ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 28/07/2010


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


علماء الإسلام في مواجهة تحديات العصر

بقلم فضيلة المفكّر و المربّي

باسل بن عبد الرحمن الجاسر ( رحمه الله )

لا خلاف بين أصحاب الرأي والنظر في أن الفضل الأعظم في بناء حضارات الأمم المتحضرة ، وصناعة أمجاد الشعوب المجيدة ، ينسب إلى علماء الأمة ورجال الفكر وصناع الرأي فيها ، قبل أن ينسب إلى رجال السياسة والاقتصاد ، فضلاً عن العامة والرعاع .

فالعلماء من أمتهم كمثل الرأس من الجسد .

هم العقل المفكر ، والدماغ المحرك .

تنظر العامة إليهم وتقتدي بهم ، ويفزع إليهم الملأ في الخطوب ، ويصدرون عن رأيهم إذا رأوا ، ويطيعون أمرهم إذا أمروا .

وكم ضحى العامة بأنفسهم وأوردوها موارد الموت ، من أجل كلمة سمعوها من عالم .

وكم قدموا أرواحهم وأولادهم في سبيل فكرة أوحى بها العلماء إليهم .

فعلماء الأمة هم المهندسون المخططون ، وعامتها هم البناؤون المشيدون .

وما من حركة سياسية ، ولا ثورة شعبية ، ولا انقلاب عسكري ، ولا نهضة اقتصادية ، ولا صحوة اجتماعية ، إلا ومن ورائها مفكر درس وخطط ، ثم تكلم ووجه ، فكانت الأمم تنفذ أفكاره ، وتحول أقواله إلى أفعال . أن ينسب إلى رجال السياسة والاقتصاد ، فضلاً عنأاا

وما كانت الجيوش والشعوب والحكومات في كل عصر إلا أدوات تنفذ أفكار المفكرين ، ظهر ذلك للعيان أم بقي مستتراً وراء الكواليس .

وهذه قاعدة تستوي فيها أمم الإيمان والكفر ، وتستوي فيها مذاهب الحق والباطل .

وكل مطّلع يعلم أن لينين ، الذي غير وجه العالم بثورته ، وأسس أكبر دولة على وجه الأرض ، ما كان إلا أداة منفذة لما رسمته نظرية ماركس .

والثورة الفرنسية التي غيرت مسار التاريخ الأوروبي ، وقضت على الملكية ، وأقامت الجمهورية ، ما كانت إلا إيقاداً لأفكار فولتير .

والصهيونية السياسية ما كانت إلا أفكاراً دونت في البروتوكولات .

وابحث بنفسك عن جذور كل حركة تغيير سياسي ، أو نهضة اجتماعية ، أو ثورة عسكرية قامت بها أمة من الأمم ، أو فئة من فئات الشعوب ، تجد أن البناة الحقيقيين لأمجاد الأمم هم علماؤها ومفكروها .

لا عجب إذاً أن نرى شعوب الأرض تحفظ لأولئك الخاصة مكانتهم ، وتخلد ذكرهم ، وتنسب أمجادها إليهم .

ولا عجب في أن يضع الإسلام هؤلاء الرجال في المقام الأرفع ، وأن بخصهم بخصائص لا يشاركهم فيها - بل ولا يدانيهم - غيرهم من أفراد الناس ، ولا يطمح بالوصول إلى مقامهم أحد ، حتى يسلك سلكهم ، وينتظم في عقدهم ، ليحوز الشرف الذي حازوا ، وينال الفضل الذي نالوا .

نزل كلام الله بفضلهم فجاء فيه  : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) .

وبيَّن أنهم في عامة المؤمنين خواص فقال سبحانه : ( يرفعِ الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) .

وجعل مهمة بيان الأمثال الإلهية مهمتهم ، لأنهم وحدهم من يفهمها ، فقال عز من قائل : ( وتلك الأمثالُ نضربها للناس وما يعقِلُها إلا العالِمون ) .

وأظهر النبي  صلى الله عليه وسلم شرفهم ، فبين أنه مستمد من شرف الأنبياء ، فقال : " وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً ، ولكن ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ".

وبين أن مهمة إرشاد الأمة ، وبيان الحقائق ، وتنقيح العلم ، وتنقية الدين مما يمكن أن يدخل عليه مما ليس منه ، مسؤوليتهم ورسالتهم فقال صلى الله عليه وسلم : " يرث هذا العلمَ من كل خلف عدولُه ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وتأويل الجاهلين ، وانتحال المبطلين " .

لذا فقد حفظ المسلمون في تاريخهم مآثر علمائهم وخلدوها كما لم يحفظوا ذكر ملوكهم وأمرائهم .

فمن من المسلمين لا يعلم أخبار أبي حنيفة ومالك ، والشافعي وأحمد ، ومن منهم لم يسمع عن ابن كثير ، وابن القيم ، والبخاري ، ومسلم .

ولكن في مقابل ما أعطي العلماء من المقام الكريم والتشريف العظيم ، فإنهم يتحملون التكليف الجسيم .

وكما ينسب إليهم معظم الفضل في رفعة الأمة أيام رفعتها ، فإنهم يتحملون معظم اللوم في تقهقر الأمة واضمحلال حالها .

فقعود حال أمة من الأمم ، يدل على قعود علمائها عن واجبهم ، وتقصيرهم في أداء مهمتهم .

ولقد باتت أصابع الاتهام توجه إلى هؤلاء القوم الكرام من هنا وهناك .

وحاول المخلصون الدفاع عن العلماء وتبرئة ساحتهم من كل ما ينسب إليهم ويقال عنهم ، ولكن الأحوال الملموسة كانت أقوى من حججهم ، والوقائع المحسوسة كانت أصدق من تأويلاتهم ، فلم يستطيعوا أن يأتوا بدفاع مقنع يبرئ العلماء مما يوجه إليهم من تهم ، فغدا أصحاب النظر في الأمة ، ممن أدركوا تقصير العلماء في مسؤولياتهم ، ولم يستطيعوا له إنكاراً ، ولم يجدوا له اعتذاراً ، فريقين اثنين .

فمنهم من زهد في العلماء واعتزلهم ، وهجرهم ورغب عنهم ، وما عاد يوجه إليهم نقداً أو عتاباً ، وكأنه يقول لنفسه : أناس مفقود منهم الأمل ، فلنبحث عن الحل عند غيرهم ، ولنسعَ في التغيير بمعزل عنهم .

وآخرون علموا أن صلاح الأمة - إن كتب لها صلاح - لن يكون إلا عن طريق هؤلاء الرجال الذين هم أركانها وأساطينها ، وبهم - لا بغيرهم - ينار طريق عزتها وسؤددها ، وخلفهم - لا خلف إمام سواهم - تمشي الأمة نحو مجدها ورفعتها ، فعتبوا وانتقدوا ، وربما أفرطوا - بدافع من غيرة تملأ قلوبهم - في نقدهم ، فجرحوا ولذعوا .

فأين العلماء من ذلك كله ؟؟

العلماء في هذه اللجة المضطربة ، والمحنة العصيبة - والحكم للغالب ولا عبرة بالخواص - معرضون عن سماع ما يقال لهم ، وما يقال فيهم .

لم يرضخوا لحقيقة أنهم يتحملون النصيب الأكبر من المسؤولية عن أحوال الأمة المزرية ، ولم يسلموا بوجود مشكلة تستوجب منهم العمل على حلها .

وبما أنهم أبواق الأمة وخطباؤها ، فإن صوتهم هو المسموع ، فهم أصحاب المنابر والأقلام ، يعظون ويخطبون ، ويصنفون ويكتبون ، فتراهم في ذلك كله يبعدون التهمة عن أنفسهم ، وينحون باللائمة تارة على الساسة ، وأخرى على رجال الإعلام ، وثالثة على المجتمع بأسره ، ليبقوا هم في أبراج عاجية لا تطالها تهمة ، ولا ترقى إليها إدانة .

يحاكمون الإنسانية جمعاء ، ويحملونها أكواماً من التهم ، ويحكمون بهلاكها جملة ، ليكونوا وحدهم الناجين الفائزين .

ولعل في هذا الكلام ما فيه من القسوة ، ولكن ما أجمل النقد الذاتي البناء عندما يكون وسيلة للإصلاح .

وما أعقل المرء عندما يقبل الحقيقة ولو ثقلت ، ويسلم بالواقع مهما كان مريراً ، ويعترف بالتقصير في سبيل تداركه .

وما أحكم المرء الذي يحاكم واقعه ليصلح مستقبله ، ويدين أخطاء ذاته ليصل بها إلى الصواب المنشود ، ويمتلك الشجاعة التي تحمله على إعلان تغيير مسار سار فيه مدة من الزمن وسار الناس خلفه ، ثم تبين له خطأ اتجاهه .

ولا ينبغي للعلماء - وهم من هم في وفور العقل وسداد الرأي - أن يصيروا كالذي يضع يده على الجرح فيتجاهل وجوده ، ليهرب من مشقة علاجه وقسوة جراحته .

وحتى نزداد يقيناً في وجود مشكلة ما ، لا بد من عرض مظاهر هذه المشكلة وأعراضها أولاً ، فإذا عرفت الأعراض سهل وضع حلول ناجعة تخرجنا من هذا الحال ، عسى نستنقذ الأمة ، بإصلاح الأئمة .

 

ثمة تساؤلات كثيرة يثيرها الواقع ، ونبحث عن إجابات شافية لها ، فنعجز وتعيينا الحيلة ، واسمحوا لي أن أستعرض بعض هذه التساؤلات التي أرقت كثيراً من المخلصين ممن يهمهم أمر المسلمين ، وأقضت مضاجعهم .

- لماذا فقد معظم الناس ثقتهم في العلماء ؟ ولم يعد للعلماء في نفوسهم تلك الجلالة التي كانت ؟

- لماذا فقد العلماء قدرتهم على شحذ الهمم وتحريك العواطف ؟

- لماذا انقطعت الصلات الحقيقية بين المجتمع والعلماء ، وهجر الناس المساجد إلا في الجمع والأعياد ، وصار العلماء في واد والناس في واد آخر ؟

- لماذا تحول حضور خطبة الجمعة إلى مجرد فعل تعبدي لا يظهر أثره ؟

- لماذا يسعى كثير من العلماء والوعاظ والخطباء - بقصد أو بغير قصد - إلى فصل الناس عن واقعهم ، والمضي بهم إلى عالم يخترعونه لهم أو ينسخونه من صفحات الكتب لا يمت بصلة إلى العالم الذي يعيشون فيه ؟

- لماذا يعمل بعض الخطباء على تعميق الهزيمة النفسية في قلوب الناس عوضاً عن إرشادهم إلى طريق النهضة ، ويكتفون بنعي الأمة على الملأ بدلاً من تلمس سبيل إحيائها وبث الروح فيها ؟

- لماذا خلت المساجد من حلق العلم بعد أن كانت تغص بها ، وأمست المساجد في غير أوقات الصلاة خاوية بعد أن كانت تغص بطلاب العلم في كل وقت ؟

- لماذا صار العلم الشرعي تخصصاً حكراً على فئة ، وسادت الأمية الدينية بين الفئة الكبرى من المسلمين ؟

- لماذا تحول العلم إلى مجموعة من الشهادات والألقاب ، بعد أن كان سلسلة من الإنجازات التي خلدها الزمان ؟

- لماذا قل المسلمون بالانتماء ، في حين كثر المسلمون بالانتساب ؟

- لماذا يضخم العلماء أعداد المسلمين الجدد في عيون الناس ، ويتغافلون عن أضعاف أعدادهم يتركون الإسلام إلى دين غيره أو إلى لا دين ؟

- كيف تحولت الدعوة الإسلامية من الهجوم الناجح إلى الدفاع المتعثر ؟ ولماذا صرنا لا نأمن على إيمان أبنائنا في بيوتنا ، بعد أن كنا نهدي الأحمر والأصفر في أقاصي الأرض ؟

- لماذا هجر الشباب المسلم المساجد واتجهوا إلى الملاهي والمقاهي ؟ وما الذي حولهم عن المصاحف إلى شاشات التلفاز ومقاهي الإنترنت ؟

- هل الشباب المسلم بخير ؟ وهل حالهم على ما يرام ؟ أم إن بذور الإلحاد والانحراف الفكري تترعرع بينهم ؟

- هل يتحمل الشباب وحدهم وزر إعراضهم عن دين الله وانحرافهم عن جادته ، أم إن العلماء يتحملون نصيباً من هذا الوزر ؟

- إلى متى سنبقى مضطرين لسماع المهاترات المقيتة والمجادلات العقيمة بين أصحاب التيارات الفكرية والمذاهب الفقهية ؟

- لماذا صار المسلمون على وجه العموم ، والعلماء خاصة ، مضرب المثل في التفرق والتمزق ، والتحاسد والتدابر ؟

- لماذا لم يتمكن العلماء إلى الآن من إيجاد آلية للحوار البناء الذي يوصل الأمة إلى وحدة الكلمة ؟

- لماذا لم يجد أعداء للأمة  المسلمة وللإنسانية حاقدون  متربصون ، ذوو صفوف منظمة وخطط محكمة من العلماء من يواجه خططهم بمثلها ليحبط ما يصنعون ؟

- لماذا لم يتصد علماء الإسلام لفضح هؤلاء على الأقل إن لم يستطيعوا كبح جماحهم ، وإيقاف زحفهم ؟

- هل تعرَّف العلماء - قبل أن يعلموا غيرهم -  تعرفاً عميقاً موجهاً على منظمات تعمل من أجل الباطل أكثر مما يعملون هم من أجل الحق ؟

 

أسئلة أرى أنها مظاهر صارخة لمشكلة عميقة .

وراءها حقائق يراها من يراها ، ويتغافل عنها من يسوؤه كشفها .

أسئلة أرى أن كتباً تؤلف فيها ، وجهوداً مخلصة تبذل في سبيلها ، أجدى وأولى من البحث في عقد اليدين أيكون تحت السرة أم فوقها ، وفي تحريك السبابة في التحيات أسنة هو أم ليس بسنة ، وفي المصافحة بعد الصلاة أهي سنة حسنة أم بدعة سيئة ، وفي الحَجاج أمرحوم هو أم ملعون ؟ إلى آخر هذه المسائل الصغيرة ، التي كبرتها عقول صغيرة ، فأشغلت بها الأمة ، وأهملت في مقابلها أسئلة مصيرية يتوقف عليها مستقبل الأمة ووجودها .

 

ولنبدأ بالإجابة عن التساؤل الأول ، ولعله الأقسى وقعاً ، والأشد وطأة .

ألا يزال العلماء يحتلون في قلوب الناس المكانة ذاتها التي كان أسلافهم يحتلونها ، من التبجيل والتعظيم ؟؟

ألا تزال لهم تلك القداسة والسمو في أنظار عامة المسلمين ؟؟

وهل هم في نظر العامة - سوى تلامذتهم ومريديهم - كما كانوا أصحاب الحصانة والصيانة ، الذين يقاربون مقامات الأنبياء ؟

وهل الناس اليوم - كما كانوا في سالف العصور - يلجؤون إليهم في كل ملمة ، ويطلبون مشورتهم في كل مشكلة عارضة في دينهم ودنياهم ؟ ويثقون بأشخاصهم وآرائهم على حد سواء ؟

 

لعل الواقع ليس بهذا الإشراق والنصاعة .

لقد فقد معظم الناس ثقتهم في العلماء ، بل فقد بعضهم احترامهم أيضاً ، حتى صار العلماء عند شريحة واسعة من المجتمع المسلم مضرب المثل في العديد من السلبيات ، وحتى صار فريق من المسلمين يستحيي من إظهار التزامه أمام بعض الناس خشية أن يحسب عليهم .

وإن كان البعض يرى في هذا الكلام مبالغة ما فلأنه لم ير ما رأيت ، فلست إلا واصفاً لواقع رأيته وعايشته ، يعيشه  قطاع واسع من المجتمع المسلم .

هذه الصورة السالبة التي تكونت في أنظار هؤلاء للمشايخ أبعدتهم عنهم ، ونفرتهم منهم ، حتى إن كثيراً من المسلمين يولد ويموت ولم يلتق بشيخ في لقاء شخصي قط !!

في عهد أجدادنا في أبعد تقدير ، كان المجتمع كله يتربى على أيدي العلماء ، فمنهم الذي يكون له شيخ يلقاه في ليله ونهاره ، ويصحبه في حله وترحاله ، فلا يصدر إلا عن رأيه ، ولا يقدم على أمر إلا بعد مشورته . ومنهم المواظب على حضور مجالس العلماء دون اختصاص بواحد منهم . وأقلهم حظاً من العلاقة بالعلماء ذاك الذي تربى على يد شيخ في طفولته ، ثم انطلق في مجالات الحياة .

وهذا - لا ريب – كان يحفظ لشيخه خاصة ، ولجنس المشايخ عامة حرمة في قلبه ، فينظر إليه بعين التبجيل والتعظيم ، فيبقى شيخه كبيراً وهو صغيراً مهما كبر ، ويبقى الشيخ هو المعلم وهو التلميذ مهما تعلم .

المجتمع كله كان يثق بالشيخ ويجله ، ويحفظ له حرمة ، ويعرف له قدراً .

أما اليوم فإن النظرة العامة إلى المشايخ قد اختلفت ، والرأي العام فيهم قد تحول ، فرغب الناس عنهم بعد رغبتهم فيهم ، وزهدوا فيهم بعد إقبالهم عليهم ، حتى إن كثيرين لا يجتمعون في حياتهم كلها بشيخ واحد ، بل إن بعضهم إذا اجتمع مصادفة بشيخ في مجلس تحرج من مجلسه ذلك ، حتى يفارقه أو يفارقه الشيخ فيشعر بالراحة والانبساط .

العلماء في نظر هؤلاء يمثلون الجانب الآخر من المجتمع ، ذلك الجانب الذي يسمعون عنه ولا يريدون أن يروه .

حتى الذين يرتادون المساجد ، ويسمعون المواعظ والخطب ، صار الكثيرون منهم لا ينظرون بعين التبجيل والتعظيم إلى من يسمعونهم ، ويأخذون عنهم ، وربما جلس في خطبة الشيخ ، ثم خرج فتكلم عنه بالسوء  ، وربما أضمر السوء في نفسه حذر الوقوع في الغيبة !!!

فما السر ؟؟!!!

هل فسد الناس كلهم هكذا وخبثوا دونما سبب معلوم ؟ وهل تحولوا فجأة إلى شياطين بعد أن كانوا ملائكة ؟ وهل انقلبوا على العلماء دون جريرة اقترفوها ؟

هل من المجدي أن يحمّل العلماء المجتمع مسؤولية واقع ساهموا في إيجاده ؟

 

إن المجتمع معذور - إلى حد ما - في غياب الثقة السالفة في علمائهم ، لأنهم يعيشون في واقع يؤثر فيهم فيتأثرون ، فأحوالهم ليست إلا نتائج أوجدتها مقدمات ليست من قِبَلهم . ولا بد من الشفافية في بحثها .

تياران ظاهران يمثلان النسبة الكبرى من شيوخ هذا العصر ، إلا من رحم ربي ، بهما فقد الناس ثقتهم في جنس العلماء عامة .

أما الأول فهو فريق علماء الدنيا ، الذين اتخذوا العلم الشريف وسيلة لأغراض دنيئة ، فكانت الدنيا أكبر همهم  ومبلغ علمهم ، علم الدين عندهم سلعة ثمنها بخس دراهم معدودة ، يأكلون أموال الناس بالباطل ، يستكثرون من الدنيا حلالها وحرامها ، يأخذون ولا يعطون ، يطرد الفقير والمسكين عن بابهم وأموال الناس في أيديهم ، همهم في الدنيا مسابقة أهلها ، أهمتهم القصور الشامخة والمراكب الفارهة ، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ، داهنوا السلطان طمعاً فيما عنده ، فحرفوا الدين ، وزيفوا الحق ، وقلبوا الحقيقة ، فهم في نظر الناس كالذئب الذي يمثل دور الحمل ، انصرفت قلوب الناس عنهم ، فكانوا شراً ووبالاً على الإسلام وأهله ، والعلم وذويه .

وأما الآخرون فهم علماء صالحون مخلصون ، معرضون عن الدنيا وزينتها ، زاهدون في المناصب وفتنتها ، لا يرقى إلى استقامتهم شك ، ولا يتهمون في دينهم ولا مروءتهم ، غير أنهم بسطاء قي تفكيرهم ، لا يشعرون بما يتطلب العصر الحديث منهم ، أو لا يقوون عليه ، اشتغلوا في علم نافع ، ولكنهم عن انصرفوا عن العلم الضروري ، يحسنون الكلام في أمور الدين ، ولكن كأنهم لا يعيشون في هذه الدنيا ، فالسياسة والاقتصاد ، وعلم النفس والجغرافية ، فضلاً عن الحاسوب وتقنياته والإنترنت ومجالاتها ، علوم أجنبية عنهم ، لا يعرفونها ولا تعرفهم ، بل ربما كانت في نظرهم محرمة تبعد عن الله وتصد عن سبيله ، اعتزلوا المجتمع فعزلهم ، وانفصلوا عن حركة الزمان فأسكنهم الزمان وجمدهم ، فالناس يرونهم بركة الزمان ، ولكنهم من غير هذا الزمان جاؤوا ، ولغيره خلقوا ، فهم يعيشون في العصر الحديث بعقلية القرون الوسطى .

فإن كان الناس قد فقدوا ثقتهم في أشخاص الفريق الأول ، فإنهم قد فقدوا ثقتهم في آراء الفريق الثاني وإن كانوا محترمين كأشخاص .

وبين الفريقين ضاع الدين .

فلا الأول أهل لاحترام الناس ، ولا الآخر قادر على مجاراة تطلعاتهم ومسايرة تقدمهم .

هذه هي المقدمات فما النتيجة ؟

لما فقد الناس ثقتهم في العلماء - أشخاصاً وآراءً - فقد العلماء قدرتهم على التأثير ، فكلامهم يذهب في الهواء ، ومواعظهم لا تلقى آذاناً تصغي ولا قلوباً تتأثر ولا جوارح تستجيب ، وصار العلماء عاجزين عن تغيير أصغر سلوك فردي وأصغر ظاهرة اجتماعية ، فضلاً عن إحداث تغيير في حال الأمة ، لأن الناس صاروا يسمعون بآذان رؤوسهم ، بعد أن كانوا يستمعون بقلوبهم وعقولهم وكل جوارحهم .

ولم يتوقف الأمر عند انعدام الأثر ، إذاً لهان الخطب ، ولكن الناس لما فقدوا ثقتهم في علمائهم هجروا مساجدهم ، وأعرضوا عن دينهم ، وانصرفوا عن صراط الهدى إلى سبل الضلال ، لأن غالب الناس عوام في تفكيرهم ، والعامي لا يميز بين المبادئ والرجال ، فيعتنق المبدأ إذا أحب صاحبه ، ويكفر بالمبدأ إذا استاء من حامله .

عندها خلت المساجد إلا في الجمع والأعياد ، وصار الذين يأتونها يأتون بدافع الواجب التعبدي المحض ، بعد أن كان الحب هو يدفعهم ، والشوق يجذبهم .

فهل نبالغ إن قلنا : إن المسؤول الأكبر عن بعد الناس عن الدين ، وهجرهم للمساجد هو العلماء ، وإن عامة الناس ضحايا لا مجرمون ، لأنهم كانوا أصحاب ردود أفعال ، والأفعال بدأت من العلماء .

وأما التساؤل التالي فهو يتصل بخطبة الجمعة على وجه الخصوص ، ثم قس عليها كل مناسبة وعظ أو تذكير .

لماذا فقدت خطبة الجمعة في معظم بلدان العالم الإسلامي تأثيرها البناء ، وقدرتها على شحذ الهمم وشحن العواطف وتغيير المسار ؟

لماذا صارت فعلاً تعبدياً محضاً بعد أن كانت مؤتمراً اجتماعياً عاماً يمارس الدور الريادي في البناء والتحريض ؟

ولماذا أمسى الناس يأتونها - إن أتوها - بقصد إسقاط الفرض وتجنب الوزر ؟

 

نقرأ في السنن ثواب الذي يأتي صلاة الجمعة في الساعات الأولى من النهار ، ثم ننظر فنرى معظم المصلين لا يأتونها إلا بعد صعود الخطيب المنبر ، ومنهم من يحرص على إدراك الصلاة لا غير .

ولقد رأيت في أكثر من بلد من بلدان العالم الإسلامي شباباً يقضون وقت الخطبة وهم يتحادثون في فناء المسجد واقفين أو ماشين ، حتى إذا أقيمت الصلاة انتظموا في الصفوف .

فمن وراء هذا ؟ أهم الناس قد فسدت عناصرهم وتغيرت فطرتهم ، أم هم الخطباء ما عاد لهم ذلك الحضور وتلك الجاذبية ؟!

أظن الجواب واضحاً لذي بصيرة .

لقد رأيت في أوساط الشباب المسلم كثيرين من أصحاب الطيش ممن وصلت ردود أفعالهم إلى حد ترك الفرائض ، فقال لي بعضهم : إني من سنوات لم أسمع في خطبة الجمعة موضوعاً واحداً يلامس حياتي ، ويعالج مشكلاتي ، إنما هي القصص المعادة التي سمعناها حتى حفظناها ، والأسلوب الإنشائي الذي يشبه ما كنا نقرؤه في كتب الإنشاء المدرسي ، ورفع الصوت وخفضه دون طائل وراء ذلك ، ومضمون أجوف إذا وضع على ميزان هذا العصر ومشكلاته ، والشباب وهمومه ، لما وزن مثقال ذرة . لذلك ترك ذلك الشاب الجاهل صلاة الجمعة ، وهو بذلك - لا ريب - آثم ، ولكن يشاركه في الإثم من حمله على ذلك .

لقد اقتصرت خطبة الجمعة في الغالب على موضوعات مكررة حفظها الصغير والكبير، حتى مل الناس سماع مواعظ الأوراق المهترئة من كثرة ما أعيدت وطرقت ، وسئموا من الركون إلى شيوخ لا يحترمون عقولهم ، ويخاطبونهم ذاك الخطاب القديم الذي لا يتجدد ، وكأن معين الدين قد جف ،  وكأن الإسلام لم يأت بعلم لا ينفد ، وفكر لا ينضب .

بعض الخطباء يرتجلون خطبهم ، وليس لهم قدرة على الارتجال وليسوا من أهله ، فيأتي كلامهم مفكك الأوصال لا ترابط بين أجزائه ، سطحي الطرح لا عمق في مضامينه .

وبعضهم يحضر خطبته ويتعب في إعدادها ، ولكن من أين يستمد مادتها ، ويأتي بأفكارها ؟؟ إنه يستمدها من بطون الكتب التي علا عليها الغبار ! فيأتي بكلام لا يمت إلى واقع الناس بصلة .

وكان أولى به أن يستمدها من الواقع الذي بين يديه ، ليعالج مشكلات تتفاقم وتزداد يوماً بعد يوم ، فالناس إلى الكلام عن أحوالهم أحوج منهم إلى غيره ، وقصص الماضي وحكايات التراث ليس لها جدوى ما لم ترتبط بإسقاطات على الحاضر المعيش .

وربما اعتذر بعض الخطباء في بعض بلدان العالم الإسلامي فقال : إن أوضاع السياسة في بلادنا تضرب حولنا سوراً لا نستطيع تجاوزه ، تحدد لنا نطاقاً ضيقاً من حرية الكلام تمنعنا من الخروج عنه ، فعندنا الكلام عن الجهاد محرم ، وفضح قوى البغي والإفساد يوجب التبعة ، أفليس لنا في هذه القيود عذر ؟!

فأقول لهم : نعم إن لكم عذراً ، ولكنه أوهن من نسج العنكبوت ، وليس هذا العذر إلا جرياً على أسلوبنا المعتاد في التبرؤ من المسؤوليات ، وتحميل أوزارنا كاملة للغير .

فالعاقل لا يعدم الوسيلة ليصل إلى ما يريد ، وإن منعتك السياسة من دخول باب ، فإن دونك أبواباً كثيرة لا تزال مفتحة ، وما أكثر مشكلات المسلمين التي تستوجب الحل السريع ، مما ليس للسياسة فيه مدخل ، وما على الخائض فيه جناح !!

ولكننا نتقن فن تبرئة الذات ، من خلال تحميل كل أوزارنا وتبعاتنا للطرف الآخر كائناً من كان .

إن زهد الناس في سماع المواعظ والخطب ساهم فيه عاملان اثنان : زهده في المتكلم وزهده في كلامه .

فهو أحياناً غير مقتنع بشخص الخطيب ، فكيف يتأثر بكلامه ؟! وفي الأحيان الأخرى إن كان لا يعرف شخص الخطيب ولا يعرف عنه سوءاً ، فإنه لا يسمع منه ما يهمه سماعه ، ويشعر بأهميته في واقعه .

لا يخفى على أحد أن معارف الناس قد تطورت ، بل تضاعفت في هذا العصر الذي يسمى " عصر المعلومات " ، ولم يجار هذا التطور المعرفي تطوير ذاتي من قبل العلماء ، حتى صار كثير من المسلمين إذا حضروا خطبة الجمعة ، يشعرون بفراغ الخطبة وفراغ الخطيب ، ولعل الواحد منهم عنده أضعاف ما عند الخطيب من المعارف التي يعرضها عليهم مباهياً بعلمه ، مفتخراً ببلاغته ، وكأنه اخترع قنبلة ذرية ، فترى هؤلاء المثقفين الحاضرين لشعورهم بفراغه يكثرون النظر في الساعة مستكثرين الوقت الذي يمضي وإن قل ، ولذلك تراهم يعدون أخطاء الخطيب لانعدام الثقة وعدم حصول الفائدة .

وعند فئة من الخطباء ، لم يتوقف الأمر عند انعدام التأثير ، بل لقد ساهموا في تعميق الأزمة النفسية التي يعيشها معظم المسلمين ، زادوا حلكة الليل فوق ما هو حالك ، وعمقوا قنوط الناس فوق ما هم قانطون ، صلوا بالناس صلاة الجنازة على أمتهم ، فخرج المخلصون من المسجد وقد سدت الأبواب في وجوههم ، وقد سدها من كان عليه فتحها وبيان سبلها .

تراهم يقصون على الناس أخبار أعداء الإسلام ، وكيف أن الإنسانية كلها احتشدت للقضاء على الإسلام وإبادة المسلمين ، فيرغي ويزبد ، ويبرق ويرعد ، فتتحول الخطبة إلى مجرد نشرة أخبار محبطة ، حتى إذا وصل السامع إلى السؤال الجوهري : ما الحل ؟؟ ما العمل ؟؟ ما المخرج ؟؟ قال الشيخ : أقول قولي هذا وأستغفر الله ، ونزل إلى صلاته تاركاً هؤلاء المساكين في إحباطهم وتخبطهم .

وما ذاك إلا لأن الخطيب نفسه غائم الرؤية مضطرب الفكر حائر الجنان ، يجهل الحل ، فيعلن جهله على الملأ ، بأسلوب محبط يئد كل أمل ، فهلا إذا جهل أمسك ، وعمل بالحديث الشريف : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت " .

ولا نبالغ إذا قلنا إن الهزيمة النفسية التي تفتك بجماهير الأمة ، قد ساهم علماؤهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون في تكريسها وتعميقها ، بينما كان المنتظر منهم أن يخرجوا بهم من أزمتهم ، ويبينوا لهم نهاية النفق ، ويدلوهم على طريقها ، لا أن يغلقوا كل باب مفتوح ، ويقتلوا كل أمل حي .

 

وأما التساؤل التالي الذي أتمنى أن أجد الجواب عليه فهو :

أين العلماء من مسؤولية نشر العلم بين العامة ؟

إن الأمية الدينية مستفحلة اليوم في أرجاء المجتمع المسلم ، لا يستثنى من ذلك المثقفون ولا أصحاب الشهادات الجامعية العالية ، فأين العلماء من واجبهم الأول ، نشر العلم الضروري ، ومحاربة الأمية الدينية ؟!

 

كان المجتمع المسلم قبل قرون ، بل قبل عقود عدة ، أعلم بدينه منه في هذه الأيام ، أيام الجامعات والألقاب العلمية الرنانة .

كانت مجالس العلم تملأ المساجد في أرجاء البلاد الإسلامية مشرقها ومغربها ، في المسجد الأقصى - مثلاً - كانت مئة حلقة علمية تعقد على مصاطب الحرم القدسي المئة في وقت واحد ، وفي الجامع الأموي الكبير في حلب ، سمعنا ممن عاصروا ذلك العهد أن المسجد كان لا تخلو زاوية من زواياه من حلقة علم ، وهكذا في أقطار الإسلام كافة ، وكانت مجالس المساجد متاحة لأفراد الناس وعامتهم ، لا تحتاج إلى التفرغ ، ولا تقتضي من طالب العلم أن يترك المجالات الأخرى التي يدرس فيها أو يعمل .

كان عامة الناس يطلبون العلم الشرعي في المسجد من نعومة أظفارهم ، حتى إذا أتقن فرض عينه مما لا يسعه جهله ، اختار لنفسه طريقاً ، فإما أن يتخصص في هذا العلم الشرعي ، وإما أن يتخصص في غيره من علوم الدنيا ، أو يخوض في مجال العمل التجاري أو غيره ، ولا يخفى أن المرء إذا أتقن فرض العين من علم الدين ، كان تخصصه فيه وتخصصه في غيره من العلوم الدنيوية النافعة سواءً في الحكم ، ألا وهو فرض الكفاية .

أما اليوم ، فإن العلم الشرعي قد بات تخصصاً مقصوراً على فئة قليلة من المسلمين ، إذ لا مجال لتحصيل العلم إلا من خلال الانتظام في مدرسة شرعية ، وليس كل الناس يرغبون في التخصص في علوم الدين ، والشرع لا يفرض ذلك عليهم ، بل إن الشرع يفرض أن يكون في المسلمين الطبيب الماهر ، والكيميائي الخبير ، والمتخصصون في سائر العلوم النافعة .

فإذا كان هذا هو الحال ، فإن هؤلاء سوف يحرمون من حقهم وواجبهم : العلم الشرعي الضروري ، الذي لا تصح العقيدة ولا العبادة إلا به .

حتى بات معظم المسلمين جاهلين بما لا يسعهم جهله من فروض العقائد والأعمال ، وصار كثير من أصحاب الشهادات العالية لا يحسنون تلاوة القرآن فضلاً عن فهمه ، وقد لا يعرفون عدد أركان الصلاة فضلاً عن تفصيل سننها وآدابها ، ومعظمهم يجهل مسائل أصول العقيدة فضلاً عن فروعها وأدلتها ، وقد لا يعلمون أبجديات السيرة النبوية ناهيك عن تفاصيلها .

على من تقع المسؤولية في جهل هؤلاء ؟

لا ريب في أنهم مقصرون  غير معذورين ، ولكن أشد منهم تقصيراً من كان بأيديهم العلم فمنعوه أهله المحتاجين إليه ، ورأوا الناس يتخبطون في الجهالة فلم يمدوا إليهم يد العون ، ولم يعرفوهم بما يجب عليهم فعله وما يحسن بهم اتباعه .

إن الفئة الكبرى منهم لا يعرفون أن طلب قدر من العلم الشرعي مفروض عليهم وإن لم يكونوا شيوخاً ، بل إنهم يظنون - ولبعض المشايخ في خلق هذا الظن يد - أن المرء لا يطالب بمعرفة مسائل الفقه ، وإحسان تلاوة القرآن ، إلا إذا أراد أن ( يشتغل ) شيخاً ، فتحول العلم الشرعي في نظرهم إلى اختصاص يتعلمه من أراد أن يمتهنه  ، ويزهد فيه من حصل مهنة أخرى يعيش منها ، فإذا لم يبين العلماء حقيقة الأمر ، ويحضوا الجمهور على طلب العلم ، ويهيئوا لهم أسبابه ، فإني أرى من الجور أن نحمل عامة الناس المسؤولية كاملة .

وعلى فرض أن الشاب علم وجوب طلب العلم الشرعي على كل المسلمين ، في أي اختصاص كانوا ، فسعى إلى طلب العلم ، فأين يطلبه ؟

المساجد اليوم خالية من مجالس العلم إلا قليلاً ، وكم من طالب سعى إلى العلم الشرعي فلم يجد إليه سبيلاً ، تراه يبحث - وهو في بلاد المسلمين ومهد العلماء - عن درس في الفقه أو التفسير أو العقيدة ، فلا يوفق إليه ، وقد يعييه البحث فيمسك عنه ، وكم طلب شباب من بعض العلماء أن يتكرموا عليهم بتعليمهم ، وأن يتواضعوا لهم فيؤدوا واجبهم تجاههم ، فاعتذر هؤلاء بضيق الوقت وكثرة الشواغل ! وأي شاغل يصرف العالم عن المسؤولية التي حمله الله إياها ، والتي يحاسب عليها قبل غيرها ، وهي الرسالة التي شرفه الله بها .

أما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن إخوانكم يأتونكم من أقطار الأرض يطلبون العلم ، فاستوصوا بهم خيراً "

إن المسؤولية جسيمة ، والتقصير فيها خيانة للأمانة ، ونقض للميثاق الذي أخذه الله تعالى على العلماء : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم )

بعد أن كان المسجد مثل خلية النحل ، مجالس العلم فيه لا تنقطع ، وأفواج الطلبة تتناوب في إعماره ، أمسى لإقامة شعائر الصلاة لا غير ، وفي سوى أوقاتها خاوياً مغلق الأبواب !

وكان العلماء يقفون أنفسهم على طلاب العلم ، فيأتيه واحدهم فيقول : إنني أعمل أو أدرس في الجامعة ، وأكون مشغولاً طوال النهار ، ومع ذلك أنا أرغب في تعلم أمورِ ديني ، فيلبي العالم طلبه دون تأخر ، ويعطيه من وقت راحته في أول النهار أو آخر الليل ، مسروراً بذلك لا يتبع صدقته بالمن والأذى ، ولا يرى أنه يفعل أكثر من واجبه ، فأمسوا اليوم في شغل غير الذي افترضه الله عليهم .

كثرت الجامعات والمدارس الشرعية ، وهي تخرج كل عام ألوفاً من طلاب العلم ، فماذا قدم هؤلاء للجانب الآخر من المجتمع ؟!

زيادة أعداد الخريجين لم تنعكس إيجابياً على المجتمع ، ولم تسهم في تعميم العلم وتعريف العامة أحكام دينهم الضرورية ، بل إنها أسهمت في تعميق الهوة بين الجانب الديني والجانب الدنيوي في المجتمع المسلم ، حتى صار علماء الدين في نظر الكثيرين أشبه برجال الدين عند النصارى ، وصار الناس ما بين ديني لا يعيش مع أهل الدنيا ، ودنيوي لا يفقه شيئاً في الدين .

 

وإلى التساؤل التالي :

 

هل الدعوة الإسلامية تسير على ما يرام ؟

وهل المسلمون عامة ، وعلماؤهم على وجه الخصوص ، يقومون بدورهم الأهم ، ويؤدون مسؤوليتهم الأولى التي حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وورثها أصحابه الكرام من بعده ، ومن بعدهم التابعون وتابعوهم ؟

هداية البشرية ، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور !

 

إن أعداد المسلمين اليوم عظيمة ، ونسبتهم في العالم كبيرة ،  ولكن تزايد الأعداد وزيادة النسبة لا يدلان بالضرورة على انتشار كبير للإسلام في المجتمعات غير المسلمة عن طريق الدعوة .

إن ازدياد أعداد المسلمين ونسبتهم في التعداد السكاني العالمي ناتج عن عاملين لا عامل واحد .

أما أحدهما فهو المسلمون الجدد الذين كفروا بالطاغوت وآمنوا بالله الواحد ، واختاروا الإسلام اختياراً واعياً واعتنقوه بعد أن درجوا وشبوا في رحاب دين غيره ، وأما الآخر فهو التكاثر السريع للمسلمين أنفسهم ، لحرصهم على الإنجاب وحبهم لكثرة الأولاد ، وتلك سنة مأثورة في الأحاديث الصحيحة . ولعلنا لا نجانب الحقيقة إن قلنا إن العامل الثاني - التكاثر السريع للمسلمين - له الحصة الكبرى في زيادة النسبة العددية للمسلمين في عدد سكان العالم ، وأما العامل الأول - المسلمين الجدد - فإن نسبته ضئيلة خجولة متواضعة .

بهذا يظهر لنا أن كثيرين ممن يصفون الدعوة الإسلامية في العالم ، وخاصة في الغرب ، يخلطون الأوراق - من حيث لا يعلمون في الغالب - عندما يتكلمون عن انتشار هائل للإسلام ، وكيف يدخل الناس فيه جماعات ، ثم يستشهدون بأرقام تظهر النسبة المتزايدة للمسلمين في العالم ، فإن هذه الأرقام وإن كانت مدعاة للسرور والبشر من ناحية ، فإنها من ناحية أخرى لا تمثل شاهداً على النجاح الدعوي بقدر ما تصلح شاهداً لموضوع آخر .

أعداد المسلمين الجدد تتضاءل خجلاً وتواضعاً إذا قورنت بالأنهار البشرية الغزيرة التي كانت تصب في بحر الأمة الإسلامية في العصور السالفة ، حيث كان المسلمون عامة ، والعلماء خاصة ، يتحملون مسؤولياتهم في تبليغ دين الله على أكمل وجه ، ويحققون فريضة الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويؤدون رسالتهم الخالدة ، فيرشدون كل ضال ، ويهدون كل حائر ، ويخرجون الناس من عبادة الطواغيت إلى عبادة الواحد الأحد .

في عصر النبوة ابتدأ الإسلام برجل واحد ، صلوات الله وسلامه عليه ، عمل في البداية وحيداً ، ثم ناصره قلة من الرجال المخلصين ، وما زال الإسلام يمتد وينتشر ، ويفتح القلوب وينير العقول ، حتى بلغت أعداد المسلمين رقماً قياسياً مقارنة بمدة الدعوة ، فلم يقبض النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى كانت أعداد المسلمين تزيد على مئة ألف وعشرين ألفاً .

كانت القبيلة تدخل الإسلام جملة واحدة ، وكان الإسلام ينتشر بسرعة تسر الصديق وتفزع العدو ، كان كل مسلم داعية ، واستشعر الناس عموم المسؤولية ، فقام بها عامتهم فضلاً عن الخاصة ، حتى أسلم على يد أبي ذر الغفاري وحده قبيلتا غفار وأسلم بأسرهما .

وانقضى عصر النبوة ، وبدأ عصر الفتوح الإسلامية المظفرة ، ولا يقل قائل إنما كان انتشار الدعوة في عهد النبوة راجعاً إلى معجزة إلهية خص بها نبيه صلى الله عليه وسلم ، فها هي ذي المسيرة تستمر بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وهاهو ذا الزحف الإسلامي يمضي قدماً دون توقف ، وهاهي ذي شعوب الأرض تفتح قلوبها وحصونها بكل حب للفاتحين ، كما لم تفعل لغاز أو فاتح ، وهاهي ذي أمم بأسرها تتحول إلى الإسلام في ظرف سنوات معدودة ، حتى غدت الشام ومصر والعراق بلاداً يسودها الإسلام بعد أن كان كل أهلها نصارى أو مجوساً أو عباد أصنام .

وكم أعجب كلما قرأت تلك النادرة التاريخية الفذة التي دونتها كتب التاريخ ،والتي جرت في عهد الخليفة العادل ، خامس الراشدين ، عمر بن عبد العزيز ، فاقرؤوا واسمعوا ، ثم اعجبوا إن شئتم .

أرسل والي مصر إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رسالة فحواها : إن أهل مصر قد كثر دخولهم في الإسلام جماعات جماعات ، وإن الرجل من أهل الذمة إذا دخل في الإسلام سقطت عنه الجزية ، لذا فقد أثر الدخول الكثيف للمصريين في الإسلام تأثيراً سلبياًُ على خزانة الولاية ، وسيؤثر هذا على خراج مصر الذي يرسل إلى عاصمة الخلافة ( دمشق ) .

فالعذر إلى أمير المؤمنين إن رأى خراج مصر ينقص عاماً بعد عام !

العجب العجب !! أعداد المسلمين الجدد تذهل المسلمين أنفسهم ، وتثير قلق أمراء الدنيا !

وصل الكتاب إلى أمير المؤمنين فكان جوابه إلى الوالي سريعاً ، جواباً دونه التاريخ ووعته أذن الزمان .

" إني والله لأرجو أن يدخل أهل مصر كلهم في الإسلام ، ولا يجبى إلي منها درهم واحد ، فإن الله بعث محمداً هادياً ، ولم يبعثه جابياً " .

ولا ندري أنعجب من والي مصر ، وهو الذي ينفي بعفويته كل التهم التي صارت تكال للمسلمين بأنهم أكرهوا الناس على اتباع دينهم ، وأدخلوهم الإسلام بالسلاسل !

أم نعجب من جواب عمر ، الذي لخص رسالة الإسلام ومقصده ، ولخص مسؤولية المسلمين من بعد نبيهم بعبارة موجزة بليغة !

ولم تتوقف الدعوة الإسلامية العالمية عند الفتوح والغزوات ، لئلا يقول قائل ، إنما انحسر المد الإسلامي لتعطيل الجهاد ، فمن زعم ذلك فقد نفى عن الإسلام قدرته الذاتية على الإقناع ودخول القلوب والعقول ، وادعى أن الإسلام لا ينتشر إلا تحت ظلال السيوف .

ففي عصر الرحلات التجارية والاستكشافية ، كان للتجار والرحالة المسلمين أثر خالد لا يزال مشهوداً في أقطار الأرض ، فعلى أيدي قلة من التجار المسلمين المخلصين تحولت أمم إلى دين الله ، فأسلمت ماليزيا وبر وناي وإندونيسيا وجنوب الهند ، ولم يدخلها جندي واحد .

وعلى أيدي عدد من رجال التصوف الصادقين ، أسلمت تشاد والنيجر والسنغال وسيراليون ، وما احتاجت إلى رمح ولا سيف .

وانقضى عهد الصحابة ، ومضى عهد الفاتحين ، وولى عهد التجار الدعاة ، فلماذا توقف الزحف ؟

في هذا السؤال أيضاً نحن متفننون في التملص من المسؤولية ، والرمي بها على الآخر .

كلنا تكلمنا عن الآخرين - غير المسلمين - ، تكلمنا عن الكفار الميؤوس من إيمانهم ، المطرودين من رحمة الله ، الذين لا يرجى منهم خير ، وليس بيننا وبينهم علاقة سوى الصراع .

وأغفلنا سر هذه الرسالة وجوهرها ، النور والهدى ، والخير الذي جاءت به للإنسانية جمعاء .

لماذا توقف تيار الداخلين في الإسلامي بعد أن كان جارفاً هداراً ؟!

أتراهم الناس فسد عنصرهم ، فكانوا ملائكة يدخلون في الإسلام لخير في طبائعهم ، فلما صاروا شياطين ، وانقلب خيرهم شراً ، أحجموا بعد إقدامهم ، وانقلبوا على الإسلام وأهله ؟!

أم تراهم المسلمون هم الذين تغيروا ، فما عادوا أولئك القوم الذين يفرضون احترامهم على العدو والصديق ، والذين لا يملك من يراهم أن لا يحبهم ويحب دينهم ويبادر إلى اتباعه ، وما عادوا أولئك الرجال الأطهار الأخيار الذين يعطون أكثر مما يأخذون ، ويصفحون ولا ينتقمون ، ويحبون ولا يبغضون ، وما عادوا أولئك الملائكة في صورة البشر ، الذين سارت بذكر أخلاقهم الركبان ، وتغنت بشمائلهم الشعراء ، وخلد الغرب والشرق مآثرهم !

لعلنا نحن الذين تغيرنا ، فتغير الآخر عندما تغيرنا .

نعيب زماننـا والعيب فينـا                       وما لزماننا عيب سـوانا

ونشكو ذا الزمـان بغير ذنب                      ولو نطق الزمان لنا هجانا

عندما رأى الناس ديناً سماوياً ربانياً ، يصلح دنياه وآخرته ليس فيه ما يعاب ، ورأى أهله يحسنون تمثيله وعرضه ، سارعوا إلى اتباعه ، ثم لما رأوا مسلمين ولم يروا إسلاماً وتعرفوا على الإسلام من خلال نسخ مشوهة تسيء عرضه ، وتظهر السلوك المنحرف ، والنفس الشريرة ، لم يجد في هؤلاء المسلمين ما يجذب قلبه ، أو يقنع عقله ، فيحمله على ترك دينه وتغيير حياته .

الآخر هو هو ، ولكننا تغيرنا فتغير لنا ، ولو عدنا لعاد .

نفوسنا تغيرت ، وفرط معظمنا في حمل الرسالة الشريفة التي حملها أسلافنا فاهتدت بهم شعوب وأمم ، فلما تغيرنا غير الله حالنا ( ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) .

وعلماء المسلمين هم أول من يتحمل مسؤولية هذا التفريط ، لأنهم إن عجزوا عن حمل مسؤولية الدعوة ، وهم من هم في العقل والعلم ، فإن عامة الناس عن حملها أعجز .

فأين العلماء من ذلك كله ؟!

أين هم من قوله تعالى : ( وما أرسلناك إلى كافة للناس ) ؟!

وأين هم من قوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) ؟!

وأين هم من قوله : ( إن هو إلا ذكر للعالمين ) ؟!

لا ينكر أن الدعوة الإسلامية قائمة في بلاد الغرب والشرق ، وأن ثمة أناساً يدخلون الإسلام في هذا البلد أو ذاك ، ولكن أعداد هؤلاء المسلمين الجدد لا ترقى إلى التطلعات ، ولا تمثل على الإطلاق عظمة هذا الدين الذي فتح العالم القديم في عقود معدودة ، والذي كان الناس يدخلون فيه أفواجاً .

إن وجود عشرات أو مئات يدخلون الإسلام هنا وهناك ، لا يعني أن الدعوة الإسلامية على ما  يرام ، ولا يعني أن علماء المسلمين يقومون بدورهم ، ويؤدون مسؤوليتهم على الوجه الذي ينبغي .

ومع ذلك ترانا نضخم هذه الإنجازات ، ونقنع أنفسنا ، ونقنع العامة الذين يأخذون بكلامنا ، أن هذا هو أحسن ما يمكن  ، وأن دخول عشرات من الناس في الإسلام كل عام يمثل قمة الزحف الإسلامي العالمي .

ما أكثر المتعطشين لمبادئ الإسلام ، الباحثين عن فضائله وكمالاته ، وما أكثر من ملوا إلحاد الغرب وحيوانيته ، ووثنية الشرق وتناقضه ، وباتوا في حاجة ملحة إلى هذا الدين الذي ليس فيه اعتراض لمعترض ، ولا يأباه عقل ، ولا تنفر منه فطرة ... ما أكثر هؤلاء في مشارق الأرض ومغاربها ، والمسلمون بأيديهم الماء الزلال الذي يروي ظمأهم ، ويستنقذهم من الهلكة ، وهم يضنون به عليهم !

نظن أن البشرية مطبقة على حرب الإسلام ، وأن غير المسلمين كلهم سواء في ذلك ، لا فرق بين أفرادهم ، وأنهم جميعاً يستوون في خبث الطوية ، والحقد على الحق ، وممالأة قوى الشر .

ويعزب عن عقولنا أن كثيرين منهم إن حاربوا الإسلام فلجهلهم به ، وكما قيل : ( الإنسان عدو ما يجهله ) ، وليس جهلهم به إلا نتيجة لتقصيرنا في عرضه عليهم وتقديمه إليهم .

ويعزب عن عقولنا أن الآخرين كما أن فيهم الأشرار الخبثاء ، فإن فيهم أصحاب العقل وأرباب المنطق ، وفيهم من بذرة الفطرة لم تمت فيه وإن كانت ذابلة ، وأن أمثال هؤلاء لا يتوقف إيمانهم إلا على وصف صادق لمبادئ الإسلام السامية لا يحتاج - من داعية حكيم متبصر - أكثر من دقائق أو سويعات ، وأن بعضهم لا يحتاج أكثر من معاملة حسنة تتجلى فيها أخلاق الإسلام ، وكلمة طيبة تنفذ إلى قلبه لتحببه بهذا الدين وأهله .

في بلاد العرب ، قلما توجه العلماء بالدعوة إلى الأقليات غير المسلمة بمنهج حكيم مخلص ، وكأن الله قد شرع الدعوة لأهل زمان دون غيرهم ، وكأنها فريضة قد نسخت ، أو كأن الله قد أطلعهم على مصائر هؤلاء وأنهم يصدق فيهم قوله سبحانه : ( إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) .

وفي بلاد الغرب ، تسير الدعوة الإسلامية بطيئة أحياناً ، وتتعثر أو تنتكس أحياناً أخرى ، ومشكلات الدعوة هناك جمة ، تفرق في الكلمة ، وتخبط في المنهج ، وخلفيات غامضة ، وتناقض بين الطرح والسلوك .

وفي بلاد الشرق ، يعيش مئات الملايين من غير المسلمين ، جيراناً للمسلمين في قراهم ومدنهم ، بل وفي أحيائهم وبيوتهم ، يخالطونهم في معاملاتهم ، ويتعرفون على أحوالهم ، ومع ذلك لا نشم رائحة انتشار حقيقي للإسلام بينهم .

في هؤلاء المسلمين علماء أجلاء يحفظون الكتب بمتونها وحواشيها ، ويصنفون في أصول المسائل وفروعها ، وعندهم من العلم ما يشبع ويروي ، وجيرانهم إلى جنبهم جوعى وهم يعلمون .

وفي مقابل هذا الشح في أعداد من يدخلون الإسلام ، هناك الكثيرون يخرجون منه ، وعلماء المسلمين إما يجهلون ذلك وإما يتجاهلونه .

إن الأمة المسلمة تعاني وضعاً خطيراً يستحق من العلماء أن يعيروه انتباههم ، بل يستحق أن يهز كيانهم من الأعماق .

لقد استغلت جهات عديدة غفلة الأئمة عن الأمة ، وانصراف الرعاة عن الرعية ، وتقصير خاصة العلماء في حق عامة المسلمين ، فعاثت فساداً في العقول والأفكار ، والأديان والعقائد ، وجعلت تعمل في مسارات منظمة تلتقي كلها في إخراج المسلمين من حوزة دينهم إلى دين غيره أو إلى لا دين .

فمنهم من يعمل على إخراج المسلمين من الإسلام – عقيدةً وأفكاراً – وإن لم يدخلوهم  في دين آخر ، يدعون إلى الإلحاد ويحاربون التوحيد ، ويستعينون بكل وسيلة متاحة ، مدعومين من قبل دول كبرى ، ومنظمات عالمية نافذة ، وكم نجح هؤلاء في بث سمومهم في أوساط الشباب المثقفين وأنصاف المثقفين .

ومنهم من يعمل على تحويل المسلمين عن دينهم إلى دين غيره ، وفي سبيل هذا تبذل جهود هائلة ، وتنفق أموال طائلة ، ويكفي لندرك خطورة الوضع أن نعلم أن آسيا وحدها ينصَّر فيها كل عام مليون إنسان مسلم ، ومثلهم ينصَّرون في أفريقيا .

كل هذا يحدث من حولنا ، والعلماء والدعاة يتغنون بإسلام أفراد الناس هنا وهناك ، والجسد المسلم ينزف ، والأمة المسلمة تفقد أبناءها ، والمجتمع المسلم صار نهبة لكل طامع ، والعلماء عن هذا غافلون !!!

لماذا نتجاهل الأخطاء ؟ ونهرب من مواجهة الأخطار ؟!

لماذا نضخم الإنجازات الصغيرة ، ونرفض الاعتراف بالهزائم الكبيرة ؟!

في يوم حنين أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم خاتمة سور القرآن - سورة النصر - التي قال فيها : ( ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ) ، واليوم صار  الناس يخرجون من دين الله ، ودين الله هو هو لم يتبدل ولم يتغير ، هو قائم فينا بنصوصه ومفاهيمه ، هو على حاله بكماله وجماله ، ولكن العيب طرأ على من يحملون هذا الدين .

حق لنا أن نقول : لقد انتقل علماء الإسلام ودعاته من نجاح في الهجوم إلى عجز عن الدفاع ، وثغور الإسلام تؤتى من قبلهم ، وهم حماتها والمسؤولون عن حفظها وحمايتها ، والذئاب تعيث في القطيع ، ورعاته غافلون منشغلون في غير ما هم عنه مسؤولون ، وما أعظمها من مسؤولية !!

ومما يتصل بهذه المسألة ما نراه من بعض علماء المسلمين ودعاتهم من عجز عن استقطاب أصدقاء مساندين للإسلام ، فهم ينظرون إلى الكافر على أنه خلق فاسد ميؤوس منه ، وكأنه الله أطلعه على علمه وكشف عن بصيرته أن أولئك القوم هم الذين أنزل الله فيهم : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) .

ثم هم لا يتصورون أن ثمة أناساً منصفين عرفوا حقائق الإسلام فأعظموها وأعجبوا بها ، قد لا يدخلون في الإسلام لسبب شخصي أو اجتماعي ، ولكن هذا لا يمنعهم من أن يؤدوا خدمة لهذا الدين العظيم ، ويمكن أن يكونوا أصدقاء له ، مفيدين في خدمة رسالته .

لقد صار كثير من علماء المسلمين في هذا الزمان ، متفننين في تربية الأعداء ، ولهم أساليب شتى تثبت تفوقهم في حشد صفوف الناقمين .

وبما أن العامي لا يميز بين المبادئ والأشخاص الذين يحملونها ، فإنه لا يستطيع الفصل بين الإسلام وهؤلاء العلماء الذين يمثلونه ، فإن حارب عالماً منهم فإنه لن يكون عدواً شخصياً له ، بل إنه في الغالب سيكون عدواً للإسلام الذي يمثله .

ومن هؤلاء العلماء من ينفّر الناس من شخصه ، ومن ثم ينفرهم من دينه ، ويستجلب عداوة معظم الناس من حوله ، ثم تراه يتباهى ويعتز بما صنع ، زاعماً أنهم إنما يحاربونه محاربة الباطل للحق ، ويعادونه معاداة الأشرار للأخيار .

وكم سمعت ورأيت جماعات مسلمة اتبع أصحابها هذا النهج ، وجمعوا الخصوم من حولهم بسوء فعالهم وانعدام حكمتهم ، حتى إذا لم يبق لهم صديق يساندهم قالوا لتلامذتهم : هذا برهان على صلاح حالنا ، ودليل على أننا الطائفة المرضية عند الله ورسوله . أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد قال : " بدأ الإسلام غريباً ، وسيعود غريباً كما بداً ، فطوبى للغرباء " ؟!! وهانحن أولاء غرباء منبوذون لأننا على الحق !! ويا له من فهم سقيم ، وفكر عقيم ذاك الذي يظن أن الإسلام يأمر أتباعه أن يتبغضوا إلى الناس بسوء الخلق .

وشتان بين غربة المسلم الصالح المصلح في وسط المفسدين المتمردين ، وبين شذوذ هؤلاء الذين فسدت فعالهم وساء صنيعهم .

لقد استفاضت نصوص الشرع التي تأمر بطيب المعاملة ولزوم جانب الحكمة مع المسلم والكافر ، وإحسان عرض الإسلام وتمثيله .

يقول تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) .

ويقول سبحانه : ( وقولوا للناس حسناً )

ويقول سبحانه : ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن )

ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : " يسروا ولا تعسروا وبشروا وسكنوا ولا تنفروا "

وإننا في هذا الزمان أحوج ما نكون إلى صديق يدعم قضايانا ، وإلى جهات تتبنى آراءنا .

ولا يحتاج منا استقطاب الأصدقاء إلى كبير عناء ، فلسنا مطالبين أن نخترع ديناً جديداً ، أو نبتدع مبادئ جديدة ، لأن الإسلام يفرض حبه على كل منصف ، وفيه من الإقناع ما يغني عن تزيينه وتجميله .

لسنا مطالبين إلا بأن نعرض الإسلام كما أنزله الله تعالى دون تغيير أو تبديل ، أن نعرضه كما أو تبديل أهو بجماله وجلاله ، بروعته ورونقه .

لسنا مطالبين إلا بأن نكون ممثلين صادقين لهذا الدين العظيم ، لا نزيد ولا ننقص ، حتى يقبل على الإسلام من كان أعرض عنه ، يقبل عليه معتنقاً لفكره وعقيدته ، متبنياً لأفكاره ومبادئه ، أو يقبل عليه مناصراً لقضاياه وإن لم بدخل فيه ، محترماً لتعاليمه وإن لم يتبعه .

 

واسمحوا لي أن أنتقل إلى تساؤل آخر طالما أرقني وأقض مضجعي ، حول واقع يكتوي بناره جماهير عريضة من شباب المسلمين .

 

ماذا يمثل الشباب بالنسبة لعلماء المسلمين ؟

وماذا يمثل هؤلاء العلماء بالنسبة لأولئك الشباب ؟

 

إذا كان العلماء قد نظروا إلى الشباب على أنهم أولوية أساسية من أولويات اهتمامهم ونشاطهم ودعوتهم  ، فلا بد أن الشباب سيقابلون هذا الاهتمام بمثله ، وسيُقبلون على العلماء بالحب والاحترام ، وسيتخذونهم قدوة لهم ، وستمتلئ المساجد بهم ، فهل واقع الحال يشير إلى شيء من هذا ؟

هل الشباب المسلم اليوم نواة صحوة إسلامية واعدة ؟

هل هم الجيل الذي تعقد عليه الآمال العريضة ، وترنو إليهم الأبصار المتفائلة بغد مشرق ؟

هل هم واجهة صادقة لأمة ذات تاريخ مجيد ، ومجد تليد ؟

هل هم متميزون عن شباب سائر أمم الأرض في طرائق تفكيرهم ، ومجالات اهتمامهم ، ومستوى طموحاتهم ؟

لا يخفى أن شباب المسلمين ليسوا في شيء من ذلك كله ، ولكن ما العلة ؟ أهم ظالمون أم مظلومون ؟ أهم مجرمون أم ضحايا ؟

إن خواء الشباب المسلم فكراً وروحاً وابتعادهم عن الإسلام أخلاقاً وسلوكاً لم يكن إلا نتيجة مباشرة لابتعادهم عن العلماء ، وابتعادهم عن العلماء لم يكن إلا ردة فعل لابتعاد العلماء عنهم .

لقد حفر العلماء بينهم وبين الشباب أخدوداً عريضاً ، فنأوا عنهم ، وتغافلوا عن مشكلاتهم ، وترفعوا عن النزول إلى مستواهم والاستماع إليهم والتحاور معهم ، وصغروا عقولهم ، وأغلقوا دونهم أبواب النقاش ، وكلموهم بلغة الإملاء والتلقين ، وحظروا عليهم الرد والانتقاد . فماذا كانت النتيجة ؟

لقد قابل الشباب إعراض العلماء عنهم بإعراض أشد ، فوسعوا الهوة التي ابتدأ العلماء حفرها ، وأمعنوا في الإعراض عن العلماء . ولأن الشباب مجبول على الحماس ، يغلب الطيش عليه ، فقد بالغوا في إعراضهم ، حتى تحول إعراضهم عن العلماء إلى إعراض عن الدين بأسره ، لأنهم لا يحسنون - في الغالب - التمييز بين المبادئ ومن يمثلونها ، فإذا بهم يخسرون الإسلام ويخسرهم ، ويخسر بفقدانهم خيرة عناصره ، ومن يعتمد عليهم في بناء حضارته .

انظر إلى رواد المساجد في أنحاء بلاد الإسلام شرقاً وغرباً ، من اعتادوا على حضور الجماعات الخمس أو معظمها ، وابحث عن الشباب فيهم ، فكم تجد منهم ؟

ثم ابحث عن هؤلاء الشباب الذين خلت المساجد منهم تجدهم يتسكعون على الأرصفة ، أو يتسامرون في المقاهي ، في أقل أحوالهم سوءاً .

ما أعظم فجيعتنا بشبابنا ، ونحن الأمة الفتيَّة ، التي يشكل الشباب النسبة الكبرى فيها ‍‍‍!

كم من شباب المسلمين يحسن تلاوة القرآن ، فضلاً عن فهمه ؟

وكم منهم عنده اطلاع على الخطوط العريضة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فضلاً عن تفاصيل أحداثها ؟

وكم منهم يعرف فرائض الصلاة ومبطلاتها ، فضلاً عن سننها وآدابها ؟

بل كم منهم يؤدون الصلاة أصلاً ، ويلتزمون بفروض الإسلام ، فضلاً عن كمالاته وآدابه ؟

كم من شباب المسلمين يعرف دينه حق المعرفة ، فضلاً عن أن يقوم بالدعوة إليه ويعرف الآخرين به ؟؟؟

فما الذي نفَّر الشباب من المساجد ، حتى صاروا يبحثون عن مأوى بديل لهم في المقاهي والملاهي ؟

وما الذي زهدهم في علوم دينهم ، حتى صاروا أجهل ما يكونون فيه ؟

أليس العلماء – أو معظمهم – سبباً جوهرياً في تلك الحال المأساوية ؟

لقد نظر الشباب إلى مشايخهم فرأوا معظمهم في أحد ثلاثة أحوال :

وجدوا فيهم طالب دنيا ، همه جمع أموالها ، وبلوغ مناصبها ، يأكل أموال الناس بالباطل ، ويتخذ الدين سلماً يصل به إلى مآرب دنيوية دنيئة ، ومصالح شخصية عاجلة ، وما كان مثل هذا ليستحوذ على ثقة عقلاء الناس .

والثاني شيخ ( درويش ) ، مخلص طيب القلب ، لا يطمع في بهرج الدنيا ، ولا يستميله زخرفها ، قابع في زاوية مسجده ، يرضى من دنياه بالقليل الحلال ، غير أنه لا يعرف في هذه الدنيا إلا قليلاً من الأحكام الشرعية يؤدي بها وظيفته .

والثالث شيخ جليل ، عظيم الإلمام بعلوم الدين ، واسع المعرفة في مسائل الفقه والأصول ، متبحر في أمهات الكتب القديمة ، غير أنه يعيش في زمان تلك الكتب ، وقف نفسه على التاريخ فتجاوزه الزمن ، لا يعرف من أحوال هذا العصر إلا النزر اليسير ، تطور العالم من حوله ، وهو يريد أن يعيش في زمان الكتب التي يدرسها ، ويأبى أن يتطور مع تطور المجتمع من حوله ، وقد لا يقوى على رد كثير من الشبهات الحديثة التي ترد عليه من الشباب ، فيغلق باب الحوار هرباً من الاعتراف بالعجز ، ويطالب الشباب بالتسليم لما لا يستطيع تفسيره ، بدعوى أنه مقدس ديني لا يجوز نقاشه بالعقل . فهذا العالم في نظر الشباب جزء من تراث الأمة المجيد ، ولربما لجؤوا إليه من أجل عقد نكاح ، أو فتوى طلاق ، غير أنهم لن يسلموا عقولهم لمن لا يفهمهم ولا يعيش في زمانهم .

لما رأى الشباب هذا حال علماء الإسلام خلطوا بين دين خالد كامل وتمثيل له ناقص قاصر ، فقالوا : إن ديناً لا يخاطب عقولنا ، ولا يجيب على تساؤلاتنا ، ولا يساير زماننا ، لسنا ملزمين باتباعه ، والرجوع معه نحو الوراء ، وإخماد شعلة التفكير...

فهل يتحملون الوزر وحدهم ؟!!

لقد هجروا المساجد بعد أن كانوا حمائمها ، لأن أئمة المساجد وخطباءها لم يستميلوهم إليها ، فاختطفهم المقهى والملهى والشارع والنادي .

وهجروا القراءة النافعة بعد أن كانوا أنهم الناس وأولعهم بها ، لأن المؤلفين صبوا جهدهم في تكرار القديم ونبش الماضي ، فتلقفهم إعلام خبيث ، يمتلك من أدوات الجذب ما لم يقاوموه .

وبين عوامل الطرد من جهة علماء الإسلام ، وعوامل الجذب من جهة أعداء الإسلام ، ضاع إسلام الشباب ، وضاع شباب الإسلام .

وتفاقمت المشكلة ، واتسعت الهوة ، في زمان كثر فيه دعوات الكفر ، وعلت أصوات أبواق الإلحاد ، وكل يحاول استمالة الشباب إلى صفه ، ويخاطبه بالغة التي يفهمها ويقدسها ، لغة المنطق والبرهان ، الذي يستقيم حيناً  ، ويعوج أحياناً كثيرة .

تفتقت في أذهان الشباب تساؤلات حساسة عديدة ، تتجاوز الخطوط الحمراء التي رسمها كثير من المشايخ ، يتعلق بعضها بأسس العقيدة  الإيمانية ، وبعضها بحقائق التاريخ الإسلامي ، وأذكتها تلك الأفكار المستوردة فتحولت إلى شكوك وشبهات ، حتى صاروا أمام مفترق حاسم ، إيمان أو كفر ، فإلى من يلتجئون ليعينهم على حل معضلتهم وشفاء صدورهم ؟ وهل أمامهم غير علماء الإسلام ، حماة عقيدته ، والذائدون عن مبادئه ؟!!

جاء كثيرون منهم إلى هؤلاء العلماء ، فعمقوا شبهاتهم ولم يزيلوها ، وزادوا مشكلاتهم ولم يحلوها ، وعرضوا الدين الذي قامت عقيدته على موافقة العقل عرضاً يحارب العقل ويحرّم التفكير ، ولم يقف هؤلاء عند العجز عن حل الإشكالات التي اعترضت هؤلاء الشباب ، بل إنهم زادوا الطين بلة عندما حاولوا إخفاء عجزهم عن الحوار ورد الحجة بالحجة ، باتهام الشاب بالكفر والتمرد ، وإصدار تحذير شديد اللهجة أن لا يعود إلى مثل هذا الطرح لئلا يحسب على الكافرين المرتدين ، ففتحوا بهذه اللهجة المتعالية باباً واسعاً للشيطان ، وسقوا بذوراً خبيثة كان يسهل وأدها بلغة الحوار المنطقي الهادئ .

وكم رأيت من شباب زهرات ، حادوا عن الجادة ، لا لخبث في طويتهم ، بل بسبب شيخ أساء معاملة عقولهم ، وحاول قمع تفكيرهم ، وخيرهم بين خيارين زعم أنهما لا يجتمعان : إما الإيمان والشرع وإما التفكير والعقل ، فاختاروا العقل وتركوا الإيمان .

ولقد قلتها مراراً ، ولا زلت أقولها : إن الإلحاد المتستر الخجول في المجتمعات المسلمة خطر يتعاظم ، وقد تحمل العلماء مسؤولية كبيرة في السماح بوجوده ، فعليهم أن يتحملوا المسؤولية في مقاومته واحتوائه .

 

وائذنوا لي أن أنتقل إلى تساؤل عظيم الخطر .

 

أين العلماء من أعداء منظمين تنظيماً دقيقاً ، يتربصون الدوائر بالإنسانية عامة ، وبالإسلام خاصة ، وضعوا لتدمير الحضارة الإنسانية ، واجتثاث جذور الفضيلة ، ونسف المبادئ النبيلة ، خططاً خبيثة محكمة بعيدة الأمد ، ثم انتقلوا - في غفلة من العالم - من طور التخطيط إلى طور التنفيذ ، وكان المسلمون واحداً من أهدافهم ، بل من أولها وآكدها ، فجعلوا يعملون على التدمير في كل مجال وعلى كل صعيد ، في الأخلاق والعقائد ، في الدول والمجتمعات ، في السياسة والإعلام والاقتصاد ، في الدين والدنيا ، وعلماء المسلمين أين هم ؟؟

أين هم من الوقوف في وجه المخططات الماسونية ، والسياسة الصهيونية ، والأفكار الوجودية ، والاقتصاد الشيوعي ، والعقيدة المادية الجدلية ؟؟

لقد انشغل الراعي بمزماره وأغانيه ، التي صارت نشازاً ينفر منها القطيع ، فانفض عنه القطيع متشرذماً . وبقي هو يلهو بمزماره وأناشيده ، بينما قطيعه يتفرق في كل جهة ، فصار صيداً سهلاً لذئاب طال انتظارها لغفلة الراعي ،وعز عليها زماناً طويلاً أن تنال فرداً من القطيع بسوء ، حتى صار بين يديها دون حارس يحميه ، تفتك منه بمن تشاء .

ظهرت في التاريخ الإسلامي حركات فكرية وسياسية هدامة ، بذلت جهوداً كبيرة في سبيل تخريب العقول وإفساد العقائد ، ولكن العلماء كانوا يقفون لها دائماً بالمرصاد ، يكشفون ويفضحون ، ويردون ويفحمون ، يساندهم في ذلك الخلفاء والأمراء ، بل حتى عندما كان بعض الخلفاء أو الأمراء ينحاز إلى صف تلك الحركات ، كان العلماء وحدهم - والله معهم - يقاومون الحليفين معاً ، ولنا في موقف أحمد بن حنبل وأصحابه أمام المعتزلة وخلفاء بني العباس الثلاثة مثل يحتذى ، ولولا صمود الإمام أحمد بن حنبل والنفر القليل الذين معه لضاعت الحقائق ، واختلط الحق بالباطل .

ظهرت بدع الجبر والإرجاء ، والاعتزال وإنكار القدر ، والتجسيم والتعطيل ، ثم تطورت الفتن ، فظهر الشعوبيون والزنج والقرامطة ، ودخلت على العالم الإسلامي فلسفات اليونان وهرطقات الفرس ، والعلماء يتصدون لذلك ، ولا يدسون رؤوسهم في التراب ، بل أطلقوا ألسنتهم  وشحذوا أقلامهم  في وجه الفتن حتى زالت ، وقارعوا دولة الباطل بمثل سلاحها حتى دالت .

لقد كان العلماء يطيرون أنفسهم ، ويغيرون خططهم ، ويعدلون أسلحتهم ، بحسب ما تقتضيه الفتن الحادثة ، والخطوب المتجددة .

فكان أن نشأ علم  التوحيد على يد أبي الحسن الأشعري ، الذي استخدم لغة المنطق وأساليب المتكلمين في تقرير مسائل علم التوحيد ، ليحسن الرد على المعتزلة بمثل لغتهم ، ويبين ضلال ما ذهبوا إليه بمثل منطقهم . وخاض أبو حامد الغزالي في بحور الفلسفة اليونانية ، فأحسن تفنيد عقائدها الباطلة ، ورد حججها بحجج تقابلها من مثل نوعها ، وهكذا كنت تجد عامة العلماء ، كلما ظهر فكر جديد ، أشبعوه درساً وتمحيصاً ، حتى إذا هضموه أطلقوا سهامهم الصائبة التي لا تخيب .

فأين أمثال هؤلاء العلماء اليوم ؟

والأعداء اليوم صاروا أكثر تفنناً في أساليب الحرب الفكرية ، أكثر إتقاناً لفنون الغزو الثقافي ، وقد تحول عملهم من حركات ارتجالية ذات أفكار منحرفة أو مطامع محدودة ، إلى منظمات تعمل وفق خطط داهية ، مدروسة الأهداف ، بعيدة الأمد ، متشعبة النشاطات .

أين العلماء اليوم من الصهيونية والماسونية والشيوعية والوجودية والقاديانية والبهائية وشهود يهوه ... ؟؟؟

هل وقفوا من كل هذه المنظمات وغيرها كوقفة أبي الحسن أو أبي حامد ، أو ابن رشد أو ابن تيمية مما كان في أزمانهم ؟

هل عرفوا عامة المسلمين فساد العقائد الوافدة ، وخطورة الحركات الغازية ، ليكون ذلك وقاية لهم من الخطر قبل وقوعه ؟

يؤسفني أن أرى علماء الإسلام أمام هذه التحديات الكبيرة قد انقسموا في غالبهم ثلاث فرق ليس فيها ما يوازي خطورة الحال .

فمنهم فئة - ليسوا بالكثيرين عدداً -  ولكنهم فاعلون مؤثرون ، اخترقهم الأعداء ، واتخذوهم أعواناً لهم ، ينفثون سمومهم في عقول الشباب ، وكم من شيخ استقطبته المحافل الماسونية فكان من خدامها المخلصين ، وكم من داعية طمع في منصب أو جاه ، فداهن أهل الباطل وتقرب إليهم طمعاً فيما عندهم من مفاتيح الأبواب المقفلة ، فقلب الحق باطلاً ، ولبَّس على المسلمين أمر دينهم .

ومنهم من غفل عما يدبر للأمة ، فكان سبباً لغفلة الناس بغفلته ، قد يكون عالماً جليلاً مستوعباً لأمهات كتب الأقدمين ، قادراً على التصنيف في فروع الفروع التي لا تهم معظم الناس ، ولا يُحتاج إليها في القرن مرة واحدة ، ولكنه لم يسمع عن بروتوكولات حكماء صهيون إلا ما يسمع العامي ، ولا يعلم ماذا فعلت أفكار ماركس وسارتر بشباب الإسلام ، ولم يعرف يوماً من هو داروين وماذا أبطل من عقائد المؤمنين ، فإذا كان هذا حاله فماذا ينتظر منه أن يقدم للأمة ؟!

ومنهم من حاول الدفاع ، فكان دفاعه متعثراً ، أحسن ما يقال فيه إنه جهد مخلص يؤجر عليه ، ولكنه يفتقر إلى الأسس العلمية ، أخذ معلوماته عن أولئك الأعداء المنظمين أصحاب الخطط العتيدة من قصاصات الجرائد ، وأطراف الأخبار ، ومن أفواه الناس ، ثم أتى بها في خطبة جمعة أو محاضرة نارية ، أو أودعها في كتاب أو مقال حماسي مثير ، فشعر بالرضى عما فعل ، ولم يعلم أن الجيش الجرار لا يقاوم برشقات أحجار .

مثل تلك المنظمات لا يمكن مقارعتها إلا بجهود مخلصة ، وخطط محكمة ، وصفوف موحدة .

وتلك مسؤولية العلماء قبل الجهلاء ، وواجب الأئمة قبل سائر الأمة .

 

وأخيراً وليس آخراً ، أتساءل ويتساءل كثيرون معي :

 

ألن يتوقف العلماء عن نبش الخلافات القديمة وتجديدها ؟!

ألن يطووا صفحة غابرة من الحجاج السقيم ، والخلاف العقيم ، في أمور لا يضر الاختلاف فيها ؟!

ألن يكفوا عن محاربة الإخوة الأشقاء ، في حين أن بعضهم يوالون الأعداء الألداء ؟!

 

لقد مزقت خلافات العلماء في الجزئيات جسد الأمة ، وأعداء الأمة ينظرون ويباركون ، بل ويسهمون في إذكاء جذوتها وتسهيل أسبابها .

بقينا زمناً نضيع أوقاتنا في مسائل من قبيل صلاة الحنفي خلف إمام شافعي هل تصح ؟ وعكسها هل يصح ؟ وانقسمت الجماعة الواحدة في المسجد الواحد إلى جماعتين ، وفي المساجد الكبرى إلى أربع جماعات لكل مذهب صلاته ، وكأن أصحاب كل مذهب يقولون لأصحاب المذهب الآخر : ( لكم دينكم ولي دين ) .

ثم خفت حدة تلك النزاعات المذهبية ، ولكن لحساب نوع جديد من الخلاف المقيت المذموم ، بين مذهبية ولا مذهبية ، وبين تيار المجددين وتيار المحافظين ، وبين فقه النصوص وفقه المقاصد ، ثم تشعبت الفرقة الواحدة ، فصارت الخلافات تشتد ، والهوة بين المسلمين تتسع .

والعامة في كل هذا ، إما عاقلون مبهوتون لما يرون ، لا يعرفون تفسيراً له ، فكيف يكون الدين واحداً ، وأتباعه ينقسمون على أنفسهم هكذا ، وإذا كان الإسلام هو الدين الحق ، فأي إسلام هو ذلك الدين ، إسلام هؤلاء أم إسلام أولئك ؟؟؟!! وإما عميان منقادون يعلن الحرب على أخ له إن خالفه أو خالف شيخه في فكرة ما وكأنها الجهاد المقدس . وليسوا في الحالتين إلا ضحية لمن يحرك الخلافات ، ويوقظ الفتنة ، ألا وهم فئة من العلماء دفعهم إما حمقهم وإما خبثهم إلى تمزيق صف الأمة وتفريق كلمتها .

لقد مل كثير من الناس سماع المهاترات الممجوجة المبتذلة ، التي تفتقر إلى كل مقومات الحوار الهادف ، وما زادهم الكلام فيها إلا نفوراً واستهجاناً .

أما آن للعلماء أن يتحلوا بقدر من الوعي والإخلاص ، يخرجهم من دوامة الشقاق الموروث الذي أخذوه عن أسلافهم من ضمن ما أخذوا من تراث خالط فاسدُه الدخيل صالحَه الأصيل ؟؟!

والداهية الدهياء تُرى في الغرب غير المسلم ، في أوروبا وأمريكا ، حيث نقل ( دعاة الإسلام ) خلافاتهم ليعرضوا أقبح ما عندهم على أهل تلك البلاد ، الذين لم يعرفوا الإسلام الحقيقي ، ولم يسمعوا عنه إلا اسمه ، ورأوا في موضعه خلافات وانقسامات ، ونفّرهم من قبول الإسلام أن علماءه يكفر بعضهم بعضاً ، ويلعن بعضهم بعضاً ، حتى إذا شاء أن يدخل في الإسلام ، فإنه يحتار بأي إسلام يأخذ ، وكل يدعي أن الإسلام معه وحده ، وأن من على غير مذهبه كافر مارق !

بل إن نسبة كبيرة من المسلمين الجدد في تلك البلاد صاروا يسهمون في شحذ الخلافات المذهبية ، وصاروا يلقَّنون على أيدي شيوخهم الجدد الخلافات قبل أن يتعلموا أصول الدين ، فيتحولون إلى مصدر قوة للمذهب الذي هم محسوبون عليه لا للإسلام الذي اعتنقوه ، بل إنهم يضعفون بذلك الإسلام من حيث نظن أن دخولهم في الإسلام يقويه !

كل هذا يفتك بالأمة ، والعلماء بين متفرج على ذبحها ، ومشارك يضع يده فيه ، وهم مع ذلك يرون أن ما ورد في النصوص والأشعار من فضائل العلماء ومدائحهم فيهم قيلت لا في سواهم ، فيا للعجب !!!

إن أول ما ينبغي على العلماء فعله هو السعي في سبيل لم الشمل ، والعمل على رأب الصدع ورص الصفوف وتوحيد الكلمة ، لأن أي جهد إصلاحي لا يصدر عن كلمة موحدة سيفشل لا محالة ، وسترتطم إنجازاته بالخلافات والانقسامات التي تحيل النصر هزيمة .

وما من أمة أغفلت إصلاح ذات بينها إلا انقلبت انتصاراتها هزائم ، وعاد نجاحها في مساعيها فشلاً .

قبل محاربة العدو الخارجي ، لا بد من محاربة العدو الداخلي الفتاك ( فساد ذات البين ) ، الذي قد يكمن في أوقات الشدائد ، ولكن ما إن يغيب العدو الخارجي وينهزم حتى يستيقظ من سباته ، ويخرج من مكمنه ، والأمثلة في التاريخ كثيرة من قديم الأزمان ، إلى قضية أفغانستان ، وانقسام أهلها على أنفسهم بعد انتصارهم العظيم على الإمبراطورية الروسية .

قبل السعي في كسب الأصدقاء ، لا بد من كسب الإخوة الأشقاء ، الذين تجمعنا بهم أواصر الدين ، وتربطنا لحمة العقيدة ، فما يجمعنا أكثر مما يفرقنا .

 

من أشكال الوحدة التي نحتاجها ( الوحدة الجيو ثقافية ) وأعني بها التواصل المعرفي الثقافي بين علماء المسلمين في بقاع العالم الإسلامي المختلفة ، وفي سائر أقطار الأرض .

قبل مجازر البوسنة والهرسك ، قلة من المسلمين كانوا يعلمون بوجود شعب بحاله يدين بالإسلام في قلب أوروبا ، وفيهم العلماء والأتقياء .

وفي كوسوفو التي لم نكن نسمع عنها قبل محنتها ، علماء في الفقه والأصول والنحو خلفوا نفائس المخطوطات مخبوءة عن عيون الشيوعيين في شعاب الجبال .

وألبانيا المسلمة ، كثيراً ما كان من يسمعني ألفظ اسمها يصحح لي نطقي فيقول : " تقصد ألمانيا ؟ " فهو لم يعلم بوجودها ، فضلاً عن أن يعرف أنها دولة يشكل المسلمون غاليية سكانها .

وفي الصين أكبر أقلية مسلمة ، غير أننا لا نعرف عنهم أدنى معرفة .

والمسلمون في الهند ، لا تعرف الأمة المسلمة عنهم إلا النزر اليسير من الحقائق التي معظمها مغلوط ، وعندما كنت أسأل بعض الإخوة : أتعلم كم يبلغ عدد المسمين في الهند كنت أسمع إجابات شتى أكثرها تفاؤلاً أنهم عشرون أو ثلاثون مليوناً .

ولو كلمت أياً من عامة المسلمين عن الإسلام في أمريكا ، فسوف يفاجأ عندما تخبره أن أعداد المسلمين هناك تتراوح بين ستة ملايين في أقل تقدير ، وثلاثين مليوناً في بعض التقديرات غير الرسمية .

فإذا كان هذا ما انتهى إليه علم المسلمين عن شعوب إسلامية عظيمة ، وجاليات مسلمة مؤثرة ، فلا ريب في أن اطلاعهم على أحوال إخوانهم هؤلاء ووقوفهم على همومهم ومشكلاتهم أمر لا وجود له أصلاً .

فإن قيل : إن هذه مشكلة عامة ، والجهل فيها ضارب أطنابه على المجتمع المسلم بأسره ، فما ذنب العلماء في هذه المشكلة ؟ وما دورهم في حلها ؟

قلت : إن العلماء هم مصابيح الأمة وهداتها ، فإذا لم يقوموا هم بواجب التثقيف والتوعية ، فمن يقوم به ؟ أننتظر وسائل إعلامٍ أقسمت أن تجتث الخير والفضيلة ، وتحارب الحق والهدى ؟ أم مؤسسات تعليمٍ قلبت الموازين وشوهت الحقائق ، وعاهدت الشيطان أن تجعل الباطل حقاً والحق باطلاًُ ؟

ومن زعم أن مهمة العالِم المسلم تقتصر على الكلام في أحكام العبادات وقصص التاريخ فقد أخطأ الصواب .

لا بد من أن يتحول منبر الجمعة ، وكرسي الدرس ، ومحراب الموعظة ، إلى جامعات تعوض ما فوتته الجامعات ، ووسائل إعلام تصلح ما أفسدته وسائل الإعلام .

على العلماء - بناءً على ذلك - أن يثقفوا أنفسهم ويبنوا أفكارهم البناء المتكامل ، ليحسنوا تثقيف الأمة وبناء فكرها .

في سالف الزمن ، كانت وسائل الانتقال محدودة ، ووسائل الاتصال شبه مفقودة ، فالطريق من الحجاز إلى الشام يستغرق شهراً ، فما بالك بما بين مراكش وخراسان ،  والسفر على الإبل والخيول ، فيه من المشقة ما فيه ، ومع انقطاع السباب هذا ، كان تواصل العلماء في أوجه ، وكان الحوار بين أئمة الأمصار ، وكانت المباحثات العلمية ، وكان التلاقح الفكري كما لو كانوا في قرية صغيرة .

يؤلف عالم في المشرق كتاباً ، فيصنف مغربي في تحشيته أو نقده ، أو تقريظه أو نقضه .

ويقول عالم في الأندلس رأياً ، فيسارع علماء الشام إلى تمحيصه وبحثه ، ثم إقراره أو دحضه .

لقد صنع المسلمون في ذلك العهد الذهبي ما يصلح أن يسمى عولمة فكرية ليس لها مثيل في تاريخ الأمم رغم قلة الوسائل  ، فارتحلوا وتنقلوا ، وتراسلوا وتواصلوا ، حتى حققوا مصطلح ( القرية الصغيرة ) من مئات السنين .

فأين علماء الأمة من مثل هذا التواصل اليوم ؟ وقد تيسرت لهم أسباب التواصل ، وتطورت وسائل الاتصال ، حتى إن العالم كله يأتي إلى داخل بيتك بضغطة زر ، فتتخير منه ما تشاء .

هوة واسعة صارت تفصل بين مدرسة فكرية وأخرى داخل القطر الواحد ، فما بالك برقعة اتسعت ، وأقطار تناءت .

صار الناس يعلمون عن قصص الفنانين ، وأخبار الرياضيين ، أكثر مما يعلمون من أسماء علماء أمتهم ، وما ذاك إلا لتقصير مشايخهم في تعريفهم بهم ، وهم أنفسهم في الغالب لا يعرفون الكثير عنهم .

ثمة هيئات علنية معدودة ، لها نشاط في جمع أخبار العلماء ، وإحصاء المؤلفات التي تنشر لهم في أقطار إسلامية أخرى ، ولكن دائرة عملها محدودة ، وأثرها في المجتمع لا وجود له .

لما توفي النجاشي نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه في اليوم نفسه ، فكان في ذلك تشريعُ سنةٍ إعلاميةٍ يجدر بالعلماء أن يتفهموها ، وأن ينقلوا للناس أخبار أمتهم ، وأحوال علمائها كما نقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه خبر أخيهم النجاشي رغم بعد المسافة .

 

ومن أشكال الوحدة التي نحتاجها الانفتاح الفكري والتلاقح المذهبي .

لقد فعل التعصب للمذهب والمدرسة وتقديس فكر ( الجماعة ) و ( الطائفة ) بهذه الأمة أشد مما فعل بها أفتك أعدائها ، وذاق المسلمون من ويلات التعصب ما أذهلهم عما يحيك لهم العدو المتربص .

والأمثلة العملية للتعصب لا تخفى على ذي بصر ، ولا حاجة لتكرار المعلوم .

لقد آن الوقت لوقف هذه الشجارات الصبيانية التي تتحول في بعض الحالات من شجارات كلامية إلى حروب دامية ، وجدير بعلماء المسلمين أن يغيروا هذا الحال الذي لا يرضي الله ولا رسوله ، ولا يرضي إلا إبليس وجنده .

أمام علماء الأمة تحد كبير ، يحتاج منهم شجاعة كبيرة : أن يرفعوا الحصانة عن اجتهادات السابقين ، وأن ينتقوا منها ما وافق نصوص الشرع ، وانسجم مع روحه ، وحقق مقاصده ، ومن أعظم مقاصده توحيد الكلمة .

ولا بد لهم من أن يعلموا أنه إذا تعارضت وحدة الأمة مع قداسة المذهب وحصانة أئمته ، فإن مصلحة الأمة تقدم ، فلنخالف آنئذ آراء أئمة المذهب ومشايخ الطريقة في سبيل توحيد الكلمة وتجنب الشقاق .

فلقد مر ردح من الدهر طويل والأمم تتندر بنا ، وتضرب بتفرقنا الأمثال ، وما كان تفرق العامة إلا نتيجة لتفرق العلماء ، ولا تكون وحدتهم إلا بوحدتهم واتفاقهم .

 

ومن أهم أشكال الوحدة التي نحتاجها إيقاف النزيف الذي تفقد به الأمة يوماً بعد يوم خيرة شبابها المثقفين ، الذين لم تتيسر لهم التربية الإيمانية العقلانية ، فنشؤوا مسلمين بالتقليد ، حتى إذا شبوا عن الطوق ، وخرجوا عن دائرة التبعية للبيئة التي ربوا فيها ، تلمسوا حقائق الإسلام العقلانية المقنعة ، التي لا يأباها العقل ، فوجدوا موضعها طروحاً نفرتهم ، وأفكاراً لا برهان عليها ، وارتطموا بعلماء لا يفقهون لغة المنطق التي يفكر بها هؤلاء الشباب ، كانوا سبباً في إعراض الشاب عن الدين لا لفساد عنصره  ، بل لسوء عرضه عليه .

وبسبب انعدام حكمة هؤلاء ( العلماء ) لو جاز لنا أن نصفهم بهذا الوصف الشريف ، تخسر الأمة شباباًُ من خيرة أبنائها ، هي إليهم أحوج منها إلى ملايين من المتلقنين المقلدين.

على العلماء - تجاه هذا التحدي - أن يتعلموا أولاً منطق البحث العلمي المجرد ، الذي يقبل مناقشة كل رأي مهما بلغ تطرفه على أساس من المنطق البحت ، ليتوصلوا منه إلى منطق الحوار العلمي الهادئ ، الذي يحترم كل رأي ولا يلزم أحداً بتبني فكرة ما لم يأت عليها ببرهان دامغ .

ثم عليهم أن ينزلوا من صوامعهم وأبراجهم ، ويفتحوا صدورهم وقلوبهم لكل سؤال ، وأن يتقبلوا كل نقاش ، ليدخل إلى رحاب الإسلام من كان قد خرج .

عليهم أن يصلحوا ما أفسدوا ، ويعيدوا بناء ما هدموا .

 

وفي الختام

ربما بدا للبعض أن هذه الصورة القاتمة التي قد رسمناها آنفاً قد جاوزت الواقع وأغرقت في التشاؤم ، وأن كل ما سبق كلام غير مسؤول ، ولا يستند إلى أساس ، وأن الحال ليس بهذه الدرجة من السواد .

هؤلاء معذورون في هذا الظن لجهلهم - لو عذر الجاهل - لأنهم نأوا بأنفسهم عن واقعهم فلم يدروا ماذا يحدث من حولهم .

ولعل العاقلين أصحاب الأبصار والبصائر ، يعلمون أني لم أجاوز الواقع في حرف واحد مما مضى ، وما كان ذلك إلا إيضاحاً للحقائق المستورة ، ورفعاً للحجب التي يصر البعض على إسدالها على تلك الحقائق ، وما زدت على أن وضعت يدي على الجرح الذي ما فتئ الآخرون يغضون الطرف عنه  ،حتى استفحل أمره ، وعظم خطره ، وصار لا بد من استئصاله ما لم يمكن علاجه ، قبل أن يودي بالجسد كله .

وأنا في كل ما ذكرت ، لا أنأى بنفسي عن المسؤولية ، ولا أتكلم من علٍ ، ولكنني في كل كلمة قلتها أتهم نفسي قبل غيري ، وأطلب الصفح من الله عما مضى والعون على ما بقي ، وما كان الكلام الذي سبق هجوماً ممن يرى نفسه أعلى على من هم أدنى ، إنما كان الدافع وراء كل ما تقدم الحب الممزوج بالحرص لمصابيح الأمة ، الذين من ورائهم الأمة كلها ، والذين أرى أدنى واحد فيهم فوقي بدرجات ، وأقلهم قدراً أرفع مني بمراتب .

ولقد كان التشخيص الذي تقدم مشحوناً بالحلول بين ثناياه ، تلك الحلول التي لا بد أن يكون تحقيقها بداية لنهضة ( علمائية ) تنتج بإذن الله نهضة عامة لأمة قال الله سبحانه في بيان فضلها : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) ، ولن تعود هذه الأمة إلى مقامها الرفيع بين الأمم إلا بإرشاد من علمائها ، ولن تصل إلى مقام الرضوان الإلهي إلا إذا أخذ أئمتها بيدها ، وتلمسوا لها الطريق ، وساروا أمامها أئمة هداة مرشدين ، ليكونوا في الدار الآخرة أئمة الأمة إلى جنة الخلد ، ويحوزوا أعلى مراتب النعيم المقيم ، في الفردوس الأعلى من الجنة ( وما ذلك على الله بعزيز ) .

اللهم هذا الجهد وعليك التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بك .

عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

لكناو في يوم الأحد

ربيع الأول  1425

من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم

------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

 


السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