صحيفة الشرق العربي

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

آخر تحديث يوم الخميس 26 - 02 - 2004م

 ـمركز الشرق العربي التعريف  |  دراسات  |  متابعاتقراءات  | هوامشرجال الشرق  |  من أرشيف الشرق | مشاركات الزوار |ـجسور |ـجديد الموقع | كتب | مجموعة الحوار | تقارير حقوق الإنسان | واحـة اللقـاء | البحث في الموقع |ـ

.....

   

برق الشرق

الرئيس بوش.. 

(كولومبس) العالم الجديد إلى القديم

أ.د. محمد الدعمي*

لا يجازف المرء عندما يتمادى في التأملات حيث يستمكن مفارقة طريفة رئيسية في خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه جورج بوش يوم 21/1/2004. هذه المفارقة تنطلق من الجمع أو المزاوجة ما بين حالين متنافرين، هما: الإعلان بأن الولايات المتحدة الأميركية ليست إمبراطورية كما يروج البعض لذلك، وثانياً، الإعلان عن طريقة التصرف مع شؤون الشرق الأوسط (والعراق خاصة) بوصفه إقليماً مضموماً إلى الشؤون الأميركية وإلى الكينونة والمستقبل الأميركي. وبكلمات أخرى، ينطوي عنوان حالة الاتحاد، لفظياً وتاريخياً، على أن يقوم الرئيس الأميركي الموجود في سدة الحكم ذلك العام باستعراض لأوضاع اتحاد الولايات الأميركية، خاصة الداخلية منها. بيد أن ما يخرج به المتتبع لخطاب بوش من انطباع إنما يتلخص في أن حالة الاتحاد تعني في نهاية المطاف حالة الشرق الأوسط من الناحية العملية. وبهذا يكون الشرق الأوسط هو محور الاتحاد الأميركي، بوصفه موضوعاً مضموماً للشؤون الأميركية على نحو لا يقبل الفصم أو التقسيم أو العزل. فبدلاً من أن يتابع المواطن الأميركي حال اتحاده من خلال إعل انات الرئيس حول الديمقراطية والتطور وخطط التنمية والمستقبل والبطالة في أميركا، نلاحظ بأن هذه الإعلانات، واقعياً، إنما تتابع هذه الموضوعات وآفاقها في العراق وبقية دول الشرق الأوسط عبر الخطاب القومي السنوي. وبغض النظر عن بضع إشارات طافية إلى خفض الضرائب وتحسين الخدمات الصحية وتوفير الوظائف وسواها من الموضوعات الداخلية، ظهر الخطاب شرق أوسطياً نقياً بكل معنى الكلمة، برغم تحاشيه القضية الفلسطينية وتكرار المطالبة بدولتين، خشية إيقاظ غضب اللوبي الصهيوني في أميركا ما قبل الانتخابات الرئاسية.

بيد أن الرئيس جورج بوش مبرر في ذلك، خاصة وأنه، سوية مع مواطنيه، عاجزين عن إزالة الآثار النفسية لهجمات سبتمبر 2001 من الذاكرة الجماعية الأميركية. ولأن الرئيس ومواطنيه كذلك قد شخصوا بيت الداء في الشرق الأوسط وفي الحركات الإرهابية المنتشية فيه (وليس السياسات الخارجية الأميركية المنحازة لإسرائيل وللأنظمة الشمولية)، فإنهم ماضون في خطط إصلاح هذا الإقليم من الخارج، من خلال مداخلات جراحية (كما حدث في العراق) أو من خلال مداخلات دبلوماسية بعيدة النظر وذات مصداقية (كما حدث عندما تخلت ليبيا عن مشاريعها التسلح ية طواعية). وإذا كان الرئيس الأميركي شديد التمسك بقناعة مفادها أن أميركا يجب أن تصلح الشرق الأوسط وتقوده إلى الديمقراطية، فان هذه القناعة تعكس نقطتين: أولاً، ضم الشرق الأوسط إلى أميركا اضطراراً لأن هذا الإقليم يهيئ البيئة الموائمة لإطلاق الهجمات على أميركا ومصالحها، وثانياً، الإقلال من شأن أبناء الشرق الأوسط نظراً لعجزهم عن تحرير أنفسهم وعن التخلص من الأنظمة الشمولية السائدة على سبيل إرساء الديمقراطية الحقة.

إن قراءة الخطاب وما بين سطوره لابد وأن تقود المحلل الدقيق إلى هذا النوع من الإقلال من شأن شعوب المنطقة، الأمر الذي يوفر لأميركا الحرية لإطلاق يدها في الشرق الأوسط دون الحاجة إلى استئذان أحد، مهما كان، حتى وإن كان منظمة دولية كالأمم المتحدة أو الكتلة الأوروبية، الصديقة الصدوقة لأميركا.

يرى الرئيس بوش بأن مشاكل الشرق الأوسط، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وسواها، إنما هي بدرجة من التعقيد الشائك أنها تخدم سبباً لظهور الحركات الراديكالية والأصولية والإرهابية التي تهدد الأمن القومي الأميركي. وعليه، تضطلع القوة الأعظم (أميركا) بعمليات الإصلاحات نيابة عن حكومات المنطقة الصدي قة وشعوبها اللاصديقة. وكي يبرر الرئيس بأن هذه العملية ممكنة، فإنه يفاجئ مستمعيه في أميركا وخارجها بحقيقة قد خلص هو إليها لوحده ودون مساعدة مستشاريه، ومفادها أن الأديان التاريخية العظيمة (ويقصد الإسلام بالتحديد) لا يمكن أن تكون مضادة للديمقراطية وللحرية. وهذا الاكتشاف الرائد بدوره يعكس (عبر قراءة ذهن المتحدث) عدداً من الاحتمالات، وأهمها احتمال تقديم الرئيس الأميركي نفسه معلماً يعرّف المسلمين بحقائق دينهم وبتفاصيل عقائدهم التي أرست قواعد ديمقراطية حقة قبل أن يولد كولومبس (مكتشف أميركا) بقرون عديدة، أو ربما يمكننا قراءة هذا الإعلان بالطريقة التي تعكس الجهل الأميركي الشعبي وحتى الإداري بعقائد الإسلام. وهذه، بطبيعة الحال، إدانة لثقافة أميركية شعبية لم ترتفع بنفسها إلى إدراك سجايا الإسلام الأصلية والأصيلة الحقة.

بيد أن احتمالات وجود شعور داخلي لدى الرئيس بوش بأنه يُطلع المسلمين في الشرق الأوسط (لأول مرة) على عدم وجود تناقض بين الإسلام والديمقراطية إنما هو احتمال قوي نظراً للهجة التي اعتمدها الخطاب وبسبب المشاريع التي قدمها لإصلاح الشرق الأوسط انطلاقاً من العراق. وعلى نحو فوق نصي ي وحي الرئيس بوش بحملة إصلاحية مضادة لوسائل الإعلام الشائعة في الشرق الأوسط، محملاً إياها مسؤوليات تشويه الحقائق وحرفها، قائلاً إن الإعلام هناك، لا يقدم الصورة الدقيقة لحقيقة الموقف الأميركي. وهذه لا ريب إدانة لجميع وسائل الإعلام العربية والإسلامية، الأمر الذي يبرر اضطلاع أميركا ببناء إعلام عربي وإسلامي جديد و مؤمرك قادر على نقل الحقيقة بحذافيرها لضخها على نحو أكثر حيادية وديمقراطية وتفتّح. وهنا يكرر بوش ما قاله وزير دفاعه، دونالد رامسفيلد، قبل أشهر من أن البنتاغون والإدارة الأميركية عازمتان على تخصيص الأموال والكفاءات اللازمة للنزول منافسين في ساحة أو سوق الإعلام الشرق أوسطي. ويبدو أن آفاق ضم الإعلام العربي والإسلامي إلى إمبراطورية الإعلام الأميركي بدأت تقترب بسرعة، بدرجة إني شخصياً قد تلقيت دعوة قبل يومين أو ثلاثة من صحفية أميركية في بغداد للإسهام في الكتابة لمجلة جديدة تُحرر وتصدر في بغداد وتدار في واشنطن. هذه الإشارة، وسواها من مشاريع تأسيس فضائيات أميركية أو نصف أميركية، تقدم للإعلام العربي والإسلامي في الشرق الأوسط تحدياً جاداً وحقيقياً، ليس فقط بسبب المنافسة مع قنوات إعلامي ة أكثر تطوراً تقنياً، بل كذلك بسبب أن مجرد ظهور هذه القنوات الأميركية سيلقي شيئاً كبيراً من الشك والتشكيك في وسائل إعلامنا وفي آراء مشكلي الرأي العام العربي والإسلامي القائمين عليها. إذاً، على الإعلام العربي هنا أن يستعد ويتهيأ لمعركة إعلامية مقبلة مع منافسين أقوى بكثير من المنافسين المحليين.

