وصل
إلى مركز الشرق العربي :
النقابات
في سورية
د. عمار قربي*
تشهد سورية انتخابات نقابية
بفرعيها العمالي والمهني، وتأخذ هذه
الدورة شكلاً جديداً من العمل
الانتخابي بعد توفر هامش ديمقراطي لم
يكن متاحاً من قبل، ولا نغالي عندما
نقول إن النقابات هي أرقى أشكال
المجتمع المدني الحديث، كما أنها
وسيلة اتصال سريعة بين الدولة وبين
المواطنين المنتسبين إلى هذه
النقابات، ووسيطاً بين أعضاء المهنة
والمجتمع، وكلما كانت النقابات قوية
كان المجتمع راسخاً مستقراً.
إن النقابات ليست فقط وليدة
المجتمعات الرأسمالية بهدف الدفاع عن
حقوق العمال، بل إنها موجودة في
المجتمعات الاشتراكية والمجتمعات
النامية، حتى إن مهمتها في هذه
المجتمعات أخطر، ومسئولياتها أكبر، من
حيث الدفاع عن مصالح أعضائها وحماية
حقوقهم وصيانة مكتسباتهم، لا بل وتزيد
مهمة النقابات في المجتمعات النامية
في الدفاع عن أعضائها ضد أي صورة من صور
الانحراف البيروقراطي، والتي تحاول
إساءة تفسير القوانين والنظم بما يضر
بمصالح العمال والمهنيين وأوضاعهم،
كما إن هذه المنظمات تشارك في وضع جميع
القوانين واللوائح الناظمة لعملها.
ظهرت النقابات في سورية في
بداية القرن المنصرم، وعلى العكس من
الدول الغربية التي كان ظهور النقابات
فيها مرتبطاً مع الثورة الصناعية، فإن
ظهور النقابات عندنا ارتبط بارتفاع
مستوى التعليم وازدياد عدد خريجين
الجامعات على اختلاف شرائحهم، وبقيت
النقابات من دون قانون حتى إقرار
الدستور الدائم في سورية عام 1973، حيث
نظم العمل النقابي ومما جاء فيه:
1- لكل مواطن حق المشاركة في
الحياة السياسية والاقتصادية
والاجتماعية والثقافية.
2- حق القطاعات الجماهيرية في
إقامة تنظيمات نقابية أو اجتماعية أو
مهنية أو جمعيات تعاونية للإنتاج أو
الخدمات. وحددت القوانين إطار هذه
التنظيمات كما حددت عملها ونظمت
علاقاتها (الفصل الرابع، الباب الأول،
المادة 48).
3- للمواطنين الحق في ممارسة
حقوقهم، والتمتع بحرياتهم وفقاً
للقانون (الباب الأول، الفصل الرابع،
المادتان 26 و27).
4- المنظمات الشعبية والجمعيات
التعاونية تنظيمات تضم كل قوى الشعب
العاملة من أجل تطوير المجتمع وتحقيق
مصالح أفرادها (الباب الأول، الفصل
الأول، المادة رقم 9).
وبقي الوضع هكذا حتى عام 1980،
حين حُلت النقابات نتيجة للوضع الأمني
الذي عصف بسورية في تلك المرحلة، لتعود
في عام 1981، ولكن بتعديلات ناظمة جديدة
تلائم أزمة تلك المرحلة، فظهرت بعض
الوصاية على النقابات، حيث تم ربطها
بحزب البعث العربي الاشتراكي عن طريق
مكتب المنظمات ومكتب نقابات المهن
العلمية في القيادة القطرية.
صحيح أن الظروف الاستثنائية
تخلق قوانين استثنائية، وصحيح أن أزمة
الثمانينات استدعت هكذا تعديلات، لكن
بنفس الوقت أعتقد أن هذه الظروف انتهت،
وان الوحدة الوطنية في سورية ترسخت،
وأن هناك هماً قومياً ووطنياً واحداً
يشمل الجميع، وأن هناك سقفاً واحداً
يجب أن يلتزم به الكل، أما الذي يريد أن
يخرج عن هذا الإجماع فهناك أسقف
مستعارة كثيرة إذا أراد. لهذا نطالب أن
تطال مسيرة الإصلاح والتطوير والتحديث
العمل النقابي، وأن يعاد النظر في هذه
التعديلات ليس بهدف أن نعود بها إلى ما
قبل الثمانينات، ولكن بهدف تحسين
القوانين وتطويرها بما يخدم مصلحة
الوطن في هذه المرحلة، وبشكل يتلاءم مع
ضغط العولمة التي تقرع الباب بشدة،
ويتماشى مع الانفتاح الديمقراطي في
البلد، ولا أبالغ عندما أقول إن كثيراً
من المحرمات في السابق تم تجاوزها الآن
في العمل النقابي، صحيح أن هناك بعض
الثغرات ولكن علينا جميعاً أن نعالجها
والمجال مفتوح لهذه المعالجة.
إننا اليوم أشد ما نكون بحاجة
إلى نقابات قوية تستطيع ممارسة
مسئولياتها في صيانة حقوق أعضائها
ورفع مستواهم المادي والثقافي، لا
سيما والزيادة كبيرة في عدد الخريجين
الجامعيين بسبب سياسة الاستيعاب التي
اعتمدتها الدولة، ومن المؤكد أننا
سنلحظ زيادة أخرى مع بدء تخريج كليات
التعليم المفتوح والتعليم الموازي
إضافة للجامعة الإلكترونية.
إن مراجعة سريعة لحياة التنظيم
النقابي في السنوات السابقة تثبت لنا
أن أغلب القيادات النقابية قد قصرت حتى
في ممارسة مسئولياتها، وتحولت إلى
قيادات بيروقراطية، وأنفقت كثيراً من
أموال النقابات على (أثاث جديد
لمكاتبها وعلى مظاهر الفخفخة). إن
التقارير التابعة للرقابة والتفتيش أو
الرقابة الحزبية مليئة بالمخالفات
المالية والتي بلغت أرقاماً خيالية،
ووضعت هذه الوقائع في أيدي عناصر
متسلطة لتستخدمها في ابتزاز التأييد
والمساندة من القيادات النقابية
الفاسدة، وفي تكوين الشللية والتكتلات
في الحياة النقابية والسياسية، وخلال
الفترة الماضية قامت هذه القيادات
بكتم أنفاس أي قيادات قديمة لها كفاحها
وماضيها النقابي، ولكن الأهم أنها
حاصرت القيادات الشابة وأبعدتها عن
أماكن عملها الأصلية، فمنعت من الترقي
وحوربت في رزقها، ناهيك عن أن بعض
النقابات ما زالت تعمل بعدد أقل من
العدد القانوني ولم تستكمل وفق
القانون، لأن الاستكمال يعني دخول
عناصر جديدة قد لا ترضى عن النشاط
السلبي أو ترفض المشاركة فيه. لقد
أصبحت هذه القيادات تتحكم بالنقابات
ولا تقودها، والفرق كبير بين القيادة
والسيطرة، وهذا أدى إلى نمو الشللية
والمدللين.
إن رجال المكاتب هؤلاء عجزوا
حتى عن تعبئة الجماهير في أحداثنا
القومية أو في معركة التحرير، وتحول
عملهم إلى مجرد شعارات ولافتات ترفع في
الأعياد والمناسبات بهدف إثبات الحضور
والمزايدة، أو إلى إعلانات صحفية
رنانة وجمل ثورية تلوكها ألسنتهم دون
إيمان حقيقي بالطبقة العاملة أو
بالنقابة.
إن فشل العمل النقابي يعود بشكل
أساسي إلى أن القيادات النقابية
الحالية لم تتمكن من كسب ثقة أعضائها،
الأمر الذي يكشف عن افتقار هذه
القيادات إلى القدرة على الارتباط
بالقواعد العريضة، فهي لا تعيش مشكلات
هذه القاعدة، وهي عاجزة عن إيجاد
الوسائل السليمة لحلها. ولهذا لم يكن
غريباً أن يتحول التنظيم النقابي في
بلادنا إلى تنظيم لائحي وإلى نقابات
دفترية وإلى نظم حسابية تتولى جمع
الرسوم والاشتراكات، ولم تعد
التنظيمات النقابية شيئاً جوهرياً في
حياة أعضائها، فانتفاء الحياة
الديمقراطية داخل هذه التنظيمات قد
حال بينها وبين أن تكون أدوات تثقيف
وتربية وتوعية، الأمر الذي أدى إلى
سلبية أعضاء الهيئات العامة سواء في
المشاركة بنشاط النقابة، أو في عدم
حضور مؤتمرات النقابة، الأمر الذي
انعكس في عدم وجود الإرادة الحقيقية
للنقابيين في قرارات النقابات
ونشاطاتها.
