حسن
البنا في الميزان
بقلم:
مصطفى محمد الطحان
soutahhan@hotmail.com
بمناسبة
استشهاد الإمام حسن البنا، على يد مثلث
المكر السيئ.. الملك والوزارة الفاسدة
والأجانب الذين كانوا يتحكمون بمصر
وشعبها، بتاريخ 12 شباط (فبراير) 1949..
نتحدث عن آراء معاصري الإمام بهذه
الشخصية العظيمة.
أستاذ
الجيل
كتب
فضيلة المرشد عمر التلمساني عن أستاذ
الجيل فقال:
لقد
كان الإمام حسن البنا في حياة العالم
الإسلامي يمثل الرجل الأمة، عالماً،
خطيباً قوي البيان، مؤمناً بالله إلى
أقصى حدود الإيمان، ذكياً خارق
الذكاء، بعيد النظر في أعماق النفوس
وآماد الأحداث، يتمتع بأعظم الحظوظ من
روح الأبوة والسماحة والقدرة على
تطويع النفوس وتوجيهها وتربيتها،
وساعده على كل أولئك قوة الذاكرة بصورة
لم يسمع أحد، ولم يشاهد احد لها مثيلاً
في عصره، وربما في عصور سابقات.
كانت
له ذاكرة غير مألوفة في قوتها، إذا سأل
أخاً عن اسمه مرة وعن ابنه وأبيه وعمله
ثم التقى به بعد أشهر طوال حيّاة باسمه
وسأله عن والده فلان وابنه فلان، وكان
ذلك مثار العجب عند الجميع. ولو علمت
عدد شعب الإخوان أيام حياته، ولكل شعبة
مسؤول ثم هو بعد ذلك يعرف كل مسؤول عن
كل شعبة، وهو الذي يعرّف الآخرين بهم
لأذهلتك هذه الذاكرة الجبارة التي ما
ضاقت يوماً عن اسم، أو غاب عنها حدث
مهما طال به الزمن.
كانت
هذه الذاكرة تواتيه بالوقائع على
وجهها الصحيح إذا أراد مجادل أن يحاور
أو يكابر فيرده إلى الواقعة بزمانها
ومكانها وأفرادها وملابساتها، كأنما
يقرأ من كتاب، بلا تحد ولا محاولة
إحراج، ولكنه الإقناع المترفق حتى
ليظن العائد إلى الحق انه هو الحق.
كما
كانت هذه الذاكرة المتوقدة سبباً في
إزالة الكثير من المشاكل بين الإخوان
إذا ما رجعوا إليه، وإذا ما دعا الأمر
إلى سرد أحداث معينة سردها كأنما
تسمعها من شريط مسجل(1).
الكلمة
التي سبقت وقتها
وتحدث
الكاتب الأمريكي روبرت جاكسون عن
الأمام حسن البنا، الكلمة التي سبقت
وقتها.. تحدث بكلمات تتدفق بشعور يمتزج
فيه الإعجاب والعجب بالحزن واللوعة
والأسى، يقول: (هذا الشرق لا يستطيع أن
يحتفظ طويلاً بالكنز الذي يقع في يده.
إنه رجل لا ضريب له في هذا العصر.. لقد
مرّ في تاريخ مصر مرور الطيف العابر
الذي لا يتكرر. كان لابد أن يموت هذا
الرجل – الذي صنع التاريخ وحوّل مجرى
الطريق – شهيداً كما مات عمر وعلي
والحسين. كان لابد أن يموت باكراً، فقد
كان غريباً عن طبيعة المجتمع.. يبدو
كأنه الكلمة التي سبقت وقتها، أو لم
يأت وقتها بعد)(2).
حسن
البنا والحركات الإصلاحية
وكتب
الأستاذ أنور الجندي عن حسن البنا فقال:
لقد
ظهرت حركات إصلاحية كثيرة خلال هذا
القرن.. في الهند ومصر والسودان وشمال
أفريقيا.. وقد أحدثت هزات لا بأس بها،
ولكنها لم تنتج آثاراً إيجابية ثابتة.
اختفت
هذه الدعوات، وبقيت عبارات على
الألسن، وكلمات في بطون الكتب، حتى
قُيض لها أن تبعث من جديد على يد الإمام
حسن البنا، وان تستوفي شرائطها
ومعالمها. وأن تأخذ فترة الحضانة
الكافية لنضجها. وأفاد الرجل من تجارب
من سبقوه، ومن تاريخ جميع القادة
والمفكرين والزعماء الذين حملوا لواء
دعوة الإسلام(3).
من
الطريقة الحصافية إلى الزعامة الشعبية
وكتب
الدكتور محمد فتحي عثمان عن الإمام حسن
البنا فقال:
إن
من المفاتيح الهامة للتعرف على حقيقة
الشخصية الفذة، إلى جانب ما حباها الله
من قدرات روحية وفكرية وتنظيمية
واسعة، قابليتها للنمو والإفادة من
الخبرات المتوالية التي تتاح لها.
لقد
تأثر حسن البنا في حياته بالتصوف. وهو
يقرر في مذكراته انه اتصل بالطريقة
الحصافية في المحمودية خلال صباه
الباكر. وانعكس آثار الطريقة على
شخصيته القيادية في توجيهه للجماعة
أول الأمر. فكان يوصي كثيراً بتدريس
كتاب (إحياء علوم الدين) للإمام
الغزالي، ويقتبس منه من الذاكرة في
أحاديثه المرتجلة، وكأنه يحفظه عن ظهر
قلب.
وقد
كان منتظراً من شخص نشأ مثل هذه النشأة
الصوفية أن يكون موصد القلب إزاء
النزعة السلفية، التي تبرز مثلاً في
كتابات ابن تيمية وابن القيم. لاسيما
أن كتابات هذين الإمامين الجليلين لم
تكن تلقى قبولاً من شيوخ الأزهر بمصر.