لقد أسهبت التحليلات السريعة التي ظهرت بعد خطاب حالة الاتحاد الأخير في محاولات تحديد ملامح السياسة الأميركية حيال الشرق الأوسط ومستقبله، بيد أنها لم تلقِ الضوء الكافي على الإرهاصات والدوافع الدفينة التي حدت بالرئيس إلى اتخاذ موقف قيادي يصادر حقوق شعوب وحكومات المنطقة في تقرير مصيرها لوحدها. فإذا ما كان الخطاب يوفرنا على نافذة تطل على العقل الإداري الأميركي، فإنه سيفيدنا كثيراً في استمكان دافعية الأسطورة الأميركية الكامنة في قعر هذا العقل على نحو هاجسي. وخلاصة هذه الأسطورة تتجسد في الاعتقاد الشائع بأن كريستوفر كولومبس (مكتشف أميركا) إنما هو الأميركي الأول الذي انطلق من العالم القديم ليكتشف العالم الجديد. وهنا لدينا ذات الدافعية متجسدة، كصدىً، بموقف الرئيس جورج بوش، ولكن على نحو معكوس: فالرئيس بوش يعتقد بأنه كولومبس العالم الجديد المنطلق منه إلى العالم القديم لإعادة اكتشافه ومن ثم لإصلاحه. لاحظ التواتر والتطابق بين الحالتين: فإذا ما كان كولومبس قد اكتشف عالماً جديداً وأسس لولادة إنسان جديد على أرض هذه القارة البكر، فإن جورج بوش يتقمص شخصية الأميركي الأول ليكمل دائرية الأرض من خلال إعادة اكتشاف العالم القديم (أرض الديانات السماوية) على سبيل التوجيه والقيادة وولادة إنسان جديد، إنسان يتناغم إيجاباً مع المنظور الأميركي الطلائعي لعالم المستقبل. بدون هذه الرؤية الكامنة في دخيلة خطاب حالة الاتحاد لا يمكن للمرء أن يدرك جيداً دوافع بوش المغروسة في دواخل ثقافة شائعة لا ترى فينا (في الشرق) سوى حضارات طللية غير قادرة على التوليد أو إعادة بناء نفسها وهي، لذلك، حضارات جامعة لغبار الزمن وبحاجة إلى قيادة أميركية رشيدة.

*باحث عراقي

السابق

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

   

for

S&CS

 

 

المحتويات

 
  برق الشرق  
  بوارق  
  رؤية  
  اقتصاد  
  كشكول  
  غد الوطن  
  حوارات  
  بيانات وتصريحات  
  قراءات  
  شآميات  
 

 
  اتصل بنا  
   
   

  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

للأعلى

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إليه ، أو غير معزو .ـ

   

 ـمركز الشرق العربي |   التعريف  |   دراسات  |  متابعات  |   قراءات  |   هوامش   |  رجال الشرق  |  من أرشيف الشرق  |ـمشاركات الزوار |ـجسور |ـجديد الموقع | كتب | مجموعة الحوار  | تقارير حقوق الإنسان | واحـة اللقـاء | ابحث في الموقع |ـ

| برق الشرق بوارق رؤية  | اقتصاد |  كشكول  | غد الوطن  |  حوارات  |  بيانات وتصريحات  |  قراءات  | شآميات  |  ـ