لا شك أننا أمام تركة ثقيلة
تتمثل في مفهوم متميع للعمل النقابي،
وضعف الإحساس بالديمقراطية النقابية
وضعف أشكال الاتصال التنظيمي بين
المستويات النقابية المختلفة.
إن إعادة البناء الديمقراطي
للنقابات أصبحت واجباً ملحاً، ومطلباً
عاجلاً حتى تمارس دورها الطليعي
الجدير بها، وذلك يتطلب مراعاة أمور
عدة:
1- تعديل القوانين النقابية
وخاصة تلك المتعلقة بالبنود
الانتخابية لما يكفل عزل نفوذ بعض
قيادات النقابات العامة الحالية حتى
لا تمارس تأثيرها السابق في عملية
الانتخابات، أو تستخدم ما حصلت عليه من
مراكز وقوة مالية وشلل وعصبيات
ومحسوبيات في هذه الانتخابات. إن
الانتخابات النقابية الجديدة يجب أن
تحقق تمثيلاً صادقاً، وعليها أن تنهي
عهد قيادة الأفندية من دون أن يعني ذلك
أنه ليست هناك عناصر صالحة في هذه
القيادات كان لها مواقف جريئة في العمل
النقابي وفي معارضة الانتهازية
ومواجهتها.
2- إبعاد الأجهزة الإدارية
نفوذاً وسيطرة عن العملية الانتخابية،
لا سيما أنها ساهمت سابقاً في فرض
شخصيات أرستقراطية علي الحركة
النقابية.
3- إطلاق الفرصة للطاقات
الخلاقة المبدعة في القواعد لتأخذ
مكانها من دون وصاية من أحد سوى إرادة
هذه القواعد.
4- على القيادات السابقة
والحالية أن تتقدم بكشف حساب كامل عن
عملها خلال السنين السابقة في مجال
العمل الوطني، ومجال البناء
الاجتماعي، ومجال النشاط القومي،
وزيادة الإنتاج، والتدريب الفني،
والتكوين الفكري والثقافي، وفي مجال
الخدمات الاجتماعية، والدفاع عن حقوق
ومكتسبات الأعضاء.
في المقابل هناك مهام على كاهل
القيادات الجديدة وهي:
1- على القواعد دور في ألا تسمح
بظهور طبقة جديدة تظن أن الامتيازات
إرث لها بعد الطبقة القديمة وعليها أن
تقاوم مثل هذا الانحراف وتقومه إن حصل.
2- على القيادات الجديدة تقديم
الخدمات الثقافية والعلمية باستمرار،
فالتثقيف النقابي والقومي يساعد
الكوادر على أن تواكب التطورات
المستمرة، ويتيح للحركة النقابية
المجال أن تكشف من بين قواعدها الكوادر
الممتازة الصالحة لتولي مسئوليات
معينة.
3- عليها أن تقدم خدمات اجتماعية
بهدف الاستفادة من وقت الفراغ والراحة
من خلال نشاط رياضي أو فني أو ترفيهي أو
رحلات أو معسكرات، ما يساعد في تعارف
الأعضاء ببعضهم، وبالتالي تتعزز
اللحمة الوطنية.
4- على القيادات الجديدة مشاركة
القواعد في الرأي والنقد والتوجيه وفي
أعمال الحركة النقابية، وهذا يزيد
التلاحم العضوي بين القواعد
والقيادات، ويوفر مناخاً يوقف
الانحراف، ويضمن تصحيح مسار الحركة
النقابية باستمرار، ويكون قوة جذب
لدعم العضوية النقابية، وبهذا يكون
لدى القيادة الصورة الصحيحة عن آراء
القواعد واتجاهاتها، ويكون لدى هذه
القواعد صورة صحيحة مماثلة لآراء
القيادة واتجاهاتها، وبهذا تكون
القيادة قادرة على تحريك قواعدها
المرتبطة بها على أساس من إحساسها بأن
تحركاتها نابعة من آرائها ومشاعرها.
