وصل
إلى مركز الشرق العربي :
المجازر
الجماعية ترفع رأسها
بقلم : محمد
المحمود*
نعم إن المقابر الجماعية أخذت
ترفع رأسها مؤخراً ! وهل ينهض الميت من
قبره بعد أن يموت ، ويشبع موتاً ؟ إن
الله تعالى قادر على أن يحيى الموتى ،
وأن ينتقم للأبرياء في الحياة الدنيا
قبل الآخرة .
آخر الأخبار الجماعية أن دولة
الكويت طلبت من الجامعة العربية فتح
تحقيق بالمقابر الجماعية في العراق ،
بعد أن غسلت الكويت يدها – كما يبدو –
من الأسرى الكويتيين في العراق ، وبعد
نبش المواطنين العراقيين لعدد من
المواقع التي تضم مقابر جماعية ، كالتي
عثر عليها بجوار مدينة الحلة ، وتم عرض
مشاهدها على شاشات القنوات الفضائية
كالجزيرة ، فتجددت الأحزان في نفوس ذوي
الضحايا ومعارفهم ، وإن لم تكن منسية
في ضمائر أصحاب الضمائر!
كان أول رد فعل للأستاذ عمرو
موسى الأمين العام للجامعة العربية
على طلب الكويت : أنه لم يسمع من قبل
بهذه المجازر ، ولو سمع بها ، لكان له
موقف منها . إذن سمع الرجل الآن ، فما هو فاعل ، وما هي الجامعة معه فاعلة ؟
وسؤال آخر : هل انفرد العراق
وحده بهذه المقابر ؟
وآخر : ولماذا الحديث عنها في
هذا التوقيت ؟
وآخر : هل يغطي الحديث عن
المقابر الجماعية عندنا على أخبار
المجازر والمقابر الجماعية التي
اقترفتها ، وما تزال تقترفها قوات
الاحتلال الصهيوني في الأرض المحتلة ؟
إن المقابر والمجازر
الجماعية لا يخفف من وقعها وبشاعتها ،
أنها ارتكبت بأيد عربية أو غير عربية .
فهي تظل مجازر ومقابر في أي زمان ومكان
، وعلى أيدي أيّ كان . كما لا يخفف من فظاعتها أنها شاعت ، وعمّت كالبلاء
، لأن الضحايا الأبرياء ذهبوا فيها بلا
محاكمة ولا تحقيق ولا أدنى صورة من صور
التثبت المنصوص عليه في الوثائق
الدولية وشرعة حقوق الإنسان فضلا عن
شريعة السماء .
ليتصور أحدنا أنه كان أحد
هؤلاء الضحايا أو ابنه أو أخاه أو أحد
أقربائه أو معارفه ، وأنا أذكر
الاحتمال مع علمي أن كثيراً من القراء
لا يحتاجون للتصور، لأن الأمر واقع في
الكثيرين منا ، ولماذا لا نعدّ الضحايا
إخوتنا في الإنسانية أو القومية أو
الدين : ( ..ومن قتل نفساً بغير نفسٍ أو
فسادٍ في الأرض، فكأنما قتل الناس
جميعاً ، ومن أحياها ، فكأنما أحيى
الناس جميعا..) .
يقول أحد الناجين من مجزرة/مقبرة
( سريحين) ضاحية قرب مدينة حماة كانون
الثاني عام 1982م : (كنت ضمن أعداد كبيرة
بازدحام شديد حتى كادت تنقطع أنفاسنا ،
وسيق بنا إلى ( سريحين ) حيث أمرنا
بالنزول فنزلنا ، وكان أول ما رأيناه
مئات الأحذية المتناثرة على الأرض
، وأدرك الجميع أنها تعني مقتل مئات
المواطنين من أبناء بلدنا ، وأننا على
الموت مقبلون ! فُتشنا بعد ذلك، وأخذت
منا الأموال القليلة التي معنا ،
وجردنا من ساعاتنا ثُم أمرتنا السلطة
بالتقدم نحو الخندق العميق الذي يمتد
أمامنا على مسافة طويلة ، وأُمر قسم
آخر منا ( بالنزول) إلى خندق مجاور .
وعندما تقدمت إلى موقعي أمام الخندق ،
رأيت الجثث المتراكمة على بعضها
يلطخها الدم الحار ، وكان مشهداً
رهيباً لم أستطع تحمله ، فأغمضت عيني ،
وتحاملت على نفسي خشية الوقوع على
الأرض . وحدث ما كان متوقعاً ، وانهال
علينا الرصاص الغزير ، وهوى الجميع إلى
الخنادق مضرجين بدمائهم . أما القسم
الذي أُنزل إلى الخنادق فقد أُطلقت
عليهم النار داخله! كانت إصاباتي خفيفة
، وقدّر الله أن أنجو بأن صبرت حتى خلا
المكان من الجزارين ، وهربت متحاملاً
على جراحي ، وأنقذني الله من ذلك
المصير ، حيث يموت الجريح تحت الجثث
الأخرى ). ( كتاب: حماة مأساة العصر – ص
286 )
هل سعت بمقبرة سريحين
الجماعية من قبل ؟ ولكيلا تسمع بها
نهائياً ، قامت آليات بقلب الخنادق
المذكورة في سريحين منذ أيام ،
لنبش العظام ، ثم طحنها بمدحلة
ضخمة ، لسحقها ومحو آثارها ، على أثر
الحديث عن المقابر الجماعية في العراق
وسورية في قناة الجزيرة ، واحتمال عرض
موضوع العراق على الجامعة العربية .
إليك ما قاله الجندي عيسى
إبراهيم فياض أحد المشتركين في تنفيذ
مجزرة/مقبرة ( تدمر) الجماعية في 27/6/1980م
، بعد إلقاء القبض عليه مع مجموعة
حاولت اغتيال رئيس وزراء الأردن
الأسبق ، وأذيع اعترافه عبر التلفزيون
الأردني وتم التقاطه في دمشق : ( وصلت
حاملة ( دودج) لتقلنا إلى السجن حيث تم
توزيعنا على سبع حضائر . كان معي في
حضيرتي أحد عشر جندياً تقريباً بإمرة
الملازم منير درويش.. فتحوا لنا باب
زنزانة سجناء جماعية ، اقتحم ستة أو
سبعة جنود من صفوفنا الزنزانة ، وقتلنا
كل من كان فيها . كان عددهم ( 60) شخصاً أو
(70) ، بالنسبة إليّ ، فأنا أحمل بندقية
سريعة الإطلاقات ، وقد قتلت برصاص
سلاحي (15) شخصاً أو ما يقرب من ذلك ، أما
مجموع من كان علينا قتلهم فقد أقدره
بحدود ( 550) شخصاً ... مات أحد أفراد سرايا
الدفاع وجرح اثنان فقط ، بعد ذلك
غادرنا السجن ، ذهب الملازم رائف عبد
الله ليغسل يديه ورجليه من آثار الدماء
التي غطتها . لم تستغرق العملية أكثر من
نصف ساعة ، كانت حالتنا النفسية أشدّ
ما تكون رعباً . كانت أصوات انفجارات
القنابل اليدوية تمتزج مع صيحات ( الله
أكبر ) ، وأخيراً غادرنا عائدين
بطائرات الهيلوكبتر .. وفي المزة رحّب
بنا الرائد ناصيف ، وشكرنا على حسن
أدائنا .) ( تقرير منظمة رقيب الشرق
الأوسط عن انتهاكات حقوق الإنسان في
سورية الصادر عام 1990م- الطبعة العربية
– ص 35-36 .) ويميل كاتب التقرير
والمستشرق الفرنسي ميشيل سيرو إلى أن
عدد الضحايا بلغ ( 1181) .
