفون الغلو والغلاة في مشاريعهم الفردية، وكأنهم أمام مشروع استثمار رأسماله العبث بالعقول والقلوب، وهدر القيم وسفك الدماء.

 وللغلو مغذياته الفكرية والثقافية وله مؤسسوه وأدواته وله وجوهه وتجلياته العملية. وللبحث عن مبادي الغلو الأولية يمكننا أن نتلمسها فيمن يقول أجزم في مكان أظن وأعتقد، أو أن نتابعها على رؤوس أقلام أولئك الذين يدأبون على؛ تصغير الكبير، وتعظيم الحقير، وإغراق الكلي بالجزئي، وإحلال العرض محل الجوهر، وتضخيم الفروق، واستصغار الجوامع، والتعلق بالفروع، وتجاهل الأصول، والجري وراء بنيات الطرق، والإعراض عن الجادة، والتعلق بالذرائع، والإضراب عن اعتبار المقاصد، والميل إلى النبذ والتنفير، والانصراف عن الجذب والتبشير؛ فإذا كانت مهمة الداعية إدخال الناس في دين الله أفواجا فإن مهمة الغالي هي إخراج الناس من دين الله بالبحث عن المكفرات، والمكاثرة  في نواقض الإسلام ومبطلات الشهادة، وانتزاع الفتاوى من سياقاتها التاريخية وظروفها الزمانية المكانية لضرب أمة الإسلام بعضها ببعض، خداعا للعقول، واستمالة للنفوس، والتماسا للعلو في الأرض والفساد لا يبالي الغالي أي ظهر ركب وأي طريق سلك، بل وفي أي واد أهلك أوهلك، جرأة على المعصوم من القول أو الدم أو العرض مباشرة أو تسببا، يجلس أحدهم على فرع شجرة الإسلام والإيمان والإحسان ثم يُعمل معوله في أصلها بحمية أو بجهالة أو بغواية .

ولقد تركز الخطاب القرآني في مواطن كثيرة على حرب الغلو والغلاة في مداخلهم ومخارجهم. فأكد على الناس إرادة اليسر ورفع الحرج ووضع الإصر، وحض المؤمنين في جيل التنزيل على ترك كثرة السؤال إيثارا لبقاء دائرة العفو فضفاضة مفتوحة رحبة. فقص القرآن الكريم قصص الغلاة وضرب الأمثال بهم. وتابعت السنة النبوية التطبيق بمنهجية عملية، تيسر ولا تعسر، وتبشر ولا تنفر، فإذا اختلف الناس في فهم مدلول الأمر ( ...فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ) أجيز الفهمان. وإذا اضطرب الناس في التقديم والتأخير في بعض مناسك الحج قال (..افعل ولا حرج ). وإذا أخذت البعض الحمية على شارب الخمر لمعصيته فلعنه، قال: (لا تعينوا الشيطان على أخيكم ). وإذا نال الناس من عرض المرجوم على الزنى، قال: (إني لأرى دمه يفور في الجنة). وإذا سبق أحدهم إلى القتال، قبل أن يؤذن به، ولو بلحي بعير أي بعظم بعير، قال: ( لم أومر بقتال..)، وإذا فرط قائد بقتل امرأة من عرض الناس، قال:( ما كانت هذه لتقاتل). وإذا ضيقوا على أنفسهم بأداء حروف القرآن، قال) أنزل على سبعة أحرف كلها كاف شاف) وإذا أجهدوا أنفسهم برفع الصوت بالدعاء، قال: (أيها الناس اربعوا على أنفسكم )