غير
انه قد بدا في حسن البنا تطور فكري نحو
السلفية خلال المرحلة الأخيرة من
حياته المحدودة الأجل. فنراه يقول في
خطابه إلى المؤتمر الخامس للإخوان (1357هـ
- 1938م): (إن الإخوان المسلمين دعوة
سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية،
وهيئة سياسي، وفكرة اجتماعية.... إلخ).
أي
أنه في مسيرة قرابة عشر سنوات منذ بدأ
دعوته بالإسماعيلية، أخذت تتبلور في
فكره وتنعكس في أحاديثه نزعة سلفية
واضحة تعلو نبراتها يوماً بعد يوم،
وتغطي على بداياته الصوفية.
ومن
جوانب التطور الملحوظ في شخصية حسن
البنا، ما شهدته الأعوام التالية
لنهاية الحرب العالمية الأخيرة، من
اتجاهه إلى القيادة الشعبية العامة،
وعدم انحصاره في دائرة جماعته. حتى إنه
كان يخاطب جماهير الشعب من أول يوم،
ويحثها على الالتزام بتعاليم الإسلام
والعمل له تحت لواء جماعته.
على
أن الترشيح للانتخابات البرلمانية سنة
1944 ربما كان بداية متواضعة لتحرك بين
جماهير الشعب استفاد من الظروف
السياسية في مصر عقب الحرب العالمية
الأخيرة، خاصة بعدما اهتزت زعامة
الوفد الشعبية بعد قبوله الحكم نتيجة
للتدخل البريطاني سنة 1942 ولم تستطع
الأحزاب السياسية الأخرى أن ترث
الزعامة الشعبية. هذا بينما تزايدت
أعداد الإخوان ومناصريهم وبرزت مطالب
قومية عامة بعد انتهاء الحرب، وتطلع
الشعب لمن يقوده لتحقيق جلاء الإنكليز
عن البلاد بعد أن عانى الويلات من
طغيانهم أثناء الحرب، ثم جاءت قضية
فلسطين وقرار تقسيمها والعدوان
الصهيوني فزاد من سخط الشعب وهياجه
وتطلعه لمن يقود جهاده في هذه الساحات.
هنا
نجد الشخصية القيادية المتطورة لحسن
البنا تستفيد من الفرص السانحة، وتهيء
نفسها للأعباء الجديدة حيث انطلق بكل
قوته يقود المظاهرات الشعبية العامة
التي انطلقت من الأزهر بعد قطع
المفاوضات، وعرض قضية مصر على مجلس
الأمن. ويخطب فيها إلى جانب كبار
رجالات مصر والعروبة عام 1947، وقد جرح
في إحداها. وفي المظاهرة الشعبية
الكبرى التي تجمعت بميدان الأوبرا في
القاهرة تأييداً لفلسطين في كانون
الأول (ديسمبر) 1947، بعد التقسيم، خطب
حسن البنا إلى جانب رياض الصلح،
والأمير فيصل بن عبد العزيز، والشيخ
محمود أبو العيون، وجميل مردم، وصالح
حرب، وإسماعيل الأزهري، والقمص متياس
الأنطوني مندوب بطريركية الأقباط
الأرثوذكس.
وأعلن
المرشد أن الإخوان سيقدمون عشرة آلاف
متطوع في سبيل فلسطين وأبرق مؤكداً ذلك
إلى الزعماء العرب المجتمعين في عالية
في أيار (مايو) 1948. وتعاون الرجل مع من
توسّم فيهم الإخلاص والجد في الأمر من
رجالات مصر والعرب أمثال صالح حرب،
وعبد الرحمن عزام، وفتحي رضوان. وكانت
صلته وثيقة من قديم بالحاج أمين
الحسيني مفتي فلسطين المجاهد ورجال
الهيئة العربية العليا، وقد عمل
الإخوان على تهريبه حين مروره بمصر
أثناء ترحيله تحت الحراسة من منفى
لآخر، كما عملوا على تهريب الزعيم
المغربي المجاهد عبد الكريم الخطابي
في ظروف مماثلة. وغدا حسن البنا الركن
الركين في هيئة وادي النيل العليا التي
تألفت للعمل الشعبي لأجل إنقاذ فلسطين.
وفي
ممارسة حسن البنا للقيادة الشعبية
العامة توثقت علاقاته بالصحفيين الذين
غدوا يقدرون قدراته وآراءه وأن لم
يكونوا يؤيدون مبادئ الإخوان.
وعلم
حسن البنا أن مسؤولية هذا الدور الشعبي
العام تتطلب ضمان التلاحم بين مسلمي
مصر وأقباطها، حتى لا ينفذ العدو من
ثغرة تنافر، أو تُؤتى صلاحية الإخوان
للقيادة الشعبية من هذا الجانب. وقد
سبق لحسن البنا أن كتب إلى الأنبا
يؤانس بطريرك الأقباط سنة 1355هـ (1936م) في
شأن معاونة أبناء فلسطين وجمع
التبرعات لهم. لكن أعباء القيادة
الشعبية العامة صارت تتطلب اتصالاً
أكبر وتعاوناً أوثق، فتوالت الدعوات
على بطريركية الأقباط لحضور مؤتمرات
الأقاليم التي أقيمت لأهداف قومية
مصرية أو عربية، وأصبح هذا تقليداً
متبعاً في كثير من أحفال الإخوان، حتى
ما كان منها لمناسبة إسلامية مثل بداية
العام الهجري أو المولد النبوي.
واستلزمت
مسؤوليات القيادة الشعبية العامة
قراءات سياسية واقتصادية فلم ينحصر
حسن البنا في نطاق تكوينه الثقافي
الإسلامي، ولم يقف عند قدراته ومواهبه
في الإقناع وفي مخاطبة الأفراد
والجموع، بل رأى أنه لابد من أن يتجاوز
هذه الدائرة لأداء الواجب كما ينبغي،
ولكسب احترام الآخرين من الساسة
المشاركين المتعاونين على أعباء
القيادة أو من الجمهور. فكتب في جريدة (الإخوان)
اليومية حوالي سنة 1947 سلسلة مقالات تحت
عنوان (اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد)،
تناول فيها مشكلات مصر السياسية
والاقتصادية الهامة واتجاهات
معالجتها وحلها في ضوء توجيهات
الإسلام. وقد نشرت هذه المقالات في
صورة رسالة متكاملة فيما بعد(4).
