مشاركات
المنسيون
في الأرض
الطاهر
إبراهيم*
يتلفت
السوري يمنة ويسرة وفي فمه كلام يريد
أن يبوح به لواحد ممن حوله، يريد أن
يسأل هذا الواحد أو ذاك،ولكنه يعيد
الكلام إلى جوفه بعد أن شعر أن عنقه غدت
أطول من عنق الجمل، فلا تكاد الكلمة
تصل إلى لسانه حتى يعيدها عقله في
تلافيف تكرير الأفكار وشبكات التصفية
النفسية خشية من أن تندّ منه كلمة غير
محسوبة فيسمعها "الرقيب"،فيلقي
به في غياهب السجون ويصبح بعدها نسيا
منسيا.
وينام
المواطن السوري في بيته ويستغرقه
النوم المتقطع، ليصحو فجأة على صوت
محرك سيارة وقد توقف تحت نافذة بيته،
فيتجمد الدم في عروقه، خشية من أن تكون
هذه السيارة تحمل في داخلهامجموعة
الاقتحام التي امتهنت اقتحام بيوت
الآمنين الذين وردت أسماؤهم في برقية
المناوب في فرع الاستخبارات العسكرية.والخوف
كل الخوف أن يكون اسمه قد أدرج ضمن هذه
القائمة،وأن دوره قد حان ليتدرب
المبتدئون في هذا الفرع كيف ينتزعون
منه ما قاله وما لم يقله، ولا حول ولا
قوة إلا بالله.
ويقف
مترقبا، ذلك الشاب الذي تخرج من كلية
الطب وتزوج وحملت زوجه،وها هي الآن
تعاني من ألم المخاض، وقلبه يكاد يثب
من صدره خوفا على زوجته وجنينها. وتخرج
أمه وهي تمسح دموع الفرح لتقول له:
مبروك ياولدي لقد وضعت زوجك طفلا ذكرا
وهو في صحة جيدة، وكم كنت أود أن أزغرد
فرحا بمجيء الصغير، غير أني تذكرت أنني
ولدتك يوم جاء زوار الفجر وأخذوا والدك
منذ خمسة وعشرين عاما، ولم يمهلوه حتى
يراك. ذهبوا به وأنا أعاني آلام الطلق
وآلام الفراق ولا يزال حتى الآن في
غياهب السجون.
وتقف
أم عصام أمام سجن "صيدنايا" تنتظر
دورها في الزيارة، تحمل في يدها سلة
ضخمة ملأتها ببعض المأكولات الحلبية،
وفيها "مطبقانية" ملأتها بفتة "الكرز
الأسود مع اللحمة" التي يحبها
ابنها،كعادة أهل حلب.ابنها عصام كان
ضابطا برتبة ملازم طيار عندما اعتقلوه
بتهمة الاشتراك في انقلاب في عام 1982.
وما زالت أم عصام تنتظر، وهي لا تدري ما
الذي يمنع سجانيه من إطلاق سراحه، وقد
أطلق سراح معظم زملائه من المعتقل.
ويذهب
أبو حيان –وقد اختلط في عقله- كل عام
أثناء ظهور نتائج الامتحانات إلى مبنى
كلية الهندسة في جامعة حلب ينتظر خروج
ابنه حيان الذي اعتقل منذ
خمسة وعشرين عاما، عله يراه بين
الخارجين يبشره بأنه قد نجح وأصبح
مهندسا "قد الدنيا".
تتابعت
صور هذا الشريط في مخيلتي بعد أن قرأت
في الموقع الإلكتروني "مركز دمشق
للدراسات النظرية والحقوق المدنية"
مقالا قصيرا تحت عنوان: "لماذا هم في
السجون؟!
ومتى
يتم الإفراج عنهم؟!".
ونحن
بدورنا نسأل عن الذنب الذي اقترفه
الدكتور "عارف دليلة"عالم
الاقتصاد الفذ،وعميد كلية الاقتصاد في
جامعة دمشق؟. الكاتب "ميشيل كيلو"
قال في حلقة الاتجاه المعاكس قبل
أيام،أن "دليلة" قال في واحدة
من اللقاءات "إذا ظل الوضع بالبلد
على ما هو فيه حاليا سوف تكون هناك
مشكلة كبيرة" فأخذ ووضع بالسجن
بتهمة أنه يدعو للحرب الأهلية. وما
قاله لا يعدو كونه تحذير من تردي الوضع
وسوء العاقبة بسبب ملاحقة مثقفي ربيع
دمشق وكانت النتيجة أن حكم عليه عشرة
أعوام وهو يقضيها الآن في زنزانة في
سجن "عدرا".
والنائبان
"مأمون الحمصي"و"رياض سيف"،
كان يمارسان ،تحت قبة البرلمان، حقهما
الذي نُص عليه في الدستور وفي اللائحة
الداخلية لمجلس الشعب. بل إنه الواجب
الذي أقسما اليمين الدستورية على
القيام به، عندما انتقدا الفساد في
أجهزة الحكم!. فماذا كانت النتيجة؟
حوكما وحكم عليهما بخمس سنوات بتهمة
الاعتداء على الدستور! .
طبيب
الأطفال الدكتور عبد الرؤوف عبيد
ومصطفى خلوق الحجي مازالا في السجن وقد
مضى عليهما ما يقرب من ربع قرن، قضيا
القسم الأعظم في سجن "تدمر" وما
أدراك ما سجن تدمر؟. وفي كل مرة يفرج عن
دفعة من المعتقلين كان يقال لهما جهزا
أغراضكما، وما أدراك ما أغراضكما؟
إنها بقايا، بعضها دخل معهما السجن في
عام 1980. وتخرج الدفعة، ويسأل أهل هذين
الأخوين بعض من أفرج عنه فيقال لهم
إنهما في الطريق حيث قد أبلغا أنهما
سيطلق سراحهما. وتتابع مجموعات المفرج
عنهم وما يزال الأخوان في سجن صيدنايا
مع الوفود التي تقدم عليهم يوميا من
المعتقلين الجدد.
وكان
الجميع يتساءل عن سر بقاء الأخوين في
المعتقل بعد أن خرج الآخرون؟ وجاء
الجواب في المقال القيم الذي كتبه
الأستاذ "ياسين الحاج صالح"
ونشرته "النهار" البيروتية تحت
عنوان "الطريق إلى تدمر". ولأن
المقال لا يمكن أن يلخص ، بل إنه موجز
لتجربة مرة،ويستحق أن يدرّس في جامعات
الشعوب المقهورة، فسأقتبس منه ما يلقي
الضوء على ما يعتقد أنه سبب بقاء هذين
الأخوين ،وأمثالهما كثير.
فقد
ذكر الأستاذ ياسين أن من يتقرر الإفراج
عنه كان يخضع لمساومة -أو ابتزاز سمها
ما شئت- يطلب فيها منه أن يتعاون:(يقول
أعضاء اللجنة، وهم ضباط كبار في أجهزة
الأمن، إن التعاون تعبير عن "حسن نية"
السجين إزاء... الدولة!). والتعاون كما
شرحه الأستاذ ياسين هو أن (يشي
بأصدقائه ورفاقه أو "يكتب التقارير"
عنهم، أو على الأقل يتعهد عدم "العمل
بالسياسة").
أي
أن المعتقل لا يخرج من سجنه إلا بعد أن
يتأكد أعضاء اللجنة "إياهم"، أن
المعتقل قد تحطم نفسيا بعد أن تحطم
جسديا، وإلا فلا خروج!.
ويبقى
السؤال مطروحا ويحتاج إلى جواب:لماذا
هم في السجون؟ومتى يتم الإفراج عنهم؟.
وحتى
نستطيع مقاربة الجواب، لا بد من دراسةٍ
أعمق من نفسية، وأعمق من أيديولوجية،
وأعمق من سياسية، لحقبة امتدت على مدار
أكثر من ثلاثة عقود. وعلى ما يظهر أن من
ينظِّر "أمنيا" للعهد الحالي، ما
يزال يحمل في نفسه الشيء الكثير مما
كان سائدا في حقبتي الثمانينيات
والتسعينيات.
وإلا
فما هو الخطر الذي كان يمثله رئيس
الدولة الأسبق الدكتور "نور الدين
الأتاسي" الذي لم يطلق سراحه إلا في
بداية التسعينيات، بعد أن تأكد سجانوه
أنه ذاهب إلى مثواه الأخير. وأما رفيق
سجنه اللواء "صلاح جديد"،فقد أطلق
سرح جثمانه في منتصف التسعينيات، بعد
أن فارق الحياة مسجونا في سجن "المزة"
الشهير. ومع أني أقف على طرفي نقيض مع
"صلاح جديد" السياسيي و"صلاح
جديد" الأيديولوجي، إلا أني أجدني
متعاطفا مع "صلاح جديد" الإنسان،
الذي مات في سجنه،ولم يسجل لنا تاريخ
تلك الحقبة أنه حوكم أمام محكمة وحكم
عليه.
فهل
نجد الجواب عند قيادة العهد الحالي
عمليا بإطلاق سراح جميع المعتقلين من
سجناء الرأي بلا استثناء ؟ خصوصا وأن
الأمر طال لدرجة أن البعض يعتقد أن
القيادة نسيت أن هناك من لا يزال في
المعتقلات "المنسيون في الأرض"،
الذين نسيتهم دولتهم.
ونحن
نقول لهذه القيادة، أنه خير لها أن
تخطئ مليون مرة بالعفو عمن يستحق
الاعتقال، –هذا إن كان هناك من يستحق-
من أن تخطئ مرة واحدة بإبقاء بريء واحد
في سجنه وهو يستحق الإفراج.
*عضو
مؤسس في رابطة أدباء الشام
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
|