ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
الشيخ
علي الطنطاوي يتحدث عن زوجته قال لي
صديق، معروف بجمود الفكر ،
وعبادة العادة ، والذعر من كل
خروج عليها أو تجديد فيها . قال: - أتكتب
عن زوجك في الرسالة تقول إنها من
أعقل النساء وأفضلهن ؟ هل سمعت
أن أحداً كتب عن زوجه ؟ إن العرب
كانوا يتحاشون التصريح بذكرها ،
فيكنّون عنها بالشاة أو النعجة
استحياء وتعففا ، حتى لقد منع
الحياء جريراً من رثاء زوجه
صراحة ، وزيارة قبرها جهارا .
ومالك بن الريب لمّا عد من يبكى
عليه من النساء قال : فمنهن
أمى وابنتاها وخالتى **** وباكية
أخرى تهيج البواكيا فلم يقل
وامرأتى . . وكذلك العهد بآبائنا
ومشايخ أهلنا . لم يكن يقول أحد
منهم : زوجتى ؛ بل كان يقول : أهل
البيت وأم الأولاد ، والجماعة
،والأسرة ، وأمثال هذه الكنايات
. أفترغب عن هذا كله ، وتدع ما
يعرف الناس ،وتأتى ما ينكرون ؟ قلت :
نعم ! فكاد
يصعق من دهشته مني ، وقال : - أتقول
نعم بعد هذا كله ؟ قلت :
نعم ! مرة ثانية . أكتب عن
زوجتي فأين مكان العيب في ذلك ؟
ولماذا يكتب المحب عن الحبيبة
وهي زوج بالحرام ،ولا يكتب
الزوج عن المرأة وهي حبيبته
بالحلال ؟ ولماذا لا أذكر الحق
من مزاياها لأرغب الناس في
الزواج . والعاشق يصف الباطل من
محاسن العشيقة فيحبب المعصية
إلى الناس؟ إن الناس يقرؤون كل
يوم المقالات والفصول الطوال في
مآسي الزواج وشروره ، فلم لا
يقرؤون مقالة واحدة في نعمه
وخيراته ؟ ولست
بعد أكتب عن زوجي وحدها ؛ ولكنى
كما كان هوجو يقول : 'إني إذا أصف
عواطفي أبا ، أصف عواطف جميع
الآباء' . لم أسمع
زوجاً يقول إنه مستريح سعيد ،
وإن كان في حقيقته سعيداً
مستريحا ، لأن الإنسان خلق
كفورا ، لا يدرك حقائق النعم إلا
بعد زوالها ؛ ولأنه ركب من الطمع
، فلا يزال كلما أوتى نعمة يطمع
في أكثر منها ، فلا يقنع بها ولا
يعرف لذتها . لذلك يشكو الأزواج
أبدا نساءهم ، ولا يشكر أحدهم
المرأة إلا إذا ماتت ، وانقطع
حبله منها وأمله فيها ؛ هنالك
يذكر حسناتها ، ويعرف فضائلها .
أما أنا فإني أقول من الآن –
تحدثا بنعم الله وإقراراً بفضله
– إني سعيد في زواجي وإني
مستريح . وقد
أعانني على هذه السعادة أمور
يقدر عليها كل راغب في الزواج ،
طالب للسعادة فيه ، فلينتفع
بتجاربي من لم يجرب مثلها ،
وليسمع وصف الطريق من سالكه من
لم يسلك بعد هذا الطريق. أولها :
أني لم أخطب إلى قوم لا أعرفهم ،
ولم أتزوج من ناس لا صلة بيني
وبينهم . . فينكشف لي بالمخالطة
خلاف ما سمعت عنهم ، وأعرف من
سوء دخيلتهم ما كان يستره حسن
ظاهرهم ، وإنما تزوجت من أقرباء
عرفتهم وعرفوني ، واطلعت على
حياتهم في بيتهم واطلعوا على
حياتي في بيتي . إذ رب رجل يشهد
له الناس بأنه أفكه الناس ، وأنه
زينة المجالس ونزهة المجامع ،
وهو في بيته أثقل الثقلاء . ورب
سمح هو في أهله سمج ، وكريم هو في
أسرته بخيل ، يغتر الناس بحلاوة
مظهره فيتجرعون مرارة مخبره . . تزوجت
بنتاً أبوها ابن عم أمي ، وهو
الأستاذ صلاح الدين الخطيب شيخ
القضاء السوري المستشار السابق
والكاتب العدل الآن . وأمها بنت
المحدّث الأكبر ، عالم الشام
بالإجماع الشيخ بدر الدين
الحسنى رحمه الله . فهي عريقة
الأبوين ، موصولة النسب من
الجهتين. والثاني
: أني اخترتها من طبقة مثل
طبقتنا . فأبوها كان مع أبي في
محكمة النقض ،وهو قاض وأنا قاض ،
وأسلوب معيشته قريب من أسلوب
معيشتنا ،وهذا هو الركن الوثيق
في صرح السعادة الزوجية ، ومن
أجله شرط فقهاء الحنفية (وهم
فلاسفة الشرع الإسلامي) الكفاءة
بين الزوجين . والثالث
: أني انتقيتها متعلمة تعليماً
عادياً ، شيئاً تستطيع به أن
تقرأ وتكتب ، وتمتاز من
العاميات الجاهلات ، وقد
استطاعت الآن بعد ثلاثة عشر
عاماً في صحبتي أن تكون على درجة
من الفهم والإدراك ، وتذوق ما
تقرأ من الكتب والمجلات ، لا
تبلغها المتعلمات ،وأنا أعرفهن
وكنت إلى ما قبل سنتين ألقي
دروساً في مدارس البنات ، على
طالبات هن على أبواب البكالوريا
، فلا أجدهن أفهم منها ، وإن كن
أحفظ لمسائل العلوم ، يحفظن
منها ما لم تسمع هي باسمه. ولست
أنفر الرجال من التزوج
بالمتعلمات ، ولكني أقرر – مع
الأسف – أن هذا التعليم الفاسد
بمناهجه وأوضاعه ، يسيء على
الغالب إلى أخلاق الفتاة
وطباعها ، ويأخذ منها الكثير من
مزاياها وفضائلها ،ولا يعطيها
إلا قشورا من العلم لا تنفعها في
حياتها ،ولا تفيدها زوجاً ولا
أما . والمرأة مهما بلغت لا تأمل
من دهرها أكثر من أن تكون زوجة
سعيدة وأما. والرابع
: أني لم أبتغ الجمال وأجعله هو
الشرط اللازم الكافي كما يقول
علماء الرياضيات لعلمي أن
الجمال ظل زائل ؛ لا يذهب جمال
الجميلة ، ولكن يذهب شعورك به ،
وانتباهك إليه ، لذلك نرى من
الأزواج من يترك امرأته الحسناء
ويلحق من لسن على حظ من الجمال ،
ومن هنا صحت في شريعة إبليس
قاعدة الفرزدق وهو من كبار أئمة
الفسوق ، حين قال لزوجه النوار
في القصة المشهورة ما
أطيبك حراما وأبغضك حلالا ! والخامس
: أن صلتي بأهل المرأة لم يجاوز
إلى الآن ، بعد ثمن قرن من
الزمان ، الصلة الرسمية : الود
والاحترام المتبادل ، وزيارة
الغب ، ولم أجد من أهلها ما يجد
الأزواج من الأحماء من التدخل
في شؤونهم ، وفرض الرأي عليهم ،
ولقد كنا نرضى ونسخط كما يرضى كل
زوجين ويسخطان ، فما دخل أحد
منهم يوما في رضانا ولا سخطنا . ولقد
نظرت إلى اليوم في أكثر من عشرين
ألف قضية خلاف زوجي ، وصارت لي
خبرة أستطيع أن أؤكد القول معها
بأنه لو ترك الزوجان المختلفان
، ولم يدخل بينهما أحد من الأهل
ولا من أولاد الحلال ، لانتهت
بالمصالحة ثلاثة أرباع قضايا
الزواج. والسادس
: أننا لم نجعل بداية أيامنا
عسلا ، كما يصنع أكثر الأزواج ،
ثم يكون باقي العمر حنظلا مرا
وسما زعافا ، بل أريتها من أول
يوم أسوأ ما عندي ، حتى إذا قبلت
مضطرة به ، وصبرت محتسبة عليه ،
عدت أريها من حسن خلقي ، فصرنا
كلما زادت حياتنا الزوجية يوما
زادت سعادتنا قيراطا . والسابع
: أنها لم تدخل جهازا ، وقد
اشترطت هذا لأني رأيت أن الجهاز
من أوسع أبواب الخلاف بين
الأزواج ، فإما أن يستعمله
الرجل ويستأثر به فيذوب قلبها