لم
يضيع دقيقة من وقته(5)
وتحدث
الأستاذ سعد الدين الدليلي سكرتير
الإمام حسن البنا عنه، فقال:
لقد
كان الإمام الشهيد أية من آيات الله
المتحركة في البساطة والإيمان
والتقوى، ولم يكن يضيع دقيقة من يومه
الطويل إلا ويخطط لدعوته ويرسم لفكرته
ويعنى بإعداد اتباعها وتهيئة أسباب
نجاحها وحمايتها من كل دعاوي الباطل
التي دأبت على التصدي لدعوة الحق )يريدون
ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم
نوره ولو كره الكافرون((6).
كان
يدهشني حرصه (رحمه الله) على الاحتفاظ
بقصاصات صغيرة من الورق وقلم، وإذا بي
أتلقى منه هذه القصاصات من الورق
لأوزعها على إخواني العاملين معه،
فإذا هي برامج عمل وتوجيهات وآراء
وأفكار ووجهات نظر وتعليقات تشغل وقت
معاونيه أياماً وليالي سعياً وراء
تطبيقها وتنفيذ ما جاء بها!! وإذا بهذه
القصاصات من الورق تحول السكون إلى
حركة، والخمول إلى جدّ ونشاط فيتحول
العاملون من حوله إلى خلية نحل!! كل قد
عرف كيف يبدأ يومه وكيف ينهيه، والكل
في نصاعة هذه القصاصة ودقة ما تحويه
مما كتب عليها بخط يده راض سعيد يؤدي
دوره في خدمة الدعوة وإعلاء كلمة الحق
مطمئن القلب مجزولاً له الثواب من الله
سبحانه وتعالى.
وتحضرني
حادثة تبين مدى ما كان يتفوق به على
غيره من النظام والتنظيم ومن القدرة
على التربية والإعداد!! فلقد طلب إليّ
يوماً أن أستعد لمرافقته في لقاء مهم،
وفي الموعد المحدد توجهت إليه مؤجلاً
حلق لحيتي حتى لا يضطرب موعدي معه فما
أن رآني حتى بادرني بقسوة المربي
قائلاً: (إذا كنت قررت إطلاق لحيتك فبها
ونعمت،
وإذا
لم تكن كذلك فاذهب واحلقها، فإنني أكره
أن أراكم في غير الهندام الطيب الذي
ألفه الناس عنكم، فإذا لم تكونوا على
مستوى شباب العصر حفاظاً على مظهركم
وقلوبكم، فلن يتقبل الناس منكم ما
تنادون به وما تدعون إليه).
ظلت
علاقتي الجديدة بالإمام الشهيد من
كانون ثاني (يناير) 1947 متصلة قريبة لا
يفصل بيني وبينه إلا لقاءاته الخاصة
ولحظات نومه وما أقلها!! ومضت بنا
الأيام هكذا، قاسمته حلو الحياة
ومرها، وكنا نجري حوله ولا ندركه،
ويسبقنا ولا نسبقه، ونسقط إعياء من
حوله وننصح له بأن يرأف بنفسه، وأن
يعطي لبدنه حقه من الراحة فكان (رحمه
الله) يقول: (راحتي في دعوتي حتى يظهرها
الله أو أهلك دونها).
قوة
الإخوان
ويتابع
الأستاذ سعد الدين الوليلي(7): (ولم تكن
دعوة الإخوان المسلمين تؤدي دورها وسط
تلك الظروف في بساطة ويسر، فالبلاد من
حولها كانت تغلي بالأحداث، وجاءت حرب
فلسطين لتزيد نار الحماس التهاباً،
وألقى الإخوان بأنفسهم في أتون الحرب
وتميز دورهم عن غيرهم بحسن تربيتهم
ودقة نظامهم وسعة فهمهم لدورهم الوطني
ودورهم العربي ودورهم الإسلامي وصدق
رغبتهم في طلب الشهادة، فجاء جهاد
الإخوان في فلسطين صفحة من النور بهرت
كل من اتصل بهم أو قرأ عنهم، وكشفت
الحرب عن حقيقة قوتهم والخطر الكامن
على الاستعمار في ازدياد قوتهم!!
وفي
ضوء اكتشاف هذه القوة النامية الفتية
لجماعة الإخوان المسلمين في ساحة
الحرب على أرض فلسطين، وقف الخصوم
يقارنون ويرسمون الخطط لمستقبل الشرق
بصفة عامة، ولمستقبل مصر بصفة خاصة،
وبدا على السطح ظواهر جديدة في حقل
السياسة المصرية والساحة العربية لم
تكن موجودة من قبل الحركة.
فالحركة
الطلابية يتصدرها الإخوان المسلمون.
والبطولات
الرائعة وصور الاستبسال والاستشهاد
تجلت في دور كتائب الإخوان التي شهدت
المعارك الأولى مع العصابات الصهيونية
على أرض فلسطين.
