ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
علماء
الإسلام في مواجهة تحديات العصر بقلم
فضيلة المفكّر و المربّي باسل
بن عبد الرحمن الجاسر ( رحمه
الله ) لا خلاف بين أصحاب
الرأي والنظر في أن الفضل
الأعظم في بناء حضارات الأمم
المتحضرة ، وصناعة أمجاد الشعوب
المجيدة ، ينسب إلى علماء الأمة
ورجال الفكر وصناع الرأي فيها ،
قبل أن ينسب إلى رجال السياسة
والاقتصاد ، فضلاً عن العامة
والرعاع . فالعلماء من أمتهم
كمثل الرأس من الجسد . هم العقل المفكر ،
والدماغ المحرك . تنظر العامة إليهم
وتقتدي بهم ، ويفزع إليهم الملأ
في الخطوب ، ويصدرون عن رأيهم
إذا رأوا ، ويطيعون أمرهم إذا
أمروا . وكم ضحى العامة
بأنفسهم وأوردوها موارد الموت ،
من أجل كلمة سمعوها من عالم . وكم قدموا أرواحهم
وأولادهم في سبيل فكرة أوحى بها
العلماء إليهم . فعلماء الأمة هم
المهندسون المخططون ، وعامتها
هم البناؤون المشيدون . وما من حركة سياسية ،
ولا ثورة شعبية ، ولا انقلاب
عسكري ، ولا نهضة اقتصادية ، ولا
صحوة اجتماعية ، إلا ومن ورائها
مفكر درس وخطط ، ثم تكلم ووجه ،
فكانت الأمم تنفذ أفكاره ،
وتحول أقواله إلى أفعال . وما كانت الجيوش
والشعوب والحكومات في كل عصر
إلا أدوات تنفذ أفكار المفكرين
، ظهر ذلك للعيان أم بقي مستتراً
وراء الكواليس . وهذه قاعدة تستوي
فيها أمم الإيمان والكفر ،
وتستوي فيها مذاهب الحق والباطل
. وكل مطّلع يعلم أن
لينين ، الذي غير وجه العالم
بثورته ، وأسس أكبر دولة على وجه
الأرض ، ما كان إلا أداة منفذة
لما رسمته نظرية ماركس . والثورة الفرنسية
التي غيرت مسار التاريخ
الأوروبي ، وقضت على الملكية ،
وأقامت الجمهورية ، ما كانت إلا
إيقاداً لأفكار فولتير . والصهيونية السياسية
ما كانت إلا أفكاراً دونت في
البروتوكولات . وابحث بنفسك عن جذور
كل حركة تغيير سياسي ، أو نهضة
اجتماعية ، أو ثورة عسكرية قامت
بها أمة من الأمم ، أو فئة من
فئات الشعوب ، تجد أن البناة
الحقيقيين لأمجاد الأمم هم
علماؤها ومفكروها . لا عجب إذاً أن نرى
شعوب الأرض تحفظ لأولئك الخاصة
مكانتهم ، وتخلد ذكرهم ، وتنسب
أمجادها إليهم . ولا عجب في أن يضع
الإسلام هؤلاء الرجال في المقام
الأرفع ، وأن بخصهم بخصائص لا
يشاركهم فيها - بل ولا يدانيهم -
غيرهم من أفراد الناس ، ولا يطمح
بالوصول إلى مقامهم أحد ، حتى
يسلك سلكهم ، وينتظم في عقدهم ،
ليحوز الشرف الذي حازوا ، وينال
الفضل الذي نالوا . نزل كلام الله بفضلهم
فجاء فيه :
( قل هل يستوي الذين يعلمون
والذين لا يعلمون ) . وبيَّن أنهم في عامة
المؤمنين خواص فقال سبحانه : (
يرفعِ الله الذين آمنوا منكم
والذين أوتوا العلم درجات ) . وجعل مهمة بيان
الأمثال الإلهية مهمتهم ، لأنهم
وحدهم من يفهمها ، فقال عز من
قائل : ( وتلك الأمثالُ نضربها
للناس وما يعقِلُها إلا
العالِمون ) . وأظهر النبي
صلى الله عليه وسلم شرفهم ،
فبين أنه مستمد من شرف الأنبياء
، فقال : " وإن العلماء ورثة
الأنبياء ، وإن الأنبياء لم
يورثوا درهماً ولا ديناراً ،
ولكن ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ
بحظ وافر ". وبين أن مهمة إرشاد
الأمة ، وبيان الحقائق ، وتنقيح
العلم ، وتنقية الدين مما يمكن
أن يدخل عليه مما ليس منه ،
مسؤوليتهم ورسالتهم فقال صلى
الله عليه وسلم : " يرث هذا
العلمَ من كل خلف عدولُه ، ينفون
عنه تحريف الغالين ، وتأويل
الجاهلين ، وانتحال المبطلين
" . لذا فقد حفظ المسلمون
في تاريخهم مآثر علمائهم
وخلدوها كما لم يحفظوا ذكر
ملوكهم وأمرائهم . فمن من المسلمين لا
يعلم أخبار أبي حنيفة ومالك ،
والشافعي وأحمد ، ومن منهم لم
يسمع عن ابن كثير ، وابن القيم ،
والبخاري ، ومسلم . ولكن في مقابل ما
أعطي العلماء من المقام الكريم
والتشريف العظيم ، فإنهم
يتحملون التكليف الجسيم . وكما ينسب إليهم معظم
الفضل في رفعة الأمة أيام
رفعتها ، فإنهم يتحملون معظم
اللوم في تقهقر الأمة واضمحلال
حالها . فقعود حال أمة من
الأمم ، يدل على قعود علمائها عن
واجبهم ، وتقصيرهم في أداء
مهمتهم . ولقد باتت أصابع
الاتهام توجه إلى هؤلاء القوم
الكرام من هنا وهناك . وحاول المخلصون
الدفاع عن العلماء وتبرئة
ساحتهم من كل ما ينسب إليهم
ويقال عنهم ، ولكن الأحوال
الملموسة كانت أقوى من حججهم ،
والوقائع المحسوسة كانت أصدق من
تأويلاتهم ، فلم يستطيعوا أن
يأتوا بدفاع مقنع يبرئ العلماء
مما يوجه إليهم من تهم ، فغدا
أصحاب النظر في الأمة ، ممن
أدركوا تقصير العلماء في
مسؤولياتهم ، ولم يستطيعوا له
إنكاراً ، ولم يجدوا له
اعتذاراً ، فريقين اثنين . فمنهم من زهد في
العلماء واعتزلهم ، وهجرهم ورغب
عنهم ، وما عاد يوجه إليهم نقداً
أو عتاباً ، وكأنه يقول لنفسه :
أناس مفقود منهم الأمل ، فلنبحث
عن الحل عند غيرهم ، ولنسعَ في
التغيير بمعزل عنهم . وآخرون علموا أن صلاح
الأمة - إن كتب لها صلاح - لن يكون
إلا عن طريق هؤلاء الرجال الذين
هم أركانها وأساطينها ، وبهم -
لا بغيرهم - ينار طريق عزتها
وسؤددها ، وخلفهم - لا خلف إمام
سواهم - تمشي الأمة نحو مجدها
ورفعتها ، فعتبوا وانتقدوا ،
وربما أفرطوا - بدافع من غيرة
تملأ قلوبهم - في نقدهم ، فجرحوا
ولذعوا . فأين العلماء من ذلك
كله ؟؟ العلماء في هذه اللجة
المضطربة ، والمحنة العصيبة -
والحكم للغالب ولا عبرة بالخواص
- معرضون عن سماع ما يقال لهم ،
وما يقال فيهم . لم يرضخوا لحقيقة
أنهم يتحملون النصيب الأكبر من
المسؤولية عن أحوال الأمة
المزرية ، ولم يسلموا بوجود
مشكلة تستوجب منهم العمل على
حلها . وبما أنهم أبواق
الأمة وخطباؤها ، فإن صوتهم هو
المسموع ، فهم أصحاب المنابر
والأقلام ، يعظون ويخطبون ،
ويصنفون ويكتبون ، فتراهم في
ذلك كله يبعدون التهمة عن
أنفسهم ، وينحون باللائمة تارة
على الساسة ، وأخرى على رجال
الإعلام ، وثالثة على المجتمع
بأسره ، ليبقوا هم في أبراج
عاجية لا تطالها تهمة ، ولا ترقى
إليها إدانة . يحاكمون الإنسانية
جمعاء ، ويحملونها أكواماً من
التهم ، ويحكمون بهلاكها جملة ،
ليكونوا وحدهم الناجين
الفائزين . ولعل في هذا الكلام
ما فيه من القسوة ، ولكن ما أجمل
النقد الذاتي البناء عندما يكون
وسيلة للإصلاح . وما أعقل المرء عندما
يقبل الحقيقة ولو ثقلت ، ويسلم
بالواقع مهما كان مريراً ،
ويعترف بالتقصير في سبيل تداركه
. وما أحكم المرء الذي
يحاكم واقعه ليصلح مستقبله ،
ويدين أخطاء ذاته ليصل بها إلى
الصواب المنشود ، ويمتلك
الشجاعة التي تحمله على إعلان
تغيير مسار سار فيه مدة من الزمن
وسار الناس خلفه ، ثم تبين له
خطأ اتجاهه . ولا ينبغي للعلماء -
وهم من هم في وفور العقل وسداد
الرأي - أن يصيروا كالذي يضع يده
على الجرح فيتجاهل وجوده ،
ليهرب من مشقة علاجه وقسوة
جراحته . وحتى نزداد يقيناً في
وجود مشكلة ما ، لا بد من عرض
مظاهر هذه المشكلة وأعراضها
أولاً ، فإذا عرفت الأعراض سهل
وضع حلول ناجعة تخرجنا من هذا
الحال ، عسى نستنقذ الأمة ،
بإصلاح الأئمة . ثمة تساؤلات كثيرة
يثيرها الواقع ، ونبحث عن
إجابات شافية لها ، فنعجز
وتعيينا الحيلة ، واسمحوا لي أن
أستعرض بعض هذه التساؤلات التي
أرقت كثيراً من المخلصين ممن
يهمهم أمر المسلمين ، وأقضت
مضاجعهم . - لماذا فقد معظم
الناس ثقتهم في العلماء ؟ ولم
يعد للعلماء في نفوسهم تلك
الجلالة التي كانت ؟ - لماذا فقد العلماء
قدرتهم على شحذ الهمم وتحريك
العواطف ؟ - لماذا انقطعت
الصلات الحقيقية بين المجتمع
والعلماء ، وهجر الناس المساجد
إلا في الجمع والأعياد ، وصار
العلماء في واد والناس في واد
آخر ؟ -
لماذا تحول حضور خطبة الجمعة
إلى مجرد فعل تعبدي لا يظهر أثره
؟ - لماذا يسعى كثير من
العلماء والوعاظ والخطباء -
بقصد أو بغير قصد - إلى فصل الناس
عن واقعهم ، والمضي بهم إلى عالم
يخترعونه لهم أو ينسخونه من
صفحات الكتب لا يمت بصلة إلى
العالم الذي يعيشون فيه ؟ - لماذا يعمل بعض
الخطباء على تعميق الهزيمة
النفسية في قلوب الناس عوضاً عن
إرشادهم إلى طريق النهضة ،
ويكتفون بنعي الأمة على الملأ
بدلاً من تلمس سبيل إحيائها وبث
الروح فيها ؟ -
لماذا خلت المساجد من حلق العلم
بعد أن كانت تغص بها ، وأمست
المساجد في غير أوقات الصلاة
خاوية بعد أن كانت تغص بطلاب
العلم في كل وقت ؟ - لماذا صار العلم
الشرعي تخصصاً حكراً على فئة ،
وسادت الأمية الدينية بين الفئة
الكبرى من المسلمين ؟ - لماذا تحول العلم
إلى مجموعة من الشهادات
والألقاب ، بعد أن كان سلسلة من
الإنجازات التي خلدها الزمان ؟ -
لماذا قل المسلمون بالانتماء ،
في حين كثر المسلمون بالانتساب
؟ - لماذا يضخم العلماء
أعداد المسلمين الجدد في عيون
الناس ، ويتغافلون عن أضعاف
أعدادهم يتركون الإسلام إلى دين
غيره أو إلى لا دين ؟ -
كيف تحولت الدعوة الإسلامية من
الهجوم الناجح إلى الدفاع
المتعثر ؟ ولماذا صرنا لا نأمن
على إيمان أبنائنا في بيوتنا ،
بعد أن كنا نهدي الأحمر والأصفر
في أقاصي الأرض ؟ -
لماذا هجر الشباب المسلم
المساجد واتجهوا إلى الملاهي
والمقاهي ؟ وما الذي حولهم عن
المصاحف إلى شاشات التلفاز
ومقاهي الإنترنت ؟ - هل الشباب المسلم
بخير ؟ وهل حالهم على ما يرام ؟
أم إن بذور الإلحاد والانحراف
الفكري تترعرع بينهم ؟ -
هل يتحمل الشباب وحدهم وزر
إعراضهم عن دين الله وانحرافهم
عن جادته ، أم إن العلماء
يتحملون نصيباً من هذا الوزر ؟ - إلى متى سنبقى
مضطرين لسماع المهاترات
المقيتة والمجادلات العقيمة
بين أصحاب التيارات الفكرية
والمذاهب الفقهية ؟ -
لماذا صار المسلمون على وجه
العموم ، والعلماء خاصة ، مضرب
المثل في التفرق والتمزق ،
والتحاسد والتدابر ؟ - لماذا لم يتمكن
العلماء إلى الآن من إيجاد آلية
للحوار البناء الذي يوصل الأمة
إلى وحدة الكلمة ؟ - لماذا لم يجد أعداء
للأمة المسلمة
وللإنسانية حاقدون
متربصون ، ذوو صفوف منظمة
وخطط محكمة من العلماء من يواجه
خططهم بمثلها ليحبط ما يصنعون ؟ -
لماذا لم يتصد علماء الإسلام
لفضح هؤلاء على الأقل إن لم
يستطيعوا كبح جماحهم ، وإيقاف
زحفهم ؟ - هل تعرَّف العلماء -
قبل أن يعلموا غيرهم -
تعرفاً عميقاً موجهاً على
منظمات تعمل من أجل الباطل أكثر
مما يعملون هم من أجل الحق ؟ أسئلة أرى أنها مظاهر
صارخة لمشكلة عميقة . وراءها حقائق يراها
من يراها ، ويتغافل عنها من
يسوؤه كشفها . أسئلة أرى أن كتباً
تؤلف فيها ، وجهوداً مخلصة تبذل
في سبيلها ، أجدى وأولى من البحث
في عقد اليدين أيكون تحت السرة
أم فوقها ، وفي تحريك السبابة في
التحيات أسنة هو أم ليس بسنة ،
وفي المصافحة بعد الصلاة أهي
سنة حسنة أم بدعة سيئة ، وفي
الحَجاج أمرحوم هو أم ملعون ؟
إلى آخر هذه المسائل الصغيرة ،
التي كبرتها عقول صغيرة ،
فأشغلت بها الأمة ، وأهملت في
مقابلها أسئلة مصيرية يتوقف
عليها مستقبل الأمة ووجودها . ولنبدأ بالإجابة عن
التساؤل الأول ، ولعله الأقسى
وقعاً ، والأشد وطأة . ألا يزال العلماء
يحتلون في قلوب الناس المكانة
ذاتها التي كان أسلافهم
يحتلونها ، من التبجيل والتعظيم
؟؟ ألا تزال لهم تلك
القداسة والسمو في أنظار عامة
المسلمين ؟؟ وهل هم في نظر العامة
- سوى تلامذتهم ومريديهم - كما
كانوا أصحاب الحصانة والصيانة ،
الذين يقاربون مقامات الأنبياء
؟ وهل الناس اليوم - كما
كانوا في سالف العصور - يلجؤون
إليهم في كل ملمة ، ويطلبون
مشورتهم في كل مشكلة عارضة في
دينهم ودنياهم ؟ ويثقون
بأشخاصهم وآرائهم على حد سواء ؟ لعل الواقع ليس بهذا
الإشراق والنصاعة . لقد فقد معظم الناس
ثقتهم في العلماء ، بل فقد بعضهم
احترامهم أيضاً ، حتى صار
العلماء عند شريحة واسعة من
المجتمع المسلم مضرب المثل في
العديد من السلبيات ، وحتى صار
فريق من المسلمين يستحيي من
إظهار التزامه أمام بعض الناس
خشية أن يحسب عليهم . وإن كان البعض يرى في
هذا الكلام مبالغة ما فلأنه لم
ير ما رأيت ، فلست إلا واصفاً
لواقع رأيته وعايشته ، يعيشه
قطاع واسع من المجتمع
المسلم . هذه الصورة السالبة
التي تكونت في أنظار هؤلاء
للمشايخ أبعدتهم عنهم ، ونفرتهم
منهم ، حتى إن كثيراً من
المسلمين يولد ويموت ولم يلتق
بشيخ في لقاء شخصي قط !! في عهد أجدادنا في
أبعد تقدير ، كان المجتمع كله
يتربى على أيدي العلماء ، فمنهم
الذي يكون له شيخ يلقاه في ليله
ونهاره ، ويصحبه في حله وترحاله
، فلا يصدر إلا عن رأيه ، ولا
يقدم على أمر إلا بعد مشورته .
ومنهم المواظب على حضور مجالس
العلماء دون اختصاص بواحد منهم .
وأقلهم حظاً من العلاقة
بالعلماء ذاك الذي تربى على يد
شيخ في طفولته ، ثم انطلق في
مجالات الحياة . وهذا - لا ريب – كان
يحفظ لشيخه خاصة ، ولجنس
المشايخ عامة حرمة في قلبه ،
فينظر إليه بعين التبجيل
والتعظيم ، فيبقى شيخه كبيراً
وهو صغيراً مهما كبر ، ويبقى
الشيخ هو المعلم وهو التلميذ
مهما تعلم . المجتمع كله كان يثق
بالشيخ ويجله ، ويحفظ له حرمة ،
ويعرف له قدراً . أما اليوم فإن النظرة
العامة إلى المشايخ قد اختلفت ،
والرأي العام فيهم قد تحول ،
فرغب الناس عنهم بعد رغبتهم
فيهم ، وزهدوا فيهم بعد إقبالهم
عليهم ، حتى إن كثيرين لا
يجتمعون في حياتهم كلها بشيخ
واحد ، بل إن بعضهم إذا اجتمع
مصادفة بشيخ في مجلس تحرج من
مجلسه ذلك ، حتى يفارقه أو
يفارقه الشيخ فيشعر بالراحة
والانبساط . العلماء في نظر هؤلاء
يمثلون الجانب الآخر من المجتمع
، ذلك الجانب الذي يسمعون عنه
ولا يريدون أن يروه . حتى الذين يرتادون
المساجد ، ويسمعون المواعظ
والخطب ، صار الكثيرون منهم لا
ينظرون بعين التبجيل والتعظيم
إلى من يسمعونهم ، ويأخذون عنهم
، وربما جلس في خطبة الشيخ ، ثم
خرج فتكلم عنه بالسوء
، وربما أضمر السوء في نفسه
حذر الوقوع في الغيبة !!! فما السر ؟؟!!! هل فسد الناس كلهم
هكذا وخبثوا دونما سبب معلوم ؟
وهل تحولوا فجأة إلى شياطين بعد
أن كانوا ملائكة ؟ وهل انقلبوا
على العلماء دون جريرة اقترفوها
؟ هل من المجدي أن
يحمّل العلماء المجتمع مسؤولية
واقع ساهموا في إيجاده ؟ إن المجتمع معذور -
إلى حد ما - في غياب الثقة
السالفة في علمائهم ، لأنهم
يعيشون في واقع يؤثر فيهم
فيتأثرون ، فأحوالهم ليست إلا
نتائج أوجدتها مقدمات ليست من
قِبَلهم . ولا بد من الشفافية في
بحثها . تياران ظاهران
يمثلان النسبة الكبرى من شيوخ
هذا العصر ، إلا من رحم ربي ،
بهما فقد الناس ثقتهم في جنس
العلماء عامة . أما الأول فهو فريق
علماء الدنيا ، الذين اتخذوا
العلم الشريف وسيلة لأغراض
دنيئة ، فكانت الدنيا أكبر همهم
ومبلغ علمهم ، علم الدين
عندهم سلعة ثمنها بخس دراهم
معدودة ، يأكلون أموال الناس
بالباطل ، يستكثرون من الدنيا
حلالها وحرامها ، يأخذون ولا
يعطون ، يطرد الفقير والمسكين
عن بابهم وأموال الناس في
أيديهم ، همهم في الدنيا مسابقة
أهلها ، أهمتهم القصور الشامخة
والمراكب الفارهة ، يأمرون
الناس بالبر وينسون أنفسهم ،
داهنوا السلطان طمعاً فيما عنده
، فحرفوا الدين ، وزيفوا الحق ،
وقلبوا الحقيقة ، فهم في نظر
الناس كالذئب الذي يمثل دور
الحمل ، انصرفت قلوب الناس عنهم
، فكانوا شراً ووبالاً على
الإسلام وأهله ، والعلم وذويه . وأما الآخرون فهم
علماء صالحون مخلصون ، معرضون
عن الدنيا وزينتها ، زاهدون في
المناصب وفتنتها ، لا يرقى إلى
استقامتهم شك ، ولا يتهمون في
دينهم ولا مروءتهم ، غير أنهم
بسطاء قي تفكيرهم ، لا يشعرون
بما يتطلب العصر الحديث منهم ،
أو لا يقوون عليه ، اشتغلوا في
علم نافع ، ولكنهم عن انصرفوا عن
العلم الضروري ، يحسنون الكلام
في أمور الدين ، ولكن كأنهم لا
يعيشون في هذه الدنيا ،
فالسياسة والاقتصاد ، وعلم
النفس والجغرافية ، فضلاً عن
الحاسوب وتقنياته والإنترنت
ومجالاتها ، علوم أجنبية عنهم ،
لا يعرفونها ولا تعرفهم ، بل
ربما كانت في نظرهم محرمة تبعد
عن الله وتصد عن سبيله ، اعتزلوا
المجتمع فعزلهم ، وانفصلوا عن
حركة الزمان فأسكنهم الزمان
وجمدهم ، فالناس يرونهم بركة
الزمان ، ولكنهم من غير هذا
الزمان جاؤوا ، ولغيره خلقوا ،
فهم يعيشون في العصر الحديث
بعقلية القرون الوسطى . فإن كان الناس قد
فقدوا ثقتهم في أشخاص الفريق
الأول ، فإنهم قد فقدوا ثقتهم في
آراء الفريق الثاني وإن كانوا
محترمين كأشخاص . وبين الفريقين ضاع
الدين . فلا الأول أهل
لاحترام الناس ، ولا الآخر قادر
على مجاراة تطلعاتهم ومسايرة
تقدمهم . هذه هي المقدمات فما
النتيجة ؟ لما فقد الناس ثقتهم
في العلماء - أشخاصاً وآراءً -
فقد العلماء قدرتهم على التأثير
، فكلامهم يذهب في الهواء ،
ومواعظهم لا تلقى آذاناً تصغي
ولا قلوباً تتأثر ولا جوارح
تستجيب ، وصار العلماء عاجزين
عن تغيير أصغر سلوك فردي وأصغر
ظاهرة اجتماعية ، فضلاً عن
إحداث تغيير في حال الأمة ، لأن
الناس صاروا يسمعون بآذان
رؤوسهم ، بعد أن كانوا يستمعون
بقلوبهم وعقولهم وكل جوارحهم . ولم يتوقف الأمر عند
انعدام الأثر ، إذاً لهان الخطب
، ولكن الناس لما فقدوا ثقتهم في
علمائهم هجروا مساجدهم ،
وأعرضوا عن دينهم ، وانصرفوا عن
صراط الهدى إلى سبل الضلال ، لأن
غالب الناس عوام في تفكيرهم ،
والعامي لا يميز بين المبادئ
والرجال ، فيعتنق المبدأ إذا
أحب صاحبه ، ويكفر بالمبدأ إذا
استاء من حامله . عندها خلت المساجد
إلا في الجمع والأعياد ، وصار
الذين يأتونها يأتون بدافع
الواجب التعبدي المحض ، بعد أن
كان الحب هو يدفعهم ، والشوق
يجذبهم . فهل نبالغ إن قلنا :
إن المسؤول الأكبر عن بعد الناس
عن الدين ، وهجرهم للمساجد هو
العلماء ، وإن عامة الناس ضحايا
لا مجرمون ، لأنهم كانوا أصحاب
ردود أفعال ، والأفعال بدأت من
العلماء . وأما التساؤل التالي
فهو يتصل بخطبة الجمعة على وجه
الخصوص ، ثم قس عليها كل مناسبة
وعظ أو تذكير . لماذا فقدت خطبة
الجمعة في معظم بلدان العالم
الإسلامي تأثيرها البناء ،
وقدرتها على شحذ الهمم وشحن
العواطف وتغيير المسار ؟ لماذا صارت فعلاً
تعبدياً محضاً بعد أن كانت
مؤتمراً اجتماعياً عاماً يمارس
الدور الريادي في البناء
والتحريض ؟ ولماذا أمسى الناس
يأتونها - إن أتوها - بقصد إسقاط
الفرض وتجنب الوزر ؟ نقرأ في السنن ثواب
الذي يأتي صلاة الجمعة في
الساعات الأولى من النهار ، ثم
ننظر فنرى معظم المصلين لا
يأتونها إلا بعد صعود الخطيب
المنبر ، ومنهم من يحرص على
إدراك الصلاة لا غير . ولقد رأيت في أكثر من
بلد من بلدان العالم الإسلامي
شباباً يقضون وقت الخطبة وهم
يتحادثون في فناء المسجد واقفين
أو ماشين ، حتى إذا أقيمت الصلاة
انتظموا في الصفوف . فمن وراء هذا ؟ أهم
الناس قد فسدت عناصرهم وتغيرت
فطرتهم ، أم هم الخطباء ما عاد
لهم ذلك الحضور وتلك الجاذبية ؟! أظن الجواب واضحاً
لذي بصيرة . لقد رأيت في أوساط
الشباب المسلم كثيرين من أصحاب
الطيش ممن وصلت ردود أفعالهم
إلى حد ترك الفرائض ، فقال لي
بعضهم : إني من سنوات لم أسمع في
خطبة الجمعة موضوعاً واحداً
يلامس حياتي ، ويعالج مشكلاتي ،
إنما هي القصص المعادة التي
سمعناها حتى حفظناها ، والأسلوب
الإنشائي الذي يشبه ما كنا
نقرؤه في كتب الإنشاء المدرسي ،
ورفع الصوت وخفضه دون طائل وراء
ذلك ، ومضمون أجوف إذا وضع على
ميزان هذا العصر ومشكلاته ،
والشباب وهمومه ، لما وزن مثقال
ذرة . لذلك ترك ذلك الشاب الجاهل
صلاة الجمعة ، وهو بذلك - لا ريب -
آثم ، ولكن يشاركه في الإثم من
حمله على ذلك . لقد اقتصرت خطبة
الجمعة في الغالب على موضوعات
مكررة حفظها الصغير والكبير،
حتى مل الناس سماع مواعظ
الأوراق المهترئة من كثرة ما
أعيدت وطرقت ، وسئموا من الركون
إلى شيوخ لا يحترمون عقولهم ،
ويخاطبونهم ذاك الخطاب القديم
الذي لا يتجدد ، وكأن معين الدين
قد جف ، وكأن
الإسلام لم يأت بعلم لا ينفد ،
وفكر لا ينضب . بعض الخطباء يرتجلون
خطبهم ، وليس لهم قدرة على
الارتجال وليسوا من أهله ،
فيأتي كلامهم مفكك الأوصال لا
ترابط بين أجزائه ، سطحي الطرح
لا عمق في مضامينه . وبعضهم يحضر خطبته
ويتعب في إعدادها ، ولكن من أين
يستمد مادتها ، ويأتي بأفكارها
؟؟ إنه يستمدها من بطون الكتب
التي علا عليها الغبار ! فيأتي
بكلام لا يمت إلى واقع الناس
بصلة . وكان أولى به أن
يستمدها من الواقع الذي بين
يديه ، ليعالج مشكلات تتفاقم
وتزداد يوماً بعد يوم ، فالناس
إلى الكلام عن أحوالهم أحوج
منهم إلى غيره ، وقصص الماضي
وحكايات التراث ليس لها جدوى ما
لم ترتبط بإسقاطات على الحاضر
المعيش . وربما اعتذر بعض
الخطباء في بعض بلدان العالم
الإسلامي فقال : إن أوضاع
السياسة في بلادنا تضرب حولنا
سوراً لا نستطيع تجاوزه ، تحدد
لنا نطاقاً ضيقاً من حرية
الكلام تمنعنا من الخروج عنه ،
فعندنا الكلام عن الجهاد محرم ،
وفضح قوى البغي والإفساد يوجب
التبعة ، أفليس لنا في هذه
القيود عذر ؟! فأقول لهم : نعم إن
لكم عذراً ، ولكنه أوهن من نسج
العنكبوت ، وليس هذا العذر إلا
جرياً على أسلوبنا المعتاد في
التبرؤ من المسؤوليات ، وتحميل
أوزارنا كاملة للغير . فالعاقل لا يعدم
الوسيلة ليصل إلى ما يريد ، وإن
منعتك السياسة من دخول باب ، فإن
دونك أبواباً كثيرة لا تزال
مفتحة ، وما أكثر مشكلات
المسلمين التي تستوجب الحل
السريع ، مما ليس للسياسة فيه
مدخل ، وما على الخائض فيه جناح
!! ولكننا نتقن فن تبرئة
الذات ، من خلال تحميل كل
أوزارنا وتبعاتنا للطرف الآخر
كائناً من كان . إن زهد الناس في سماع
المواعظ والخطب ساهم فيه عاملان
اثنان : زهده في المتكلم وزهده
في كلامه . فهو أحياناً غير
مقتنع بشخص الخطيب ، فكيف يتأثر
بكلامه ؟! وفي الأحيان الأخرى إن
كان لا يعرف شخص الخطيب ولا يعرف
عنه سوءاً ، فإنه لا يسمع منه ما
يهمه سماعه ، ويشعر بأهميته في
واقعه . لا يخفى على أحد أن
معارف الناس قد تطورت ، بل
تضاعفت في هذا العصر الذي يسمى
" عصر المعلومات " ، ولم
يجار هذا التطور المعرفي تطوير
ذاتي من قبل العلماء ، حتى صار
كثير من المسلمين إذا حضروا
خطبة الجمعة ، يشعرون بفراغ
الخطبة وفراغ الخطيب ، ولعل
الواحد منهم عنده أضعاف ما عند
الخطيب من المعارف التي يعرضها
عليهم مباهياً بعلمه ، مفتخراً
ببلاغته ، وكأنه اخترع قنبلة
ذرية ، فترى هؤلاء المثقفين
الحاضرين لشعورهم بفراغه
يكثرون النظر في الساعة
مستكثرين الوقت الذي يمضي وإن
قل ، ولذلك تراهم يعدون أخطاء
الخطيب لانعدام الثقة وعدم حصول
الفائدة . وعند فئة من الخطباء
، لم يتوقف الأمر عند انعدام
التأثير ، بل لقد ساهموا في
تعميق الأزمة النفسية التي
يعيشها معظم المسلمين ، زادوا
حلكة الليل فوق ما هو حالك ،
وعمقوا قنوط الناس فوق ما هم
قانطون ، صلوا بالناس صلاة
الجنازة على أمتهم ، فخرج
المخلصون من المسجد وقد سدت
الأبواب في وجوههم ، وقد سدها من
كان عليه فتحها وبيان سبلها . تراهم يقصون على
الناس أخبار أعداء الإسلام ،
وكيف أن الإنسانية كلها احتشدت
للقضاء على الإسلام وإبادة
المسلمين ، فيرغي ويزبد ، ويبرق
ويرعد ، فتتحول الخطبة إلى مجرد
نشرة أخبار محبطة ، حتى إذا وصل
السامع إلى السؤال الجوهري : ما
الحل ؟؟ ما العمل ؟؟ ما المخرج
؟؟ قال الشيخ : أقول قولي هذا
وأستغفر الله ، ونزل إلى صلاته
تاركاً هؤلاء المساكين في
إحباطهم وتخبطهم . وما ذاك إلا لأن
الخطيب نفسه غائم الرؤية مضطرب
الفكر حائر الجنان ، يجهل الحل ،
فيعلن جهله على الملأ ، بأسلوب
محبط يئد كل أمل ، فهلا إذا جهل
أمسك ، وعمل بالحديث الشريف :
" من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر فليقل خيراً أو ليصمت "
. ولا نبالغ إذا قلنا
إن الهزيمة النفسية التي تفتك
بجماهير الأمة ، قد ساهم
علماؤهم من حيث يشعرون أو لا
يشعرون في تكريسها وتعميقها ،
بينما كان المنتظر منهم أن
يخرجوا بهم من أزمتهم ، ويبينوا
لهم نهاية النفق ، ويدلوهم على
طريقها ، لا أن يغلقوا كل باب
مفتوح ، ويقتلوا كل أمل حي . وأما التساؤل التالي
الذي أتمنى أن أجد الجواب عليه
فهو : أين العلماء من
مسؤولية نشر العلم بين العامة ؟ إن الأمية الدينية
مستفحلة اليوم في أرجاء المجتمع
المسلم ، لا يستثنى من ذلك
المثقفون ولا أصحاب الشهادات
الجامعية العالية ، فأين
العلماء من واجبهم الأول ، نشر
العلم الضروري ، ومحاربة الأمية
الدينية ؟! كان المجتمع المسلم
قبل قرون ، بل قبل عقود عدة ،
أعلم بدينه منه في هذه الأيام ،
أيام الجامعات والألقاب
العلمية الرنانة . كانت مجالس العلم
تملأ المساجد في أرجاء البلاد
الإسلامية مشرقها ومغربها ، في
المسجد الأقصى - مثلاً - كانت مئة
حلقة علمية تعقد على مصاطب
الحرم القدسي المئة في وقت واحد
، وفي الجامع الأموي الكبير في
حلب ، سمعنا ممن عاصروا ذلك
العهد أن المسجد كان لا تخلو
زاوية من زواياه من حلقة علم ،
وهكذا في أقطار الإسلام كافة ،
وكانت مجالس المساجد متاحة
لأفراد الناس وعامتهم ، لا
تحتاج إلى التفرغ ، ولا تقتضي من
طالب العلم أن يترك المجالات
الأخرى التي يدرس فيها أو يعمل . كان عامة الناس
يطلبون العلم الشرعي في المسجد
من نعومة أظفارهم ، حتى إذا أتقن
فرض عينه مما لا يسعه جهله ،
اختار لنفسه طريقاً ، فإما أن
يتخصص في هذا العلم الشرعي ،
وإما أن يتخصص في غيره من علوم
الدنيا ، أو يخوض في مجال العمل
التجاري أو غيره ، ولا يخفى أن
المرء إذا أتقن فرض العين من علم
الدين ، كان تخصصه فيه وتخصصه في
غيره من العلوم الدنيوية
النافعة سواءً في الحكم ، ألا
وهو فرض الكفاية . أما اليوم ، فإن
العلم الشرعي قد بات تخصصاً
مقصوراً على فئة قليلة من
المسلمين ، إذ لا مجال لتحصيل
العلم إلا من خلال الانتظام في
مدرسة شرعية ، وليس كل الناس
يرغبون في التخصص في علوم الدين
، والشرع لا يفرض ذلك عليهم ، بل
إن الشرع يفرض أن يكون في
المسلمين الطبيب الماهر ،
والكيميائي الخبير ،
والمتخصصون في سائر العلوم
النافعة . فإذا كان هذا هو
الحال ، فإن هؤلاء سوف يحرمون من
حقهم وواجبهم : العلم الشرعي
الضروري ، الذي لا تصح العقيدة
ولا العبادة إلا به . حتى بات معظم
المسلمين جاهلين بما لا يسعهم
جهله من فروض العقائد والأعمال
، وصار كثير من أصحاب الشهادات
العالية لا يحسنون تلاوة القرآن
فضلاً عن فهمه ، وقد لا يعرفون
عدد أركان الصلاة فضلاً عن
تفصيل سننها وآدابها ، ومعظمهم
يجهل مسائل أصول العقيدة فضلاً
عن فروعها وأدلتها ، وقد لا
يعلمون أبجديات السيرة النبوية
ناهيك عن تفاصيلها . على من تقع المسؤولية
في جهل هؤلاء ؟ لا ريب في أنهم
مقصرون غير
معذورين ، ولكن أشد منهم
تقصيراً من كان بأيديهم العلم
فمنعوه أهله المحتاجين إليه ،
ورأوا الناس يتخبطون في الجهالة
فلم يمدوا إليهم يد العون ، ولم
يعرفوهم بما يجب عليهم فعله وما
يحسن بهم اتباعه . إن الفئة الكبرى منهم
لا يعرفون أن طلب قدر من العلم
الشرعي مفروض عليهم وإن لم
يكونوا شيوخاً ، بل إنهم يظنون -
ولبعض المشايخ في خلق هذا الظن
يد - أن المرء لا يطالب بمعرفة
مسائل الفقه ، وإحسان تلاوة
القرآن ، إلا إذا أراد أن ( يشتغل
) شيخاً ، فتحول العلم الشرعي في
نظرهم إلى اختصاص يتعلمه من
أراد أن يمتهنه
، ويزهد فيه من حصل مهنة
أخرى يعيش منها ، فإذا لم يبين
العلماء حقيقة الأمر ، ويحضوا
الجمهور على طلب العلم ،
ويهيئوا لهم أسبابه ، فإني أرى
من الجور أن نحمل عامة الناس
المسؤولية كاملة . وعلى فرض أن الشاب
علم وجوب طلب العلم الشرعي على
كل المسلمين ، في أي اختصاص
كانوا ، فسعى إلى طلب العلم ،
فأين يطلبه ؟ المساجد اليوم خالية
من مجالس العلم إلا قليلاً ، وكم
من طالب سعى إلى العلم الشرعي
فلم يجد إليه سبيلاً ، تراه يبحث
- وهو في بلاد المسلمين ومهد
العلماء - عن درس في الفقه أو
التفسير أو العقيدة ، فلا يوفق
إليه ، وقد يعييه البحث فيمسك
عنه ، وكم طلب شباب من بعض
العلماء أن يتكرموا عليهم
بتعليمهم ، وأن يتواضعوا لهم
فيؤدوا واجبهم تجاههم ، فاعتذر
هؤلاء بضيق الوقت وكثرة الشواغل
! وأي شاغل يصرف العالم عن
المسؤولية التي حمله الله إياها
، والتي يحاسب عليها قبل غيرها ،
وهي الرسالة التي شرفه الله بها
. أما قال النبي صلى
الله عليه وسلم : " إن إخوانكم
يأتونكم من أقطار الأرض يطلبون
العلم ، فاستوصوا بهم خيراً " إن المسؤولية جسيمة ،
والتقصير فيها خيانة للأمانة ،
ونقض للميثاق الذي أخذه الله
تعالى على العلماء : ( وإذ أخذ
الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب
لتبيننه للناس ولا تكتمونه
فنبذوه وراء ظهورهم ) بعد أن كان المسجد
مثل خلية النحل ، مجالس العلم
فيه لا تنقطع ، وأفواج الطلبة
تتناوب في إعماره ، أمسى لإقامة
شعائر الصلاة لا غير ، وفي سوى
أوقاتها خاوياً مغلق الأبواب ! وكان العلماء يقفون
أنفسهم على طلاب العلم ، فيأتيه
واحدهم فيقول : إنني أعمل أو
أدرس في الجامعة ، وأكون
مشغولاً طوال النهار ، ومع ذلك
أنا أرغب في تعلم أمورِ ديني ،
فيلبي العالم طلبه دون تأخر ،
ويعطيه من وقت راحته في أول
النهار أو آخر الليل ، مسروراً
بذلك لا يتبع صدقته بالمن
والأذى ، ولا يرى أنه يفعل أكثر
من واجبه ، فأمسوا اليوم في شغل
غير الذي افترضه الله عليهم . كثرت الجامعات
والمدارس الشرعية ، وهي تخرج كل
عام ألوفاً من طلاب العلم ،
فماذا قدم هؤلاء للجانب الآخر
من المجتمع ؟! زيادة أعداد
الخريجين لم تنعكس إيجابياً على
المجتمع ، ولم تسهم في تعميم
العلم وتعريف العامة أحكام
دينهم الضرورية ، بل إنها أسهمت
في تعميق الهوة بين الجانب
