تحية
رمضانية
29
رمضان 1424
من
أسرار الطمأنينة
وها
هنا سر لطيف يجب التنبيه عليه والتنبه
له، والتوفيق له بيد من أزمة التوفيق
بيده، وأن
الله سبحانه جعل لكل عضو من أعضاء
الإنسان كمالاً إن لم يحصل له فهو في
قلق واضطراب وانزعاج بسبب فقد كماله
الذي جعل له. مثاله كمال
العين بالإبصار، وكمال الأذن بالسمع،
وكمال اللسان بالنطق فإذا عدمت هذه
الأعضاء القوى التي بها كمالها حصل
الألم والنقص بحسب فوات ذلك، وجعل كمال القلب
ونعيمه وسروره ولذته وابتهاجه في
معرفته سبحانه وإرادته ومحبته
والإنابة إليه والإقبال عليه والشوق
إليه والأنس به، فإذا عدم القلب ذلك
كان أشد عذاباً واضطراباً من العين
التي فقدت النور والباصر، ومن اللسان
الذي فقد قوة الكلام والذوق. ولا سبيل
له إلى الطمأنينة بوجه من الوجوه ولو
نال من الدنيا وأسبابها، ومن العلوم ما
نال إلا بأن يكون الله وحده هو محبوبه
وإلهه ومعبوده وغاية مطلوبه، وأن يكون
هو وحده مستعانه على تحصيل ذلك.
وكلام السلف في النفس المطمئنة يدور
على هذين الأصلين العلم والإيمان،
وطمأنينة الإرادة والعمل.
فإذا
اطمأنت النفس من الشك إلى اليقين، ومن
الجهل إلى العلم، ومن الغفلة إلى
الذكر، ومن الخيانة إلى التوبة، ومن
الرياء إلى الإخلاص، ومن الكذب إلى
الصدق، ومن العجز إلى الكَيْس، ومن
صولة العجب إلى ذلة الإخبات، ومن التيه
إلى التواضع، ومن الفتور إلى العمل؛
فقد باشرت روح الطمأنينة، وأصل ذلك كله
ومنشؤه من اليقظة، فهي أول مفاتيح
الخير. فإن الغافل عن الاستعداد
للقاء ربه والتزود لمعاده بمنزلة
النائم بل أسوأ حالاً منه، فإن العاقل
يعلم وعد الله ووعيده وما تتقاضاه
أوامر الرب تعالى ونواهيه وأحكامه من
الحقوق، لكن يحجبه عن حقيقة الإدراك،
ويقعده عن الاستدارك سِنَةُ القلب وهي
غفلته التي رقد فيها فطال رقوده، وركد
وأخلد إلى نوازع الشهوات فاشتد إخلاده
وركوده، وانغمس في غمار الشهوات
واستولت عليه العادات ومخالطة أهل
البطالات، ورضي بالتشبه بأهل إضاعة
الأوقات، فهو في رقاده مع النائمين،
وفي سكرته مع المخمورين، فمتى انكشف عن
قلبه سِنَةُ هذه الغفلة بزجرة من زواجر
الحق في قلبه استجاب فيها لواعظ الله
في قلب عبده المؤمن، أو همة عليه
آثارها معول الفكر في المحل القابل،
فضرب بمعول فكره، وكبر تكبيرة أضاءت له
منها قصور الجنة فقال:
ألا
يا نفس ويحك ساعديني
بسعي منك في ظلـم الليالي
لعلك
في القيامة أن تفوزي
بطيب العيش في تلك العلالي
فأثارت
تلك الفكرة نوراً رأى في ضوئه ما خلق له
وما سيلقاه بين يديه من حين الموت إلى
دخول دار القرار، ورأى سرعة انقضاء
الدنيا وعدم وفائها لبنيها، وقتلها
لعشاقها، وفعلها بهم أنواع المثلات،
فنهض في ذلك الضوء على ساق عزمه قائلاً:
(يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله)
فاستقبل بقية عمره التي لا قيمة لها
مستدركاً بها ما فات، محيياً بها ما
أمات، مستقبلاً بها ما تقدم له من
العثرات، منتهزاً فرصة الإمكان التي
إن فاتت فاته جميع الخيرات.
ثم
يلاحظ في نور تلك اليقظة وفور نعمه ربه
عليه من حين استقر في الرحم إلى وقته،
وهو يتقلب فيها ظاهراً وباطناً ليلاً
ونهاراً، يقظة ومناماً، سراً وعلانية،
فلو اجتهد في إحصاء أنواعها لما قدر،
ويكفي أن أدناها نعمة النَّفَس، ولله
عليه في كل يوم أربعة وعشرون ألف نعمة
فما ظنك بغيرها ؟!
ثم
يرى في ضوء ذلك النور أنه آيس من حصرها
وإحصائها، عاجز عن أداء حقها، وأن
المنعم بها إن طالبه بحقوقها استوعب
جميع أعماله حق نعمة واحدة منها،
فيتيقن حينئذ أنه لا مطمع له في النجاة
إلا بعفو الله ورحمته وفضله.
ثم
يرى في ضوء تلك اليقظة أنه لو عمل أعمال
الثقلين من البر لاحتقرها بالنسبة إلى
جنب عظمة الرب تعالى، وما يستحقه بجلال
وجهه وعظم سلطانه، هذا لو كانت أعماله
منه فكيف، وهي مجرد فضل الله ومنته
وإحسانه حيث يسرها له وأعانه عليها
وهيأه لها وشاءها منه وكوَّنها ؟ ولو
لم يفعل ذلك لم لكن له سبيل إليها،
فحينئذ لا يرى أعماله منه، وأن الله
سبحانه لن يقبل عملاً يراه صاحبه من
نفسه حتى يرى عين توفيق الله له وفضله
عليه ومنته، وأنه من الله لا من نفسه،
وأنه ليس له من نفسه إلا الشر وأسبابه،
وما به من نعمة فمن الله وحده صدقة تصدق
بها عليه، وفضلاً منه ساقه إليه، من
غير أن يستحقه بسبب ويستأهله بوسيلة،
فيرى ربه ووليه ومعبوده أهلاً لكل خير،
ويرى نفسه أهلاً لكل شر، وهذا أساس
جميع الأعمال الصالحة والظاهرة
والباطنة، وهو الذي يرفعها ويجعلها في
ديوان أصحاب اليمين.
ثم
تبرق له في نور تلك اليقظة بارقة أخرى
يرى في ضوئها عيوب نفسه وآفات عمله،
وما تقدم له من الجنايات والإساءات
وهتك الحرمات والتقاعد عن كثير من
الحقوق والواجبات، فإذا انضم ذلك إلى
شهود نعم الله عليه وأياديه لديه رأى
أن حق المنعم عليه في نعمه وأوامره لم
يبق له حسنة واحدة يرفع بها رأسه،
فاطمأن قلبه، وانكسرت نفسه، وخشعت
جوارحه، وسار إلى الله ناكس الرأس بين
مشاهدة نعمه ومطالعة جناياته وعيوب
نفسه وآفات عمله قائلاً: (أبوء لك
بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي،
فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) فلا يرى
لنفسه حسنة، ولا يراها أهلاً لخير،
فيوجب له أمرين عظيمين:
أحدهما:
استكثار ما منّ الله عليه، والثاني:
استقلال ما منه من الطاعة كائنة ما
كانت.
ثم
تبرق له بارقة أخرى يرى في ضوئها عزة
وقته وخطره وشرفه، وأنه رأس مال سعادته
فيبخل به أن يضيعه فيما لا يقربه إلى
ربه، فإن في إضاعته الخسران والحسرة
والندامة وفي حفظه وعمارته الربح
والسعادة فيشح بنفسه أن يضيعها فيما لا
ينفعه يوم معاده.
ثم
يلحظ في ضوء تلك البارقة ما تقتضيه
يقظته من سِنَةِ غفلته من التوبة
والمحاسبة والمراقبة، والغيرة لربه أن
يؤثر عليه غيره، وعلى حظه من رضاه
وقربه وكرامته ببيعه بثمن بخس في دار
سريعة الزوال، وعلى نفسه أن يملك رقها
لمعشوق لو فكر في منتهى حسنه، ورأى
آخره بعين بصيرة للها
عن محبته.
فهذا
كله من أثار اليقظة وموجباتها، وهي أول
منازل النفس المطمئنة التي نشأ منها
سفرها إلى الله والدار الآخرة.
ـــــــ
للصائم
دعوة مستجابة عند فطره ، فلا تنس أخي
نفسك ، وأهلك ، وأمتك من دعوة صالحة عند
إفطارك
|