ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||||
ذكريات
طنطاوية - 5 نشأت في دمشق، وفي
دمشق عرفت رمضان، وأحببت رمضان،
ثم كتب الله لي (أو كتب عليّ) أن
أشرق في الأرض وأغرب، مشيت إلى
أقصى الجنوب الشرقي من آسيا إلى
مدينة سورابايا، وإلى فولندام
في أقصى الشمال من هولندا ، وأن
أرى رمضان حيثما سرت، لا في سنة
واحدة، بل في سنوات كثيرات
وأزمنة متباعدات. في مصر سنة 1928م وأنا
طالب في دار العلوم ومحرر في'الفتح'وفي'الزهراء'.
لما كان سكان مصر ثلث سكانها
اليوم، وكانت القاهرة بربع حجم
القاهرة، لما كانت القاهرة
عاصمة العرب، شوارعها أنظف
الشوارع، وميادينها أجمل
الميادين، ومواصلاتها أسهل
وأسرع المواصلات، والجامعة
الوحيدة في بلاد العرب كلها
كانت فيها، ولم أعد جامعتي
بيروت الأمريكية واليسوعية
لأنهما ليستا لنا، وكان الأزهر'جامعاً
'للطلاب المسلمين. وفيها حديقة الحيوان
التي لا تفوقها جمالاً وسعة
وعظمة إلا ثلاث حدائق في
العالم، وفيها... وفيها.. فما
كتبت اليوم لأعد الذي كان فيها. وأن أرى رمضان في
العراق لما كنت مدرساً فيه،
تنقلت بين بغداد والبصرة
وكركوك، أمضيت في الأعظمية سنة
قلما استراحت روحي مثل راحتها
فيها، كنت أدرس في الثانوية
المركزية، وأحاضر في دار
المعلمين العليا، وكنت حلقة من
النحاس في سلسلة حلقاتها من
خالص الذهب/ كان سلفي الأستاذان
أحمد حسن الزيات ومحمد بهجة
الأثري، وخلفي الأستاذ زكي
مبارك، هم الذهب وأنا حلقة
النحاس، وكنت أدرس في مدرسة
الإمام الأعظم أبي حنيفة الذي
تشرفت الأعظمية بانتسابها
إليه، وكنت أنام في المدرسة وهي
متصلة بالمسجد، فكان بين مضجعي
المؤقت في الكلية ومضجع جسده في
مدفنه ثلاثون متراً. يا سقى الله
أيامي في أعظمية بغداد وأهلها.
كانوا يقولون لنا:'جايين
تقشمرونا تأخذون فلوسنا
وتنسونا'ما قال ذلك خاصتهم
وفضلاؤهم بل بعض العامة منهم،
فها هي ذي سبع وأربعون سنة قد
مرت، فهل رأيتموني يا أهل بغداد
قد نسيتكم؟ هل كتب أحد عن بغداد
بعد زكي مبارك، أكثر مما كتبت
أنا؟ أولم أؤلف كتاباً عن بغداد
حالات عواصف السياسة، وغبار تلك
العواصف، بينه وبين أهل بغداد،
فلم يطلع عليه إلا قليل منهم؟
وما لي بالسياسة من أرب وما كنت
يوماً من أربابها ولا من
أحبابها، ولكن كان ذنبي فيه أن
وصفت ما رأيت، فمدحت ناساً صار
مديحهم يؤذي من نـزل بعدهم
منازلهم، وحل محلهم، وكذلك
الدنيا: مقاعد قطار، يصعد واحد
وينزل واحد. ورأيت رمضان في
البصرة ومتعت البصرة بمرأي شط
العرب، وملايين من أشرف العرائس
يستحممن في مائه.. عرائس النخيل
في الأبلة التي هي اليوم أبو
الخصيب. ألم يشهد لهن شيخ المعرة
حين قال: وردنا ماء دجـلة
خـــــير ماء *** وزرنا أشرف
الشجر النخيلا وفي كركوك، لما كانت
قرية أو كالقرية، وكنا نستضيء
في لياليها بشمعات ثلاث لا
تنطفئ أبداً، لا في الليل ولا في
النهار، ولا تحت المطر، ذلك
لأننا لم نكن نعرف أن الغاز
الطبيعي له ثمن وأنه يمكن أن
يباع، فكنا نحرقه لنخلص منه،
يوم لم يكن قد ظهر لنا النفط في
غير العراق. ورأيت رمضان في بيروت
سنة 1937م، وأنا مدرس في الكلية
الشرعية التي غدت اليوم أزهر
لبنان، وكان من تلاميذها رجال
بلغوا المعالي منهم العالم
المجاهد المفتي الشيخ حسن خالد.
ورأيت رمضان في باكستان، وفي
الهند، وفي أندونيسيا لما رحلت
إليها مع بركة العصر الشيخ أمجد
الزهاوي، وقد كتبت عنه بإذنه
ورضاه في كتابي'في أندونيسيا'،
وكانت رحلة لخدمة فلسطين،
والتعرف بقضية فلسطين، ما قبضنا
فيها مالاً ولا تسلمنا مما
يجمعون قرشاً، بل أعطيناهم
عنوان المؤتمر الإسلامي، وقلنا
لهم: أرسلوا إليهم ما جادت
أيديكم به. قطعت حياتي قطعاً
وتركت في كل من هذه البلاد فلذة
منها، لي في كل واحدة ذكرى
وذكريات لو جمعتها ودونتها لجاء
منها أدب أخلفه بعدي، سميراً
للأدباء في ليالي الوحدة، اتخذ
منه أصدقاء يعرفونني من بعد
موتي وأنا ما عرفتهم، ولكن ما
جدوى هذا كله؟ هذا كله أبقية
هنا، الأدب والشهرة والمجد، إن
الذي يجدي علي وينفعني هو الذي
أحمله للرحلة الطويلة التي لا
محيص عنها، ولا رجعة منها،
فعلام الأسى على زهرات لا تعيش
إلا يوماً واحداً ثم تذبل وتموت. إن أدون هنا ذكرياتي،
بل الأقل مما بقي في ذهني من
ذكريات. والفضل فيها بعد الله،
لولدي الأستاذ زهير الأيوبي و'المسلمون'،
ثم لـ'الشرق الأوسط'، أما أكثر
الذكريات فقد سقط مني في مسالك
الحياة، أو امتدت إليه فسرقته
أيدي النسيان. وجدت لرمضان في هذه
البلاد كلها حقيقة واحدة، ولكن
صورها مختلفة، ومن أسرار خلق
الله أنه جعل التعدد في الوحدة،
والوحدة في التعدد، فهندسة
الوجود كلها واحدة: عينان تحت
حاجبين، وجبين فوق العينين،
وجعل فماً وشفتين، ولكنه لم
يجعل فيها وجهين متماثلين، حتى
التوأمين بينهما - لو دققت النظر-
فروق، وإلا لما عرفت زوجة
أحدهما زوجها. والأحياء كلها على
تعدد أنواعها، هندسة بنائها،
تكاد تكون واحدة: العمود
الفقري، وقفص الصدر والأطراف
حتى عدد فقرات العنق في
الزرافة، وفي الحيوان الذي لا
يبدو له رقبة، حتى أعضاء
التناسل في الذكر والأنثى
هندستها واحدة على تعدد أنواع
الحيوان. أليس في هذا دليل من
آلاف الأدلة على أن الصانع
واحد؟ لو زرت معرض صور فيه مئات
من اللوحات، نوع ورقها،
وأصباغها، وطريقة ضرب الريشة
فيها، كل ذلك واحد، ألا تفهم من
ذلك أن مصورها واحد؟ ثم إن اختلاف صور
رمضان في تلك البلدان جاء مما
ابتدع الناس وأحدثوه، فالدين
واحد، والصورة الأصلية، صورة
مجتمع الصحابة الذي كان يشرف
عليه ويهديه سيد البشر محمد صلى
الله عليه وسلم، لو بقي
المسلمون عليها لما اختلفوا
ولكنهم ابتدعوا بدعاً ألصقوها
بالدين، وجاء العلماء فكشفوا
تلك البدع، وهذا معنى الحديث (إن
الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل
قرن من يجدد لها دينها)، يجدده
كما يغسل المرء ثوبه من الأوساخ
فيعود جديداً كيوم اشتراه،
فالتجديد المراد هو هذا، لا أن
يأتي بدين جديد غير ما جاء به
رسول الله. وكان أصعب رمضان مرّ
عليّ هو الذي قضيته في جاكرتنا،
أنزل وحدي في فندق من أعظم ما
رأيت من الفنادق، لي وحدي جناح
أكبر من بيتي في الشام، ولكني
كنت فيه في سجن، كان حاصره (زنزانه)
ولكنها واسعة، أرى بعيني ولا
أتكلم بفمي، أبصر من حولي
الهولنديين من بقي منهم سنة 1954م،
أكثرهم مع أسرهم وأولادهم،
وبيني وبين أولادي ربع محيط
الأرض، وجاء العيد والناس
يفرحون بالعيد، وأنا أنشد مع
المتنبي ما قال في العيد، وخرجت
إلى ساحة مرديكا (ومعناها ساحة
الاستقلال) وبنفسي من الضيق ما
لو وزع على ذلك الحشد الذي لا
يحصى أفراده عد لغمهم كلهم،
الألعاب والباعة والأطفال،
دنيا من الناس، يموج بعضهم في
بعض، وأنا في دنيا من همي وغمي
وضيق صدري، لا أجد من أكلمه أو
أفهم عنه أو يفهم عني، وما العيد
إن لم يكن معه الأنس ببلدك وأهلك
وأصدقائك؟ وما العيد إن لم يكن
فيه للنفس متعة، وللقلب
اطمئنان؟ إنه لا يبقى منه إلا
رقم على صفحة التقويم. وجدت ساحة كمبير كأن
قد نبتت فيها عشرون ألف زهرة في
ليلة واحدة، لا أعني زهرات
الحقل ولكن زهرات البيوت، كان
نساء جاوة الحلوات (غير
الجميلات) يختلن في الثياب
العجيبة الملونة، بمثل ألوان
زهر الروض، وكان لهن أفانين من
التسليات والألاعيب، ولكني كنت
عن ذلك كله في غفلة، كنت أمشي
بلا قلب لأن قلبي بعيد، بعيد عن
المكان والزمان، إنه يهيم في
أودية الماضي، يسرح في تلك
السفوح الحبيبة من قاسيون، حتى
بلغت حديقة لحظت أنها مرتع
أطفال الأغنياء، لما يبدو عليهم
من آثار السرف والترف، وكان على
باب الحديقة عجوز قد أمال ظهرها
ثقل ما حملت من كثرة السنين وفي
يديها طفلة كأنها الفلة
المتفتحة جمالاً وطهراً، في
ثياب قديمة لكنها نظيفة... وكانت
تنظر إلى هذا العالم كأنه غريب
عنها. .... وكان الأولاد
يشترون أكلف'الشوكلاته'من بياع
هناك، وكانت تنظر إليهم وهم
يقشرون أوراقها ويأكلونها
بعيون يلمع فيها بريق الرغبة
المحرقة، يعقبها خمود اليأس
المرير، ثم غلبها الطمع فلكزت
خصر جدتها العجوز بمرفقها حتى
إذا التفتت إليها، أشارت بغمزة
من عينها، وحركة سريعة من يدها
إلى الشوكلاتة فتبسمت الجدة
بعينيها، ولكن مقلتيها كأنتا
تبكيان بلا دموع، وقلبت كفيها
إشارة العجز والفقر، فأشتريت
لها أكبر كف من الشكولاته وذهبت
فدفعته إليها، فنظرت إلي نظرة
المشدوه، ثم نظرت إلى جدتها
كأنها تستنجد بها تسألها، فأشرق
وجه العجوز بابتسامة كأنها
إطلالة الشمس في يوم كثيف
الغمام، وقالت بلسانها كلاماً
لم أفهم منه إلا'تريما كاسي'أي
شكراً'بنجاوم عمر'أي الله يطول
عمرك، وأسرعت البنت تجر جدتها
تسرع بها، كأنها قطة أعطيتها
قطعة لحم فهي تسرع بها، كأنما
تخاف أن أندم فألحقها لاستردها
منها. "لم أخسر أكثر من
أجرة سيارة أركبها في نزهة
أريدها، ولكني ربحت من اللذة ما
لا أجده في مئة نزهة. أحسست أن ما
كان في قلبي من الضيق قد انفرج،
وما كنت فيه من الكرب قد زال،
وأنه رفع المنظار الأسود عن
عيني فرأيت بهاء الكون، وبياض
النهار ووجدت العيد"
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |