بروتوكولات
حكماء هرتسليا
بقلم:
عطا القيمري
منذ
عدة سنوات ومجموعة واسعة من كبار
رجالات الفكر والسياسة والاقتصاد
والجيش والمجتمع في اسرائيل يجتمعون
كل عام في إطار مركز هرتسيليا متعدد
المجالات للبحث فيما يسمى "المناعة
القومية" لاسرائيل. وقد غدا هذا
المحفل مع الزمن مصنعا للعناوين
الرئيسة في الصحف في اسرائيل وفي
العالم. وبات كل مشارك فيه يستعد له
بصرخة، أو بدعة أو عنوان أحمر بارز في
صحف الغداة.
ورغم
أن الهدف الاساس وراء مثل هذه
المؤتمرات هو توفير مناسبات ومحافل
لبحث معمق في القضايا الاستراتيجية
والمصيرية لاسرائيل والتي يعوز
المؤسسة الرسمية، من حكومة وكنيست
وجيش، الوقت والجهد للخوض فيها بتعمق
جدير بها، إلا أن هذا المحفل سرعان ما
غدا منصة لمنافسة متجددة بين رجال
السياسة والجيش والاستخبارات،
يتناكفون على منصاته، شخصيا وفكريا
على حد سواء.
في
اسرائيل احتجت محافل رسمية وغير رسمية
على الاهتمام العربي بكتاب ما يسمى "بروتوكولات
حكماء صهيون"، وذلك إذ تضمنته
المكتبة الوطنية المصرية، على اعتبار
أن هذا كتاب تشهيري لاسامي أعده
البوليس السياسي في عهد القيصر
الروسي، يدعي اجتماعات تآمرية يعقدها
كبار حكماء اليهود في العالم للتفكير
والتخطيط في كيفية السيطرة على العالم.
قرأت
قديما هذا الكتاب، ولم يدخل في عقلي
ذرة منه. ربما لان فيه الكثير من
المبالغة، وربما لموقف مسبق مني برفض
نظرية المؤامرة والسيطرة التي تنطوي
على خيال شرقي جامح يحيل العجز
والهزيمة ليس الى ضعف الذات وتخلفها بل
الى القوة الساحقة التي لا تقهر للخصم
بحيث يغدو العجز مقبولا والهزيمة
مشروعة.
وقد
تابعت مؤتمرات هرتسيليا على مدار
دوراته منذ أن بدأ وفوجئت كثيرا مما
تضمنه من طروح وافكار عجيبة غريبة هي
أقرب الى ما في خيال "بروتوكولات
حكماء صهيون" منه الى الخيال الشرقي
الذي يجعل من هذه البروتوكولات أمرا
قابلا للتصديق.
منذ
اليوم وأفكار مثل "الخطر الديمغرافي"،
و"التفوق اليهودي" و"كل العالم
ضدنا" وغيرها من الطروحات التي تصدر
عن مؤتمر هرتسيليا تبدو غريبة، مفعمة
بالافكار المغرقة في الخيال والباعثة
على الريبة في تعزيز نظرية المؤامرة،
وربما أيضا الادعاء بالتفوق والتفرد
على الاخرين والتمييز بين الدم والدم
والحمل والافكار العنصرية عن الولادة
المرفوضة لانواع من الارحام والمقبولة
لغيرها، فكيف ستبدو وثائق هذه
المؤتمرات بعد مائة عام مثلا!؟
تشكو
وسائل الاعلام الاسرائيلية كثبرا من
أن الحكومة اوالكنيست لا تتوقف بأي قدر
من الجدية عند اي من المواضيع ذات
الأهمية الاستراتيجية -الوجودية
لاسرائيل. فمسألة الفقر مثلا استغرق
الحكومة البحث المعمق فيها عشر دقائق
فقط، أغلبها كرس لمساهمات بعض الوزراء
ذوي النزعة المناهضة للمجتمع اذ
هاجموا الفقراء فحملوهم مسؤولية فقرهم
لانهم لا يعملون ومع ذلك ينجبون الكثير
من الاطفال. كما واشتكت الصحافة غير
مرة من أن الحكومة لم تعقد أي بحث جدي،
أو حتى غير جدي، في الاهداف
الاسرائيلية من المواجهة مع
الفلسطينيين، وذلك رغم أن رئيس
الوزراء وعد بذلك كثيرا.
ومع
ذلك، فان مؤتمر هرتسيليا يدعي
المسؤولية عن البحث المعمق في هذه
المسائل المصيرية، وذلك رغم أن هذه
المسائل ليست ولا يمكن لها ان تكون
موضوعا لبحث أكاديمي أو سياسي
إستعراضي كما هو الحال في مؤتمر
هرتسيليا.
لقد
إنعكس في مؤتمر هرتسيليا الراهن
الخلاف العميق الذي يمزق المجتمع
الاسرائيلي في كيفية التعاطي مع
الكفاح الفلسطيني المشروع والمتواصل
لنيل الحرية وعدم القبول بالاحتلال
والاستعمار والعنصرية التي تتجلى في
السياسة الاسرائيلية تجاه الشعب
الفلسطيني. فهذا المجتمع بقيادته
مرتبك في معالجة أمر الشوكة التي
ابتلعها مع اللقمة المغذية. فلا هو
بقادر على أن ينتزع الشوكة إلا مع
اللقمة ولا هو بقادر على ان يبتلع
اللقمة بلا الشوكة. وقادته يناكفون
الواحد الآخر حول سبل معالجة هذه
الشوكة فيما تواصل هذه الانغراس عميقا
في الحلق وتحدث المزيد فالمزيد من
الالتهاب والقيح وتعرض الجسد بأسره
للخطر.
وعلى
سبيل المثال فانه بدل ان يواجه نتنياهو
رئيس وزرائه في مسألة الخلاف الأساس
حول الفشل في معالجة القضية
الفلسطينية، يلجأ لاغراض لا تمت
للصراع السياسي الداخلي بصلة، وبكثير
من السعي نحو الصرخة الاعلامية، الى
صرف الانتباه الى صراع مفتعل آخر مع
الاقلية العربية الفلسطينية في
اسرائيل، مؤكدا انها هي مصدر الخطر
الديمغرافي الذي يهدد اسرائيل.
ويأتي رئيس الوزراء الى المؤتمر ليطرح
خطته السياسية الغامضة والممثلة
بالتلاعب بالالفاظ، حيث يتحدث عن "فك
ارتباط" ولس انفصالا أو فصلا، وعن
"إعادة موضع" أو "نسخ" تجمعات
سكانية بدل من أن يقول إزالة مستوطنات.
وكل هذا في مؤتمر غير ملزم، له أو
لغيره، مثابة برامج الحوار التلفزيوني
التي يعتبر الصخب فيها هو الهدف بحد
ذاته، ذلك أنه يحقق أكبر تغطية إعلامية
ممكنة.
إن
مؤتمر هرتسيليا، يبدو بجلاء متزايد،
مناسبة سيئة لاسرائيل واليهود على
المستويين القريب والبعيد. فعلى المدى
القريب، يتهرب السياسيون من خلاله من
طرح المشاكل الحقيقية على جدول
الاعمال في المؤسسات الرسمية واتخاذ
القرارات اللازمة بشأنها والتي تفترض
التطبيق وليس مجرد الهذر، مما يعفيهم
من الفعل الحقيقي بالتلهي بالكلام
الفارغ غير الملزم. أما على المدى
البعيد، فانهم في المسنقبل بلا ريب
سيتهمون الآخرين باللاسامية،
وباستهداف اليهود إذا ما جمعوا ما صدر
من هذر عن "حكماء هرتسيليا" في
بروتوكولات تعيسة كـ "بروتوكولات
حكماء صهيون".
وهكذا
في الوقت الذي يجدر فيه باسرائيل ان
تشطب من جدول أعمالها مؤتمرات سخيفة
كمؤتمرات هرتسيليا يجدر بنا نحن
الخصوم لاسرائيل من عرب وفلسطينيين
الا تغوينا نظريات المؤامرة من جديد
وتحرمنا من رؤية ما في "بروتوكولات
حكماء هرتسيليا" من هذر وأهداف أبعد
ما تكون عن التصدي لنا ولقضيتنا.
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
|