خوفاً عليه ، أو أن يسرقه ويخفيه
، أو أن تأخذه بحجز احتياطي في
دعوى صورية فتثير بذلك الرجل . والثامن
: أني تركت ما لقيصر لقيصر ، فلم
أدخل في شؤونها من ترتيب الدار
وتربية الأولاد ؛ وتركت هي لي ما
هو لي ، من الإشراف والتوجيه،
وكثيراً ما يكون سبب الخلاف لبس
المرأة عمامة الزوج وأخذها
مكانه ، أو لبسه هو صدار المرأة
ومشاركتها الرأي في طريقة كنس
الدار ، وأسلوب تقطيع الباذنجان
، ونمط تفصيل الثوب. والتاسع
: أني لا أكتمها أمراً ولا
تكتمني ، ولا أكذب عليها ولا
تكذبني ، أخبرها بحقيقة وضعي
المالي ، وآخذها إلى كل مكان
أذهب إليه أو أخبرها به ،
وتخبرني بكل مكان تذهب هي إليه ،
وتعود أولادنا الصدق والصراحة ،
واستنكار الكذب والاشمئزاز منه
. ولست والله أطلب من الإخلاص
والعقل والتدبير أكثر مما أجده
عندها . فهي من النساء الشرقيات
اللائى يعشن للبيت لا لأنفسهن .
للرجل والأولاد ، تجوع لنأكل
نحن ، وتسهر لننام ، وتتعب
لنستريح ، وتفني لنبقي . هي أول
أهل الدار قياماً ، وأخرهم
مناماً ، لا تني تنظف وتخيط
وتسعى وتدبر ، همها إراحتي
وإسعادي . إن كنت أكتب ، أو كنت
نائماً أسكتت الأولاد ، وسكنت
الدار ، وأبعدت عنى كل منغص أو
مزعج . تحب من
أحب ، وتعادى من أعادى . إن حرص
النساء على رضا الناس كان حرصها
على إرضائي . وإن كان مناهن حلية
أو كسوة فإن أكبر مناها أن تكون
لنا دار نملكها نستغني بها عن
بيوت الكراء. تحب
أهلي ، ولا تفتأ تنقل إلى كل خير
عنهم . إن قصرت في بر أحد منهم
دفعتني ، وإن نسيت ذكرتني ، حتى
أني لأشتهي يوماً أن يكون بينها
وبين أختي خلاف كالذي يكون في
بيوت الناس ، أتسلى به ، فلا أجد
إلا الود والحب ، والإخلاص من
الثنتين ، والوفاء من الجانبين .
إنها النموذج الكامل للمرأة
الشرقية ، التي لا تعرف في
دنياها إلا زوجها وبيتها ،والتي
يزهد بعض الشباب فيها ، فيذهبون
إلى أوربة أو أميركة ليجيئوا
بالعلم فلا يجيئون إلا بورقة في
اليد وامرأة تحت الإبط ، إمرأة
يحملونها يقطعون بها نصف محيط
الأرض أو ثلثه أو ربعه ، ثم لا
يكون لها من الجمال ولا من الشرف
ولا من الإخلاص ما يجعلها تصلح
خادمة للمرأة الشرقية ؛ ولكنه
فساد الأذواق ،وفقد العقول ،
واستشعار الصغار ،وتقليد
الضعيف للقوى . يحسب أحدهم أنه
إن تزوج امرأة من أمريكا ، وأى
امرأة ؟ عاملة في شباك السينما ،
أو في مكتب الفندق ، فقد صاهر
طرمان ، وملك ناطحات السحاب ،
وصارت له القنبلة الذرية ، ونقش
اسمه على تمثال الحرية . . إن
نساءنا خير نساء الأرض ،
وأوفاهن لزوج ،وأحناهن على ولد
، وأشرفهن نفسا ، وأطهرهن ذيلا ،
وأكثرهن طاعة وامتثالا وقبولا
لكل نصح نافع وتوجيه سديد . وإني
ما ذكرت بعض الحق من مزايا زوجتي
إلا لأضرب المثل من نفسي على
السعادة التي يلقاها زوج المرأة
العربية (وكدت أقول الشامية)
المسلمة ، لعل الله يلهم أحدا من
عزاب القراء العزم على الزواج
فيكون الله قد هدى بي ، بعد أن
هداني ! ------------------------ المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |