مشاركات
وصل
إلى برق الشرق :
عتاب
بالنيابة عن الشهداء
وهل
ينفع العتاب في زمن الاحتلالات؟
بقلم
: محمد المحمود*
أراد
الدكتور وحيد عبد المجيد أن يحسن للشعب
العراقي الشقيق ، فأساء إلى شعب عربي
آخر هو الشعب السوري ، وذلك في مقاله
المنشور في صحيفة ( الأهرام ) الغراء
بتاريخ 6/8/2003م ، تحت عنوان : ( العراق
والعرب وجامعتهم ) .
من
أجل أن يحسن الكاتب إلى الشعب العراقي
اتكأ على فكرة ، مفادها : أن ( النظام
العراقي السابق كان فريداً في نوعه لا
مثيل له ، ليس فقط في المنطقة العربية .
ولكن في العالم الراهن ) ، وهذه الفرادة
في النظام السابق تستدعي من العرب أو
الجامعة العربية حلاً فريداً أو
استثنائياً أيضاً .
هذا
هو موجز المقال ، الذي يمكن أن يقول
القاريء فيه ببساطة متناهية : لا غبار
عليه . لكن البنية الفكرية ، أو الحجج
التي بنى الكاتب عليها المقال أساءت
إلى الفكرة الأساسية ، كما أساءت إلى
حقائق التاريخ ، وإلى شعب عربي شقيق هو
الشعب السوري ، فيما أساء .
أول
الوهن : إطلاق الأحكام التعميمية : ( لا
مثيل له .. في المنطقة ..في العالم ) ،
وسوف نجد في الأقل من هو أشدَ منه فرادة
في أولئك الذين احتلوا أرض غيرهم ،
وأقاموا عليها (دولة ) توسعية ، ولم
يضموا قطراً أو أرضاً وحسب إلى أرضهم،
وذلك في أرضنا المحتلة !
الوهن
الثاني : جوابه على سؤالين : الأول ( لا
توجد مقابر جماعية في بلد عربي آخر )
والثاني (
ما من نظام عربي آخر احتل بلداً شقيقاً
، وحوله إلى محافظة تابعة له ) .
نبدأ
بالشق الأخير ، فنقول : هناك أنظمة
احتلت أقطاراً أخرى ، وإن لم تجعلها
محافظة تابعة لها ، فقد جعلتها (مزرعة =عزبة
) ، وفعلت فيها الأفاعيل ، وهي حتى الآن
لم تخرج منها ، وهي من الشهرة إلى الحد
الذي لا نحتاج معه لتسميتها . وهذا لا
يسوغ منطق الاحتلالات على كل حال ،
ولسنا في معرض الدفاع عن نظام أو سياسة
بعينها . إننا نمتحن المقولات ، ونؤسس
لمنطق سليم حرّ .
أما
القول : لا توجد مقابر جماعية في بلد
عربي آخر ، فلم يستطع الكاتب إقناعنا
بما ساقه من حجج قاصرة ، ومعلومات
مبتورة ، وربما حمله على ذلك انسياقه
مع فكرة ( فرادة الحل العربي للشعب
العراقي ) إلى اصطناع ( فرادة النظام
السابق ) التي حملته إلى تجريد أنظمة
أخرى من فضيلة ( المقابر /المجازر
الجماعية ) ، فدافع من حيث يدري أو لا
يدري عنها .
لنتأمل
أطروحته في المقابر الجماعية في سورية
:
يحصر
الكاتب كل ما حصل في القطر السوري
بمأساة حماة عام 1982م ، معتبراً ما حصل
آنذاك ( حملة
لتحرير مدينة سيطرت عليها هذه
الجماعات وحولتها إلى ثكنة مسلحة . وما
حدث كان أقرب إلى معركة بين قوتين
مسلحتين . إحداهما تمثل شرعية الدولة ،
والأخرى تعبر عن تمرد على هذه الشرعية
بالقوة ) .
سوف
نتجاوز عامدين مسألة الشرعية للدولة ،
وإن كانت الطريقة نفسها التي وصل فيها
صدام حسين إلى السلطة ، هي نفسها في
سورية ، وهي الانقلاب العسكري على رفاق
آخرين انقلابيين أيضاً ، والحزب في
التسمية ( واحد ) .
أولاً
: ليست مدينة حماة وحدها التي تعرضت في
الثمانينات من القرن الماضي للمجازر
فالمقابر الجماعية ، فهناك محافظات
أخرى حصل لها هذا الشرف ، مثل : مجزرة (
تدمر ) ، ومجزرة سوق الأحد وحي المشارقة
في مدينة حلب ، ومجازر كل من دير الزور
وحمص وجسر الشغور وسرمدا .
ثانياً
: ما حصل في المحافظات والمدن السورية
الأخرى ليس تمرداً مسلحاً أو سيطرة ، بل مظاهرات
شعبية سلمية . والفجيعة الأشد ما حصل في
سجن مدينة (
تدمر ) الواقعة في بادية الشام ، بلا
مظاهرات ، بل هجوم قوات النظام السوري
على سجناء مدنيين عزل ، وهم في
زنازينهم ، أبادوهم خلال نصف ساعة بلا
أدنى مقاومة ، تحت وابل الرصاص
والقنابل اليدوية بتاريخ 27/7/1980م ، وقد
قدّر تقرير منظمة ( رقيب الشرق الوسط
لحقوق الإنسان – الصادر عام 1990م عدد
ضحايا هذه المجزرة بـ1000 ألف سجين ، على
حين قدرها المستشرق الفرنسي سيرو بـ (
1181) ضحية .)
أما
مجزرة حي المشارقة صبيحة يوم العيد
11/8/1980م ، فيصفها تقرير ( رقيب الشرق
الأوسط المذكور ) بقوله : ( قامت مغاوير
القوات الخاصة باقتحام حي المشارقة
لتجبر السكان المدنيين الذكور ،
عشوائياً ، على مغادرة منازلهم ، لكي
تقتادهم إلى مقبرة وبالقرب من قبر
إبراهيم هنانو ، فتح الجنود النار على
أولئك الناس ليقتلوا ( 83) شخصاً منهم ،
ويجرحوا عدة مئات آخرين ... تبين بعد هذه
المجزرة أن بعض الذين قتلوا فيها كانوا
من البعثيين الموالين وعمال الحكومة
والمؤيدين للنظام ) ص 34 – الطبعة
العربية .
ثالثاُ
: ليست مأساة (حماة ) عام 1982م التي أشار
إليها الكاتب هي الوحيدة في المدينة
المغدورة ، فهناك ( مجزرة جماعية في
نيسان= إبريل عام1980، قتل فيها عدد من
أعيان الدينة وشخصياتها ( بقطع الآذان
وفقأ الأعين ثم طرح الجثث على المزابل )
، بعد أن فتشت المدينة بيتاً بيتاً
واعتقل المئات . ومجزرة ثانية بتاريخ
24/4/1981م ذهب ضحيتها 335 مواطناً ، ألقيت
جثثهم في الشوارع والساحات ، ولم يسمح
بدفنهم إلا بعد أيام عدة . ( انظر كتاب :
حماة مأساة العصر ص 24 ) .
رابعا
: هل يجوز اختزال ما حصل عام 1982م في (
حماة ) بتمرد سيطرت عليه السلطة
الشرعية للدولة ؟
أ
– استمرت المجزرة طوال شهر كامل (شباط=
فبراير ) ، ولم تقتصر عل مواجهة
المسلحين ، بل شملت المدنيين جميعاً
كبارا وصغاراً مسلمين
ونصارى ، أسواقاً ( سوق الطويل – حي
الدباغة ) ومدارس ( كالثانوية الشرعية 30 شهيداً )
ومساجد( 88 ) مسجدا تم هدمها ، وكنائس( 5 )
كنائس كذلك ،
ومواقع أثرية ( 45) موقعاً أثرياً تمت
تسويتها بالأرض .
بـ
- لم تقتصر مجزرة حماة على قصف المباني
والمؤسسات ، وهدمها على من فيها من
السكان ، بل تمّ جمع المواطنين في
أماكن محددة ، ثم القضاء عليهم جماعياً
بالرصاص ، مثل : ( مجزرة الملعب البلدي
استشهد فيها المئات ، ومجزرة منجرة
البدر 25 شهيداً ) ، أو حرقاً ( دكان
الحلبية : 75 مواطنأ ، ودكان عبد المعين
مفتاح ) و( مجزرة آل شيخ عثمان ما يزيد
على 25 مواطناً ، في حي البارودية فتحت
أسطوانات الغاز ، وأضرمت النار ،
وأحرقت أسرة كاملة في بيت واحد منهم ) ،
أو دفناً تحت التراب وبعضهم أحياء ،
مثل مجزرة ( سريحين ) الجماعية ، وهي
قرية قرب مدينة ( حماة) قتل فيها
بالرصاص أو الدفن حياً ما لا يقل عن
حمولة (11) إحدى عشرة سيارة شاحنة (لوري)
من الرجال المدنيين العاديين . هذه
عينات أو أمثلة للتوضيح لا للحصر ،
ويمكن مراجعة كتاب ( حماة مأساة العصر )
أو ( تقرير رقيب الشرق الأوسط المذكور سابقاً ) ، وغيرهما من
المؤلفات ومن تقارير الصحافة الأجنبية
والعربية .
