ملاحظات على
الأحداث الأخيرة
1- انفجار العنف قبل أيام، في عدد من المدن
السورية، وخصوصاً في الجزيرة،
انطلاقاً من الملعب الرياضي في
القامشلي، من جمهور للعبة كرة قدم، لم
يتح لها أن تبدأ، انفجار العنف الذي
هزّ البلاد من أدناها إلى أقصاها، كان
مفاجئاً، إن من حيث حجمه وشدته،
والطابع القومي الذي ارتداه، وسرعة
انتشاره، أو من حيث التداعيات
والمضاعفات الخارجية التي رافقته.
صحيح أن الأوضاع قد هدأت، لكن من يضمن
ألاّ تتجدد الأحداث؟
لم
يكن هذا العنف إلا انفجاراً لاحتقان
شديد، لم يجد متنفساً له، ونوعاً من
الاعتراض الاجتماعي لم يجد له طريقاً
طبيعياً، وإلا تعبيراً عن جزء من
الإشكالات السياسية والاجتماعية
والاقتصادية، التي تراكمت نتيجة
لسياسة تأجيل الاستحقاقات، والتهرب من
مواجهة الأمور في أوقاتها، السياسة
التي لا بدّ من أن ينجم عنها شروخ
اجتماعية، واحتقانات وأحداث لم نر إلا
عينة أولى منها. ليس خافياً على أحد، أن
القوى الوطنية الديمقراطية، لم تكفّ
عن التحذير من أن الأمور في البلاد، لا
يمكن أن تستمر على المنوال الذي تسير
عليه منذ بضعة عقود. فالعالم يتغير،
والبلاد لا تستطيع أن تبقى على حالها،
والمشاكل الصغيرة تكبر مع الزمن، وما
يسهل حله في بدئه، يصعب حله بعد نموه
وتعقده. وسياسة النعامة، لمواجهة
المشاكل الاجتماعية، لا تصلح على
المدى القصير، فكيف يمكن الاستمرار
عليها على المدى الطويل ؟ أما "سياسة"
القوة، وهي البديل الوحيد لدى السلطة،
لسياسة النعامة، فمداها قصير،
ونتائجها لا يمكن أن تكون إلا كارثية.
2-
قد لا يكون مفيداً، أن نتعرض للأحداث
الأخيرة في تفاصيلها، وللأدوار التي
لعبها الفرقاء المباشرون، فالجروح لا
تزال حارة لم يتوقف نزفها، وهي بحاجة
للوقت لكي تلتئم، لعل المجال ينفسح
للحكمة والبصيرة. عدا عن ذلك فالأخطار
على البلاد لا تكف عن النمو. والولايات
المتحدة، التي أصبحت "جاراً "
جديداً، بعد احتلال العراق، تواجه
صعوبات متزايدة، بعد أن انكشفت
أهدافها التدميرية للغالبية الساحقة
من العراقيين، صعوبات يمكن أن تدفعها
لتوسيع رقعة العدوان. يضاف إلى ذلك
اشتداد العدوان الإسرائيلي، الذي كان
اغتيال الشيخ أحمد ياسين، آخر فصوله.
"والجاران "، الجديد والقديم، لن
يفوتا ما يتاح لهما من فرص.
3-
أول ما كشفته الأحداث أن تجاهل المشاكل
الاجتماعية ليس سياسة البتة. المجتمع
السوري، مثلاً، يجرجر وراءه منذ اثنين
وأربعين عاماً ما نجم عن مشكلة الإحصاء
في الجزيرة، من حرمان للجنسية لآلاف
المواطنين الأكراد. مع الزمن كبرت هذه
المشكلة دون أن تجد حلاً عادلاً، يضمن
حقوق أصحاب الحقوق ويتلاءم مع
الديمقراطية والتقاليد الوطنية
والإنسانية لشعبنا وينسجم وروح
الصداقة التاريخية بين العرب والأكراد.
