ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس 15/04/2010


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


شوارع القدس العتيقة.. وحكاية آخر البكاء!! 

جميل حمادة – العرب أون لاين

كانت القدس بين يديك كأنها ملك يديك..! نعم.. لقد كانت كأنها بين يدي وحدي؛ فلم أكن يوما أعتقد أنه سيغدو من المستحيل علي أن أزور القدس أو أصل إليها مرة أخرى.. وهي تلك المدينة التي عشت فيها عامين من أجمل سنوات عمري.. كنت أود أن أذهب لتفقد أصدقائي زملاء الدراسة وأستعيد السنوات الخوالي.. وأرى مخيم قلندية، ومخيم شعفاط والأمعري.. ثم أدور إلى اليسار لأذهب إلى رام الله، لأرى آخر ما تعرضه سينما الجميل في ساحة المنارة برام الله..!

في الآونة الأخيرة، أي منذ أشهر معدودة، قبل العدوان العالمي على غزة بقليل..! اجتذبتنا أنا وأحد الأصدقاء مسألة نقاشية معرفية محض تنطلق من عمق الميتافيزيقيا، لتصبح مسألة ملحة في اليومي والعابر والضروري؛ ألا وهي إشكالية الممكن والمستحيل..، وأنا أسميها الآن إشكالية لأنها تدخل في صلب مسألة فلسفية غاية في التعقيد، بقدر ما هي غاية في البساطة، حيث يصبح الممكن، في لحظة ما مستحيلا، كما يصير المستحيل ممكنا في لحظة أخرى.. بل ويصبح الكائن؛ الواقعي الذي تراه أمامك كل يوم، مستحيلا .. بمعنى ما بين عشية وضحاها. أنا ومحاوري الآخر، اكتشفنا أن هذه العلاقة بين الممكن والمستحيل هي علاقة جدلية وثيقة .. وأن ثمة خيط جد رفيع هو الذي يفصل بين الممكن والمستحيل.. وعلى نحو أكثر توضيحا؛ تجد أن ما هو ممكن الآن، يصبح مستحيلا غدا؛ مثل مسألة مدينة القدس التي صار محرما علينا نحن أبناء غزة مجرد المرور بجوارها، بل والأدهى من ذلك أنه صار على أبنائها أنفسهم الدخول إلى المسجد الأقصى في الكثير من الأحيان، أو الدخول إلى أماكن بعينها، في الوقت الذي يدخل إليها الصهاينة والسواح الأجانب في كل وقت وحين.. مثلا. وكذلك أضحى ما هو مستحيل الآن.. ممكنا غدا- عذرا أعني كائنا الآن- .. فمثلا أصبحت مصافحة العدو أمرا ممكنا ويسيرا .. وعاديا جدا، بل صار مطلوبا الآن؛ على الرغم من أنه كان يمكن أن توصم بالخيانة العظمى بالأمس، وسوف يقام عليك الحد بالتأكيد، لأنك صافحت العدو.. حتى ولو كان ذلك من باب المجاملة، أو من ضمن الشعائر الرسمية التي تفرضها شكليات التفاوض.. بمعنى أنه يمكن لك الآن أن تذهب وتصافح بيدك – المبتورة على نحو ما- يد القاتل، الذي لم تتخيل في حياتك كلها أنك سوف تقيم سلاما معه..! مسألة عويصة.. أليس كذلك؟

 

كانت عطلتنا الدراسية في المعهد يومين، الجمعة والأحد.. على اعتبار أن المعهد فيه مسلمون ومسيحيون، وقد كان لدينا مديرا مسيحيا يكره الصهاينة كراهية لا هوادة فيها.. ولا حد لها.

 

وفي يوم الجمعة كنا نذهب للصلاة في الأقصى ونشتري بعضا من حاجياتنا الضرورية التي نقدر عليها، وهي بالتأكيد كانت قليلة.. بل جد قليلة.. ولكن معظم النهار نقضيه ونحن نتفرج على شوارع القدس.. العتيقة، وكأنه كان ثمة هاجس لدينا أننا ربما لن نراها ثانية هذه الشوارع.

فكنا نذهب في أعماق الحواري.. نبدأ من باب العمود.. ونشرع في دخول الشوارع والأزقة الضيقة.. وعادة معنا صديق شاب من أهل القدس.. أو ممن يعرفونها جيدا.. هذه حارة المغاربة، هذا باب الخليل، هذا باب الساهرة، هذا باب توما، هذه حارة الأرمن، هذا باب الأنباط،... إلخ..

في أسوار القدس.. في جدران بيوتها سوف ترى كيف تنبت الأزهار القديمة في الحجر، بين الطوبة والطوبة.. وقد يتراءى لك أنك لا تعيش في القرن العشرين أو الحادي والعشرين، بل في القرن الثالث عشر مثلا.. وربما يخطر ببالك على حين غرة أن تتحدث بالفصحى حتى يفهمك صاحبك القريب منك.. بل لدرجة أنك للحظة زمنية أسطورية لا تدكر شيئا إسمه اللغة الدارجة أو العامية..

في حواري القدس أنت ترى التاريخ أمامك مجسما من دم ولحم.. ترى الحجر الجبلي لأسوار الأقصى قد بني بمونة مختلفة.. ولا علاقة لمواد البناء الحديثة في المسألة.

وفي القدس أنت إحدى أيقونات الجغرافيا وتمشي على أسوار التاريخ مباشرة.. تمشي في شارع السوق الطويل، باتجاه سلوان، ترى دكاكين الحرف التقليدية وصانعي تحف النحاس والخشب، ودكاكين البهارات والعقود والخرز والفضة والقماش.. ثم تصل على يمينك لتجد كنيسة القيامة، وبامكانك أن تدخلها وترى تلك الأيقونات والجدران والمصابيح والصلبان، ويسمح لك كمسلم حتى بالدخول طبعا. ثم ترى النباتات تنبت على أعالي الجدران وفي داخلها بين الطوب.. تقترب من الجدار فتشعر بتوهج ذاكرة الجدار الذي سوف يبدأ يروي لك حكايات التاريخ، وقصص الحروب، قصص الناس والغزاة والأقوام التي مرت على القدس ومشت عبر هذه الشوارع، قصص الانتصارات والهزائم، قصص الكنعانيين والفينيقيين والحثيين واليبوسيين والعرب والمسلمين والصليبيين وحملاتهم المتوالية.. قصص من حضارات قادمة من أعماق التاريخ، ومنذ بدء الخليقة..

في القدس أنت إنسان آخر.. ينبغي أن تهيء نفسك.. وتفتح قلبك وذراعيك لأن التاريخ سوف يدلق بين يديك حكاياته وقصصه، سوف ينهمر عليك سيل من الأفكار وأنت تتخيل في كل مرأة ترتدي زيا مختلفا حضارة أخرى، وفي كل رجل يرتدي قبعة مغايرة.. عنوان رواية أو ذكرى تاريخية ما، وفي كل زاوية بيت ستجد معمارا مختلفا، عما بجواره.. في كل شيء سوف ترى جديدا..

في القدس أنت في مواجهة مباشرة مع الحضارات والأديان والتاريخ والهندسة والمعمار والانثروبولوجيا.. وفي القدس سوف يقتلك الغيظ.. وأنت تطرح الأسئلة ، وسوف تخرج من شارع السوق وأنت تبكي لكي تصل إلى سلوان ..أو تعرج على العيزرية ثم تذهب إلى شعفاط، أو إلى أي مكان.. وأنت ترى العرب يهجرون وتهدم بيوتهم ويشردوا والأمة العربية تنظر ببلاهة منقطعة النظير.. ولا تجد نفسك إلا أمام خيارين حاضرين.. فقط في هذه اللحظة..

إما أنت تسرق خنجرا جميلا من بائع في إحدى دكاكين التحف والنحاس.. وتنتهي معاناتك... وإما أن تصرخ يا الله.. فيقبض عليك الجندي الصهيوني البرئ، ويتهمك بالارهاب... ثم تذهب لكي تبكي كما تبكي النساء...!

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

 


السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