ج
– لم تقف المجزرة على عناصر المعارضة
ولا المدنيين العاديين ، بل شملت أيضاً
العناصر التابعة للسلطة والحزب الحاكم
وجبهته التقدمية ورجال الأمن (
المخبرين ) ، وفي كتاب ( حماة مأساة
العصر ) قوائم بمئات من أسمائهم ( ص 281 –
284 ) .
د
- تقدّر مصادر المعارضة السورية عدد
الضحايا بما لا يقل عن ( 30000) ثلاثين
ألفاً ، على حين يقدرهم الصحفي
البريطاني ( باتريك سيل ) بـ (10000) عشرة
آلاف ، ولم يقل أحد إن عدد العناصر
المعارضة يزيد عن (1000) ألف ، فلماذا قتل
عشرة أضعافهم في أقل تقدير ؟ جاء في
تقرير منظمة
( رقيب الشرق الأوسط – ص 44 ) ما يلي :
( اختلفت تقديرات عدد القتلى كثيراً ،
إلا أن أكثر المحللين مصداقية وضعوا
العدد بين ( 5 آلاف و10) آلاف شخص ، وآلاف
كثيرة جداً من الجرحى الآخرين ، ومع
التدمير الكامل لما لا يقل عن ثلث
مساكن المدينة تدميراً شاملاً ، وقد
بقي ستون ألفاً أو سبعون من النساء
مشردات من غير مأوى ، بل هجر المدينة
حتى أولئك الذين سلمت دورهم من الدمار
بسبب ما انتابهم من الهلع والرعب . ذكر
أحد التقارير المعروفة بالموضوعية
والصدق أن عدد المساجد المدمرة
والكنائس المحطمة وصل إلى ( 88 ) مسجداً و(
5 ) كنائس ، فضلاً عن ( 21 ) سوقاٌ ، وسبع
مقابر ، وسبعة حمامات عامة ، وثلاثة
عشر مرفقاً سكنيا عاماً أو حياً
مجاوراً .) .
فهل
يصح القول بعد كل هذا : إنها كانت معركة
بين قوتين مسلحتين ؟ أو ما حصل في حماة
هو كل ما حصل في سورية ؟
لن
نذهب بعيداً في تعليل ما وقع فيه
الدكتور وحيد عبد المجيد بحق الشعب
السوري ، فندخل إلى النوايا ، فنتهمه
بتعمد التبرئة للأنظمة أو لنظام بعينه
، ونكتفي بظاهر حماسته لفكرة الفرادة
لحل الإشكال العراقي من فرادة النظام
السابق ، على حدّ رأيه
، التي ذهبت به إلى نفي صفة المجازر/المقابر
الجماعية عما
حصل في سورية ، مطلع الثمانينات من
القرن الماضي ، ونقدّر أن عدم اطلاعه
على أبعاد الواقع السوري من جهة ،
وتقصيره في تحري الحقائق وتوثيق
المعلومات من جهة ثانية ، كانت وراء ما
وقع فيه ، ولا نزيد !
أما
وقد بسطنا ما يمكن بسطه من القضية ، فما
رأيه ، وما رأي التاريخ ، ورأي القاريء
المنصف ، وما رأي الجامعة العربية ،
التي عُرض عليها موضوع المقابر
الجماعية في العراق وفي سورية لتقول
كلمة العدل والإنصاف ، بعد التحقيق
القضائي الميداني النزيه ، وبعد ما
أُجريت عمليات تجريف وسحق لعدد من
المقابر الجماعية في مدينة ( حماة )
وصحراء مدينة ( تدمر ) لإزالة الآثار
المتبقية ، بدلاً من السعي لإصلاح وطني
عام ، يواسي الجراح ، ويغسل صفحات
الماضي ، بإطلاق سراح المعتقلين
السياسيين ، وإنهاء تسلط حزب واحد
وأجهزة القمع الأمنية ، والاحتكام إلى
الحق والقانون ، والسماح بعودة آلاف
المهجرين خارج البلاد والمحرومين
وأولادهم وحفدتهم ثلاثة أجيال من
الوثائق المدنية ووثائق السفر أو
العودة الآمنة إلى حضن الوطن والأباء
والأمهات المتقلبين على جمر .
إنها
كلمة عتاب باسم الشهداء ، فهل ينفع
العتاب في زمن الاحتلالات ؟!
*
كاتب سوري وعضو المؤتمر الأول
للحوار الوطني - لندن
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
|