وإذا قال أحدهم أصوم ولا أفطر، قال: (أصوم وأفطر) وإذا قال آخر أقوم ولا أنام، قال: ( أقوم وأنام ) وإذا قال ثالث لا أتزوج النساء، قال:( أتزوج النساء) وقال (النكاح سنتي). وقال (وفي بضع أحدكم له صدقة). فإذا عزم أحدهم أن يوصي بماله كله قال:( الثلث والثلث كثير). وإذا نهى ناه جاريتين كانتا تغنيان عنده في يوم عيد قال ( دعهما فإنهما في يوم عيد). وإذا تحدث عن حفل زفاف قال:( هلا أرسلتم من يقول: أتيناكم أتيناكم...فحيونا نحييكم). يلعب الحبشة في مسجده بالحراب، فيدني زوجه حتى تنظر، يسابقها مرة ومرة فتسبقه ويسبقها فيقول: هذه بتلك، يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم في مهنة أهله، يداعب الطفل ويحمله على عاتقه في الصلاة، وتستوقفه المرأة في الطريق فيقف لها، يؤثر ضيفه المخالف والصليب في عنقه بوسادته، ويصلي نصارى نجران في مسجده، ويكتب إلى قادة الأمم من حوله: عظيم الروم.. عظيم القبط عظيم الفرس. إن قدر عفا، وإن ملك جاد، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه. وكان ما يزال يؤكد على الرفق في كل شيء فيقول: (لم يكن الرفق في شيء إلا زانه ولم ينزع من شيء إلا شانه). (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله). إ(ن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق).(إياكم والغلو في الدين). أراد لحياة الناس أن تمضي صفوا رهوا على بصيرة من الله وبرهان. غاية رسالته الرحمة الوجودية للخلق أجمعين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) وقاعدة شريعته السماحة والعفو، (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )، وما نهى عنه من الكثير الطيب إلا الخبيث القليل (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ...) والأصل في الحل والحرمة (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).

وفيم تنحو الشريعة السمحة إلى إطلاق الآفاق وتوسيع الضيق، وتضع في قواعدها أن الأمر إذا ضاق اتسع، وأن المشقة تجلب التيسير، وأن الأصل في الدين وضع الإصر ورفع الحرج، يذهب الغلاة وأنصار مدرسة الحظر، ورواد فقه التحريم إلى تضييق الواسع، وإغلاق الآفاق، وحمل الناس على الموقف الضنك، أو ما يظنه صاحب الغلو عزيمة ليس عنده فيها من الله نور ولا برهان.

 

الغلو في مشهده الدامي على الأرض

لم نعد نرقب الغلو في زمان البؤس الذي نعيش في موقف زميّت لرجل يريد أن يصوم فلا يفطر، أو أن يقوم فلا ينام، وإنما بدأ الغلو يظهر على الساحة في مشروعاته المريبة بمثل (خطاب الشراة) و( منهاجهم) و(ادعاءاتهم) حتى يقول قائلهم لقاتل رابع الراشدين سيدنا علي:

   يا ضربة من تقي ما أراد بها     ألا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

مشهد الأشلاء البشرية المتطايرة على خطوط الطول وخطوط العرض تحت مختلف العناوين والذرائع. في مشهد مروع لا يخلو فيه قاتل من إدانة، وبعض الضحايا فيه قاتل ومقتول في لعبة إرادة العلو والفساد ...

ليس من شأننا أن نعفي من الإدانة القتلة بالطائرات والقذائف والراجمات، ولكن الحديث في هذا السياق متوجه للحديث عن القاتل المقتول تحت عنوان للشهادة موهوم...!!

قاتل مقتول يغتال الأبرياء في طائرة أو في قطار أو في مسجد أو في حسينية أو في يوم مهرجان أو في قلب سوق أو في حفل زفاف أو في عزاء أو في موكب جنازة... في حرب مجنونة مفتوحة على العصبية وعلى الجهالة وعلى المصير المحموم يدفعنا إليه أولئك الذين يريدون العلو في الأرض والفساد. الإدانة في السياق الذي نعيش فيه لا تتوجه فقط إلى الضحايا من القتلة المقتولين في أي أرض أو تحت أي عنوان، وإنما الإدانة في أصلها لأولئك المؤسسين للغلو أو الساكتين عن إثمه أو الممجدين لجناته تحت اسم الشهادة أو البطولة ..

وهل تكفي الإرادة الطيبة ليكون العمل مثمرا عند الله والناس. والله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وسدادا. أما الدار الآخرة فهي للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا...

(تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

وإرادة الفساد من إرادة العلو بألوانه المادية والمعنوية: الاستحواز والتسلط. ومن هذا وذاك ينشأ الظلم والبغي والطغيان. فكم من رجل يعجبك قوله في الدين أو في الدنيا ثم (إِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ . وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ). وكم من بيداء تاه فيها من يحسب أنه على طريق الرشاد (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً). وما أكثر أولئك الذين قال فيهم صاحب الأمر : (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاته وصيامه إلى صيامه.. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية).

والحديث في هذا المقام ليس عن الغلاة الضحايا من أصحاب الأجساد المتفجرة أو زارعي الألغام والعبوات في أوساط الأبرياء ، وليس عن أولئك الذين (خرجوا على الأمة يضربون برها وفاجرها لا يتقون مؤمنا لإيمانه ولا يوفون لذي عهد عهده) ، الحديث هنا عن بعض حملة  الأقلام من النافخين في كير الفتنة، الموقدين لنارها، المشعلين للحرائق في حوائط النخيل وكروم التين والزيتون...أو من الممجدين لأعمال القتل والنسف والتدمير، والمكرسين في إطار البطولة والفداء أولئك الجرآء على الدم الإنساني وعلى البنية الإنسانية في صور الأبرياء.

وحتى لا يساء فهم هذا الحديث ولا يساء توظيفه نبدأ بتقرير حق كل إنسان يدافع عن أرض أو عن عرض ضد محتل دخيل مغتصب للإرادة أو للأوطان في أن يختار الطريق الأجدى لتحرير أرضه والدفاع عن وجوده حق في المقاومة لا يُنازع أقرته وأطرته قوانين الأرض وشريعة السماء.

إن تقرير هذا الحق الأولي لا يعني أبدا الانسياق وراء مكرور المشهد الصادم الذي اعتمده البعض وسيلة لتصفية حسابات سياسية أو مذهبية أو عرقية أو اقتصادية ووشاه زورا وبهتانا بمفهوم الجهاد أو ألحقه بهواه المطاع بذروة سنام الإسلام. جسد الإنسان  المتفجر بين صفوف المصلين في مسجد أو بين بسطات الباعة البسطاء أو في حافلات النقل الخاص أو العام؛ جسد الإنسان أو حياة الإنسان ليست هي الوسيلة الأرخص لإيصال رسالة تهديد أو احتجاج. وليس الإقدام على هذا العمل الرهيب بصورته وبتبعاته الكارثية هو الطريق الأقرب لوسامة البطولة أو الشهادة أو الخلود كما يموه المموهون.

فحياة الإنسان الفرد، الضحية القاتل المقتول، حسب التصور الإسلامي والمقرر القرآني تعدل حياة الإنسانية جمعاء. مقرر القرآن المسطور منذ أن عدا قابيل على أخيه هابيل ( ... مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً).

 والحديث في المقام عن النفس الإنسانية مجردة عن كل وصف إضافي مما يتعلق بالدين والمذهب والجنس والعرق. والعدوان على هذه النفس في تجليها المطلق عدوان على الإنسانية جمعاء. آية محكمة حكمها ماض إلى يوم الدين لا ينال منه تحريف غال ولا انتحال مبطل.    

تتابع رواد الغلو المؤسسين لثقافته والميسرين لسبيله العسرى، الخارجين على نصوص الشريعة ومقاصدها  بياقاتهم  أو جلابيبهم البيض فتجد عقلا مستقيلا، ومنطقا معدوماً، وكلاما غير قاصد، ومعنى قد شرق وغرب، وحاطب الليل قد جمع فأغرب؛ فتذكر قول الله جل الله في علاه (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) وتستبطن حقيقة الإعجاز في قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً)

 الأسف الشديد لا يجدي وأنت ترصد زبدا كثيرا يعلو ماء الإسلام أو يخالط أحاديث الإيمان والقرآن. زبد ينشؤه فريق من الكتّاب المحسوبين على الكلمة الطيبة ؛ تعودوا أن يستثمروا، كما يفعل رجال الأعمال في السوق السوداء. سوق حب الشهرة والرغبة في ذيوعة الصيت. شعارهم و  دثارهم امتط الموجة، واستثمر في هوى الجماهير وادفع المركب أكثر على موج الغرور، يصفق لك بعض ويحسب حسابك آخرون!!!

