ماذا
وراء الاتصالات السورية-الأمريكية
تقاسم
وظيفي في اللحظة الحرجة
د.
عماد فوزي شعيبي
حدثان
أساسيان وسما العلاقات السورية-
الأمريكية
الأول
تلقي الرئيس السوري بشار الأسد رسالة
تهنئة من نظيره الأمريكي جورج بوش
بمناسبة عيد الجلاء الوطني السوري رغم
أن ذكرى العيد تحل يوم السبت إلا أن
الرئيس الأمريكي استبق ذلك بيومين
الأمر الذي أعطى انطباعاً إيجابياً
برغبة الإدارة الأمريكية بأن يكون
رائداً في تهنئة الأسد برموزية
الاستقلال السوري عن الاحتلال أي أن
واشنطن بدلالة الرسالة تريد استقلال
سورية ولا تريد ما يشعر دمشق بأنها
تبحث عن عمل عسكري نحوها.
والثاني
تلقي وزير الخارجية السورية فاروق
الشرع رسالة من نظيره الأمريكي كولن
باول يشرح فيها خطورة الوضع والتطورات
في العراق ويحث سورية على تقديم كل
مساعدة يمكن أن تساهم في تهدئة الأوضاع
فيه وبما يخدم وحدة هذا البلد وأمنه
واستقراره.
هذه
الرسالة تعكس موقفين: الأول أن وزارة
الخارجية الأمريكية وهي التي تمثل
موقفاً معتدلاً نسبياً(وينتمي إلى
المدرسة الواقعية) تريد من سورية
المساعدة على أن تبقى الأوضاع مستقرة
في العراق بما يخدم عدم انتقال القرار
السياسي إلى البنتاغون بسبب تدهور
الأوضاع مما يُحدث عملياً أجواءً
مشابهة لما بعد الحادي عشر من أيلول/
سبتمبر والتي أدت إلى عسكرة السياسة
الخارجية الأمريكية وصولاً إلى الحرب
على العراق.
وهذه
الدعوة تعتبر في رأينا بمثابة سعيّ من
وزير الخارجية الأمريكية إلى ما يشبه
"التقاسم الوظيفي" لإبقاء الوضع
في الولايات المتحدة الأمريكية في
حدود ما هو سياسي واستبعاد نفوذ
المحافظين الجدد في البنتاغون
على السياسة وهو دور يتنامى
بحالتين الأولى: تسعير العمل العسكري
في العراق، والثاني: دخول الانتخابات
الأمريكية في مأزق عدم التجديد للرئيس
الحالي جورج بوش.
إلا
أن اللافت في رسالة الوزير الأمريكي هو
إشارته لطلب المساعدة من سورية وهذا ما
يعني عودة للاعتراف بالدور الإقليمي
للجوار الجيواستراتيجي للعراق وهو ما
يشير إلى تراجع(فرضته الظروف) عن ترداد
مقولة أن الأوضاع تغيّرت في المنطقة
بعد احتلال العراق وبالتالي فإن على
سورية الانصياع للنفوذ الأمريكي وما
يقتضيه من مطالب، فضلاً عن أن هنالك
إشارة أمريكية إلى مصالح مشتركة سورية-
أمريكية تتمثل بالمساهمة في وحدة
العراق، أي الإقرار بأن الأخيرة هي شأن
مشترك يمكن أن يقربّ المسافة بين
دمشق وواشنطن حيث أن هذين الاتصالين
يمثلان عملياً أول اتصال أمريكي
بسورية منذ سنة تماماً، إذ فضلاً عن
التركيز على وحدة العراق تقاسم مشترك
بين الطرفين
السوري والأمريكي هنالك إشارة أخرى
إلى الأمن في العراق بما يعني الدعوة
إلى مشاركة سورية في هذا الملف
والاستقرار بما يعني أيضاً الدعوة إلى
دور سوري تفرضه الوقائع الجغرافية
الاستراتيجية بين سورية والعراق معاً.
سورية
بدورها أكدت أنها ستستجيب ولكن ضمن ما
أسمته إطار تعاملها مع الملف العراقي
الذي بني على أساس وحدة العراق كخط
أحمر وسلامة أراضيه واستقلاله
وبالتالي الإسراع في تسليم السلطة
لحكومة وطنية منتخبة وزوال الاحتلال،
بمعنى أن التقاسم الوظيفية بين دمشق
وواشنطن سيكون على حافة عدم الاختلاط
بين المطالب المشتركة بوحدة العراق
وأمنه واستقراره وبين أي إيحاء بأن
الدور السوري سيكون بأي حال من الأحوال
غطاءاً وتسويقاً أو مدّاً للاحتلال.
التداعيات
الجيوسياسية التي انعكست بسبب الحرب
على العراق وتمركز ساحة عمليات
الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في
منطقة الشرق الأوسط، لها تأثيرات تذهب
إلى أعمق مما يمكن رصده خلال المرحلة
الحالية.
فالمسألة
تنعقد باختصار في أن تلازم مصطلحي
الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيكا)
والجغرافيا الاستراتيجية(الجيوستراتيجيا)
هو الذي يعيّن الاستقرار السياسي
عموماً واستمرارية أداء اللعبة
السياسية عالمياً وإقليمياً وفق قواعد
السياسة الناظمة.المقصود هنا بدقة هو
أن الجغرافيا السياسية يجب أن تتزامن
وتتساوق مع الجغرافيا الاستراتيجية،
وهو ما يبدو اليوم غير متوافر على
الإطلاق في معادلة السياسة في المنطقة.
فالأمريكيون
باتوا جزءاً من الجغرافيا السياسية(أصبحوا
جيراناً لست دول) دون أن تكون هذه
الجيرة أكثر من إخلالاً بالجغرافيا
الاستراتيجية. ذلك أن الأرض لست أرضهم
والموارد ليست مواردهم، وكل ما هنالك
أنهم يديرون الأرض والموارد ويريدون
أن يكونوا جزءاً من الجغرافيا
الاستراتيجية بالتدخل في شؤون الدول
الحالية ورسم سياساتها ووسائلها عبر
ما يسمى"بالشرق الأوسط الجديد".
المشكلة
تتمثل بأن كل وافد على الجغرافيا
الاستراتيجية صحيح أنه يستطيع أن
يدير الأرض والموارد مهما كانت
الصعوبات لكن البشر والتاريخ(نعني
الثقل الإيديولوجي وثقل المعطيات
والموروث التاريخي للبشر) أمر لا
يمكن إدارته وهو جزء من الجغرافيا
الاستراتيجية بل وهو الجزء الأكثر
أهمية في تلك المعادلة كما يقول
الأميرال سيليريه وماكس
سور عندما يصيغان معادلة أن
الجغرافيا البشرية تغدو أكثر وأكثر
كجغرافية الإنسان بمعنى التمييز بين
العوامل الثابتة والعوامل المتغيرة.
ويترافق مع ذلك كما يقول الأميرال بيير
سيليير أهمية(المدى) الذي يسكنه البشر،
أي المكان.
فإذا
كان ثقل تاريخ البشر(بما فيه التاريخ
الإيديولوجي للبشر) يفرض نفسه بشدة في
المعادلة الجيواستراتيجية فإن ثقل
المكان يفرض نفسه بنفس الشدة في تلك
المعادلة، ذلك أن تغيير الدول ليس
ممكناً أو قابلاً لأن يكون مثمراً
لصالح دولة واحدة على حساب الدول
الأخرى لهذا السبب بالذات كما يؤكد
سيلييريه.
ولكي
نترجم هذا إلى معادلة
الواقع الحالي نقول:
إن
الولايات المتحدة تستطيع أن تكون
جزءاً من الجغرافيا السياسية عبر
النفوذ أو الأنظمة الحليفة أو
الموالية لكنها لا تستطيع أن تكون
جزءاً من الجغرافيا الاستراتيجية
لأنها تفتقد إلى الامتداد مع الأرض
والاحتكاك مع البشر والتاريخ، وهذا ما
يفسّر جزءاً من السؤال الذي يطرحونه:"لماذا
يكرهوننا"؟ (وهو نفسه السؤال الذي
نطرحه نحن أيضاً) والجواب كامن في عدم
قدرة الطرفين على التمازج جغرافياً
وبشرياً وتاريخياً.
الأوروبيون
يستطيعون ذلك، بخلاف الأمريكيين،
لأنهم يعرفون تاريخ المنطقة جيداً
وكانوا جزءاً منه ودرسوه(عبر
مستشرقيهم) وتواصلوا مع أرضها وبحرها
والجوار الجيواستراتيجي قائم كما لا
تستطيعه أمريكا مهما توهمت أنها تفعل.فالاحتكاك
مع البشر والأرض أمريكاً يحدث لأول مرة
اليوم في العراق. وهو احتكاك مقطوع عن
السياق، لا يوجد فيه مؤشر لما يمكن أن
يتحول إلى تراكم جدّي؛ ذلك أن
الأمريكيين اعتادوا على التجارب التي
تبدو(كانبثاقات) تأتي فجأة وتنسحب فجأة
الأمر الذي لا يراكم تجارب عن الشعوب،
تماماً كما فعلوا في فيتنام وكوسوفو
والصومال وحتى إيران... إذ أن
الاستراتيجية السياسية والعسكرية قد
بُنيت لديهم على أساس أنهم جزيرة
معزولة مكتفية بذاتها تستطيع أن تمدّ
يدها انتقائياً واختيارياً على
المستوى العسكري، ولا داعي لفهم الناس
والأرض والتاريخ إذ ان العقدة
المركزية تجعلهم- كما يريدون تعميم
نموذجهم السياسي على المنطقة بما فيها
دستورهم(كما يقول المحافظون الجدد)- لا
يلتفتون إلا إلى ضرورة أن يفهمهم
الآخرون لا أن تكون العلاقة متبادلة
للفهم.
القدوم
الأمريكي خرّب كل المعادلات(الجيواستراتيجية).
فجأة أصبح على (الجيوسياسة) أن يحتوي
الجيواستراتيجية بما لا يمكن إلا أن
يكون كمن يسير على رأسه أو كمن يريد أن
يحمل الوليد أمه ي أحشائه أو أن تكون
علاقة التضمّن مقلوبة، بحيث يكون
الصغير يحتوي الكبير أو الجزء يحتوي
الكل.
عندما
أتى الأمريكيون إلى المنطقة أحدثوا
اختلالاً في المعادلة
الجيواستراتيجية، أرادوا أن يحلوا
ثقلهم ككبار في المنطقة وإلغاء كل(الكبار)
الإقليميين. كانت النتيجة
أنهم يمارسون جيوسياسة في صيغة
جيواستراتيجيا، ولهذا يحتاجون اليوم
إلى سورية.
الأهم
في هذا أن مؤشرات عودة الاتصالات على
هذا المستوى بين دمشق وواشنطن تعطي
انطباعاً بأن واشنطن قررت رفع مستوى
العلاقة والاتصال بين الطرفين بعد أن
كان عبر أقنية غير مباشرة وعلى مستوى
أدنى من مستوى وزارة الخارجية أو
الرئاسية، وهو ما يفهم في لغة السياسة
باعتبار أنه طالما ثمة حوار فإن كل
الأخطار الأخرى مستبعدة بما فيها
الخيار العسكري ضد دمشق، وهذه
الاتصالات تأتي أهميتها من كونها تأتي
بعد تصريحات أبي زيد ومايرز التي تحدثا
فيها عن أعمال سورية وإيرانية لا تساهم
في الاستقرار، الأمر الذي يعني أن
الإدارة الأمريكية تريد أن تفتح صفحة
جديدة مع دمشق عبر بوابة العراق.
الواضح
أن التباين بين البنتاغون ووزارة
الخارجية كان وراء التناقض في
التصريحات بين العسكر والسياسيين
والأمر يبدو أقرب إلى مفاضلة معيارها
السياسة اليوم لا العسكر ، طالما ان
هنالك فرجة للتوصل إلى دور سياسي ،
فالانغماس بدور العسكر مصيره مزيد من
الأزمات.
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
|