وقس على ذلك ما حدث في حي
المشارقة بحلب وفي جسر الشغور وسرمدا
وبقية المدن والسجون السورية في
الثمانينات ، مع العلم أن سجن ( تدمر )
العسكري شهد إعدامات جماعية أسبوعياً
طوال أعوام منذ الثمانين ، وأصبح عدد
المفقودين يزيد على خمسة عشر ألفاً .
فهل بلغ السيد أمين عام الجامعة
العربية علم بذلك ، وإذا علم ، فما عساه
يصنع ؟
إذا كانت الظروف الجديدة في
العراق قد أتاحت المجال للكشف عن
المقابر الجماعية فيه ، وإذا كان وزن
الكويت الدولي ( عضواً في الجامعة
العربية وفي دول مجلس التعاون الخليجي
وهيئة الأمم المتحدة ) يساعدها على
الضغط للتحقيق في هذه المقابر ، فإن
العدل والإنصاف وقيم الأخوة
والإنسانية تقضي أيضاً بأن يتم
التحقيق بالمقابر الجماعية التي حصلت
في سورية . ولا يقولن أحد : إن فتح
الملفات الأمنية العربية ، يصرف
الانتباه عن المجازر والمقابر
الجماعية التي يرتكبها الاحتلال
الصهيوني في الأرض المحتلة على مدار
الساعة ، أو يخفف من وطأتها . هذه دعوى
مردودة ، لأن السكوت عن هذه المقابر لا
يلغيها ، ولا يلغي ما يقترفه الأعداء ،
بل يفاقم المأساة ، ويتيح المجال
لتكرارها ، كما يزيد من الاحتقان وردود
الفعل التي قد تؤدي إلى شيوع العنف
وشرعنته على كل صعيد . وإلا ما معنى
الدعوة العربية إلى إعادة تعريف (
الإرهاب) الذي يسوّق له الأمريكان
والصهاينة ؟ وما معنى تمييزنا بين
الدفاع عن النفس أو الوطن وحركات
التحرر الوطني ، وبين عنف الدولة
والاحتلال والمظالم التي لا خلاف
عليها ؟
كان بإمكان النظام السوري
الذي هزّه الزلزال العراقي والحديث عن
التحقيق بالمقابر الجماعية أكثر من
خيار ، كأن يبرأ من ارتكابات العهد
الذي سبقه ، لا أن يساعده في طمس
ارتكاباته ! كان بإمكانه بدلاً من أن
يرسل الجرافات إلى مقبرة سريحين
وصحراء تدمر .. أن يدعو لمؤتمر مصالحة
وطنية حقيقية تتجاوز الإشكالات
الداخلية بعهد ديموقراطي متين ، يواجه
الاستحقاقات الخارجية . كان بإمكانه
ومازال إصدار عفو عام عن سجناء الرأي
وعن الملاحقين خارج البلاد ، وعن
المحرومين من وثائق السفر ثلاثة أجيال
ومن مختلف أطراف الطيف السوري الوطني ،
لا لشيء إلا للاختلاف في الرأي !
وإذا لم يفعل النظام ما يجب
فعله إنقاذاً لنفسه أولاً وللوطن
والشعب ثانياً وثالثاُ ورابعاً
، فإن هذه المعالجة للمقابر
الجماعية متخلفة جداً ، وتصنفه شاء أم
أبى مع من اقترفوها .
وبالمناسبة أدعو السيد أمين
عام الجامعة العربية ، كما أدعو كل ذي
ضمير إنساني إلى فتح التحقيق بالمقابر
الجماعية السورية أسوة بالتحقيق
بالمقابر العراقية ، كما أدعو
المواطنين السوريين ومنظمات حقوق
الإنسان السورية والعربية والدولية
للإسهام في تقديم الطلبات والثبوتيات
اللازمة حول مقابرنا الجماعية للجامعة
العربية ممثلة بشخص أمينها العام .
* كاتب سوري -
لندن
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
|