5- مطلوب من التنظيم النقابي
المشاركة بصورة فعالة في خطط التنمية
الاقتصادية والاجتماعية، حيث تتجمع
لديه محصلة خبرات أعضائه وآرائهم وهم
القوى الأساسية التي تنفذ هذه الخطط،
وغالباً ما تكون لهم رؤية عملية
تفتقدها القيادات التكنوقراطية
المكتبية التي تتولى وضع هذه الخطط،
إضافة إلى أنه عندما تؤخذ آراء
ومقترحات القواعد النقابية بعين
الاعتبار أثناء وضع الخطط يتدعم
الإحساس لدى هذه القواعد بأن هذه الخطط
تنبع منهم ووُضعت لمصلحتهم وبأنهم
المسئولون أمام الوطن عن تنفيذها على
الوجه الأكمل، وعلى التنظيم النقابي
أن يمارس دوره في الرقابة على هذا
التنفيذ من حيث كشف المسيئين
والمنحرفين والمعوقين للعمل من جهة
ودعم المجتهدين والملتزمين بالحوافز
والمكافآت من جهة أخرى.
6- على التنظيم النقابي الجديد
أن يتحمل مسئولياته في المجال السياسي
بما يخدم مصلحة الوطن القومية
والوطنية، وعليه أن يتصدى لكل الأخطار
والتحديات التي تمس أمننا القومي من
خلال نشاطه الإعلامي والتثقيفي في
إطار الخطة العامة للقيادة السياسية
في هذا الصدد. هناك فرق بين العمل
الحزبي والعمل النقابي، فالحزب كيان
فكري يجتمع أعضاؤه حول فكر معين ويسعى
لتطبيقه في مجتمعه عن طريق الوصول إلى
الحكم، أما النقابة فهي هيئة اعتبارية
شكلت لترعى مهنة بعينها ويحمل أعضاؤها
مبادئ مختلفة قد تصل إلى حد التناقض -
باستثناء الأفكار التي تمس ثوابت
الأمة والتي يؤمن بها الجميع - فلا توجد
نظريات تريد تطبيقها في المجتمع، وهذا
يجعل التنظيم النقابي أوسع عضوية من
التنظيم السياسي، وهكذا فإن وجود
مسيسين في النقابات بغض النظر عن
مشاربهم لا يعتبر نقطة سلبية طالما
أنهم يفكرون بالأمة ككل وبالفرد بوصفه
جزءاً أساسياً من هذا الكل.
نعم يوجد بعض الانتهازيين في
قيادة هذه النقابات، وعلينا جميعا
كوطنيين أولاً وكنقابيين ثانياً أن
نشير إليهم بشكل مباشر مستفيدين من
الظرف التاريخي الحالي حيث محاربة
المفسدين والانتهازيين، وها هو ذا
رئيس الجمهورية نفسه يقول هناك أناس
يقفون ضد التطوير والتحديث ويضيف إن
مصالح البعض قد تضررت. ولكن بالمقابل
هناك النظرة التشاؤمية التي لا تظهر
سوى السلبيات وكأن الأمور لا إيجابيات
فيها مطلقاً، لذا علينا أن نعترف بأن
وجود النقابات في سورية دليل على بناء
مؤسساتي مؤسس بشكل جيد، وعلينا أن
نعترف أن هناك مكاسب جوهرية كثيرة
تحققت بفضل النقابات.
إن رفع السوية الثقافية
والعلمية والعملية لأعضاء النقابات هو
من الضروريات، بشرط أن يكون ضمن الأسس
التي تصب في مصلحة الوطن، وتؤدي إلى
رفعته وتطويره، طالما أن الجميع مؤمن
بعروبة هذا الوطن ووحدته، وطالما
تفكيرنا بعيد عن المصالح الشخصية
والحزبية الضيقة، وهنا يأتي دور كل
الوطنيين في هذه النقابات. إن هذا
الوطن للجميع وعلى الجميع العمل من
أجله.
*سياسي سوري - حلب
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|
|