وضغط
الإخوان كحركة شعبية على القصـر
والحكومة في ذلـك الوقت بضرورة
مواجهة
العصابات الصهيونية بقوات متطوعة وليس
عن طريق الجيوش النظامية التي تأتمر
بأوامر القصر الذي كان لعبة في يد
الاستعمار، ولقد شدد الإخوان ضغطهم
على القصر والحكومة في ذلك حينما تبين
للإمام حسن البنا أن السلطات المصرية
كان في نيتها مجرد إرسال (تجريدة) قوة
نظامية صغيرة لتقوم بدور العصا لتأديب
العصابات الصهيونية فحسب وليست للقضاء
عليها!! ولم يستطع الاستعمار الذي كان
رابضاً بجنوده على ضفاف قناة السويس،
والذي أعطت دولته وعد بلفور وتعهدت
بتنفيذه قبل أن تنتهي مدة انتدابها على
فلسطين أن يسكت على ذلك المد الإخواني
الكبير في مختلف الساحات المصرية
والعربيـة على السواء، فأخـذ يخوّف
القصر وحكومات الأحزاب من الإخوان،
وأخذ على عاتقه الإعداد والتخطيط
والتدبير والتآمر على تلك القوة
الجديدة التي تنادي بصحوة المصريين
والعرب ليقوموا بدورهم من أجل بلادهم
ومعتقداتهم، وكان القصر والحكومات
الحزبية هي اليد المنفذة لمخططات
ومؤامرات الاستعمار بكل أنواعه!!
واقترب
سعد الدين الوليلي من لحظة فراقه
لمرشده، فقال: (ولا أنسى ليلة صدور قرار
حل جماعة الإخوان في كانون الأول (ديسمبر)
عام 1948 حيث صدرت الأوامر إلى قوات
البوليس بالاستيلاء على شُعب الإخوان
ومركزهم العام في الحلمية الجديدة
وسوق من فيها إلى المعتقلات. وشاء الله
أن أكون برفقة الإمام الشهيد حين
دهمتنا في ساعة متأخرة من الليل قوة من
رجال البوليس السياسي، حيث حاصرت
المبنى من كل أجزائه، وقبضت على من فيه
وملأت بنا السيارات وانتظر الإمام
الشهيد دوره في الدخول إلى السيارة،
إلا أن أحداً لم يسأله ذلك، فرايته
يتشبث بالسيارة التي كنت فيها ويحاول
اعتلاءها ليلقى المصير الذي يلقاه
إخوانه، ولكن القوة لم تمكنه من ذلك
ومنعته من الركوب بدعوى أنه لم تصدر من
المسؤولين أوامر باعتقاله، فازداد
تشبثاً بالسيارة واعتلى أولى درجات
سلمها وهو يصيح:
لا
تأخذوا هؤلاء بجريرتي، فأنا أولى منهم
بالاعتقال.. ولم يسمح له احد وتحركت
السيارات بنا وتركته في وحدته ليلقى
حتفه عندما يحين الوقت المناسب لتنفيذ
الجريمة، ولو لم تكن الحكومة قد بيتت
النية على قتله لكان من الطبيعي أن
يكون وهو رأس الجماعة في مقدمة
المعتقلين!!
عرفته
من غرس يده
وتحدث
عن الإمام الشهيد.. الإمام حسن الهضيبي..
فقال:
عرفته
أول ما عرفته من غرس يده، كنت أدخل
المدن والقرى فأجد إعلانات عن (الإخوان
المسلمين) دعوة الحق والقوة والحرية،
فخلت أنها إحدى الجمعيات التي تعنى
بتحفيظ القرآن والإحسان إلى الفقراء
ودفن الموتى والحث على العبادات من صوم
وصلاة، وأن هذه قصاراها من معرفة الحق
والقوة والحرية، فلم احفل بها.
فكثير
هم الذين يقرأون القرآن دون أن يفقهوه
ودون أن يعملوا به، وأكثر منهم الذين
يصلون ويصومون ويحجون دون أن يكون لذلك
أثر في نفوسهم، والإحسان إلى الفقراء
كثيراً ما يوضع في غير موضعه، ولم
أحاول كما هي العادة أن أعرف شيئاً عن
الإخوان المسلمين.
ثم
التقيت يوماً بفتية من الريف أقبلوا
عليّ – على غير عادة الأحداث مع من هم
أكبر منهم سناً ومركزاً – يحدثونني،
فوجدت عجباً.. فتية من الريف لا يكاد
الواحد يتجاوز في معارفه القراءة
والكتابة يحسنون جلوسهم مع من هم أكبر
منهم في أدب لا تكلف فيه، ولا يحسون بأن
أحداً أعلى من أحد، ويتكلمون في
المسألة المصرية كأحسن ما يتكلم فيها
شاب متعلم مثقف، ويتكلمون في المسائل
الدينية كلام الفاهم المتحرر من
رق التقليد، ويبسطون الكلام في ذلك
إلى مسائل مما يحسبه الناس من صرف
المسائل الدنيوية، ويعرفون من تاريخ
الرسولr ما لا يعرفه طلاب
الجامعات، فعجبت لشأنهم وسألتهم أين
تعلمتم كل ذلك؟ فاخبروني أنهم من
الإخوان المسلمين، وأن دعوتهم تشكل كل
شيء، وتعنى بالتربية والأخلاق
والسياسة، والفقر والغنى، والاقتصاد
وإصلاح الأسرة، وغير ذلك من الشؤون
صغيرها وجليلها.
من
ذلك الوقت تتبعت حركة الإخوان
المسلمين وصرت أقرأ مطبوعاتهم واتصل
بهم دون أن أعرف الداعية إلى ذلك،
ولكني عرفته من غرس يده، قبل أن أعرف
شخصيته.
كان
يوم خرجت أنا وبعض زملائي لمشية العصر
على حافة النيل فوجدنا جمعاً من
الجوالة سألناهم عن شانهم فعلمنا أن
حسن البنا سيلقى خطبة في حفل الليلة
فوافينا الحفل وسمعنا حسن البنا.
لقد
تعلقت أبصارنا، ولم نجد لأنفسنا
فكاكاً من ذلك، وخِلْتُ والله أن هالة
من نور أو مغناطيساً بوجهه الكريم تزيد
الانجذاب إليه، خطب ساعة وأربعين
دقيقة، وكان شعورنا فيها شعور الخوف من
أن يفرغ من كلامه، وتنقضي هذه المتعة
التي أمتعنا بها ذلك الوقت.
كان
كلامه يخرج من القلب إلى القلب، شان
المتكلم إذا أخلص النية لله، وما أذكر
أني سمعت خطيباً قبله إلا تمنيت على
الله أن ينهي خطابه في أقرب وقت، كان
كالجدول الرقراق الهادئ ينساب فيه
الماء، لا علو ولا انخفاض يخاطب الشعور
فيلهبه، والقلب فيملؤه إيماناً،
والعقل فيسكب فيه من المعلومات
ألواناً.
انقضى
وقت طويل دون أن ألتقي به، ولما أذن
الله بذلك التقينا، فإذا تواضع جم،
وأدب لا تكلف فيه، وعلم غزير، وذكاء
فريد، وعقل
واسع ملم بالشؤون جليلها وحقيرها،
وآمال عراض، كل ذلك يحفه روح ديني عاقل
لا تعصب ولا استهتار، )وكذلك
جعلناكم أمة وسطا((8)، إنه كان ملهماً، وأقسم أني التقيت به
وعاشرته فما سمعت منه كلمة فيها مغمز
في عرض أحد أو دينه، حتى من أولئك الذين
تناولوه بالإيذاء والتجريح في ذمته
ودينه، وكان في ذلك ملتزماً حدّ ما
أمره الله.
هذا
هو حسن البنا الذي قتلوه، لقد قتلوا
أخطر داعية ظهر على وجه الأرض منذ
قرون، والآن فإن الغرس الذي عرفت فيه
حسن البنا قد نما وترعرع، وصارت دعوته
إلى كتاب الله مستقرة في القلوب، وصار
تلاميذه يعلمون الناس ما علم
ويلهمونهم ما ألهم وزاد عددهم على
البأساء والضراء، حتى أصبحوا أقوى
جلداً مما كانوا، وأعرف بشؤون الحياة،
وأصبر على المظالم، وأعلم بأن أعداء
دعوتهم أكثر من أنصارهم، فأعدوا
أنفسهم لكفاح طويل في سبيلها.
ولقد
صار الإخوان المسلمون اسماً لا يعبر عن
منظمة في مصر وإنما يعتبر عنواناً
لنهضة الإسلام وبعثه وحيويته في جميع
البلاد الإسلامية من المحيط إلى
المحيط، فاسم الإخوان في أندونيسيا
والباكستان وكل البلاد العربية، وصارت
دعوتهم رعباً للمستعمرين وأنصار
المستعمرين والمنافقين والظالمين،
لأن الباطل يفزع من الحق أينما كان
وحيثما وجد.
هذا
حسن البنا فلماذا قتلوه؟
قالوا:
إنهم قتلوه لأنه شكل عصابة إرهابية
كانت تعمل على قلب نظام الحكم، وإشاعة
الفساد في البلاد. والحقيقة أنهم قتلوه
لأنه أصبح الرقم الصعب في العالم
الإسلامي الذي لم يكن بإمكانهم إعادة
تشكيل المنطقة وتقسيمها بما يناسب
مصالحهم.. ما لم يتخلصوا منه(9).
أريد
أن أتحدث إلى الإخوان
وجاء
دور الإمام أبو الحسن الندوي عالم
الهند، ليتحدث عن الإمام حسن البنا
فقال:
إن
كل من عرف الإمام حسن البنا عن كثب لا
عن كتب، وعاش متصلا به، عرف فضل هذه
الشخصية التي قفزت إلى الوجود، وفاجأت
مصر ثم العالم العربي والإسلامي كله
بدعوته وتربيتها وجهادها وقوتها الفذة
التي جمع الله فيها مواهب وطاقات قد
تبدو متناقضة في عين كثير من علماء
النفس والأخلاق، ومن المؤرخين
والناقدين هي: العقل الهائل النير،
والفهم المشرق الواسع، والعاطفية
القوية الجياشة، والقلب المبارك
الفياض، والروح المشبوبة النضرة،
واللسان الذرب البليغ، والزهد
والقناعة في الحياة الفردية، والحرص
وبعد الهمة – دون كلل – في نشر الدعوة
والمبدأ، والنفس الولوعة الطموح
والهمة السامقة الوثابة، والنظر
النافذ البعيد، والإباء والغيرة على
الدعوة، والتواضع في كل ما يخص النفس،
تواضعاً يكاد يجمع على الشهادة به
عارفوه حتى لكأنه (كما حدثنا كثير منهم)
مثل رفيف الضياء: لا ثقل، ولا ظل، ولا
غشاوة.
وقد
تعاونت هذه الصفات والمواهب في تكوين
قيادة دينية اجتماعية، لم يعرف العالم
العربي وما وراءه قيادة دينية سياسية
أقوى وأعمق تأثيراً وأكثر إنتاجاً
منها منذ قرون، وفي تكوين حركة إسلامية
يندر أن تجد حركة أوسع نطاقاً وأعظم
نشاطاً وأكبر نفوذاً، وأعظم تغلغلاً
في أحشاء المجتمع، وأكثر استحواذاً
على النفوس منها.
ولقد
تجلت عبقرية الداعي مع كثرة جوانب هذه
العبقرية ومجالاتها في ناحيتين خاصتين
لا يشاركه فيهما إلا القليل النادر من
الدعاة والمربين والزعماء والمصلحين:
أولها-
شغفه بدعوته وإيمانه واقتناعه بها
وتفانيه فيها وانقطاعه إليها بجميع
مواهبه وطاقاته ووسائله، وذلك هو
الشرط الأساسي والسمة الرئيسية للدعاة
والقادة
الذين يجري على أيديهم الخير الكثير.
وثانيها-
تأثيره العميق في نفوس أصحابه
وتلاميذه ونجاحه المدهش في التربية
والإنتاج، فقد كان منشئ جيل، ومربي
شعب، وصاحب مدرسة علمية فكرية خلقية،
وقد أثر في ميول من اتصل به من المعلمين
والعاملين، وفي أذواقهم وفي مناهج
تفكيرهم وأساليب بيانهم ولغتهم
وخطاباتهم تأثيراً بقي على مرّ السنين
والأحداث، ولا يزال شعاراً وسمة
يعرفون بها على اختلاف المكان والزمان(10).
مجدد
القرن الرابع عشر للهجرة
ويتحدث
المفكر الإسلامي محمد الغزالي عن
أستاذه فيقول: الأستاذ الإمام، أصفه
ويصفه معي كثيرون بأنه مجدد القرن
الرابع عشر للهجرة فقد وضع جملة مبادئ
تجمع الشمل المتفرق، وتوضح الهدف
الغائم، وتعود بالمسلمين إلى كتاب
ربهم، وسنة نبيهم وتتناول ما عراهم
خلال الماضي من أسباب العوج
والاسترخاء، بيد آسية، وعين لمّاحة
فلا تدع سبباً لضعف أو خمول.
ومن
الخطأ القول بأن حسن البنا أول من رفع
راية المقاومة في هذا القرن الذليل،
لقد سبقه في الشرق العربي، والمغرب
العربي، وأعماق الهند، وإندونيسيا،
وغيرها، رجال اشتبكوا مع الأعداء في
ميادين الحرب والسياسة والتعليم
والتربية، وأبلوا بلاء حسناً في خدمة
دينهم وأمتهم.
إن
حسن البنا استفاد من تجارب القادة
الذين سبقوه، وجمع الله في شخصه مواهب
تفرقت في أناس كثيرين.
كان
مدمناً لتلاوة القرآن يتلوه بصوت
رخيم، وكان يحسن تفسيره كأنه الطبري أو
القرطبي.
وهو
لم يحمل عنوان التصوف، بل لقد أُبعد من
طريقة كانت تنتمي إليها بيئته. ومع ذلك
فإن أسلوبه في التربية وتعهد الأتباع
وإشعاع مشاعر الحب في الله، كان يذكر
بالحارث المحاسبي وأبي حامد الغزالي.
ولعله
كان أقدر الناس على رفع المستوى الفكري
للجماهير مع محاورة لبقة خالية من
أسباب الخلاف ومظاهر التعصب. وقد أحاط
الأستاذ البنا بالتاريخ الإسلامي،
وتتبع عوامل المد والجزر في مراحله
المختلفة، وتعمق تعمقاً شديداً في
حاضر العالم الإسلامي، ومؤامرات
الاحتلال الأجنبي ضده.
ثم
في صمت غريب أخذ الرجل الصالح يتنقل في
مدن مصر وقراها، وأظنه دخل ثلاثة آلاف
قرية من القرى الأربعة آلاف التي تكون
القطر كله.
وخلال
عشرين عاماً تقريباً صنع الجماعة التي
صدعت الاستعمار الثقافي والعسكري،
ونفخت روح الحياة في الجسد الهامد(11).
عبقرية
البناء
ويتحدث
أمير البيان سيد قطب عن الإمام فيقول:
في بعض الأحيان تبدو المصادفة العابرة
كأنها قدر مقدور، وحكمة مدبرة في كتاب
مسطور.. حسن البنا.. إنها مجرد مصادفة أن
يكون هذا لقبه.. ولكن من يقول: إنها
مصادفة، والحقيقة الكبرى لهذا الرجل
هي البناء، وإحسان البناء، بل عبقرية
البناء؟
لقد
عرفت العقيدة الإسلامية كثيراً من
الدعاة.. ولكن الدعاية غير البناء.. وما
كل داعية يملك أن يكون بناءً.. وما كل
بناء يوهب هذه العبقرية الضخمة في
البناء(12).
ويح
مصر وإخوتي أهل مصر
وتأتي
صرخة المجاهد الأمير عبد الكريم
الخطابي يتحدث عن الإمام فيقول:
(ويح
مصر وإخوتي أهل مصر مما يستقبلون جزاء
ما اقترفوا، فقد سفكوا دم ولي من
أولياء الله!! ترى أين يكون الأولياء إن
لم يكن منهم، بل في غرتهم حسن البنا
الذي لم يكن في المسلمين مثله)؟
سيف
الإسلام يتحدث عن والده
ولا
بأس أن نذكر هنا جانباً مهماً من حياة
حسن البنا يتحدث عنه ابنه سيف الإسلام
فيقول:
إن
ما يعلمه الناس من أمر الإمام الشهيد
حسن البنا أقل بكثير مـن حقيقته،
وباطنه أفضل آلاف المرات من ظاهره، هو
شخصية واحدة داخل بيته وخارجه، قدوة
حسنة لكل أفراد أسرته ولكل إخوانه في
جماعة الإخوان المسلمين.
الرجل
المؤمن
من
أقوال الإمام الشهيد حسن البنا رحمه
الله : (إذا وجد الرجل المؤمن وجدت معه
عوامل النجاح).
يقول
الأستاذ سيف الإسلام معلقاً: إن هذه
الجملة أشد ما تنطبق على الإمام نفسه
لأن وقته كان فيه بركة كبيرة، وإن
العمل الذي يستغرق في ساعات كان الله
ييسره له في دقائق، ومع توفر الإخلاص
يستطيع كل أخ أن يقوم بأعمال جمة في وقت
يسير.
كان
رحمه الله مثلا أعلى في كل ما يصدر عنه
لإتقانه وحسن دراسته للقرآن الكريم
ولتمسكه الشديد بسنة رسول الله r منذ
نشأته الأولى في بيئة دينية وعلمية،
وكأنما هيأه الله سبحانه وتعالى للدور
الذي رسمه له في حياته بعد ذلك.
اهتمامه
بأبنائه
وعن
اهتمام الإمام الشهيد بأبنائه ورعايته
لهم يقول الأستاذ سيف الإسلام :
لا
أتزيد أو أبالغ في أمر من الأمور حينما
أذكر أن الإمام حسن البنا كان رب أسرة
مثاليا .. منذ أن وعيت لم أشعر يوما سواء
في طفولتي أو صباي بأنه قصر في العناية
بنا أو الاهتمام بأمورنا.
كان
لكل ابن منا من أبنائه حينما يولد (دوسيه)
خاص، يكتب فيه الإمام بخطه على وجه
الدقة تاريخ ميلاده ـ ورقم قيده ـ
وتواريخ تطعيمه.
ويحتفظ
بجميع الشهادات (الروشتات) الطبية التي
تمت معالجته بها، بحيث إذا أصيب أي منا
بمرض استطاع أن يقدم للطبيب المعالج
هذه الشهادات مسلسلة بتواريخها، ويرفق
مع كل شهادة ملحوظة عامة. ثم ما أخذه من
دواء ولمدة كم يوم، وكم استغرق هذا
المرض، وهل أكمل الدواء أم لم يكمل.
وكذلك
شهادات الدراسة كان والدي رحمه الله
يضعها أولا بأول في هذا الدوسيه مسجلا
عليها بعض الملاحظات مثل : سيف يحتاج
إلى التقوية في كذا وضعيف في كذا .. وفاء
تحتاج إلى المساعدة في مادة كذا ...
وهكذا وبالجملة كل ما يختص بأحد أبنائه.
حسن
البنا رب أسرة
كذلك
كانت عناية الإمام الشهيد حسن البنا
بأمور بيته عناية ممتازة، كان يكتب
بنفسه الطلبات التي يحتاجها المنزل
شهريا، ويدفعها في أول كل شهر إلى أحد
الإخوان وهو الحاج سيد شهاب الدين صاحب
محل البقالة الشهير ليوفر هذه الطلبات
في كل شهر.
كان
رحمه الله عطوفا إلى أقصى درجة، راعى
مشاعر الطفولة في أبنائه بشكل كبير،
كان لدية القدرة على جعلنا نطيعه دون
ما حاجة إلى أمر.
أذكر
أنه عرض لي بأن دخول السينما أمر لا
يليق بالمسلم فلم أحاول أن أدخل
السينما قط، بل ظللت حتى اليوم لم
أدخلها وهذا من قوة تأثيره وجاذبيته.
كان
أقصى ما يعاقب به الواحد منا هو قرص
الأذن وفي ذات مرة قرص أذني وهذا أكبر
عقاب وقعه علي رحمه الله .. قرص أذني في
الصباح لخطأ ارتكبته ولكنه اتصل بي
تليفونيا في الساعة الحادية عشر صباحا
ليطمئن علي وصالحني وكان لهذا أثر كبير
في نفسي.
كان
كريما مع أبنائه .. أذكر أن كل واحد منا
كان يأخذ مصروفاً ثلاثة قروش وهذا مبلغ
كان يعتبر كبيرا في هذا الوقت، لأن
زملائي في المدرسة لم يكن الواحد منهم
يأخذ أكثر من ربع قرش أو نصف قرش.
هذا
بالإضافة إلى بعض المبالغ التي كان
يعطيها لنا في يوم الجمعة ويطلب منا
توزيعها على بعض الفقراء في المسجد،
وقد يكون هذا خمسة قروش أو عشرة.
ولعلي
أدركت بعد مرحلة معينة من السن أنه رضي
الله عنه وأرضاه كان يتابع كل تصرفاتي
متابعة دقيقة، ولكن دون أن ألحظ إلا
عندما كبرت فعندما استعرض بعض تصرفات
الوالد أعرف أنه كان يتابع تصرفاتي.
طريقته
في التربية
أذكر
أنه في إحدى السنوات نقل جزءا من مكتبة
البيت إلى مقر مجلة الشهاب واشترى عدة
مكتبات جديدة للمنزل، وكان نصيبي من
هذا التغيير أن فزت بمكتبة صغيرة
أهداها إلي الوالد، ومنحني مصروفا
زيادة قدرة (خمسون قرشا) كل شهر لشراء
الكتب بمعرفتي وتكوين مكتبة خاصة بي.
وبحكم
سني في ذلك الوقت فقد اشتريت عدة كتب من
درب الجماميز ومنها روايات عن
المغامرات البوليسية لأرسين لوبين
وشارلوك هولمز وغيرهما، وحينما جاء
الوالد متأخرا بالليل وجدني ساهرا
أقرأ في هذه الروايات باهتمام شديد ..
تركني ولم ينهني عن قراءتها ولكن حينما
انتهيت من قراءة هذه الروايات قال :
سأعطيك شيئا أحسن منها وبدأ يغذيني
ببعض الكتب منها سيرة الأميرة ذات
الهمة، وسيرة عنترة بن شداد، وسيف بن
ذي يزن وبعض روايات البطولة
الإسلامية، ثم بعد ذلك دفع إلي بكتاب
سيرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
وأرضاه وغيره من الكتب المفيدة.
وشعرت
في هذه الأثناء أنه يتابع قراءتي بدقة
رغم انشغاله بأموره الدعوة.
وكان
من عادته رحمه الله أن يعتمد في تربيتا
على الأسلوب غير المباشر .. أسلوب
التعريض دون الطلب .. وكان في كثير من
الأوقات وخصوصا في رمضان إذا حضر
المنزل واستراح قليلا يستيقظ قبل
المغرب بساعة تقريبا ويدعوني أنا
والأخت الكبرى وفاء بدعوى أن نسمع له
القرآن الكريم .. فكنا نمسك المصحف
وننظر فيه ووالدي يسمعنا ..
وقد
أدركت لما كبرت أن غرضه رحمه الله من
هذا العمل هو تعليمنا من حيث لا ندري
كيف نتلو القرآن !
وأذكر
وأنا صغير في المرحلة الابتدائية أن
والدي رحمه الله قال : على كل فرد أن
يتقن حرفة، وكان رحمه الله يتقن إصلاح
الساعات، فأخذني ذات مرة في الإجازة
الصيفية، ودفع بي إلى مطبعة الأخوان
المسلمين وطلب من مديرها الأخ سيد طه
أن يتولاني برعايته ويعلمني شيئا،
وذلك لحرصه على تطبيق السنة "إن الله
يحب المؤمن المحترف" ولا أتجاوز إذا
قلت إن هذه الفترة القصيرة نفعتني
كثيرا في حياتي العملية بعد ذلك.