وبجانب هذه المشكلة، تبرز مشكلة
الحقوق الثقافية للأقليات القومية،
وخصوصاً الأكراد بوصفهم أكبر هذه
الأقليات. فأي ضير كان يلحق بالعرب
وبفكرة القومية العربية، لو تعلّم
الأطفال الأكراد بلغة آبائهم وأجدادهم
في المدرسة ؟ وأي ضير يلحق بغير
الأكراد، عندما يطمئن الأكراد، أن
تقاليدهم وثقافتهم محترمة ومصانة في
بلدهم ووطنهم ؟ بالأحرى يجب القول إن
تلبية هذه الحقوق، لا يمتن اللحمة
الوطنية وحسب، وإنما يرفع من شأن
البلاد أيضاً. هذه الحقوق، على كل حال،
جزء لا يتجزأ من أي بنيان ديمقراطي. فلا
يمكن الحديث عن الديمقراطية عندما
يمنع جزء من سكان بلد، بغض النظر عن حجم
هذا الجزء، من الاستخدام الحر للغة
القومية الخاصة به، أو عندما لا تصان
تقاليده ولا تحترم ثقافته. إن احترام
ثقافة الأقلية، هو، في الوقت نفسه،
احترام لثقافة الأكثرية. الموقف واحد
ولا يتجزأ.
4-
على أن مشكلة الجنسية، والحقوق
الثقافية ليست إلا جزءاً من مشكلة
كبرى، مزمنة ومتفاقمة لهذه المنطقة
الواسعة، التي تضم ثلاث محافظات (
الحسكة والرقة ودير الزور ). إنها نتاج
سياسة الإهمال ( إن صحّ أن نسمي الإهمال
سياسة ) التي تمارسها السلطة من زمان
طويل. رب من يقول إن كل مناطق الأطراف
السورية " تدار " بدرجة واحدة من
الإهمال، وفي ذلك نوع من " العدل ".
الحقيقة إن سياسة الإهمال في الجزيرة
لها معنى خاص، ولها تأثير تدميري، لا
يطاول الجزيرة وحدها، ولا يقتصر عليها
وحدها. فالمنطقة التي تحتوي على الأرض
الصالحة للزراعة والمياه، وتنتج
البترول والقطن والحبوب، هي المرتكز
والقاعدة الإنتاجية في البلاد. فماذا
يرتد من إنتاجها عليها لتطويرها ؟ هل
هناك من يتصور مستقبلاً زاهراً
للبلاد، بدون الجزيرة، وبدون سياسة
تنمية وتطوير مفتقَدة، تكون هذه
المنطقة الاستراتيجية البند الرئيسي
فيها ؟ وبدون سياسة تحول جزءاً من
واردات المنطقة ( ينبغي أن نقول واردات
البلاد ) لتوسيع وترشيد وتطوير بناها
وإنتاجها وحياة مواطنيها، وتعليم
أبنائهم ؟ مواطنو هذه المنطقة، يعيشون
أسوأ، ويعانون أكثر. فهم أشبه بعيس
الشاعر، يقتلهم الظمأ، بينما هم
يحملون الماء فوق ظهورهم. سنوياً ينضم
قسم وازن منهم، إلى جيش العاطلين عن
العمل، والباحثين عنه في دمشق ولبنان،
أو إلى طالبي الهجرة إلى الخارج، بينما
كان ينبغي أن تكون الجزيرة منطلق حركة
إعمار وطني كبيرة، ومركز جذب للقوى
العاملة في البلاد وميداناً للاندماج
الاجتماعي وترسيخ الوحدة الوطنية.
5-
وفي هذا السياق نريد التأكيد على أن
الجزيرة هي جزء لا يتجزأ من القطر.
سورية الحالية لم تُلحق بأرضها أرضاً
لأحد، ولم تعتد على أرض أحد. على العكس
من ذلك، فقد كانت عرضة للتقسيم، وعرضة
للاقتطاعات من أرضها. والدعاوى
الانفصالية ليس لها مستقبل، لأن
أساسها واه، ولأن لا أحد يقبل بها،
ولأنها لن تؤدي إلا إلى عزل الذين
ينادون بها. لقد جرب بعض المشبوهين
والمهووسين، قبل قرابة سبعين عاماً،
الاستقواء بالمحتلين الفرنسيين
ورفعوا أعلاماً أجنبية وأطلقوا شعارات
إنفصالية، لم تلاق في حينها إلا الفشل
السريع. وهي، الآن، لن تجد صدى إلا عند
الذين يريدون إلحاق الأذى بالبلاد.
إضافة إلى أن وضع البيض في سلة أمريكا
لن يخدم، لا العرب ولا الأكراد. وهاهو
مثال العراق يبين أن الأمريكان لم
يأتوا لتحريره أو لتحرير عربه أو
أكراده، وإنما جاءوا لاحتلاله ونهب
ثرواته وزرع الفتنة والاقتتال بين
أبنائه.
