من
الأدب السياسي
في
الدهاء والتغافل
الدهاء
اسم لوضع الأمور في مواضعها، والكف
عماّ لا نفع فيه انتظاراً لما فيه
النفع. وقد يوقع أيضاً هذا الاسم على من
كثرت حيلته وقويت فطنته، وكان وصوله
إلى أغراضه بألطف الوجوه التي يمكنه
التوصل بها إليه فتراه أبداً كأنه أبله
متباله وهو يحصي دقائق الأمور، ويدبر
لطيفات الحيل؛ فلا ينطق حتى يرى جواباً
مسكتاً أو خطاباً معجزاً، ولا يفعل حتى
يرى فرصة حاضرة، ومضرة غائبة. فعدوه
مغترٌ بعداوته، ومقدر عليه الغفلة
والبله بغوايته؛ وهو مثل النار
الكامنة في الرماد، والصوارم المكنونة
في الأغماد.
واعلم
أن الدهاء منه عند الحكماء التبرؤ من
اسمه(1)،
وأن لا يوصف المتداهي والمتغافل
بفعله؛ فإنه إذا لم يفطن له وصل مع
الغفلة عنه إلى فرصته وأخذ عدوه وهو في
غرته, وإذا اشتهر بالدهاء لم يأمن أن
تُبْصَرَ له حيلة أو يتحرز منه ضعيف.
ومن
آداب العاقل دفن آرائه ما استطاع، وأن
يعرفه الناس بالمسامحة في الخليقة
والاستقامة على الطريقة.
إذا
كنت هياباً للأمور بما معك من التحرز
والتعقب فإياك أن تشعر الناس بتهيبك(2)
لها فإن ذلك مما يجرئ عليك العدو،
ويهينك عند الصديق، ويدعو إليك كل الذي
هبته.
إذا
كنت محباً للمدح والثناء فإياك أن تشعر
الناس بذلك فإنهم إذا شعروا به كانت
ثلمة يقتحمون عليك منها وصرت كمادح
نفسك؛ ولكن اصنع من المعروف والفضائل
ما تستحق به المدح فسيأتيك وأنت مظهر
لكراهته ومتبرئ من استحقاقه.
واعلم
أن الدهاء كل الدهاء مقاربة الناس في
عقولهم، وأنه السبب إلى السلامة من
غوائلهم. ومنه أيضاً التغافل عن كل ذنب
لا تستطاع العقوبة عليه، ومن عداوة كل
عدو لا تقدر على الانتصار منه. فأما
التغافل عن ما لا يعني فهو العقل. وقد
قالت الحكماء: لا يكون المرء عاقلاً
حتى يكون عما لا يعنيه غافلاً. وجامعه
أن لا تتكلم حتى ترى نكتة، ولا تفعل حتى
ترى فرصة، وأن تتحلى بالغفلة وأنت في
غاية الفطنة في اليقظة.
|