سماسرة يحدون للركب حداء ضلال، أو إضلال، ظاهرة قاتلة. ترصدها في الساحة العامة، منذ أن اختلطت الكلمة بالطلقة. وأصبح الكتاب المسطور،  بغض النظر عن حجم العلم والجهل الذي فيه، وبغض النظر عن الثمرات الحمر التي يثمرها في بلاد العرب المسلمين، مفتاح الولوج إلى عالم الخاصة  دون أن تجد من يضع مصداقية الفكرة على محك المعطى (الشرعي) أو (العقلي) أو (الزماني) أو ( المكاني).

ذهب الزمان الذي كان فيه الكاتب المسلم يدفع حياته ثمناً لكتاب. لتصبح الكلمات المطبوعة التي تدغدغ العواطف وتداعب الأحلام، وتدفع إلى المزيد من الغلو والغليان باباً من أبواب: ( يكون في آخر الزمان رجال يأكلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب. يقول الله تبارك وتعالى أبي يغترون أم علي يجترئون فبي حلفت لأبعثن على أولئك فتنة تجعل الحليم حيران.)  

أو يجعلك تذكر (.. اتخذ الناس رؤوساً جهالاً. فضلوا وأضلوا..)

 كيف يمكن، في هذا المناخ السائد أو المسوّد، أن تُقرأ كلمات من يقول للسيل الرابي زبداً: حسبك أو كفى، أو ليس الطريق هنالك؟!

أو كيف تقول للقاتل يضرب يمنة ويسرة لا يتقي مؤمنا لإيمانه ولا يفي لذي عهد عهده.

شًلّت يمينُك إن قتلت لَمسلما    حلت عليك عقوبة المتعمد

كيف يمكن أن تحاصر قتلة الإنسان في كل مكان؟! وقتلة من قال لا إله إلا الله، دون أن تتذكر ( أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله) ؟! كيف تجرؤ أن تفعل ذلك أو بعضه وأنت تتابع ممن يحسّن يطيِّب ويؤيد أو من يصمت ويعرض..؟! من يتصدى للسيل الرابي والحال ينادي:

يا معشر القـراء يا ملحَ البلد

ما يصلح الملحَ إذا الملحُ فسد

 انظر كيف تشوه شخصية أو كلمة كل من يدعو إلى موازين الشريعة والحقيقة على ألسن الغلاة وأيديهم وقارن أو وازن ذلك بقوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا) ( إلا أن تلقى الله بدم) ، (وما يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما)،و( أول ما يقضى فيه بين الناس الدماء؛) قال ابن دقيق العيد: (لأن هدم البنية الإنسانية من أعظم المفاسد) حتى قال ابن عباس في رواية لا توبة له. وقتل النفس الإنسانية هو الكبيرة التي تزاحم الكفر بمنكبيها ، إن شأنكِ عند الله عظيم_ الخطاب للكعبة_ وإن المسلم أعظم عند الله منك..

تلك عقائد وحقائق حُفظّناها فحفظناها، وربينا عليها فوعيناها في مدرسة للإسلام  قامت على قال الله قال رسوله ينقلها الأثبات العدول عن الأثبات العدول... والعلم قال الله قال رسوله وسواه أضغاث وأحلام.

ليس (القاتل المقتول) هو ذلك الشاب الذي يدفعه اليأس أو القنوط أو انسداد الأفق أو التلقين المحموم  ليفجر نفسه بين عربات الباعة من البسطاء من أبناء حيه. القاتل الحقيقي هو صاحب الياقة البيضاء المختفي وراء سطر مطبوع يزين للبسطاء الموت ليجد الباغي في عليائه نافذة أوسع على عالم الشهرة والمجد. فتش عن الكلمة.هذا هو المدخل الأساسي للتصدي للغلو، وكفكفة غربه، ومصادرة طلع زقومه، فتش عن الكلمة، بل توقف عندها لكي لا يقال إننا ندعو إلى إرهاب فكري، أو مطالبة بحجر على الحرف في زمان امتلك فيه كل شيء جناحه؛ وإنما هي دعوة إلى القراءة المستبصرة الرشيدة التي تزين كل (الأفكار والعبارات) مهما كانت عناوينها ومصادرها بميزانين للشرع والعقل

وزن بميزان الشرع كل خاطر   فإن تكن مأموره فبادر

وإن تكن منهيه فحاذر

قبل أن نُخرج من وطننا سورية كان لدينا في مدينتنا حلب مجموعة خاصة من المثقفين لنقد الكتاب الإسلامي بالذات، كان أعضاء المجموعة يستشعرون خطر العارض الذي أمطرنا.. . و رغم أن أعضاء المجموعة جميعا كانوا شبابا وحديثي عهد بالتخرج من جامعاتهم بفروعها المختلفة؛ فقد كانت للمجموعة تقارير وتحذيرات من كثير من الكتب التي كان من أمرها ما كان...

ربما كان قدرنا أن نقع بين فكي الكماشة . وكان قدر إخواننا الأكثر جرأة على التصدي  لظاهرة الغلو أن يذبحوا  في سجن تدمر. إخوة علماء أدباء حكماء حلماء رأيهم السداد، وكلمتهم القسط، وقيدهم الشرع ، وفقههم الرحمة والشفقة والدفاع عن المقاصد. إخوة  يستنير القمر بوجوههم، وتخبت الأوابد لحلو حديثهم، ولكن آه من ولكن ومما بعدها...

كلام حرج يصعب عليك أن تفيض فيه

المستثمرون في الغلو بشخصياتهم، ومقرراتهم، ومؤلفاتهم وعلاقاتهم وجمهورهم سبب ثان لحرج هذه الدراسة. وعلى الجانب الآخر عامل أول من عوامل الحرج، هو روح الهيمنة التي تستثمر في الحديقة الخلفية لهذا الغلو، روح الهيمنة التي تؤسس لمناخ الغلو، كما يؤسس باحث البيولوجيا لمزارع المختبرات الجرثومية. سياسات وكلمات وبرامج وتمويلات وعوامل إثارة إيجابية وظلم وقهر وكبت وحرمان وقتل وسجن وأسر وتشريد وحصار؛ كل أولئك عوامل تثوير سلبية، لتشتبك كل العوامل معاً ولتجعل أي محاولة لوضع التصور الموضوعي لحقيقة الحياة والموت، والمقاومة والمناهضة في إطارها الشرعي في حالة من الحرج الذي يجعل الولوج في معراجه ضيقاً حرجاً كأنما صاحبه يصعد في السماء. حالة من الحرج تقول حسبك فقد تجاوزت فتمسك بلا ريب...

---------------

*مدير مركز الشرق العربي  

  للاتصال بمدير المركز

00447792232826

zuhair@asharqalarabi.org.uk

11/06/2009


 

تعليقات القراء

 

علم وفهم ..وسطية واعتدال .. وجرأة في الحق ، أصبحت نادرة في زماننا هذا .

والجرأة في الحق أمام العوام ، ومخالفتهم ، أصعب بكثير من الجرأة أمام الحكام الظلمة .. كما يقول شيخنا العلامة الأستاذ يوسف القرضاوي حفظه الله تعالى .

أدعو العلماء العاملين ، أن يصدعوا بالحق ، ويبينوا للناس ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم .

كما أدعوالناس كل الناس أن يتأملوا النصوص الواردة في هذه المقالة ، وأن يراجعوا أنفسهم ..فليس بعد ( قال الله وقال رسوله ) من قول .

جزاك الله خيرا أخي أبا الطيب .. ووقاك الله كل مكروه .

عبداللطيف محمد علي الهاشمي

==============  

بارك الله بك أستاذنا لما أتحفتنا به في هذه المادة المتميزة التي ترفع العقلانية الى ارتقاء في الفكر وعمق في التفكير وتهدي الى سواء السبيل.

محمد دامس كيلاني

 


السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