حسن
البنا .. الزوج وإكرامه لأهل زوجته
لقد
كان والدي رحمه الله يحرص على تطبيق
السنة تطبيقا متناهيا، وحينما تزوج
حرص رضي الله عنه على أن يعرف أقارب
زوجته فردا فردا، أحصاهم عدا وزارهم
جميعا رغم بعد أماكنهم، أو بعدهم بعضهم
عن البعض بسبب الظروف العائلية
المتوارثة كأن يكونوا ليسوا أشقاء
مثلا ... ولكن الوالد رحمه الله كان
يفاجئ والدتي بأنه اليوم قد زار (فلانا)
وهذا يمت لها بصلة القرابة عن طريق (فلان)
لأنه ابن فلان، وهذا يرجع إلى دقته
المتناهية في الالتزام بسنة رسول الله r.
كان
رحمه الله رقيق المشاعر .. كان يعود
للمنزل دائما متأخرا بعد انتهاء العمل
مع الإخوان، وأذكر أن مفتاح المنزل كان
طويلا .. وكنت أسهر في بعض الليالي
للقراءة .. فكان رحمه الله يفتح الباب
بالمفتاح الذي معه بمنتهى الدقة
والهدوء حتى لا يزعج أحدا من النائمين.
كان
يدخل البيت فيطمئن على غطاء كل
الأبناء، وقد يتناول عشاءه الذي يكون
معدا على المائدة ومغطى، دون أن يحرص
على إيقاظ أمي أو أحد من أهل البيت
لحضوره في هذه الساعة المتأخرة من
الليل.
معاملته
مع الخادمة
كان
يتواجد في المنزل خادمة صغيرة تساعد
الوالدة في شئون المنزل .. وكان لكل منا
سرير مستقل ودرج مستقل في دولاب واحد ...
وكان للخادمة أيضا سرير مستقل ودرج في
نفس الدولاب، وكان أبي يكلف الشقيقة
الكبرى الأخت وفاء بأن تعلم هذه
الخادمة في المساء القراءة والكتابة
وأن تعلمها الصلاة.
وأذكر
أن أبي في إحدى المرات قد ذكر لنا عندما
عاد إلى المنزل أنه قد زار (فلانة) إحدى
الخادمات بمنزلها بعد زواجها وكانت قد
خدمت بمنزلنا فترة من الزمن وذلك حينما
كان يزور بلدتها في المنوفية.
حوار
مع الوالد
لقد
عاصرت والدي الإمام الشهيد رحمه الله
لمدة عامين وأنا طالب بالمرحلة
الثانوية وكان دخول المرحلة الثانوية
هو الميلاد السياسي للشاب في ذلك
الوقت، لأنه يستطيع أن يشترك في
الجمعيات أو الأحزاب وأن يطبع كارت
يكتب عليه اسمه وتحته لقب طالب ثانوي
وأن يشترك في المظاهرات، وقد انضممت
إلى قسم الطلاب في هذه المرحلة، وأذكر
أن الذي كان يرأسه في ذلك الوقت
الأستاذ فريد عبد الخالق، وكان زملائي
في القسم مجموعة من طلاب مدرسة
بمباقادن الثانوية، وكان مقرها بشارع
إلهامي بالجمالية بالقرب من المركز
العام للإخوان المسلمين، وكنت بطبيعة
الحال أشارك مع الأخوة في هذه المدرسة
في نشاط قسم الطلاب وكنا ندير بالمدرسة
مناقشات حول قضايا معظمها في المسألة
الوطنية وقضية وادي النيل وإخراج
الإنكليز من مصر والسودان والوحدة بين
مصر والسودان.
وحينما
كنت أعود للمنزل وأتناول الغذاء مع
الوالد كنت أسأله عما يجري ويحدث في
المدرسة من مناقشات.
وأذكر
أنني سألته مرة سؤالاً صريحاً : وماذا
سنفعل مع الإنكليز إذا لم يخرجوا من
مصر ؟ فقال الوالد : سنرسلك مع كتيبة
لإخراجهم بالقوة وقد رددت عليه حينئذ
ببيت عنترة بعد أن غيرت فيه الضمير
وقلت له :
وسيفك
كان في الهيجا طبيبا
يداوي رأس من يشكو الصداع
وقد
نلت في ذلك الوقت قبلة على جبيني لا زلت
أتحسس موضعها حتى الآن.
لقد
كنت على وعي تام بما يجري في هذا الوقت
من أحداث وأمور سياسية، من واقع النضج
السياسي الذي كانت تعيشه المدرسة
الثانوية آنذاك، والتي كانت تتمثل
فيها كافة طوائف الأحزاب الموجودة على
الساحة في ذلك الوقت وأبرزهم الإخوان
والوفد ..
لقد
كان طلاب المدارس الثانوية في ذلك
الوقت يتجاوبون بشدة مع الأحداث التي
تجري في مصر والعالم الإسلامي
بالإضرابات والمظاهرات.
---------------------
(1)
الملهم الموهوب حسن البنا أستاذ الجيل-
عمر التلمساني، ص- 28.
(2)
حسن البنا الرجل القرآني- روبرت
جاكسون، ص- (5-19).
(3)
أنور الجندي (دار الهلال – مايو 1977).
(4)
د. محمد فتحي عثمان- المجلة 9 آذار (مارس)
1984.
(5)
مجلة الدعوة، العدد- 95 (فبراير 2000م).
(6)
الصف- 8.
(7)
السكرتير الخاص للإمام الشهيد.
(8)
البقرة- 143.
(9)
حسن الهضيبي، مجلة الدعوة (فبراير 2000م).
(10)
مقدمة مذكرات الدعوة والداعية- الإمام
أبو الحسن الندوي.
(11)
دستور الوحدة الثقافية- محمد الغزالي،
ص- 8.
(12)
دراسات إسلامية- سيد قطب، ص- 225.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
|