من
الأدب السياسي
في
الشورى
.
. المستشير
والمشير
أقول
إن الاستشارة تفيد المستشير عقلاً
تزيده إلى عقله. وهداية تجمعها مع
هدايته كما يزيد النهر ماءً بما يمده
من الأنهار، وكما تزيد النار العظيمة
بما يصب عليها من الدهن الكثير. كما
تقول: خاطر من استغنى برأيه. ومن كلام
علي رضي الله عنه: (من أعجب برأيه ضلّ،
ومن استغنى بعقله زل). والذي يستشير
ولا يقبل من نصحائه كالعليل الذي يترك
ما ينعت له الطبيب ويعمل ما يشتهي بغير
علم.
والمشورة
يحتاج إليها لأوجه أربعة:
أحدها:
تقصير المشير عن معرفة التدبير.
والثاني:
خوفه من الغلط في التقدير وإن لم يكن من
أهل التقصير.
والثالث:
أن الفطن النِحْريرَ ربما يستر عليه
الحبُّ أو البِغْضَةُ وجوه الرأي
والرويَّة؛ فَهُما يعدلان بالفكر عن
الإصابة، فيحتاج إلى مَشورة من رأيُهُ
صاف من كَدَرِ الهوى، مبصر لوجوه
الآراء.
والرابع:
أن المستشار ربما كان في الفعل
شريكاً أو عليه معيناً فتكون مشورته
داعياً إلى استئلافه، وإغراءً له في
معونته إذ كان الفعل مما يُفْعَلُ
برأيه؛ وقد قيل: ربما أخطأ العاقلُ
رُشْدَهُ، وأصاب الأعمى قصده. وإن الله
سبحانه جعل لكل ذي عقل نتيجة، وعند كل
إنسان معرفة، وأولى ما التمس العاقل
فيه الرأي مواضع الالتباس؛ فإنه إذا
فعل على شكٍّ كان كالسائر على غير
طريق، والجاري إلى غير غاية. وإنه كلما
زاد في جريه جهداً زاد عن الحقيقة
بعداً، وكدودة القز التي كلما زادت على
نفسها نسجاً زادت من الهلاك قرباً.
فيا أيها المستحيي من
المشورة ! إن الرأي لم ترده للافتخار
وإنما أردته لإدراك الصواب، ولو أنك
للفخر أردته لكان افتخارك بالاستشارة
أمدح من افتخارك بترك النصيحة؛ فإن
الحكماء قد قالوا: الجاهل لا يقبل من
نصحائه، والناقص لا يشعر بنقصه.
واعلم
أن المستشار في الأمور يجب امتحانه
بالاختبار حتى يخلص من أوصاف تخل
بالنصيحة، وتودي بمستشيره إلى
النقيصة؛ فمن ذلك أن يكون عاقلاً
فطناً، فإن الأحمق الجاهل إذا
استشرته زادك في لَبْسكَ، وأدخل عليك
التخليط في رأيك، ولم يقم بحقوق نصحك.
ومنه أن يكون محباً مصافياً، فإنه إذا
كان كذلك أمنت من غشه، واجتهد لك في
نصحه، ونظر في أمرك بجميع أجزاء قلبه.
ولا يستشار العدو إلا في
موضع واحد، وهو أن يكون صلاح الرأي
بصلاحه (أي بصلاح هذا العدو) وفساده
بفساده؛ كعدوين يكونان في سفينة
يستشير أحدهما الثاني في صلاحها
ونجاتها من هلاكها. واحترز أن يكون في
عقبى إرشاده شيء يخصك بفساده.
ومنها
أن يكون (المستشار) كاتماً لسرك. وغير
مُطلعٍ لأحد من إخوانه على شيء من
أمرك، فإنه إذا أطلع على رأيك بعض
أصدقائه أو غيرهم من جلسائه، أخبر كل
صديق صديقه، وفاه كل جليس إلى جليسه؛
حتى يصل أمرك إلى عدوك، ويتصل رأيك
بأهل بغضك؛ فيبغونك الغوائل، وينصبون
لك الحبائل، فيفسد أمرك قبل إحكامه،
وينتقض رأيك قبل إبرامه. وربما كانت
الاستشارة في سدّ ثلْمةٍ من ثُلَمِكَ،
أو في التخلص من غِرَّةٍ من أمرك،
وعدوك عنها غافل، وحاسدك بسواها
متشاغل، ولا يزيدك بِنَمِّهِ غير
تنبيه عدوك على ثلمتك، وإغراء حسادك
على انتهاز فرصتك؛ فيكون في ذلك عطب أو
مهلكة أو خسارة أو منقصة. فتجنب من هذه
سبيله باستشارتك، وحصِّن عنه أسرارك
بجهدك وطاقتك.
ومنها
أن يكون المستشار لا يؤدي نصحك إلى
ضرّه، ولا إلى ضرّ أحد من إخوانه؛ فإنه
إن أدى نصحك إلى ضره أو إلى نقصان شيء
من أمره، لم يفضلك على نفسه، ولم يخصك
بنصحه. وكذلك إذا كان ذلك مضراً
بإخوانه، فإنك لا تدري لعل مودة صاحبه
آثر عنده من مودتك، ونصيحته بغشك أولى
في رأيه من نصيحتك.
ومنها
ألاّ يكون المستشار حاسداً؛ فإن الحسد
يبعث أهل المحبة على البغضة، وأهل
الولاية عل البعد والفرقة. فحينئذ
يتعمد ضرَّك بجميع الوجوه التي تتقيها
على نفسك، وتكون داعية إلى فساد رأيك.
واعلم
أن الحسد أمر مركب في الطبيعة، وغريزة
موجودة في أصل الخليقة، فلا تقدر على
التحرر منها بالمصانعة، ولا تظهر لمن
عرفتها فيه بكثرة المصادقة فيه؛ فلذلك
جعلته قسماً زائداً على المحبة،
واشترطت التوقي منه في أصل الاستشارة.
ويا
أيها المستشار إنك مشارَك في عقلك
ومروءتك، وموثوق بدينك وأمانتك؛ فإن
خنت في رأيك أو قصّرت من جهدك؛ فقد
انتفيت بغدرك من جميل خصالك، ولا خير
في العيش بعد ذلك.
واعلم
أنك إذا أشرت بالنصيحة قَبِلها منك
العدو والمبغض، وإذا تكلمت بالهوى رده
عليك الصديق المخلص، وأتبعك العدو
مدحاً على صوابك، وقطعك الصديق يوماً
ما ولم يعبأ بك؛ فاحرص على شكر عدوك
وصديقك باجتهادك في النصيحة، وتحقيقك.
وإذا
أشرت برأي من الصواب فكان النجاح
عقيبَه، فلا تكثرن من الافتخار برأيك،
والاحتجاج على فساد رأي غيرك، فإن ذلك
من سيء الآداب، وتقريع الأصحاب،
ومذموم الإعجاب. واقتصر في ذلك على
الصمت والتوقير والشكر لأصحابك
بالتخشع أو بالتلطف، ولا بد لهم أن
يخرجهم الإنصاف إلى شكرك، أو يقودهم
شاهد الحال إلى الاعتراف بحسن رأيك،
فتكون محبَّباً لأصحابك ممدوحاً بما
أشرت به من صوابك.
واعلم
أيها المشير أنه ليس لك على المستشير
القبولُ لرأيك ضربة لازب، وأن الرد
لرأيك ليس في فضلك بقادح، فلا تقابل
التنكيب عن رأيك بالإنكار والاحتجاج،
وكثرة المراء واللَّجاج، والغضب
الظاهر، والتعرض بأفعال المكابر. وأن
هذا ليس من أخلاق الأشراف، ولا جار في
حلبة الإنصاف.
وإذا
كانت آراء الوالي مخالفة لرأيك، فلا
تزين له المحال من رأيه فإن ذلك غاية في
غشه، ونهاية من خديعته، ولا تجاهده إلى
الرجوع إلى رأيك بكرهه؛ فإن هذه رياضة
صعبة، وطريق وعرة، تؤذنه ببغضك،
وتدعوه إلى اطّراحك؛ فتكون بذلك
زائداً في غلطه مؤذياً لنفسك في
اطّراحه وجفوته؛ ولكن نَبِّهه على
الغلط والصواب من رأيه، واتركه حتى
يظهر على غلطه، فإن ذلك مما يحمله على
اتباعك، ويزيده معرفة بقدرك.
وإن قدرت على أن تنحل أصحابك
صواب رأيك فافعل، فإن ذلك أجمل.
فإما أن تنتحل أنت صواب آرائهم، فلا
خير في ذلك؛ بل إنه نهايةٌ في سوء
الأدب، وداعيةٌ إلى غاية الذم مع ما
فيه من الكذب.
وإن
أشار أحد عليك برأي أفضى فيه إلى
الغَلَط ، وزل به عند الصواب، فلا
تأخذن في تأنيبه وتوبيخه؛ فإن الآراء
ربما خفيت وجوهها، وغابت أسبابها،
وليس كل الرأي مقطوعاً على صوابه، بل
الآراء فيها ما هو مبني على غالب الظن،
ومدرك صوابه بالوهم؛ فإذا لمته على
غلطه مع تصحيح قصده آذيته بسوء أدبك،
وجازيته على مجاملتك، وقطعت غيره من
النصّاح عن نصحك. فعلى هذه الأمور قس في
الاستشارة إن شاء الله تعالى.
المرادي:
أبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي
كتاب:
الإشارة إلى أدب الإمارة
63
ـ 71
|