6-
لا يمكن للحلول الأمنية أن تكون بديلاً
عن الحلول السياسية. البطش ليس سياسة.
بل هناك علاقة عكسية بين البطش وبين
السياسة. وكلما زادت حصة البطش، في
ممارسة السلطة، انخفضت حصة السياسة.
السياسة الرشيدة تقوم على التوافق
الاجتماعي، وعلى عدل الحاكمين، وقبول
المحكومين. ثم أن استخدام السلطة للعنف
ليس دليل قوة، إن لم يكن علامة ضعف،
وليس صمام أمان، وليس ضماناً ضد تفاقم
المشاكل. إن عنف السلطة يدمر الأسس
التي تقوم عليها المواطنة ويحفر هوة
عميقة بينها وبين المواطنين، لكن
أيضاً بين المواطنين والوطن، بل يدمر
فكرة الوطن. لا تتأسس المواطنة على
غياب القانون والإجراءات المنافية
للعدل والمساواة، ولا تزدهر إلاّ من
خلال الديمقراطية. كشف تشكيل لجنة "
التحقيق "، عن نوع التحقيق المطلوب
إجراؤه والنتائج المطلوب الوصول إليها
مسبقاً. تألفت اللجنة من مسؤولين
أمنيين، أو هذا ما أعلن. وإن كان هناك
آخرون، فلن يكونوا إلا من النوع ذاته.
إذاً، سيقتصر الأمر على التفتيش عن "
مؤامرة " و"متآمرين"، مطلوب
البحث عنهم وإيجادهم. لكن المسألة ليست
هنا. المسألة أكبر من ذلك بكثير.
فالأمن، ليس إلا جزءاً صغيراً من
السياسة، لا تكبر حصته إلا على حساب
السياسة. والأمن، ليس إلا جزءاً صغيراً
من الأمن القومي الحقيقي للبلاد، لا
تكبر حصته إلا على حساب الأخير.
في هذه الأوقات الصعبة نعود
للتأكيد على أن مشاكل البلاد لا تعالج
من منظور أمني ضيّق. هذا الطريق نعرفه
جيداً، فإلام قاد ؟ ألم تكفنا كل هذه
السنوات الطويلة ؟ ألم تعلمنا كل هذه
النتائج الضحلة ؟ أما آن الوقت للبحث
عن طرق غير عقيمة ؟ ألم يئن الوقت،
لتدعو السلطة أهل الرأي للتداول في
شؤون بلادهم ؟ أم أن عقلية الوصاية
والاستحواذ لا تقيم لأهل الرأي وزناً
واعتباراً ( فلا رأي لمن لا يطاع، ولا
يطاع من ليس لديه قوة باطشة ). الأحداث
الأخيرة تكشف أن مشاكل البلاد تزداد
وتتعقد، وتطرح ضرورة الخروج من عقلية
" الأمن " القاصرة والعاجزة، إلى
عقلية أخرى، قادرة على مواجهة المشاكل
المتفاقمة. وبكلمة أخرى، إلى عقلية
تدرك الضرورة الملحة، في الانتقال
التدريجي من حالة الاستبداد، إلى
الديمقراطية، وتعمل وفقاً لهذا
الإدراك. هذا الانتقال الصعب لن
تستطيعه قوى من السلطة، أو قوى السلطة
وحدها، حتّى لو أرادت. لابد لقوى العمل
والإنتاج والسياسة والثقافة من أن
تأخذ مكانها وتلعب دورها، في عملية
الانتقال، المحتجزة والموقوفة من
السلطة نفسها.هذا هو الطريق لإعادة
بناء البلاد بما يؤهلها للتوجه نحو
المستقبل، وهو، قبل ذلك، الطريق
السليم والآمن لحل المنازعات التي
تنشأ في كلّ مجتمعات الدنيا، والطريق
الوحيد للخلاص من العنف، الذي تلجأ له
الأقلية، عندما يستبد بها اليأس،ولا
تجد طرقاً سلمية للتعبير عن نفسها
ومصالحها.
ــــــــــ
افتتاحية
الموقف الديمقراطي العدد 88 نيسان 2004
الموقف الديمقراطي نشرة شهرية
يصدرها التجمع الوطني الديمقراطي في
سوريا المعارض
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
|