الديني والجانب الدنيوي في
المجتمع المسلم ، حتى صار علماء
الدين في نظر الكثيرين أشبه
برجال الدين عند النصارى ، وصار
الناس ما بين ديني لا يعيش مع
أهل الدنيا ، ودنيوي لا يفقه
شيئاً في الدين . وإلى التساؤل التالي
: هل الدعوة الإسلامية
تسير على ما يرام ؟ وهل المسلمون عامة ،
وعلماؤهم على وجه الخصوص ،
يقومون بدورهم الأهم ، ويؤدون
مسؤوليتهم الأولى التي حملها
رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وورثها أصحابه الكرام من بعده ،
ومن بعدهم التابعون وتابعوهم ؟ هداية البشرية ،
وإخراج الناس من الظلمات إلى
النور ! إن أعداد المسلمين
اليوم عظيمة ، ونسبتهم في
العالم كبيرة ،
ولكن تزايد الأعداد وزيادة
النسبة لا يدلان بالضرورة على
انتشار كبير للإسلام في
المجتمعات غير المسلمة عن طريق
الدعوة . إن ازدياد أعداد
المسلمين ونسبتهم في التعداد
السكاني العالمي ناتج عن عاملين
لا عامل واحد . أما أحدهما فهو
المسلمون الجدد الذين كفروا
بالطاغوت وآمنوا بالله الواحد ،
واختاروا الإسلام اختياراً
واعياً واعتنقوه بعد أن درجوا
وشبوا في رحاب دين غيره ، وأما
الآخر فهو التكاثر السريع
للمسلمين أنفسهم ، لحرصهم على
الإنجاب وحبهم لكثرة الأولاد ،
وتلك سنة مأثورة في الأحاديث
الصحيحة . ولعلنا لا نجانب
الحقيقة إن قلنا إن العامل
الثاني - التكاثر السريع
للمسلمين - له الحصة الكبرى في
زيادة النسبة العددية للمسلمين
في عدد سكان العالم ، وأما
العامل الأول - المسلمين الجدد -
فإن نسبته ضئيلة خجولة متواضعة . بهذا يظهر لنا أن
كثيرين ممن يصفون الدعوة
الإسلامية في العالم ، وخاصة في
الغرب ، يخلطون الأوراق - من حيث
لا يعلمون في الغالب - عندما
يتكلمون عن انتشار هائل للإسلام
، وكيف يدخل الناس فيه جماعات ،
ثم يستشهدون بأرقام تظهر النسبة
المتزايدة للمسلمين في العالم ،
فإن هذه الأرقام وإن كانت مدعاة
للسرور والبشر من ناحية ، فإنها
من ناحية أخرى لا تمثل شاهداً
على النجاح الدعوي بقدر ما تصلح
شاهداً لموضوع آخر . أعداد المسلمين
الجدد تتضاءل خجلاً وتواضعاً
إذا قورنت بالأنهار البشرية
الغزيرة التي كانت تصب في بحر
الأمة الإسلامية في العصور
السالفة ، حيث كان المسلمون
عامة ، والعلماء خاصة ، يتحملون
مسؤولياتهم في تبليغ دين الله
على أكمل وجه ، ويحققون فريضة
الدعوة إليه بالحكمة والموعظة
الحسنة ، ويؤدون رسالتهم
الخالدة ، فيرشدون كل ضال ،
ويهدون كل حائر ، ويخرجون الناس
من عبادة الطواغيت إلى عبادة
الواحد الأحد . في عصر النبوة ابتدأ
الإسلام برجل واحد ، صلوات الله
وسلامه عليه ، عمل في البداية
وحيداً ، ثم ناصره قلة من الرجال
المخلصين ، وما زال الإسلام
يمتد وينتشر ، ويفتح القلوب
وينير العقول ، حتى بلغت أعداد
المسلمين رقماً قياسياً مقارنة
بمدة الدعوة ، فلم يقبض النبي
صلى الله عليه وسلم ، حتى كانت
أعداد المسلمين تزيد على مئة
ألف وعشرين ألفاً . كانت القبيلة تدخل
الإسلام جملة واحدة ، وكان
الإسلام ينتشر بسرعة تسر الصديق
وتفزع العدو ، كان كل مسلم داعية
، واستشعر الناس عموم المسؤولية
، فقام بها عامتهم فضلاً عن
الخاصة ، حتى أسلم على يد أبي ذر
الغفاري وحده قبيلتا غفار وأسلم
بأسرهما . وانقضى عصر النبوة ،
وبدأ عصر الفتوح الإسلامية
المظفرة ، ولا يقل قائل إنما كان
انتشار الدعوة في عهد النبوة
راجعاً إلى معجزة إلهية خص بها
نبيه صلى الله عليه وسلم ، فها
هي ذي المسيرة تستمر بعد انتقال
النبي صلى الله عليه وسلم إلى
الرفيق الأعلى ، وهاهو ذا الزحف
الإسلامي يمضي قدماً دون توقف ،
وهاهي ذي شعوب الأرض تفتح
قلوبها وحصونها بكل حب للفاتحين
، كما لم تفعل لغاز أو فاتح ،
وهاهي ذي أمم بأسرها تتحول إلى
الإسلام في ظرف سنوات معدودة ،
حتى غدت الشام ومصر والعراق
بلاداً يسودها الإسلام بعد أن
كان كل أهلها نصارى أو مجوساً أو
عباد أصنام . وكم أعجب كلما قرأت
تلك النادرة التاريخية الفذة
التي دونتها كتب التاريخ ،والتي
جرت في عهد الخليفة العادل ،
خامس الراشدين ، عمر بن عبد
العزيز ، فاقرؤوا واسمعوا ، ثم
اعجبوا إن شئتم . أرسل والي مصر إلى
أمير المؤمنين عمر بن عبد
العزيز رسالة فحواها : إن أهل
مصر قد كثر دخولهم في الإسلام
جماعات جماعات ، وإن الرجل من
أهل الذمة إذا دخل في الإسلام
سقطت عنه الجزية ، لذا فقد أثر
الدخول الكثيف للمصريين في
الإسلام تأثيراً سلبياًُ على
خزانة الولاية ، وسيؤثر هذا على
خراج مصر الذي يرسل إلى عاصمة
الخلافة ( دمشق ) . فالعذر إلى أمير
المؤمنين إن رأى خراج مصر ينقص
عاماً بعد عام ! العجب العجب !! أعداد
المسلمين الجدد تذهل المسلمين
أنفسهم ، وتثير قلق أمراء
الدنيا ! وصل الكتاب إلى أمير
المؤمنين فكان جوابه إلى الوالي
سريعاً ، جواباً دونه التاريخ
ووعته أذن الزمان . " إني والله لأرجو
أن يدخل أهل مصر كلهم في الإسلام
، ولا يجبى إلي منها درهم واحد ،
فإن الله بعث محمداً هادياً ،
ولم يبعثه جابياً " . ولا ندري أنعجب من
والي مصر ، وهو الذي ينفي
بعفويته كل التهم التي صارت
تكال للمسلمين بأنهم أكرهوا
الناس على اتباع دينهم ،
وأدخلوهم الإسلام بالسلاسل ! أم نعجب من جواب عمر ،
الذي لخص رسالة الإسلام ومقصده
، ولخص مسؤولية المسلمين من بعد
نبيهم بعبارة موجزة بليغة ! ولم تتوقف الدعوة
الإسلامية العالمية عند الفتوح
والغزوات ، لئلا يقول قائل ،
إنما انحسر المد الإسلامي
لتعطيل الجهاد ، فمن زعم ذلك فقد
نفى عن الإسلام قدرته الذاتية
على الإقناع ودخول القلوب
والعقول ، وادعى أن الإسلام لا
ينتشر إلا تحت ظلال السيوف . ففي عصر الرحلات
التجارية والاستكشافية ، كان
للتجار والرحالة المسلمين أثر
خالد لا يزال مشهوداً في أقطار
الأرض ، فعلى أيدي قلة من التجار
المسلمين المخلصين تحولت أمم
إلى دين الله ، فأسلمت ماليزيا
وبر وناي وإندونيسيا وجنوب
الهند ، ولم يدخلها جندي واحد . وعلى أيدي عدد من
رجال التصوف الصادقين ، أسلمت
تشاد والنيجر والسنغال
وسيراليون ، وما احتاجت إلى رمح
ولا سيف . وانقضى عهد الصحابة ،
ومضى عهد الفاتحين ، وولى عهد
التجار الدعاة ، فلماذا توقف
الزحف ؟ في هذا السؤال أيضاً
نحن متفننون في التملص من
المسؤولية ، والرمي بها على
الآخر . كلنا تكلمنا عن
الآخرين - غير المسلمين - ،
تكلمنا عن الكفار الميؤوس من
إيمانهم ، المطرودين من رحمة
الله ، الذين لا يرجى منهم خير ،
وليس بيننا وبينهم علاقة سوى
الصراع . وأغفلنا سر هذه
الرسالة وجوهرها ، النور والهدى
، والخير الذي جاءت به
للإنسانية جمعاء . لماذا توقف تيار
الداخلين في الإسلامي بعد أن
كان جارفاً هداراً ؟! أتراهم الناس فسد
عنصرهم ، فكانوا ملائكة يدخلون
في الإسلام لخير في طبائعهم ،
فلما صاروا شياطين ، وانقلب
خيرهم شراً ، أحجموا بعد
إقدامهم ، وانقلبوا على الإسلام
وأهله ؟! أم تراهم المسلمون هم
الذين تغيروا ، فما عادوا أولئك
القوم الذين يفرضون احترامهم
على العدو والصديق ، والذين لا
يملك من يراهم أن لا يحبهم ويحب
دينهم ويبادر إلى اتباعه ، وما
عادوا أولئك الرجال الأطهار
الأخيار الذين يعطون أكثر مما
يأخذون ، ويصفحون ولا ينتقمون ،
ويحبون ولا يبغضون ، وما عادوا
أولئك الملائكة في صورة البشر ،
الذين سارت بذكر أخلاقهم
الركبان ، وتغنت بشمائلهم
الشعراء ، وخلد الغرب والشرق
مآثرهم ! لعلنا نحن الذين
تغيرنا ، فتغير الآخر عندما
تغيرنا . نعيب زماننـا والعيب
فينـا
وما لزماننا عيب سـوانا ونشكو ذا الزمـان
بغير ذنب
ولو نطق الزمان لنا هجانا عندما رأى الناس
ديناً سماوياً ربانياً ، يصلح
دنياه وآخرته ليس فيه ما يعاب ،
ورأى أهله يحسنون تمثيله وعرضه
، سارعوا إلى اتباعه ، ثم لما
رأوا مسلمين ولم يروا إسلاماً
وتعرفوا على الإسلام من خلال
نسخ مشوهة تسيء عرضه ، وتظهر
السلوك المنحرف ، والنفس
الشريرة ، لم يجد في هؤلاء
المسلمين ما يجذب قلبه ، أو يقنع
عقله ، فيحمله على ترك دينه
وتغيير حياته . الآخر هو هو ، ولكننا
تغيرنا فتغير لنا ، ولو عدنا
لعاد . نفوسنا تغيرت ، وفرط
معظمنا في حمل الرسالة الشريفة
التي حملها أسلافنا فاهتدت بهم
شعوب وأمم ، فلما تغيرنا غير
الله حالنا ( ذلك بأن الله لم يك
مغيراً نعمةً أنعمها على قوم
حتى يغيروا ما بأنفسهم ) . وعلماء المسلمين هم
أول من يتحمل مسؤولية هذا
التفريط ، لأنهم إن عجزوا عن حمل
مسؤولية الدعوة ، وهم من هم في
العقل والعلم ، فإن عامة الناس
عن حملها أعجز . فأين العلماء من ذلك
كله ؟! أين هم من قوله تعالى
: ( وما أرسلناك إلى كافة للناس )
؟! وأين هم من قوله : (
كنتم خير أمة أخرجت للناس
تأمرون بالمعروف وتنهون عن
المنكر ) ؟! وأين هم من قوله : ( إن
هو إلا ذكر للعالمين ) ؟! لا ينكر أن الدعوة
الإسلامية قائمة في بلاد الغرب
والشرق ، وأن ثمة أناساً يدخلون
الإسلام في هذا البلد أو ذاك ،
ولكن أعداد هؤلاء المسلمين
الجدد لا ترقى إلى التطلعات ،
ولا تمثل على الإطلاق عظمة هذا
الدين الذي فتح العالم القديم
في عقود معدودة ، والذي كان
الناس يدخلون فيه أفواجاً . إن وجود عشرات أو
مئات يدخلون الإسلام هنا وهناك
، لا يعني أن الدعوة الإسلامية
على ما يرام
، ولا يعني أن علماء المسلمين
يقومون بدورهم ، ويؤدون
مسؤوليتهم على الوجه الذي ينبغي
. ومع ذلك ترانا نضخم
هذه الإنجازات ، ونقنع أنفسنا ،
ونقنع العامة الذين يأخذون
بكلامنا ، أن هذا هو أحسن ما
يمكن ،
وأن دخول عشرات من الناس في
الإسلام كل عام يمثل قمة الزحف
الإسلامي العالمي . ما أكثر المتعطشين
لمبادئ الإسلام ، الباحثين عن
فضائله وكمالاته ، وما أكثر من
ملوا إلحاد الغرب وحيوانيته ،
ووثنية الشرق وتناقضه ، وباتوا
في حاجة ملحة إلى هذا الدين الذي
ليس فيه اعتراض لمعترض ، ولا
يأباه عقل ، ولا تنفر منه فطرة ...
ما أكثر هؤلاء في مشارق الأرض
ومغاربها ، والمسلمون بأيديهم
الماء الزلال الذي يروي ظمأهم ،
ويستنقذهم من الهلكة ، وهم
يضنون به عليهم ! نظن أن البشرية مطبقة
على حرب الإسلام ، وأن غير
المسلمين كلهم سواء في ذلك ، لا
فرق بين أفرادهم ، وأنهم جميعاً
يستوون في خبث الطوية ، والحقد
على الحق ، وممالأة قوى الشر . ويعزب عن عقولنا أن
كثيرين منهم إن حاربوا الإسلام
فلجهلهم به ، وكما قيل : (
الإنسان عدو ما يجهله ) ، وليس
جهلهم به إلا نتيجة لتقصيرنا في
عرضه عليهم وتقديمه إليهم . ويعزب عن عقولنا أن
الآخرين كما أن فيهم الأشرار
الخبثاء ، فإن فيهم أصحاب العقل
وأرباب المنطق ، وفيهم من بذرة
الفطرة لم تمت فيه وإن كانت
ذابلة ، وأن أمثال هؤلاء لا
يتوقف إيمانهم إلا على وصف صادق
لمبادئ الإسلام السامية لا
يحتاج - من داعية حكيم متبصر -
أكثر من دقائق أو سويعات ، وأن
بعضهم لا يحتاج أكثر من معاملة
حسنة تتجلى فيها أخلاق الإسلام
، وكلمة طيبة تنفذ إلى قلبه
لتحببه بهذا الدين وأهله . في بلاد العرب ، قلما
توجه العلماء بالدعوة إلى
الأقليات غير المسلمة بمنهج
حكيم مخلص ، وكأن الله قد شرع
الدعوة لأهل زمان دون غيرهم ،
وكأنها فريضة قد نسخت ، أو كأن
الله قد أطلعهم على مصائر هؤلاء
وأنهم يصدق فيهم قوله سبحانه : (
إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد
آمن ) . وفي بلاد الغرب ،
تسير الدعوة الإسلامية بطيئة
أحياناً ، وتتعثر أو تنتكس
أحياناً أخرى ، ومشكلات الدعوة
هناك جمة ، تفرق في الكلمة ،
وتخبط في المنهج ، وخلفيات
غامضة ، وتناقض بين الطرح
والسلوك . وفي بلاد الشرق ،
يعيش مئات الملايين من غير
المسلمين ، جيراناً للمسلمين في
قراهم ومدنهم ، بل وفي أحيائهم
وبيوتهم ، يخالطونهم في
معاملاتهم ، ويتعرفون على
أحوالهم ، ومع ذلك لا نشم رائحة
انتشار حقيقي للإسلام بينهم . في هؤلاء المسلمين
علماء أجلاء يحفظون الكتب
بمتونها وحواشيها ، ويصنفون في
أصول المسائل وفروعها ، وعندهم
من العلم ما يشبع ويروي ،
وجيرانهم إلى جنبهم جوعى وهم
يعلمون . وفي مقابل هذا الشح
في أعداد من يدخلون الإسلام ،
هناك الكثيرون يخرجون منه ،
وعلماء المسلمين إما يجهلون ذلك
وإما يتجاهلونه . إن الأمة المسلمة
تعاني وضعاً خطيراً يستحق من
العلماء أن يعيروه انتباههم ،
بل يستحق أن يهز كيانهم من
الأعماق . لقد استغلت جهات
عديدة غفلة الأئمة عن الأمة ،
وانصراف الرعاة عن الرعية ،
وتقصير خاصة العلماء في حق عامة
المسلمين ، فعاثت فساداً في
العقول والأفكار ، والأديان
والعقائد ، وجعلت تعمل في
مسارات منظمة تلتقي كلها في
إخراج المسلمين من حوزة دينهم
إلى دين غيره أو إلى لا دين . فمنهم من يعمل على
إخراج المسلمين من الإسلام –
عقيدةً وأفكاراً – وإن لم
يدخلوهم في
دين آخر ، يدعون إلى الإلحاد
ويحاربون التوحيد ، ويستعينون
بكل وسيلة متاحة ، مدعومين من
قبل دول كبرى ، ومنظمات عالمية
نافذة ، وكم نجح هؤلاء في بث
سمومهم في أوساط الشباب
المثقفين وأنصاف المثقفين . ومنهم من يعمل على
تحويل المسلمين عن دينهم إلى
دين غيره ، وفي سبيل هذا تبذل
جهود هائلة ، وتنفق أموال طائلة
، ويكفي لندرك خطورة الوضع أن
نعلم أن آسيا وحدها ينصَّر فيها
كل عام مليون إنسان مسلم ،
ومثلهم ينصَّرون في أفريقيا . كل هذا يحدث من حولنا
، والعلماء والدعاة يتغنون
بإسلام أفراد الناس هنا وهناك ،
والجسد المسلم ينزف ، والأمة
المسلمة تفقد أبناءها ،
والمجتمع المسلم صار نهبة لكل
طامع ، والعلماء عن هذا غافلون
!!! لماذا نتجاهل
الأخطاء ؟ ونهرب من مواجهة
الأخطار ؟! لماذا نضخم
الإنجازات الصغيرة ، ونرفض
الاعتراف بالهزائم الكبيرة ؟! في يوم حنين أنزل
الله على نبيه صلى الله عليه
وسلم خاتمة سور القرآن - سورة
النصر - التي قال فيها : ( ورأيت
الناس يدخلون في دين الله
أفواجاً ) ، واليوم صار
الناس يخرجون من دين الله ،
ودين الله هو هو لم يتبدل ولم
يتغير ، هو قائم فينا بنصوصه
ومفاهيمه ، هو على حاله بكماله
وجماله ، ولكن العيب طرأ على من
يحملون هذا الدين . حق لنا أن نقول : لقد
انتقل علماء الإسلام ودعاته من
نجاح في الهجوم إلى عجز عن
الدفاع ، وثغور الإسلام تؤتى من
قبلهم ، وهم حماتها والمسؤولون
عن حفظها وحمايتها ، والذئاب
تعيث في القطيع ، ورعاته غافلون
منشغلون في غير ما هم عنه
مسؤولون ، وما أعظمها من
مسؤولية !! ومما يتصل بهذه
المسألة ما نراه من بعض علماء
المسلمين ودعاتهم من عجز عن
استقطاب أصدقاء مساندين
للإسلام ، فهم ينظرون إلى
الكافر على أنه خلق فاسد ميؤوس
منه ، وكأنه الله أطلعه على علمه
وكشف عن بصيرته أن أولئك القوم
هم الذين أنزل الله فيهم : ( إن
الذين كفروا سواء عليهم
أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا
يؤمنون ) . ثم هم لا يتصورون أن
ثمة أناساً منصفين عرفوا حقائق
الإسلام فأعظموها وأعجبوا بها ،
قد لا يدخلون في الإسلام لسبب
شخصي أو اجتماعي ، ولكن هذا لا
يمنعهم من أن يؤدوا خدمة لهذا
الدين العظيم ، ويمكن أن يكونوا
أصدقاء له ، مفيدين في خدمة
رسالته . لقد صار كثير من
علماء المسلمين في هذا الزمان ،
متفننين في تربية الأعداء ،
ولهم أساليب شتى تثبت تفوقهم في
حشد صفوف الناقمين . وبما أن العامي لا
يميز بين المبادئ والأشخاص
الذين يحملونها ، فإنه لا
يستطيع الفصل بين الإسلام
وهؤلاء العلماء الذين يمثلونه ،
فإن حارب عالماً منهم فإنه لن
يكون عدواً شخصياً له ، بل إنه
في الغالب سيكون عدواً للإسلام
الذي يمثله . ومن هؤلاء العلماء من
ينفّر الناس من شخصه ، ومن ثم
ينفرهم من دينه ، ويستجلب عداوة
معظم الناس من حوله ، ثم تراه
يتباهى ويعتز بما صنع ، زاعماً
أنهم إنما يحاربونه محاربة
الباطل للحق ، ويعادونه معاداة
الأشرار للأخيار . وكم سمعت ورأيت
جماعات مسلمة اتبع أصحابها هذا
النهج ، وجمعوا الخصوم من حولهم
بسوء فعالهم وانعدام حكمتهم ،
حتى إذا لم يبق لهم صديق يساندهم
قالوا لتلامذتهم : هذا برهان على
صلاح حالنا ، ودليل على أننا
الطائفة المرضية عند الله
ورسوله . أليس النبي صلى الله
عليه وسلم قد قال : " بدأ
الإسلام غريباً ، وسيعود غريباً
كما بداً ، فطوبى للغرباء " ؟!!
وهانحن أولاء غرباء منبوذون
لأننا على الحق !! ويا له من فهم
سقيم ، وفكر عقيم ذاك الذي يظن
أن الإسلام يأمر أتباعه أن
يتبغضوا إلى الناس بسوء الخلق . وشتان بين غربة
المسلم الصالح المصلح في وسط
المفسدين المتمردين ، وبين شذوذ
هؤلاء الذين فسدت فعالهم وساء
صنيعهم . لقد استفاضت نصوص
الشرع التي تأمر بطيب المعاملة
ولزوم جانب الحكمة مع المسلم
والكافر ، وإحسان عرض الإسلام
وتمثيله . يقول تعالى : ( ادع إلى
سبيل ربك بالحكمة والموعظة
الحسنة ) . ويقول سبحانه : (
وقولوا للناس حسناً ) ويقول سبحانه : ( وقل
لعبادي يقولوا التي هي أحسن ) ويقول المصطفى صلى
الله عليه وسلم : " يسروا ولا
تعسروا وبشروا وسكنوا ولا
تنفروا " وإننا في هذا الزمان
أحوج ما نكون إلى صديق يدعم
قضايانا ، وإلى جهات تتبنى
آراءنا . ولا يحتاج منا
استقطاب الأصدقاء إلى كبير عناء
، فلسنا مطالبين أن نخترع ديناً
جديداً ، أو نبتدع مبادئ جديدة ،
لأن الإسلام يفرض حبه على كل
منصف ، وفيه من الإقناع ما يغني
عن تزيينه وتجميله . لسنا مطالبين إلا بأن
نعرض الإسلام كما أنزله الله
تعالى دون تغيير أو تبديل ، أن
نعرضه كما لسنا مطالبين إلا بأن
نكون ممثلين صادقين لهذا الدين
العظيم ، لا نزيد ولا ننقص ، حتى
يقبل على الإسلام من كان أعرض
عنه ، يقبل عليه معتنقاً لفكره
وعقيدته ، متبنياً لأفكاره
ومبادئه ، أو يقبل عليه مناصراً
لقضاياه وإن لم بدخل فيه ،
محترماً لتعاليمه وإن لم يتبعه . واسمحوا لي أن أنتقل
إلى تساؤل آخر طالما أرقني وأقض
مضجعي ، حول واقع يكتوي بناره
جماهير عريضة من شباب المسلمين . ماذا يمثل الشباب
بالنسبة لعلماء المسلمين ؟ وماذا يمثل هؤلاء
العلماء بالنسبة لأولئك الشباب
؟ إذا كان العلماء قد
نظروا إلى الشباب على أنهم
أولوية أساسية من أولويات
اهتمامهم ونشاطهم ودعوتهم
، فلا بد أن الشباب سيقابلون
هذا الاهتمام بمثله ، وسيُقبلون
على العلماء بالحب والاحترام ،
وسيتخذونهم قدوة لهم ، وستمتلئ
المساجد بهم ، فهل واقع الحال
يشير إلى شيء من هذا ؟ هل الشباب المسلم
اليوم نواة صحوة إسلامية واعدة
؟ هل هم الجيل الذي
تعقد عليه الآمال العريضة ،
وترنو إليهم الأبصار المتفائلة
بغد مشرق ؟ هل هم واجهة صادقة
لأمة ذات تاريخ مجيد ، ومجد تليد
؟ هل هم متميزون عن
شباب سائر أمم الأرض في طرائق
تفكيرهم ، ومجالات اهتمامهم ،
ومستوى طموحاتهم ؟ لا يخفى أن شباب
المسلمين ليسوا في شيء من ذلك
كله ، ولكن ما العلة ؟ أهم
ظالمون أم مظلومون ؟ أهم مجرمون
أم ضحايا ؟ إن خواء الشباب
المسلم فكراً وروحاً وابتعادهم
عن الإسلام أخلاقاً وسلوكاً لم
يكن إلا نتيجة مباشرة لابتعادهم
عن العلماء ، وابتعادهم عن
العلماء لم يكن إلا ردة فعل
لابتعاد العلماء عنهم . لقد حفر العلماء
بينهم وبين الشباب أخدوداً
عريضاً ، فنأوا عنهم ، وتغافلوا
عن مشكلاتهم ، وترفعوا عن
النزول إلى مستواهم والاستماع
إليهم والتحاور معهم ، وصغروا
عقولهم ، وأغلقوا دونهم أبواب
النقاش ، وكلموهم بلغة الإملاء
والتلقين ، وحظروا عليهم الرد
والانتقاد . فماذا كانت النتيجة
؟ لقد قابل الشباب
إعراض العلماء عنهم بإعراض أشد
، فوسعوا الهوة التي ابتدأ
العلماء حفرها ، وأمعنوا في
الإعراض عن العلماء . ولأن
الشباب مجبول على الحماس ، يغلب
الطيش عليه ، فقد بالغوا في
إعراضهم ، حتى تحول إعراضهم عن
العلماء إلى إعراض عن الدين
بأسره ، لأنهم لا يحسنون - في
الغالب - التمييز بين المبادئ
ومن يمثلونها ، فإذا بهم يخسرون
الإسلام ويخسرهم ، ويخسر
بفقدانهم خيرة عناصره ، ومن
يعتمد عليهم في بناء حضارته . انظر إلى رواد
المساجد في أنحاء بلاد الإسلام
شرقاً وغرباً ، من اعتادوا على
حضور الجماعات الخمس أو معظمها
، وابحث عن الشباب فيهم ، فكم
تجد منهم ؟ ثم ابحث عن هؤلاء
الشباب الذين خلت المساجد منهم
تجدهم يتسكعون على الأرصفة ، أو
يتسامرون في المقاهي ، في أقل
أحوالهم سوءاً . ما أعظم فجيعتنا
بشبابنا ، ونحن الأمة الفتيَّة
، التي يشكل الشباب النسبة
الكبرى فيها ! كم من شباب المسلمين
يحسن تلاوة القرآن ، فضلاً عن
فهمه ؟ وكم منهم عنده اطلاع
على الخطوط العريضة في سيرة
النبي صلى الله عليه وسلم ،
فضلاً عن تفاصيل أحداثها ؟ وكم منهم يعرف فرائض
الصلاة ومبطلاتها ، فضلاً عن
سننها وآدابها ؟ بل كم منهم يؤدون
الصلاة أصلاً ، ويلتزمون بفروض
الإسلام ، فضلاً عن كمالاته
وآدابه ؟ كم من شباب المسلمين
يعرف دينه حق المعرفة ، فضلاً عن
أن يقوم بالدعوة إليه ويعرف
الآخرين به ؟؟؟ فما الذي نفَّر
الشباب من المساجد ، حتى صاروا
يبحثون عن مأوى بديل لهم في
المقاهي والملاهي ؟ وما الذي زهدهم في
علوم دينهم ، حتى صاروا أجهل ما
يكونون فيه ؟ أليس العلماء – أو
معظمهم – سبباً جوهرياً في تلك
الحال المأساوية ؟ لقد نظر الشباب إلى
مشايخهم فرأوا معظمهم في أحد
ثلاثة أحوال : وجدوا فيهم طالب دنيا
، همه جمع أموالها ، وبلوغ
مناصبها ، يأكل أموال الناس
بالباطل ، ويتخذ الدين سلماً
يصل به إلى مآرب دنيوية دنيئة ،
ومصالح شخصية عاجلة ، وما كان
مثل هذا ليستحوذ على ثقة عقلاء
الناس . والثاني شيخ ( درويش )
، مخلص طيب القلب ، لا يطمع في
بهرج الدنيا ، ولا يستميله
زخرفها ، قابع في زاوية مسجده ،
يرضى من دنياه بالقليل الحلال ،
غير أنه لا يعرف في هذه الدنيا
إلا قليلاً من الأحكام الشرعية
يؤدي بها وظيفته . والثالث شيخ جليل ،
عظيم الإلمام بعلوم الدين ،
واسع المعرفة في مسائل الفقه
والأصول ، متبحر في أمهات الكتب
القديمة ، غير أنه يعيش في زمان
تلك الكتب ، وقف نفسه على
التاريخ فتجاوزه الزمن ، لا
يعرف من أحوال هذا العصر إلا
النزر اليسير ، تطور العالم من
حوله ، وهو يريد أن يعيش في زمان
الكتب التي يدرسها ، ويأبى أن
يتطور مع تطور المجتمع من حوله ،
وقد لا يقوى على رد كثير من
الشبهات الحديثة التي ترد عليه
من الشباب ، فيغلق باب الحوار
هرباً من الاعتراف بالعجز ،
ويطالب الشباب بالتسليم لما لا
يستطيع تفسيره ، بدعوى أنه مقدس
ديني لا يجوز نقاشه بالعقل .
فهذا العالم في نظر الشباب جزء
من تراث الأمة المجيد ، ولربما
لجؤوا إليه من أجل عقد نكاح ، أو
فتوى طلاق ، غير أنهم لن يسلموا
عقولهم لمن لا يفهمهم ولا يعيش
في زمانهم . لما رأى الشباب هذا
حال علماء الإسلام خلطوا بين
دين خالد كامل وتمثيل له ناقص
قاصر ، فقالوا : إن ديناً لا
يخاطب عقولنا ، ولا يجيب على
تساؤلاتنا ، ولا يساير زماننا ،
لسنا ملزمين باتباعه ، والرجوع
معه نحو الوراء ، وإخماد شعلة
التفكير... فهل يتحملون الوزر
وحدهم ؟!! لقد هجروا المساجد
بعد أن كانوا حمائمها ، لأن أئمة
المساجد وخطباءها لم يستميلوهم
إليها ، فاختطفهم المقهى
والملهى والشارع والنادي . وهجروا القراءة
النافعة بعد أن كانوا أنهم
الناس وأولعهم بها ، لأن
المؤلفين صبوا جهدهم في تكرار
القديم ونبش الماضي ، فتلقفهم
إعلام خبيث ، يمتلك من أدوات
الجذب ما لم يقاوموه . وبين عوامل الطرد من
جهة علماء الإسلام ، وعوامل
الجذب من جهة أعداء الإسلام ،
ضاع إسلام الشباب ، وضاع شباب
الإسلام . وتفاقمت المشكلة ،
واتسعت الهوة ، في زمان كثر فيه
دعوات الكفر ، وعلت أصوات أبواق
الإلحاد ، وكل يحاول استمالة
الشباب إلى صفه ، ويخاطبه بالغة
التي يفهمها ويقدسها ، لغة
المنطق والبرهان ، الذي يستقيم
حيناً ،
ويعوج أحياناً كثيرة . تفتقت في أذهان
الشباب تساؤلات حساسة عديدة ،
تتجاوز الخطوط الحمراء التي
رسمها كثير من المشايخ ، يتعلق
بعضها بأسس العقيدة
الإيمانية ، وبعضها بحقائق
التاريخ الإسلامي ، وأذكتها تلك
الأفكار المستوردة فتحولت إلى
شكوك وشبهات ، حتى صاروا أمام
مفترق حاسم ، إيمان أو كفر ،
فإلى من يلتجئون ليعينهم على حل
معضلتهم وشفاء صدورهم ؟ وهل
أمامهم غير علماء الإسلام ،
حماة عقيدته ، والذائدون عن
مبادئه ؟!! جاء كثيرون منهم إلى
هؤلاء العلماء ، فعمقوا شبهاتهم
ولم يزيلوها ، وزادوا مشكلاتهم
ولم يحلوها ، وعرضوا الدين الذي
قامت عقيدته على موافقة العقل
عرضاً يحارب العقل ويحرّم
التفكير ، ولم يقف هؤلاء عند
العجز عن حل الإشكالات التي
اعترضت هؤلاء الشباب ، بل إنهم
زادوا الطين بلة عندما حاولوا
إخفاء عجزهم عن الحوار ورد
الحجة بالحجة ، باتهام الشاب
بالكفر والتمرد ، وإصدار تحذير
شديد اللهجة أن لا يعود إلى مثل
هذا الطرح لئلا يحسب على
الكافرين المرتدين ، ففتحوا
بهذه اللهجة المتعالية باباً
واسعاً للشيطان ، وسقوا بذوراً
خبيثة كان يسهل وأدها بلغة
الحوار المنطقي الهادئ . وكم رأيت من شباب
زهرات ، حادوا عن الجادة ، لا
لخبث في طويتهم ، بل بسبب شيخ
أساء معاملة عقولهم ، وحاول قمع
تفكيرهم ، وخيرهم بين خيارين
زعم أنهما لا يجتمعان : إما
الإيمان والشرع وإما التفكير
والعقل ، فاختاروا العقل وتركوا
الإيمان . ولقد قلتها مراراً ،
ولا زلت أقولها : إن الإلحاد
المتستر الخجول في المجتمعات
المسلمة خطر يتعاظم ، وقد تحمل
العلماء مسؤولية كبيرة في
السماح بوجوده ، فعليهم أن
يتحملوا المسؤولية في مقاومته
واحتوائه . وائذنوا لي أن أنتقل
إلى تساؤل عظيم الخطر . أين العلماء من أعداء
منظمين تنظيماً دقيقاً ،
يتربصون الدوائر بالإنسانية
عامة ، وبالإسلام خاصة ، وضعوا
لتدمير الحضارة الإنسانية ،
واجتثاث جذور الفضيلة ، ونسف
المبادئ النبيلة ، خططاً خبيثة
محكمة بعيدة الأمد ، ثم انتقلوا
- في غفلة من العالم - من طور
التخطيط إلى طور التنفيذ ، وكان
المسلمون واحداً من أهدافهم ،
بل من أولها وآكدها ، فجعلوا
يعملون على التدمير في كل مجال
وعلى كل صعيد ، في الأخلاق
والعقائد ، في الدول والمجتمعات
، في السياسة والإعلام
والاقتصاد ، في الدين والدنيا ،
وعلماء المسلمين أين هم ؟؟ أين هم من الوقوف في
وجه المخططات الماسونية ،
والسياسة الصهيونية ، والأفكار
الوجودية ، والاقتصاد الشيوعي ،
والعقيدة المادية الجدلية ؟؟ لقد انشغل الراعي
بمزماره وأغانيه ، التي صارت
نشازاً ينفر منها القطيع ،
فانفض عنه القطيع متشرذماً .
وبقي هو يلهو بمزماره وأناشيده
، بينما قطيعه يتفرق في كل جهة ،
فصار صيداً سهلاً لذئاب طال
انتظارها لغفلة الراعي ،وعز
عليها زماناً طويلاً أن تنال
فرداً من القطيع بسوء ، حتى صار
بين يديها دون حارس يحميه ، تفتك
منه بمن تشاء . ظهرت في التاريخ
الإسلامي حركات فكرية وسياسية
هدامة ، بذلت جهوداً كبيرة في
سبيل تخريب العقول وإفساد
العقائد ، ولكن العلماء كانوا
يقفون لها دائماً بالمرصاد ،
يكشفون ويفضحون ، ويردون
ويفحمون ، يساندهم في ذلك
الخلفاء والأمراء ، بل حتى
عندما كان بعض الخلفاء أو
الأمراء ينحاز إلى صف تلك
الحركات ، كان العلماء وحدهم -
والله معهم - يقاومون الحليفين
معاً ، ولنا في موقف أحمد بن
حنبل وأصحابه أمام المعتزلة
وخلفاء بني العباس الثلاثة مثل
يحتذى ، ولولا صمود الإمام أحمد
بن حنبل والنفر القليل الذين
معه لضاعت الحقائق ، واختلط
الحق بالباطل . ظهرت بدع الجبر
والإرجاء ، والاعتزال وإنكار
القدر ، والتجسيم والتعطيل ، ثم
تطورت الفتن ، فظهر الشعوبيون
والزنج والقرامطة ، ودخلت على
العالم الإسلامي فلسفات
اليونان وهرطقات الفرس ،
والعلماء يتصدون لذلك ، ولا
يدسون رؤوسهم في التراب ، بل
أطلقوا ألسنتهم
وشحذوا أقلامهم
في وجه الفتن حتى زالت ،
وقارعوا دولة الباطل بمثل
سلاحها حتى دالت . لقد كان العلماء
يطيرون أنفسهم ، ويغيرون خططهم
، ويعدلون أسلحتهم ، بحسب ما
تقتضيه الفتن الحادثة ، والخطوب
المتجددة . فكان أن نشأ علم
التوحيد على يد أبي الحسن
الأشعري ، الذي استخدم لغة
المنطق وأساليب المتكلمين في
تقرير مسائل علم التوحيد ،
ليحسن الرد على المعتزلة بمثل
لغتهم ، ويبين ضلال ما ذهبوا
إليه بمثل منطقهم . وخاض أبو
حامد الغزالي في بحور الفلسفة
اليونانية ، فأحسن تفنيد
عقائدها الباطلة ، ورد حججها
بحجج تقابلها من مثل نوعها ،
وهكذا كنت تجد عامة العلماء ،
كلما ظهر فكر جديد ، أشبعوه
درساً وتمحيصاً ، حتى إذا هضموه
أطلقوا سهامهم الصائبة التي لا
تخيب . فأين أمثال هؤلاء
العلماء اليوم ؟ والأعداء اليوم
صاروا أكثر تفنناً في أساليب
الحرب الفكرية ، أكثر إتقاناً
لفنون الغزو الثقافي ، وقد تحول
عملهم من حركات ارتجالية ذات
أفكار منحرفة أو مطامع محدودة ،
إلى منظمات تعمل وفق خطط داهية ،
مدروسة الأهداف ، بعيدة الأمد ،
متشعبة النشاطات . أين العلماء اليوم من
الصهيونية والماسونية
والشيوعية والوجودية
والقاديانية والبهائية وشهود
يهوه ... ؟؟؟ هل وقفوا من كل هذه
المنظمات وغيرها كوقفة أبي
الحسن أو أبي حامد ، أو ابن رشد
أو ابن تيمية مما كان في أزمانهم
؟ هل عرفوا عامة
المسلمين فساد العقائد الوافدة
، وخطورة الحركات الغازية ،
ليكون ذلك وقاية لهم من الخطر
قبل وقوعه ؟ يؤسفني أن أرى علماء
الإسلام أمام هذه التحديات
الكبيرة قد انقسموا في غالبهم
ثلاث فرق ليس فيها ما يوازي
خطورة الحال . فمنهم فئة - ليسوا
بالكثيرين عدداً -
ولكنهم فاعلون مؤثرون ،
اخترقهم الأعداء ، واتخذوهم
أعواناً لهم ، ينفثون سمومهم في
عقول الشباب ، وكم من شيخ
استقطبته المحافل الماسونية
فكان من خدامها المخلصين ، وكم
من داعية طمع في منصب أو جاه ،
فداهن أهل الباطل وتقرب إليهم
طمعاً فيما عندهم من مفاتيح
الأبواب المقفلة ، فقلب الحق
باطلاً ، ولبَّس على المسلمين
أمر دينهم . ومنهم من غفل عما
يدبر للأمة ، فكان سبباً لغفلة
الناس بغفلته ، قد يكون عالماً
جليلاً مستوعباً لأمهات كتب
الأقدمين ، قادراً على التصنيف
في فروع الفروع التي لا تهم معظم
الناس ، ولا يُحتاج إليها في
القرن مرة واحدة ، ولكنه لم يسمع
عن بروتوكولات حكماء صهيون إلا
ما يسمع العامي ، ولا يعلم ماذا
فعلت أفكار ماركس وسارتر بشباب
الإسلام ، ولم يعرف يوماً من هو
داروين وماذا أبطل من عقائد
المؤمنين ، فإذا كان هذا حاله
فماذا ينتظر منه أن يقدم للأمة ؟! ومنهم من حاول الدفاع
، فكان دفاعه متعثراً ، أحسن ما
يقال فيه إنه جهد مخلص يؤجر عليه
، ولكنه يفتقر إلى الأسس
العلمية ، أخذ معلوماته عن
أولئك الأعداء المنظمين أصحاب
الخطط العتيدة من قصاصات
الجرائد ، وأطراف الأخبار ، ومن
أفواه الناس ، ثم أتى بها في
خطبة جمعة أو محاضرة نارية ، أو
أودعها في كتاب أو مقال حماسي
مثير ، فشعر بالرضى عما فعل ،
ولم يعلم أن الجيش الجرار لا
يقاوم برشقات أحجار . مثل تلك المنظمات لا
يمكن مقارعتها إلا بجهود مخلصة
، وخطط محكمة ، وصفوف موحدة . وتلك مسؤولية
العلماء قبل الجهلاء ، وواجب
الأئمة قبل سائر الأمة . وأخيراً وليس آخراً ،
أتساءل ويتساءل كثيرون معي : ألن يتوقف العلماء عن
نبش الخلافات القديمة وتجديدها
؟! ألن يطووا صفحة غابرة
من الحجاج السقيم ، والخلاف
العقيم ، في أمور لا يضر
الاختلاف فيها ؟! ألن يكفوا عن محاربة
الإخوة الأشقاء ، في حين أن
بعضهم يوالون الأعداء الألداء ؟! لقد مزقت خلافات
العلماء في الجزئيات جسد الأمة
، وأعداء الأمة ينظرون ويباركون
، بل ويسهمون في إذكاء جذوتها
وتسهيل أسبابها . بقينا زمناً نضيع
أوقاتنا في مسائل من قبيل صلاة
الحنفي خلف إمام شافعي هل تصح ؟
وعكسها هل يصح ؟ وانقسمت
الجماعة الواحدة في المسجد
الواحد إلى جماعتين ، وفي
المساجد الكبرى إلى أربع جماعات
لكل مذهب صلاته ، وكأن أصحاب كل
مذهب يقولون لأصحاب المذهب
الآخر : ( لكم دينكم ولي دين ) . ثم خفت حدة تلك
النزاعات المذهبية ، ولكن لحساب
نوع جديد من الخلاف المقيت
المذموم ، بين مذهبية ولا
مذهبية ، وبين تيار المجددين
وتيار المحافظين ، وبين فقه
النصوص وفقه المقاصد ، ثم تشعبت
الفرقة الواحدة ، فصارت
الخلافات تشتد ، والهوة بين
المسلمين تتسع . والعامة في كل هذا ،
إما عاقلون مبهوتون لما يرون ،
لا يعرفون تفسيراً له ، فكيف
يكون الدين واحداً ، وأتباعه
ينقسمون على أنفسهم هكذا ، وإذا
كان الإسلام هو الدين الحق ، فأي
إسلام هو ذلك الدين ، إسلام
هؤلاء أم إسلام أولئك ؟؟؟!! وإما
عميان منقادون يعلن الحرب على
أخ له إن خالفه أو خالف شيخه في
فكرة ما وكأنها الجهاد المقدس .
وليسوا في الحالتين إلا ضحية
لمن يحرك الخلافات ، ويوقظ
الفتنة ، ألا وهم فئة من العلماء
دفعهم إما حمقهم وإما خبثهم إلى
تمزيق صف الأمة وتفريق كلمتها . لقد مل كثير من الناس
سماع المهاترات الممجوجة
المبتذلة ، التي تفتقر إلى كل
مقومات الحوار الهادف ، وما
زادهم الكلام فيها إلا نفوراً
واستهجاناً . أما آن للعلماء أن
يتحلوا بقدر من الوعي والإخلاص
، يخرجهم من دوامة الشقاق
الموروث الذي أخذوه عن أسلافهم
من ضمن ما أخذوا من تراث خالط
فاسدُه الدخيل صالحَه الأصيل ؟؟! والداهية الدهياء
تُرى في الغرب غير المسلم ، في
أوروبا وأمريكا ، حيث نقل ( دعاة
الإسلام ) خلافاتهم ليعرضوا
أقبح ما عندهم على أهل تلك
البلاد ، الذين لم يعرفوا
الإسلام الحقيقي ، ولم يسمعوا
عنه إلا اسمه ، ورأوا في موضعه
خلافات وانقسامات ، ونفّرهم من
قبول الإسلام أن علماءه يكفر
بعضهم بعضاً ، ويلعن بعضهم
بعضاً ، حتى إذا شاء أن يدخل في
الإسلام ، فإنه يحتار بأي إسلام
يأخذ ، وكل يدعي أن الإسلام معه
وحده ، وأن من على غير مذهبه
كافر مارق ! بل إن نسبة كبيرة من
المسلمين الجدد في تلك البلاد
صاروا يسهمون في شحذ الخلافات
المذهبية ، وصاروا يلقَّنون على
أيدي شيوخهم الجدد الخلافات قبل
أن يتعلموا أصول الدين ،
فيتحولون إلى مصدر قوة للمذهب
الذي هم محسوبون عليه لا
للإسلام الذي اعتنقوه ، بل إنهم
يضعفون بذلك الإسلام من حيث نظن
أن دخولهم في الإسلام يقويه ! كل هذا يفتك بالأمة ،
والعلماء بين متفرج على ذبحها ،
ومشارك يضع يده فيه ، وهم مع ذلك
يرون أن ما ورد في النصوص
والأشعار من فضائل العلماء
ومدائحهم فيهم قيلت لا في سواهم
، فيا للعجب !!! إن أول ما ينبغي على
العلماء فعله هو السعي في سبيل
لم الشمل ، والعمل على رأب الصدع
ورص الصفوف وتوحيد الكلمة ، لأن
أي جهد إصلاحي لا يصدر عن كلمة
موحدة سيفشل لا محالة ، وسترتطم
إنجازاته بالخلافات
والانقسامات التي تحيل النصر
هزيمة . وما من أمة أغفلت
إصلاح ذات بينها إلا انقلبت
انتصاراتها هزائم ، وعاد نجاحها
في مساعيها فشلاً . قبل محاربة العدو
الخارجي ، لا بد من محاربة العدو
الداخلي الفتاك ( فساد ذات البين
) ، الذي قد يكمن في أوقات
الشدائد ، ولكن ما إن يغيب العدو
الخارجي وينهزم حتى يستيقظ من
سباته ، ويخرج من مكمنه ،
والأمثلة في التاريخ كثيرة من
قديم الأزمان ، إلى قضية
أفغانستان ، وانقسام أهلها على
أنفسهم بعد انتصارهم العظيم على
الإمبراطورية الروسية . قبل السعي في كسب
الأصدقاء ، لا بد من كسب الإخوة
الأشقاء ، الذين تجمعنا بهم
أواصر الدين ، وتربطنا لحمة
العقيدة ، فما يجمعنا أكثر مما
يفرقنا . من أشكال الوحدة التي
نحتاجها ( الوحدة الجيو ثقافية )
وأعني بها التواصل المعرفي
الثقافي بين علماء المسلمين في
بقاع العالم الإسلامي المختلفة
، وفي سائر أقطار الأرض . قبل مجازر البوسنة
والهرسك ، قلة من المسلمين
كانوا يعلمون بوجود شعب بحاله
يدين بالإسلام في قلب أوروبا ،
وفيهم العلماء والأتقياء . وفي كوسوفو التي لم
نكن نسمع عنها قبل محنتها ،
علماء في الفقه والأصول والنحو
خلفوا نفائس المخطوطات مخبوءة
عن عيون الشيوعيين في شعاب
الجبال . وألبانيا المسلمة ،
كثيراً ما كان من يسمعني ألفظ
اسمها يصحح لي نطقي فيقول : "
تقصد ألمانيا ؟ " فهو لم يعلم
بوجودها ، فضلاً عن أن يعرف أنها
دولة يشكل المسلمون غاليية
سكانها . وفي الصين أكبر أقلية
مسلمة ، غير أننا لا نعرف عنهم
أدنى معرفة . والمسلمون في الهند ،
لا تعرف الأمة المسلمة عنهم إلا
النزر اليسير من الحقائق التي
معظمها مغلوط ، وعندما كنت أسأل
بعض الإخوة : أتعلم كم يبلغ عدد
المسمين في الهند كنت أسمع
إجابات شتى أكثرها تفاؤلاً أنهم
عشرون أو ثلاثون مليوناً . ولو كلمت أياً من
عامة المسلمين عن الإسلام في
أمريكا ، فسوف يفاجأ عندما
تخبره أن أعداد المسلمين هناك
تتراوح بين ستة ملايين في أقل
تقدير ، وثلاثين مليوناً في بعض
التقديرات غير الرسمية . فإذا كان هذا ما
انتهى إليه علم المسلمين عن
شعوب إسلامية عظيمة ، وجاليات
مسلمة مؤثرة ، فلا ريب في أن
اطلاعهم على أحوال إخوانهم
هؤلاء ووقوفهم على همومهم
ومشكلاتهم أمر لا وجود له أصلاً
. فإن قيل : إن هذه
مشكلة عامة ، والجهل فيها ضارب
أطنابه على المجتمع المسلم
بأسره ، فما ذنب العلماء في هذه
المشكلة ؟ وما دورهم في حلها ؟ قلت : إن العلماء هم
مصابيح الأمة وهداتها ، فإذا لم
يقوموا هم بواجب التثقيف
والتوعية ، فمن يقوم به ؟ أننتظر
وسائل إعلامٍ أقسمت أن تجتث
الخير والفضيلة ، وتحارب الحق
والهدى ؟ أم مؤسسات تعليمٍ قلبت
الموازين وشوهت الحقائق ،
وعاهدت الشيطان أن تجعل الباطل
حقاً والحق باطلاًُ ؟ ومن زعم أن مهمة
العالِم المسلم تقتصر على
الكلام في أحكام العبادات وقصص
التاريخ فقد أخطأ الصواب . لا بد من أن يتحول
منبر الجمعة ، وكرسي الدرس ،
ومحراب الموعظة ، إلى جامعات
تعوض ما فوتته الجامعات ،
ووسائل إعلام تصلح ما أفسدته
وسائل الإعلام . على العلماء - بناءً
على ذلك - أن يثقفوا أنفسهم
ويبنوا أفكارهم البناء
المتكامل ، ليحسنوا تثقيف الأمة
وبناء فكرها . في سالف الزمن ، كانت
وسائل الانتقال محدودة ، ووسائل
الاتصال شبه مفقودة ، فالطريق
من الحجاز إلى الشام يستغرق
شهراً ، فما بالك بما بين مراكش
وخراسان ، والسفر
على الإبل والخيول ، فيه من
المشقة ما فيه ، ومع انقطاع
السباب هذا ، كان تواصل العلماء
في أوجه ، وكان الحوار بين أئمة
الأمصار ، وكانت المباحثات
العلمية ، وكان التلاقح الفكري
كما لو كانوا في قرية صغيرة . يؤلف عالم في المشرق
كتاباً ، فيصنف مغربي في تحشيته
أو نقده ، أو تقريظه أو نقضه . ويقول عالم في
الأندلس رأياً ، فيسارع علماء
الشام إلى تمحيصه وبحثه ، ثم
إقراره أو دحضه . لقد صنع المسلمون في
ذلك العهد الذهبي ما يصلح أن
يسمى عولمة فكرية ليس لها مثيل
في تاريخ الأمم رغم قلة الوسائل
، فارتحلوا وتنقلوا ،
وتراسلوا وتواصلوا ، حتى حققوا
مصطلح ( القرية الصغيرة ) من مئات
السنين . فأين علماء الأمة من
مثل هذا التواصل اليوم ؟ وقد
تيسرت لهم أسباب التواصل ،
وتطورت وسائل الاتصال ، حتى إن
العالم كله يأتي إلى داخل بيتك
بضغطة زر ، فتتخير منه ما تشاء . هوة واسعة صارت تفصل
بين مدرسة فكرية وأخرى داخل
القطر الواحد ، فما بالك برقعة
اتسعت ، وأقطار تناءت . صار الناس يعلمون عن
قصص الفنانين ، وأخبار
الرياضيين ، أكثر مما يعلمون من
أسماء علماء أمتهم ، وما ذاك إلا
لتقصير مشايخهم في تعريفهم بهم
، وهم أنفسهم في الغالب لا
يعرفون الكثير عنهم . ثمة هيئات علنية
معدودة ، لها نشاط في جمع أخبار
العلماء ، وإحصاء المؤلفات التي
تنشر لهم في أقطار إسلامية أخرى
، ولكن دائرة عملها محدودة ،
وأثرها في المجتمع لا وجود له . لما توفي النجاشي
نعاه النبي صلى الله عليه وسلم
إلى أصحابه في اليوم نفسه ، فكان
في ذلك تشريعُ سنةٍ إعلاميةٍ
يجدر بالعلماء أن يتفهموها ،
وأن ينقلوا للناس أخبار أمتهم ،
وأحوال علمائها كما نقل النبي
صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه
خبر أخيهم النجاشي رغم بعد
المسافة . ومن أشكال الوحدة
التي نحتاجها الانفتاح الفكري
والتلاقح المذهبي . لقد فعل التعصب
للمذهب والمدرسة وتقديس فكر (
الجماعة ) و ( الطائفة ) بهذه
الأمة أشد مما فعل بها أفتك
أعدائها ، وذاق المسلمون من
ويلات التعصب ما أذهلهم عما
يحيك لهم العدو المتربص . والأمثلة العملية
للتعصب لا تخفى على ذي بصر ، ولا
حاجة لتكرار المعلوم . لقد آن الوقت لوقف
هذه الشجارات الصبيانية التي
تتحول في بعض الحالات من شجارات
كلامية إلى حروب دامية ، وجدير
بعلماء المسلمين أن يغيروا هذا
الحال الذي لا يرضي الله ولا
رسوله ، ولا يرضي إلا إبليس
وجنده . أمام علماء الأمة تحد
كبير ، يحتاج منهم شجاعة كبيرة :
أن يرفعوا الحصانة عن اجتهادات
السابقين ، وأن ينتقوا منها ما
وافق نصوص الشرع ، وانسجم مع
روحه ، وحقق مقاصده ، ومن أعظم
مقاصده توحيد الكلمة . ولا بد لهم من أن
يعلموا أنه إذا تعارضت وحدة
الأمة مع قداسة المذهب وحصانة
أئمته ، فإن مصلحة الأمة تقدم ،
فلنخالف آنئذ آراء أئمة المذهب
ومشايخ الطريقة في سبيل توحيد
الكلمة وتجنب الشقاق . فلقد مر ردح من الدهر
طويل والأمم تتندر بنا ، وتضرب
بتفرقنا الأمثال ، وما كان تفرق
العامة إلا نتيجة لتفرق العلماء
، ولا تكون وحدتهم إلا بوحدتهم
واتفاقهم . ومن أهم أشكال الوحدة
التي نحتاجها إيقاف النزيف الذي
تفقد به الأمة يوماً بعد يوم
خيرة شبابها المثقفين ، الذين
لم تتيسر لهم التربية الإيمانية
العقلانية ، فنشؤوا مسلمين
بالتقليد ، حتى إذا شبوا عن
الطوق ، وخرجوا عن دائرة
التبعية للبيئة التي ربوا فيها
، تلمسوا حقائق الإسلام
العقلانية المقنعة ، التي لا
يأباها العقل ، فوجدوا موضعها
طروحاً نفرتهم ، وأفكاراً لا
برهان عليها ، وارتطموا بعلماء
لا يفقهون لغة المنطق التي يفكر
بها هؤلاء الشباب ، كانوا سبباً
في إعراض الشاب عن الدين لا
لفساد عنصره
، بل لسوء عرضه عليه . وبسبب انعدام حكمة
هؤلاء ( العلماء ) لو جاز لنا أن
نصفهم بهذا الوصف الشريف ، تخسر
الأمة شباباًُ من خيرة أبنائها
، هي إليهم أحوج منها إلى ملايين
من المتلقنين المقلدين. على العلماء - تجاه
هذا التحدي - أن يتعلموا أولاً
منطق البحث العلمي المجرد ،
الذي يقبل مناقشة كل رأي مهما
بلغ تطرفه على أساس من المنطق
البحت ، ليتوصلوا منه إلى منطق
الحوار العلمي الهادئ ، الذي
يحترم كل رأي ولا يلزم أحداً
بتبني فكرة ما لم يأت عليها
ببرهان دامغ . ثم عليهم أن ينزلوا
من صوامعهم وأبراجهم ، ويفتحوا
صدورهم وقلوبهم لكل سؤال ، وأن
يتقبلوا كل نقاش ، ليدخل إلى
رحاب الإسلام من كان قد خرج . عليهم أن يصلحوا ما
أفسدوا ، ويعيدوا بناء ما هدموا
. وفي الختام ربما بدا للبعض أن
هذه الصورة القاتمة التي قد
رسمناها آنفاً قد جاوزت الواقع
وأغرقت في التشاؤم ، وأن كل ما
سبق كلام غير مسؤول ، ولا يستند
إلى أساس ، وأن الحال ليس بهذه
الدرجة من السواد . هؤلاء معذورون في هذا
الظن لجهلهم - لو عذر الجاهل -
لأنهم نأوا بأنفسهم عن واقعهم
فلم يدروا ماذا يحدث من حولهم . ولعل العاقلين أصحاب
الأبصار والبصائر ، يعلمون أني
لم أجاوز الواقع في حرف واحد مما
مضى ، وما كان ذلك إلا إيضاحاً
للحقائق المستورة ، ورفعاً
للحجب التي يصر البعض على
إسدالها على تلك الحقائق ، وما
زدت على أن وضعت يدي على الجرح
الذي ما فتئ الآخرون يغضون
الطرف عنه ،حتى
استفحل أمره ، وعظم خطره ، وصار
لا بد من استئصاله ما لم يمكن
علاجه ، قبل أن يودي بالجسد كله . وأنا في كل ما ذكرت ،
لا أنأى بنفسي عن المسؤولية ،
ولا أتكلم من علٍ ، ولكنني في كل
كلمة قلتها أتهم نفسي قبل غيري ،
وأطلب الصفح من الله عما مضى
والعون على ما بقي ، وما كان
الكلام الذي سبق هجوماً ممن يرى
نفسه أعلى على من هم أدنى ، إنما
كان الدافع وراء كل ما تقدم الحب
الممزوج بالحرص لمصابيح الأمة ،
الذين من ورائهم الأمة كلها ،
والذين أرى أدنى واحد فيهم فوقي
بدرجات ، وأقلهم قدراً أرفع مني
بمراتب . ولقد كان التشخيص
الذي تقدم مشحوناً بالحلول بين
ثناياه ، تلك الحلول التي لا بد
أن يكون تحقيقها بداية لنهضة (
علمائية ) تنتج بإذن الله نهضة
عامة لأمة قال الله سبحانه في
بيان فضلها : ( كنتم خير أمة
أخرجت للناس تأمرون بالمعروف
وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله
) ، ولن تعود هذه الأمة إلى
مقامها الرفيع بين الأمم إلا
بإرشاد من علمائها ، ولن تصل إلى
مقام الرضوان الإلهي إلا إذا
أخذ أئمتها بيدها ، وتلمسوا لها
الطريق ، وساروا أمامها أئمة
هداة مرشدين ، ليكونوا في الدار
الآخرة أئمة الأمة إلى جنة
الخلد ، ويحوزوا أعلى مراتب
النعيم المقيم ، في الفردوس
الأعلى من الجنة ( وما ذلك على
الله بعزيز ) . اللهم هذا الجهد
وعليك التكلان ، ولا حول ولا قوة
إلا بك . عليك توكلنا وإليك
أنبنا وإليك المصير . وآخر دعوانا أن الحمد
لله رب العالمين . لكناو
في يوم الأحد ربيع
الأول
1425 من
هجرة المصطفى صلى الله عليه
وسلم ------------------------ المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |