تحية
رمضانية
28
رمضان 1424
في
النفس المطمئنة
وقع
في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاث
أنفس، نفس مطمئنة ونفس لوامة، ونفس
أمارة، وأن منهم من تغلب عليه هذه،
ومنهم من تعلب عليه الأخرى، ويحتجون
على ذلك بقوله تعالى: (يا أيتها النفس
المطمئنة) وبقوله تعالى: (لا أقسم بيوم
القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة)
وبقوله تعالى: (إن النفس لأمارة بالسوء).
والتحقيق أنها نفس واحدة ولها صفات،
فتسمى باعتبار كل صفة باسم، فتسمى
مطمئنة باعتبار طمأنينتها إلى ربها
بعبوديته ومحبته والإنابة إليه
والتوكل عليه والرضا به والسكون إليه،
فإن سمة محبته وخوفه ورجائه منها قطع
النظر عن محبة غيره وخوفه ورجائه،
فيستغنى بمحبته عن حب ما سواه، وبذكره
عن ذكر ما سواه، وبالشوق إليه وإلى
لقائه عن الشوق إلى ما سواه؛ فالطمأنينة
إلى الله سبحانه حقيقة ترد منه سبحانه
على قلب عبده تجمعه عليه، وترد قلبه
الشارد إليه، حتى كأنه جالس بين يديه،
ويسمع به ويبصر به ويتحرك به ويبطش به،
فتسري تلك الطمأنينة في نفسه وقلبه
ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة، تجذب
روحه إلى الله ويلين جلده وقلبه
ومفاصله إلى خدمته والتقرب إليه، ولا
يمكن حصول الطمأنينة الحقيقية إلا
بالله وبذكره، وهو كلامه الذي أنزله
على رسله كما قال تعالى: (الذين آمنوا
وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله
تطمئن القلوب)، فإن طمأنينة القلب
وسكونه واستقراره بزوال القلق
والانزعاج والاضطراب عنه، وهذا لا
يتأتى بشيء سوى الله تعالى وذكره البتة.
وأما ما عداه فالطمأنينة إليه غرور،
والثقة به عجز قضى الله سبحانه وتعالى
قضاء لا مرد له أن من اطمأن إلى شيء
سواه أتاه القلق والانزعاج والاضطراب
من جهته كائناً من كان. بل لو اطمأن
العبد إلى علمه وحاله وعمله سلبه
وزايله، وقد جعل سبحانه نفوس
المطمئنين إلى سواه أغراضها بسهام
البلاء ليعلم عباده وأولياؤه أن
المتعلق بغيره مقطوع، والمطمئن إلى
سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع.
وحقيقة الطمأنينة
التي تصير بها النفس المطمئنة أن تطمئن
في باب معرفة أسمائه وصفاته، ونعوت
كماله إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه،
وأخبرت به عنه رسله فتتلقاه بالقبول،
والتسليم، والإذعان، وانشراح الصدر
له، وفرح القلب به، فإنه معرف من
معرفات الرب سبحانه إلى عبده على لسان
رسوله، فلا يزال القلب في أعظم القلق
والاضطراب في هذا الباب حتى يخالط
الإيمان بأسماء الرب تعالى وصفاته
وتوحيده وعلوه على عرشه، وتكلمه
بالوحي بشاشة قلبه، فينزل ذلك عليه
نزول الماء الزلال على القلب الملتهب
بالعطش، فيطمئن إليه، ويسكن إليه،
ويفرح به، ويلين له قلبه ومفاصله حتى
كأنه شاهد الأمر كما أخبرت به الرسل،
بل يصير ذلك لقلبه بمنزلة رؤية الشمس
في الظهر لعينه فلو خالفه في ذلك مَن
بين شرق الأرض وغربها لم يلتفت إلى
خلافهم، وقال إذا استوحش من الغربة: قد
كان الصديق الأكبر مطمئناً بالإيمان
وحده، وجميع أهل الأرض يخالفه، وما نقص
ذلك من طمأنينته شيء، فهذا أول درجات
الطمأنينة.
ثم
لا يزال يقوى كلما سمع بآية متضمنة
لصفة من صفات ربه، وهذا أمر لا نهاية
له، فهذه الطمأنينة أصل أصول الأيمان
التي قام عليه بناؤه، ثم يطمئن إلى
خبره عما بعد الموت من أمور البرزخ،
وما بعدها من أحوال القيامة، حتى كأنه
يشاهد ذلك كله عياناً، وهذا حقيقة
اليقين الذي وصف به سبحانه تعالى أهل
الإيمان حيث قال: (وبالآخرة هم يوقنون)،
فلا يحصل الإيمان بالآخرة حتى يطمئن
القلب إلى ما أخبر الله سبحانه به عنها
طمأنينة إلى الأمور التي لا يشك فيها
ولا يرتاب. فهذا هو المؤمن حقاً باليوم
الآخر كما في حديث حارثة: ((الذي سأله
الرسول صلى الله عليه وسلم: كيف أصبحت
يا حارثة ؟ فأجاب حارثة: أصبحت مؤمناً
حقاً يا رسول الله، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (إن لكل حق حقيقة فما
حقيقة إيمانك ؟) قال: (عزفت نفسي عن
الدنيا وأهلها، وكأني أنظر إلى عرش ربي
بارزاً، وإلى أهل الجنة يتزاورون
فيها، وأهل النار يعذبون فيها، فقال:
عبد نور الله قلبه عرفت فالزم يقولها
ثلاثاً).
والطمأنينة
إلى أسماء الرب تعالى وصفاته نوعان:
طمأنينة إلى الإيمان بها وإثباتها
واعتقادها، وطمأنينة إلى ما تقتضيه
وتوجبه من آثار العبودية، ومثاله
الطمأنينة إلى القدر وإثباته،
والإيمان به يقتضي الطمأنينة إلى
مواضع الأقدار التي لم يؤمر العبد
بدفعها، ولا قدرة له على دفعها،
فيسلم لها، ويرضى بها، ولا يسخط ولا
يشكو ولا يضطرب إيمانه، فلا يأسى على
ما فاته، ولا يفرح بما أتاه، لأن
المصيبة فيه مقدرة قبل أن تصل إليه
وقبل أن يخلق كما قال تعالى: (ما أصاب من
مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في
كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله
يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا
تفرحوا بما آتاكم) وقال تعالى: (ما
أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن
بالله يهد قلبه) قال غير واحد من السلف،
هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من
عند الله فيرضى ويسلم، فهذه طمأنينة
إلى أحكام الصفات وموجباتها وآثارها
في العالم، وهي قدر زائد على الطمأنينة
بمجرد العلم بها واعتقادها، وكذلك
سائر الصفات وآثارها ومتعلقاتها
كالسمع والبصر والعلم والرضا والغضب
والمحبة، فهذه طمأنينة الإيمان.
وأما طمأنينة الإحسان
فهي الطمأنينة إلى أمره امتثالاً
وإخلاصاً ونصحاً، فلا يقدم على أمره
إرادة هواه ولا تقليداً، فلا يساكن
شبهة تعارض خبره، ولا شهوة تعارض أمره،
بل إذا مرت به أنزلها منزلة الوساوس
التي لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب
إليه من أن يجدها، فهذا كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم صريح الإيمان،
وعلامة هذه الطمأنينة أن يطمئن من
قلق المعصية وانزعاجها إلى سكون
التوبة وحلاوتها وفرحتها ويسهل عليه
ذلك بأن يعلم أن اللذة والحلاوة
والفرحة في الظفر بالتوبة، وهذا أمر لا
يعرفه إلا من ذاق الأمرين، وباشر قلبه
آثارهما، فللتوبة طمأنينة تقابل ما في
المعصية من الانزعاج والقلق، ولو فتش
العاصي عن قلبه لوجد حشوه المخاوف
والانزعاج والقلق والاضطراب، وإنما
يوارى عنه شهود ذلك سكر الغفلة
والشهوة، فإن لكل شهوة سكراً يزيد على
سكر الخمر، وكذلك الغضب له سكر أعظم من
سكر الشراب، ولهذا ترى العاشق
والغضبان يفعل ما لا يفعله شارب الخمر.
وكذلك يطمئن من قلق الغفلة والإعراض
إلى سكون الإقبال على الله، وحلاوة
ذكره، وتعلق الروح بحبه ومعرفته، فلا
طمأنينة للروح بدون هذا أبداً، ولو
أنصفت نفسها لرأتها إذا فقدت ذلك في
غاية الانزعاج والقلق والاضطراب، ولكن
يواريها السكر، فإذا كشف الغطاء تبين
له حقيقة ما كان فيه.
ـــــــ
للصائم
دعوة مستجابة عند فطره ، فلا تنس أخي
نفسك ، وأهلك ، وأمتك من دعوة صالحة عند
إفطارك
|